أدب الرعب والعام

الهاربة

بقلم : بائع النرجس – مصر
للتواصل : [email protected]

الهاربة
كانت الشوارع تقريبا خالية وبعضها مظلم

الساعة تدق في رتابة معلنة أن الليل قد انتصف , رفعت عيني عنها وقلت لنفسي وأنا أنظر إلى أغراضي

– الساعة الآن الثانية عشر بالضبط من المؤكد أنه ينتظرني الآن في المكان الذي اتفقنا عليه لابد أن أسرع حتى لا أدعه ينتظرني .

هكذا حدثت نفسي وأنا ألملم أغراضي ما خف منها والضروري فقط , ومن بينها التقط صورة لوالدي , وما أن نظرت لها حتى تسللت دمعة حزينة لتنسدل على خدي وبدأت الذكريات تجتاح خيالي وتطرق أبواب عقلي وأنا استرسل معها فأتذكر كم كان حنونا علي لم يتركني يوما , كان أحن على من أمي , كان يداري عنا جميعا مرضه , كان يبتسم وهو يدارى أوجاعه , كان يخاف أن يحزننا ولو لحظة , كان لي أنا بالأخص دنيا وجنة أعيش فيها وحدي , كان بمثابة أخ لي وصاحب ووالد , رحوم بي , كان يلاطفني حينا ويضحك معي حينا آخر وينصحني باللين , لم يقسوا علي أبدا حتى خطفه الموت منا تاركا مكانه خاويا .. رحل ليتركني لأخي القاسي القلب ولرغباته الجامحة ولأم سلبية أمام عصبته , وها أنا اليوم أقرر أن اهرب من هذا السجن الذي احتجزني فيه .. لن أضيع ما بقى من عمري ..

– أما زلت تبكين يا قطتي الصغيرة ؟

وكأن بركان ثائر يشعل خداي بحممه الملتهبة .. وهتفت قائلة :

– لقد تعبت يا أبتاه كيف تتركني لهذا العذاب وحدي ؟ .. لما تركتني أعاني ويلات أخي ؟

فتح ذرعاه لي ولاحت ابتسامة عذبة على ثغره فهانت كل همومي معها وهرولت كطفلة صغيرة لألقى بنفسي بين ذرعاه فرفع بأنامله طرف وجهي إليه لأنظر في عيناه فأهيم فيهما وأبتسم أكثر قائلا :

– هوني الأمر عليكِ يا قطتي وتماسكِ فلقد عهدتك قوية صلبة لا تهزمي بسهولة .. ثم أن دوام الحال من المحال وأننا جميعا مفارقون سواء طال الآمد أم قصر هذا هو حال الدنيا وهذا قضاء الله فلا تبتئسي ثم أنى لم أتركك ولو للحظة أنا بجانبك دوما وتذكري أن الحياة ما زالت أمامك طويلة.

وابتعدت عنه قليلا لأجلس على حافة سريري وأقول :

– وهذا سبب مأساتي .. لقد أخبرت الجميع بأمرك ولم يصدقني أحد ورموني بالجنون وقسى على أخي وضربني وأهانني وعذبني وفى النهاية إحتجزني لشهور في غرفتي حتى يئست وامتنعت عن الطعام ومنع هو عنى كل الناس خطيبي وامي وأختي حتى أولادها الصغار ورغم بكاء الجميع من أجلى لم يشفع هذا أمام تعنت أخي وقسوته وشدة أمره.

– يا بنيتي ما زالت الحياة أمامك ممتدة ابحثي عن السعادة بنفسك وغيري الواقع .

وهنا أهب واقفة أمسح دموعي وأقول في شموخ وقد أخذت الشجاعة مني كل مأخذ :

– اتصلت به بطريقة ما وبالتأكيد انه الآن ينتظرني .. فالساعة الثانية عشر ..

الثانية عشر !! ..

تذكرت حان الوقت ولا داعي لأن أضيع الوقت أكثر , لملمت أغراضي بسرعة ومعها لملمت أشلائي الحزينة وأمسكت حقيبتي وفتحت باب غرفتي وقبل أن اخرج تناهى الى مسامعي صوت والدي وهو يقول :

– إفعلي يا قطتي ما تريدين أهم شيء عندي أن أراكي سعيدة وأرى الابتسامة تزين وجهك مرة ثانية كما عهدتك دوما يا صغيرتي .

لم أعلق على كلامه لكنى أغلقت الباب بهدوء ودلفت الى الردهة , كانت مظلمة إلاّ من بصيص ضوء خافت يتسلل من إحدى النوافذ , نظرت إلى المكان وتذكرت كل حياتي السابقة .. وأغمضت عيني بأسى , سيكون هنا دوما حنين بداخلي لهذا البيت مهما عانيت فيه , ففيه أيضا عشت أجمل أيامي و …

– عمتو (وفاء) .. عمتو (وفاء) .

فتحت عيناي لأرى ابنة أختي ذات الثلاث سنوات قد فتحت باب غرفتها لتجدني واقفة , لم أعرف أين أذهب فكنت أخشى خروج أخي ليمنعني ودق قلبي بعنف , ثم خرجت أختي ونظرت إلي , أو ربما لم تراني وكانت تنظر لصورتي المعلقة خلفي على الجدار ! .. ومرت ثواني .. ولمحت الدموع في عينيها ثم احتضنت صغيرتها وهي تقول قبل أن تدخل غرفتها مرة ثانية وكأنها تغطي على لتعطيني فرصة للهروب من جحيم أخي :

– لا احد هناك يا صغيرتي.

وما أن دخلت أختي حتى أطلقت ساقي للريح أهبط الدرج بسرعة لا أعرف كيف أترك شارعنا وكان قلبي يدق بعنف وكأنه أرنب صغير يقفز بين ضلوعي حتى أنى أكاد أجزم أنه سيقفز خارجا بين اللحظة وأخرى إلى الشارع ليقع أسفل قدماي .

كانت الشوارع تقريبا خالية وبعضها مظلم , لكنى لا أبالى , أنهب الأرض نهبا وأنا أفكر في شيء واحد هو ألاّ يمسكني أخي وأعود لسجني مرة أخرى .

كلب يعوى لا أبالى ..

أخيرا وصلت إلى المكان المتفق عليه وأنا أقف وأنتفض كالفرخ المبلول وأنظر إلى ساعة يدي بقلق .. وما أن تمر ثانية حتى انظر إليها مرة اخرى ثم انظر إلى بداية الشارع .

– أين هو؟

أسأل نفسي وأنا التفت يمينا ويسارا , وكان هناك ثلاثة شباب واقفين قبالتي من الشارع , لكني لم أبالي لهم وأخذت أطمئن نفسي وأتذكر وجه حبيبي وهو يحمل زهور الياسمين , فهو يعلم أني أحبها ولم ينساها يوما ولم يتخلى عنى أبدا و …. ها هو قد أتى وأخذ يقترب مني .. وفى كل خطوة تقترب أمالي .. سأهرب معه وأعيش حياة جديدة في مكان جديد وسأثبت للجميع أني عاقلة ولست مجنونة .. لكن مهلا ! .. ما هذا الحزن الذي يكسوا وجهه ؟ .. وما أن وقف أمامي حتى سألته :

– ما سبب حزنك ؟ هل هناك خطب ما ؟ .

لكنه لم يرد علي بل وضع زهور الياسمين أسفل قدماي وتركني .. بكيت أكثر وأخذت أناديه لكنه لم يرد وتركني وحيدة وأخذ يبتعد … ويبتعد … ويبتعد

* * *

– من هذا الرجل الذي وضع زهور الياسمين على الرصيف ؟ وما قصته ؟ …

هكذا سأل أحد الشباب الواقفين في الشارع قبالتي , فأجابه الآخر :

– إنه أحد العشاق المجانين , أسمع أنه كان يحب فتاة مجنونة هربت من محبسها حتى تلقاه هنا في هذا المكان الذي وضع فيه الياسمين , لكن قبل أن يلقاها خرجت سيارة وصدمتها بقوة ففارقت الحياة في الحال , ومن يومها يأتي هذا العاشق لوضع زهور الياسمين في نفس الميعاد من كل سنة , ويقال أن بعض السكان هنا يلاحظون في بعض الليالي أن ثمة فتاة تقف في نفس المكان تحمل حقيبتها وتنظر بين الحين والآخر إلى ساعة يدها وكأنها تنتظر شخص ما أو أنها على عجلة من أمرها أو أنها هاربة من شيء ما ..

نعم .. هاربة من شيء ما .

تاريخ النشر : 2015-11-09

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى