أدب الرعب والعام

لمحت اللحظتين (1)

بقلم : ا ب ت – مصر
للتواصل : [email protected]

لمحت اللحظتين (1)
هذا الدفتر و هذه اليوميات شغلت كل تفكيري ..

استيقظت صباحا, علي صوت جرس التليفون , مكالمة أخرى من احد الزبائن, كالعادة لا يراعون الوقت, كل منهم يريد أن تنتهي حاجته .. ولتذهب راحتي إلي الجحيم.. لم أتخيل أن تكون تلك هي حياتي, عندما عارضت أهلي كلهم.. و أصررت على أن أصبح مهندسه ديكور, وها أنا اليوم و بعد 15 عاما أصبحت من أشهر مهندسين الديكور , اعمل ليل نهار, دائما ما كنت أقول أن هناك نوعين من الناس, نوع يعمل لكي يعيش و النوع الآخر يعيش لكي يعمل, اخشي أنني أصبحت من النوع الثاني, من منزل لمنزل و من معمار لمعمار و من قصر لمبني تجاري, أتنقل ,اعمل , و يعلو اسمي, و لكني اشعر أنني لست ملك نفسي, أين هي حياتي, يصعب أن أقول أن بين كل هذا العمل, اشعر بالوحدة والملل, اشعر بالخجل من نفسي , كم أتمنى أن اصرخ و أقول للعالم أنني , كاذبة و مخادعة, كم أتمنى أن أقول لهم أن تلك التصميمات ليست تصميماتي, لم أكن يوما مهندسة ديكور رائعة, أنا فقط مقلدة ممتازة, فتلك الطالبة التي تعرفت إليها منذ 8 سنوات, هي البطلة الحقيقية, هي المبدعة, هي الفنانة , ولكنها لا تفقه شيء في أي جانب آخر من جوانب الحياة, و أنا قمت باستغلال هذا, فهي فقط تعطيني التصميمات و أنا أضع لمستي عليها, ثم أعطيها جزء من المال, و أنا من يقولوا عنها عبقرية… ذلك الإحساس بالفخر الزائف, عندما تسمع عبارات التقدير على شيء ليس من صنعك , ذلك الإحساس يؤرقني, حاولت أكثر من مرة أن أقول , و لكن لساني لا يستطيع, لا اقدر على البوح بما داخلي, اخترت أن أعيش في وهم . و أحيانا اصدق ذلك الوهم… و أحيانا أتمادى و احكي عن مقدار الصعوبات التي قابلتني لابتكر تلك التصميمات …

إن حالتي مدعاة للسخرية حقا …

ها أنا في طريقي , لذلك المكان, حيث مبنى متعدد الطوابق, يريد صاحبه أن أحوله إلى مول تجاري, كان فيما مضي دار مسنين, وصلت إلى المكان.. وقابلني المالك بترحاب يليق بالمهندسة العبقرية, و اخبرني عن آماله في تحويل ذلك المبنى العتيق, إلى صرح تجاري جذاب على يدي .

دخلت مع الفريق الخاص بي لتفقد المكان, و جدت أن المبني سيحتاج عمل طويل, إذن وداعا للراحة في الشهور القادمة, المبنى كان عبارة عن غرف . كل منها يسكنها نزيل من كبار السن. و كان هكذا حتى اشتراه المالك الحالي من مالكه القديم, و أراد أن يغير النشاط, فالمول مربح أكثر من مجالسة المسنين بالطبع..

الغرف كلها تشبه بعضها , و كلها خالية, أمرت الفريق الخاص بي بأخذ جولة في جميع الطوابق و تصويرها.. و أنا انتظرتهم في السيارة … و بعد نصف ساعة كانوا قد انتهوا . و عدنا بعد ذلك إلى المكتب لدراسة ما تم رؤيته.. وعرض كل منهم رأيه و تصوراته في التصميم المستقبلي, و لكني لاحظت احد أعضاء الفريق, تائه في عالم آخر, يتصفح دفتر أو كتاب ما, فقلت له (أنتركك مع كتابك , حتى لا نزعجك) .

فأعتدل في جلسته مرتبكا. ثم قال لي انه وجد ذلك الدفتر ملقى في غرفه من غرف الطابق الثالث, و يبدو انه دفتر يوميات احد النزلاء.. فمددت يدي إليه عابسة, فوضع الدفتر في يدي , و أكملنا الاجتماع, ثم انطلق كل منهم إلى مكتبه.. وجلست أنا وحدي أفكر في نهلة , تلك العبقرية التي ستضع التصميم لي , و ظللت أفكر في المبلغ الذي سأدفعه لها تلك المرة… كل هذا و أنا ممسكه بذلك الدفتر في يدي, فنظرت إليه , و كان يبدو عليه القدم . صفحاته صفراء اللون , مترهلة الحواف, انه فعلا دفتر يوميات .. لأحد النزلاء… وفي أول صفحه كان مكتوب عليها .. النصف الأول من حياتي … ومن الصفحة الأولى بدأت… و كانت كلماته كالتالي ..

((و ما زلت لا اعلم كيف.. أتمتع بتلك القدرة.. لا استطيع أن اخبر أحدا .. أنا نفسي لا اعلم كيف يتحقق ذلك..))

واخذ في وصف تلك القدرة عدة صفحات بدون أن يذكر ما هي, فقط ظل يقول انه لا يصدق , و ظل يقول إنها أعجوبة.. فمررت يدي بين الصفحات , لأرى إن كان قد انتهى من وصف تلك القدرة التي لم يبوح بها في أي كلمة خلال عشر صفحات كاملة …

و بالفعل كان بعد تلك الصفحات بدا فعلا في وصف يومياته المعتادة…

و بدأ في أن يقول..

((لا اعلم كيف أصبحت هكذا …كيف أصبحت كاذبا محترفا هكذا, أصبحت حياتي قلعة من الأكاذيب, بسبب و بدون سبب, لم أجرؤ على أن اخبر احد من زملائي في المدرسة, على إني اسكن في تلك المنطقة العشوائية الشعبية, فكذبت و قلت إني اسكن في منطقه أخري… و كان يقول لي أبي دائما , لا تخجل من حالك مهما كان , فالصديق الحق سيقبلك كما أنت .. لم استمع إليه, و ما بدأ بكذبه بسيطة عن مسكني, تمادي و أصبح سلسلة من الأكاذيب, فان رآني احد في منطقتي, أقول أني كنت ازور احد أقاربي, و إن ذهب احد إلى المنطقة التي يظنون أني اسكن بها, ثم خاطبني, ليقابلني, ادعي المرض أو السفر. و هكذا حتى  أصبحت الأكاذيب جزء من حديثي اليومي…

كنت اكذب بشان عائلتي أيضا.. فلم اخبر أحدا أن خالي كان يعمل عامل في هيئة السكة الحديد بل أخبرت الجميع أن خالي محامي, وعمي طبيب. و الخ الخ..

ولكن اكبر الأكاذيب ,عندما تكذب على نفسك…

نعم فأنا أردت أن أكون شخص آخر غيري… أردت أن أكون مثل هذا و ذاك.. إن رأيت شخصا محبوبا , صاحب صداقات , حاولت أن أكون مثله , أراقب تحركاته, انسخ طباعه و تحركاته ..

و لم يمر وقت طويل.. حتى أصبحت مرآة عاكسه لكل ما حولها, تعكس ما يريد أن يراه الناس حتى ترضيهم, تعكس أي احد إلا . أنا..

لأنني أصبحت لا احد. لا اعلم من أنا حقا..

حتى قابلتها .. تلك النسمة الهادئة.. كانت تسكن بجانبي في منطقتي… كانت صاحبه منظر متواضع … انطوائية .. زرقاء العين.. ولكنه كان ازرق من نوع خاص .. ازرق لا تراه في حياتك مرتين.. صافي كموج البحر الهادئ.. وعميق كلون السماء الصافية …

و صاحبته كانت كذلك .. هادئة لا تشعر بها.. كنت أراها كل يوم في الباص.. حين كنت اذهب للجامعة.. لم أتكلم معها قط .. فقط أحيانا كنت القي السلام عليها من باب الجيرة فقط .. و لكن شاءت الظروف أن تجمعنا .. ففي يوم من الأيام .. كنت أمر في طريقي… و دخلت ذلك المطعم .. و جلست.. و فوجئت بها تتقدم لتأخذ طلبي.. لم تنتبه إلي.. فقط وقفت بجانبي و سألتني ماذا سأطلب… ثم حين تكلمت .. نظرت إلي و نظرت في عينيها.. و الغريب أني لم أجد أي نظرة خجل.. لم تخجل مما هي فيه.. بادرت بالسلام علي .. وابتسمت ابتسامة جميلة .. ثم قالت لي أنها تعمل هنا ليلا و تدرس صباحا.. حتى تعين والدها على المصاريف.. فهو الآن لا يعمل ..فقد أصابه المرض.. وترك مهنته كطباخ في احد الفنادق..

ذكرت كل هذا عن نفسها بدون أدنى حرج… لو كنت أنا في موقفها .. و كانت هي في موقفي.. ورأيتها, لتداريت فورا عن نظرها, و اختبأت لحين أن تنتهي و ترحل..

حقا أشعرتني بمدي ضعفي و هواني.. ثم قدمت إلي الطلب و رحلت .. لتكمل عملها..

و أنا أكلت و رحلت أيضا.. و لكنني عدت بعد أيام إلي ذلك المطعم لأقابلها من جديد.. و هكذا ظللت افعل هذا كل يومين أو ثلاثة ..

اذهب .. و تأتي إلي بالطلب ثم نتكلم لدقائق.. ثم أأكل ما طلبت ثم ارحل ..

و في الجامعة .. كان مسلسل الأكاذيب مستمرا.. و لكنني أصبحت على مستوي متقدم جدا.. فأصبح الكذب جزء من كل ما أقول… فإن رايتهم يتحدثون عن ذلك الكتاب.. أقول إنني قرأته.. إن سمعتهم يتكلمون عن أي شيء ادعي إنني افهم فيه…

أنا من سافر جميع المصايف… و أنا في الحقيقة لم أرى البحر سوي مرتين أو ثلاثة في حياتي , أنا العاشق للأوبرا مع أنني لا أطيق أن اسمعها. أنا الحالم الرومانسي مع أنني لم اعش قصه حب يوما.. و مؤخرا أعيت إنني رسام و صاحب موهبة .. مع إنني لم ارسم يوما شيئا ذا جدوى …

فقط كنت اذهب إلى رسام في منطقتي ..  وأعطيه صورة احد زملائي.. و ادفع له .. مقابل ان يرسمه لي.. ثم أأخذ تلك اللوحة و أعطيها لزميلي في عيد ميلاده .. و بالطبع ينبهر جميع الأصدقاء بموهبتي ..و هكذا ذاع صيتي في الجامعة .. (صلاح المنسي) الفنان الموهوب…

جاء إلي الكثيرين رغبة في أن ارسمهم.. و لم اخذل أحدا.. فقط خذلت جيبي.. فأنا كنت الزبون الأثمن عند ذلك الرسام في حارتنا.. كنت ادفع ثمن صداقتهم لي.. و بالرغم من إنني أصبحت ذلك الشخص المحبوب الذي طالما أردت أن أكونه.. إلا إنني كنت اشعر بالوحدة و الكآبة , كنت اشعر أن أولئك البشر يحبون شخصا غيري .. شخصا أنا اختلقته .. إلا معها .. صاحبة العيون الزرقاء..

كنت اذهب إليها باستمرار.. هي الوحيدة التي كنت أتكلم معها بصدق.. لم اكذب عليها .. فصراحتها .. كانت تشجعني.. كانت تحكي لي على كل شيء و أنا أيضا ..كنت اشعر معها إنني أنا و لست أحدا آخر… كنت اشعر بالسعادة .. اشعر بأنني خفيف الوزن .. لا ابدي اهتمام لما أقول.. أقول أي شيء .. لا اخشي أن لا يعجبها هذا أو ذاك.. فكنت اعلم أنها تتقبلني كما أنا .. أحببتها و أحبتني …

و لكني كنت أحاول أن أخبئ شعوري بداخلي… و لكن عيناي كانت تفضحاني…

و في الجامعة كنت مستمر على نهج الفن المزعوم الذي اخترته لنفسي.. كنت أفكر ماذا لو علموا حقيقتي.. حقيقة أنني لست برسام.. و أني اسكن تلك المنطقة الفقيرة. إذا تعاملت معهم كما أنا فعلا. هل سيظلوا أصدقائي.. و علمت حينها أن هناك أوقاتا نسأل أنفسنا أسئلة لا نريد أن نسمع إجاباتها…

و لذا قررت أن أظل كما أنا.. و في يوم عيد ميلاد احد أصدقائي .. قابلت نسرين.. الفتاة الجميلة “الهاي” التي أري في عيون من حولها الإعجاب بها .. نسرين التي لا افهم كلماتها الإنجليزية التي تقحمها وسط كل جملة مفيدة … أعجبتها رسوماتي.. و طلبت مني أن ارسم لها واحده… و أنا بالطبع طرت فرحا وقتها … ذهبت في ذلك اليوم إلي الرسام و فعلها… ثم قابلتها و أعطيتها اللوحة.. سعدت و اعترفت بموهبتي.. و جمال اللوحة التي دفعت ثمنها غاليا من جيبي.. ثم تكلمنا و تكلمنا و لا داعي أن أقول إنني تقريبا كنت اكذب و ادعي طوال الوقت .

ادعيت إنني الفتي الغامض.. الذي قام بتجربة كل شيء في الحياة.. ادعيت إنني افهم في كل شيء كانت تقوله.. ادعيت و ادعيت.. حتى زالت كل ملامح شخصيتي الحقيقية… أصبحت معها أحدا لا اعلمه…

شعرت بعد مدة.. إنها بدأت في حبي…

كنت اسعد إنسان… لم أتصور يوما.. أن واحدة بذلك الجمال و الرقي.. يمكن أن تعجب بأحد مثلي …

و مرت الأيام.. بيننا.. و بدأت اقلل من زيارتي للمطعم.. فكانت نسرين تشغل بالي كثيرا.. حتى إنني بعد مدة .. و في المرات التي كنت اذهب إلى المطعم.. كنت احكي لها عن نسرين.. و أقول لها أنني أريد أن أصارحها بحقيقتي و لكني اخشي ردة فعلها… ادعي أنني لا أري الضيقة في تلك العيون الزرقاء عندما كانت تسمع حديثي عن نسرين…

و لكنها مع ذلك كانت تنصحني بأن أصارحها.. بأن أقول لها من أنا فعلا و إن كانت تحبني ستقبلني كما أنا …

و لكنني لم استطع.. حاولت مرارا أن أصارحها.. ولكني كنت اشعر بأنها إن علمت الحقيقة ستهملني ..

جلست مع نفسي كثيرا و فكرت في تلك الهالة التي خلقتها حول نفسي.. الموهوب الغامض “الهاي” .. ظللت أفكر ولاحظت أنني أكون مع نسرين و شلة الجامعة شخصا آخر غيري تماما .. و مع صاحبة العيون الزرقاء أكون أنا …

و لكنني أريد تلك الحياة .. أريد أن أكون مع نسرين و لكن بنفس الشخصية التي أكون بها مع صاحبه العيون الزرقاء.. ولكن كيف ؟ , الحياة لا تعطي كل شيء … و بعد أيام و أسابيع من التفكير.. وبعد تخرجي من الجامعة …

كان لا بد أن أخذ قرار… و قد قررت أن أصارح نسرين بالحقيقة …و سأصارح كل من حولي بمن أنا فعلا…))

……………………….

 

و هكذا انتهى الدفتر الذي في يدي… ماذا ؟! .. أهذي خدعه ما ؟ .. ظللت اقلبه يمين و يسار لا أجد أي شيء .. فقط انتهى على ذلك…

هذا الدفتر و هذه اليوميات شغلت كل تفكيري… أردت بأي طريقة أن اعرف ماذا سيحدث ..

في اليوم التالي … لم اذهب إلى المكتب … و توجهت مباشره إلي دار المسنين… و اصطحبت معي الشاب الذي وجد هذا الدفتر ليدلني على الغرفة التي وجده فيها…

وصلنا .. و فحصنا الغرفة كلها لم نجد اثر لأي شيء.. سألنا على ساكنها.. فدلني احد الحراس .. بأن صاحب تلك الغرفة .. كان عم حسن السكري.. و عند سؤالي عن مكانه .. قال لي انه في مشفى لأمراض القلب.. فقد ساءت حالته مؤخرا و انتقل إلى تلك المشفى … أخذت العنوان و توجهت إليها … لا اعلم لماذا ذلك الإصرار في داخلي أن اعلم بقيه حكاية عم حسن هذا…

هل لأنني اشعر أن حياتنا تشبه بعضها نوعا ما.. أم ماذا ؟ … كل ما اعرفه فعلا إنني أريد أن اعلم بقية حكاية عم حسن السكري .. صاحب تلك القوى الخارقة التي لا اعلم ما هي حتى الآن …

 

تاريخ النشر : 2015-08-31

ا ب ت

مصر
guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى