صراعي مع البشر !
غارقاً في ظلمة اوهامه ! |
غارقاً في ظلمة اوهامه !
في ذلك المساء.. كان (تشابو) المراهق المكسيكي , يعيد قراءة رسالة صديقه الذي سافر قبل مدّة الى اميركا , و التي فيها :
((صديقي تشابو !! تحياتي ارسلها لك من بلاد الهوليوود .. اعرف انك غاضبٌ مني , لأني لم اراسلك طوال هذه المدّة .. لكن لا تنسى انك ايضاً لم تراسلني , و لا حتى بكلمات عتاب ! لكن مع هذا , سأخبرك بموضوع قد يثير إهتمامك..
لقد تعرّفت في مدرستي الجديدة على صديق اسمه (آدم) , عمره كعمرنا 15 عام .. و هو فتى مهذّب و مسالمٌ جداً .. و هو نوعاً ما يذكّرني فيك , فهو ايضاً شاب انطوائي مثلك .. و منذ وقتٍ قصير , عرفت ان المتنمّرين الحمقى في مدرستي يضايقونه كثيراً , فقد كان يخفي الموضوع عنّي !
و في احدَ الأيام .. دبّر المتنمّرون مقلباً مهيناً له , شاهدته المدرسة بأجمعها , فصار أضحوكة الجميع .. لكن مالا يعرفونه عن صديقي : انه فتىً عبقري , لكن عبقريته من النوع المخيف جداً !
((لقد أيقظوا الوحش الكامن في اعماقي !!))
هكذا قال لي يوماً .. و من بعدها , صرت الاحظه و هو يقضي جُلّ وقته في كراج منزله , الذي ادخلني اليه مرّة .. و قد قام بتحويل احد اركانه الى معملٍ بسيط , يقوم فيه ببعض التجارب الكيميائية !
لكن مع الأيام .. زاد شروده و بُعده عن الجميع , حتى عنّي ! و صار يُهمل دروسه الى ان فُصل من المدرسة .. و كنت احياناً التقي به , بحكم سكنه في نفس الحيّ الذي اسكن فيه .. لكنه لم يعد آدم الذي اعرفه ! فنظرة عينيه صارت حادة و مرعبة.. و كثيراً ما كنت اسمعه يتمّتم بكلمة غريبة , و هذه الكلمة كانت …
***
و هنا !! تفاجأ الشاب بقدوم صديقه (كارون) :
– كارون ! لقد اخفتني .. عليك ان تصدر صوتاً او ايّ شيء , قبل ان تدخل غرفتي هكذا
– آسف يا تشابو .. ارى انك مازلت تقرأ تلك الرسالة الغريبة
– هي غريبة بالفعل ! لكن قصة آدم جعلتني افكّر بحياتي .. بل صرت احاول ان اتذكّر مالذي حصل لي بالظبط , جعلني اتحوّل لهذا الكائن الغامض الغريب ؟ فلقد كنت شخصاً مرحاً يُضحك الجميع , و كنت احفظ الآف النكت التي تجعل ايّ شخص يتدحرج على الأرض من شدّة الضحك ! فمتى تغيرت ؟!…… آه لحظة , تذكّرت .. كان ذلك في احد ايام طفولتي .. اذكر انني امضيت عصر ذلك اليوم المشمس , و انا العب الكرة مع اقراني في الشارع كعادتي .. لكن في تلك الليلة , تغيّر تفكيري فجأة ! حين ومَضَت تلك الأفكار الجنونية في ذهني .. كم كانت قاسية و مؤلمة ! امورٌ لا تهمّ سوى الفلاسفة , لكنها جالت ذهاباً و ايّاباً في رأسي .. و حينها توقف الزمن عندي , و تجمّد الناس في نظري , و اسود العالم من حولي ! و أصبحت فجأة وحيداً , اردّد تلك الأسئلة كالتائه : كيف يعيش الأنسان في هذا العالم المليء بالظلم و القسوة ؟! كيف يمكن لأيّ احد ان يعيش مع الطامعين و الكاذبين و المجرمين و الخائنين و السارقين و الحاسدين ؟!! و من يومها اصبحت إنعزاليا , و فقدت بهجتي و اختفت ابتسامتي للأبد , و صرت اراقب الناس بصمتٍ و بأعينٍ حزينة كئيبة ! و ضاعت طفولتي و انا اتصفّح الجرائد و الكتب , اقرأ بنهمّ كل شيءٍ دموي سواءً قصص او جرائم حقيقية تفوق حدود عمري بأشواط !
– ربما عمل والدك اثّر عليك ؟
– ربما يا كارون ! المشكلة ان كل تلك الحوادث التي قرأتها , مازالت عالقة في ذهني : الشاب الذي قتل صديقه المقرّب لأجل فتاة.. و تلك العجوز الغيورة التي دسّت السمّ في طعام جارتها .. و ذلك الدجّال الذي إحتال على الكثير من البلهاء ..و الكثير الكثير من حوادث الإختطاف و القتل و النهب و المخدرات و غيرها .. و في كل مرّة , اعود و اسأل نفسي نفس السؤال : طيب , لماذا ؟! فمعظم تلك الجرائم اُرتكبت لأجل حفنة من الأوراق الملونة , التي يسمّونها النقود ! و الى اليوم مازلت اسأل نفسي هذا السؤال : مالذي يجعل الشخص يرتكب الجرائم ؟
– انظر حولك و ستعرف الإجابة , فلا يكاد يخلو يوم بهذه الحيّ الخطير دون حدوث جريمة
– معك حق يا كارون .. هذا عدا عن الجرائم الذي يحكيها لي والدي ..
– تشابو !! توقف عن التفكير بهذه الأمور , فغداً يوم مدرسة .. انسيت ؟
– آه صحيح , لقد تأخّر الوقت .. اذاً سأضع افكاري الكئيبة جانباً .. لأن ابي يصبح عصبياً جداً , في حال تأخّرت بالإستيقاظ ..
– سأراك لاحقاً .. تصبح على خير
***
و هآ انا اصحو من النوم مُرهقاً كما توقعت , لكن عليّ الإستعداد للمدرسة .. و بسرعة لبست ثيابي , و انطلقت فوراً إلى محطّة الحافلات..
جيد ان الوقت مازال مبكراً , فلا شيء اجمل من المشي لوحدي في هذا الشارع الكئيب .. لكن كل هذا تغير ما ان وصلت إلى المحطة , و بدأت بخوض المعارك الحامية للوصول إلى مقعد حافلة .. سأكون محظوظاً اذا لم اصب بضربة (كوع) او رأس.. و هاهو (الكمساري) يتشاجر كعادته مع الركاب على الأجرة .. تباً للبشر ما أطمعهم !! …
ثم نزلت لأقرب مكان يصلني الى مدرستي .. و في طريقي اليها , قابلت مجنونين : أحدهما يكلّم نفسه , و الآخر يقف ثابتاً كالصنم ! لكن لا يمكن اعتبارهم مجانين .. فكم مرّة يتحدّث المرء مع نفسه , سواءً لوحده ام في حالة سهوه ؟ ..
و هآقد وصلت اخيراً الى مدرستي .. مدرسة حكومية مكسيكية رديئة ..حيث افعال طلابها اشبه بالشياطين ! حتى انني اشفق على هؤلاء المدرسين .. لكن ماذا عسايّ ان اقول ؟ هل اكلّمكم مثلاً عن الكتابات البذيئة على الجدران ؟ ام عن الطالب الضخم كالغوريلا الذي يجلس بجانبي في الفصل , و الذي بالرغم من انه يفوق الجميع فقراً , الا انه لا يملّ من الكذب عند حديثه عن تلك السيارة الخيالية التي إبتاعها له والده , الذي يمتلك اكثر من شركة وهمية متوزّعة في عدّة بلدان , هذا عدا عن كلامه عن البلاد التي زارها في عطلته ! و كل ما عليّ فعله : هو ان ابدي اندهاشي من حياته الخيالية الفارهة , و الاّ سيحطّم اسناني كما فعل مع الطالب الآخر الذي سخر منه .. فتباً له و لجميع البشر الكاذبين , كم يثيرون شفقتي ! ….اما عن نفسي .. فالجميع في فصلي يلقبّني بالشبح ! ربما لأن لا أحد يلاحظ وجودي , رغم انني اجامل الجميع معظم الوقت , لدرجة تُشعرني بالغثيان ! لكني بالعادة اكتفي بمراقبة أفعال بقية الطلاب بصمت , ليزداد كرهي لأفعالهم في كل يوم … اذكر انني في احدى فسح الإفطار : نسيت نفسي , و القيت السلام على مجموعة من طلاّب القسم العلمي .. فنظروا اليّ بإشمئزاز , و لسان حالهم يقول :
(كيف تجرّأ هذا الأدبي الأبله المتخلّف على التحدّث إلينا .. نحن أطباء المستقبل ؟!)
في هذه المواقف , عادة ما اكتم ضحكتي .. فهم يظنون بالفعل ! أنهم سيصبحون يوماً أطباءً ناجحين و أثرياء … لكن اتدرون مالذي سيحصل ؟ أكثرهم سيرسب و يعيد السنة الدراسية من جديد , و ربما حتى يحوّلون الى القسم الأدبي .. مع اني اكاد اجزم ان معظمهم لن يتحمّل فكرة أعادة السنة , و حينها سيعملون في مهنٍ هي أبعد ما يكون عن الطب.. لكن ربما القليل منهم سينجح فعلاً و يصبح طبيباً ناجحاً , لكن هؤلاء المجتهدون ليس لديهم وقت لتلك التصرّفات المغرورة .. لنعد الآن الى قصتي .. فبرغم انني مُنغلقٌ على نفسي , الاّ اني حاولت لأكثر من مرّة ان اندمج في المجتمع , لكني فشلت فشلاً ذريعاً !
على كلٍ , ها انا اجلس من جديد في الحافلة بطريق عودتي للمنزل .. و كالعادة : شجار آخر بين (الكمساري) و احد الركاب , ينتج عنه الفاظ لا تصدق انها تصدر من شخصين ناضجين , و كل هذا من أجل حفنة من المال !
***
بطل قصتنا (تشابو) .. كان مراهقاً يعيش في حيٍّ شعبي , في افقر منطقة بالمكسيك .. حيث تتكوّم القمامة تحت أعمدة الكهرباء في الشارع .. هذا عدا عن اصوات صراخ الناس التي تتعالى هنا و هناك , بحيث كان عادياً جداً ان تسمع صفيراً لأحد الشباب و هو ينادي صديقه في آخر الليل ..او ان ترى مجموعة من الأطفال الملاعين يلعبون الكرة مع تباشير الصباح ! و تشابو يمقت كثيراً هذه الضوضاء ! فهو عاش معظم حياته في هذا الحيّ القذر .. و بمفرده بمنزل ابيه البعيد نسبياً عن باقي منازل الحيّ .. فوالداه منفصلان , و هو يعيش مع والده الذي يعمل شرطياً يكافح اقوى عصابات المخدرات المنتشرة بكثرة في منطقته .. و عادة ما يغيب لأيام , قبل ان يعود مُتعباً الى منزله .. اما والدته فقد تزوجت بآخر , و تعيش في مكانٍ قريب من الحدود الأمريكية .. و آخر مرة رآها (ابنها تشابو) كان منذ حوالي الأربع سنوات , و هي اكتفت بالإتصال به مرّة كل شهرين , هذا في حال تذكرت ذلك ! لهذا امضى المراهق الكثير من الوقت لوحده في هذا البيت المتهالك بذلك الحيّ الخطير .. لهذا لم يكن غريباً ان يدرّبه والده على استخدام السلاح , لحماية نفسه من اللصوص و السكارى و متعاطي المخدرات الذي تعجّ بهم تلك المنطقة القذرة .. حتى ان والده احتفظ برشاشّ مُعبّأ بالذخيرة في مكتبه , لكنه بالعادة ينسى اقفال خزانته .. لكن لا بأس , فتشاكو لا يحتاج الى شيءٍ يحميه , لأنه اساساً لا يهاب الموت !
و في ظلّ حياته الرتيبة تلك , لم يجد افضل من الكتاب جليساً .. و كان عادة يختار مقالات السفاحين و الروايات و القصص المخيفة و كتب الأساطير و الميثولوجيا و الفلسفة .. فهو اساساً فقد ثقته بالبشر , بعدما قرأ للكاتب الروسي (دستويفسكي) ..هذا الكاتب أدخله في عوالمٍ حالكة السواد بقصته (الجريمة و العقاب)..تلك القصة التي اظهرت له النفس البشرية على حقيقتها.. و بجانب القراءة , كان يحب مشاهدة الأنمي.. و اكثر شخصية تعجبه هي (باين) .. يمكنك اعتبار تشاكو من (اوتاكو).. اتسأل ما معناها ؟ انها تعني : مجانين الإنمي .. كان هذا هو كل ما يفعله : يعني اما حلّ وظائفه المدرسية , او قراءة القصص و الكتب , او مشاهدة الأنمي .. و عندما يضجر من كل هذا , يغوص في عالم الخيال.. و في الآونة الأخيرة ..اصبح يكره الأنوار , و الموسيقى الصاخبة و الأصوات العالية ! كما لو اصبحت لديه أذنا قطّ , و عينا خفاش .. حتى أتفه الأشياء صارت تغضبه , لكنه يعود و يكتم غضبه كي لا يؤذي أحداً..
و هنا !! سمع خطوات شخصٍ ما في غرفته المظلمة .. و بسرعة أشعل الضوء ليتفاجأ بكارون “(( اظنكم تريدون معرفة من هو صديقي كارون ؟ بصراحة حتى انا لا يمكنني وصفه ! لذا يمكنكم اعتباره : طيفاً او شبحاً او كياناً ما , او جني , او ربما كان مجرّد وهمٌ في خيالي ! .. لكنه بالتأكيد !! شيءٌ خارق للطبيعة !))
..مازال تشابو يتذكّر لقاءه الأول به .. كان في تلك اللحظة : وحيداً في غرفته كالعادة , لكنه غاضب جداً لدرجة انه كاد يطلق سرّه الأكبر .. و فجأة !! ظهر له (كارون) .. الغريب ان تشابو لم يخف منه ابداً , بل إجتاحته موجة هدوء لم يعهدها منذ زمن ! فأدرك على الفور : ان (كارون) هو السبب .. لذا عرف بأن الذي أمامه , ليس ببشري ! و بعد فترة تعوّد عليه , و صار صديقه , و اطلق عليه اسم (كارون) .. و صار يحادثه دائماً , و هو بالمقابل : يهدئ بعضاً من غضبه , و كأنه ملاكه الحارس ! “
بعد دقائق من الصمت , قال (كارون) بصوته الأجشّ:
– ما بك يا تشابو صامتٌ هكذا ؟ يبدو ان شيئاً جديداً كدّر خاطرك ! هيا اذاً !! ابدأ في الكلام .. انا اسمعك
– (تنهّد بحزن) .. و عن ماذا اتحدّث ؟!
– امرك غريبٌ الليلة ! اخبرني مثلاً عن غضبك من افعال البشر.. او كيف يفاجئك حزن الناس على الميت , مع انهم يعرفون تماماً بأنهم جميعاً ميتون في يومٍ ما … او دعك من كل هذا , و اخبرني عن المقابر .. اتذكر عندما قلت لي : انها أفضل الأماكن في العالم , لأن الذين يسكنونها كفّوا اخيراً عن الحسد و الكراهية و التزموا الصمت , و بذلك إزدادوا حكمة.. هيا يا تشابو , تكلّم !!
فردّ تشابو بشرودٍ مُقلق :
– يبدو من كلامك انني حقاً غريب الأطوار ! الآن فهمت لما ابي كان يتفاجأ عندما يراني في غرفتي , اقرأ القصص المخيفة على ضوء شمعة ! او حين يجدني شارداً لساعات و انا انظر من النافذة إلى القمر .. و أذكر أنني أخفته مرّة : عندما وجدني خلف المنزل في ليلةٍ عاصفة , أترنّم بكلماتٍ لا اعرف من اين أتيت بها !
ثم صمت تشابو لبرهة , و عاد و أردف مُبتسماً :
– لما يا كارون في كل مرّة نلتقي , تتركني اتحدّث عن نفسي او عن افعال البشر البغيضة , بينما تكتفي انت بالإستماع ؟!
– لأنه يكفيني ان تعتبرني : سلّة تُلقي بها همومك
– هل تصدّق يا صديقي بأنني لم اكن هكذا قديماً ؟ فلقد كنت فتىً مرحاً , يرى العالم جميلاً .. لكن شيءٌ ما حوّلني إلى ما انا عليه اليوم , و الغريب انني نسيت ما هو !
– أتقصد طلاق والديك ؟
– لا ! صدقني الحياة هكذا افضل بكثير من سماع صراخهما طوال الوقت
– اذاً ما الموضوع ؟!
– حقاً لا اذكر ! لكن الأسوء انني نسيت معظم ذكرياتي عن حياتي المتفائلة السابقة ! برأيك ..هل اعطي الأمر اكثر من حقه ؟
فقال (كارون) :
– اسمع يا تشابو .. لقد فكّر قبلك اناسٌ كُثر بهذه الأفكار , لكنهم تجاوزوها , بل حتى انهم قبلوا بالإندماج في مجتمعاتهم القذرة .. فلما لا تفعل مثلهم ؟ اقصد بدل ان تكره الناس , لما لا تفكّر في نصحهم .. يعني حارب أخطائهم , دون محاربة البشر ذاتهم .. لأني اظن ان الخطأ هو جزء من الطبيعة البشرية !
فصمت تشابو طويلاً , ثم قال (متجاهلاً نصائح كارون) :
– أتعلم .. اظنني املك بعضاً من صفات البشر الغريبة تلك ! فهم فمثلاً يعتبرون انفسهم ملائكة و لا يخطؤون ابداً , رغم انهم في الحقيقة شياطين تمشي على الأرض , و يستمتعون جداً بالسخرية من غيرهم ! لكن ربما انا ايضاً , في حال وجدت شاباً يفعل مثلي , فسألقبه على الفور بالأحمق !
-برأيّ سن المراهقة تؤثّر عليك ..
– لا , لا اظن السنّ هو السبب .. لكن ربما بسبب انغماسي في قراءة كل شيءٍ عن عالم السفاحين و المجرمين , لدرجة انني لم اعد ارى الجانب الجيد من الناس .. بل حتى لو رأيته , فذهني سيقوم على الفور بتشويه صورته ليشابه الجانب الآخر , و بهذا يختفي كل شيءٍ جميل في البشر ! … اظن انني بالفعل , شخص غريب الأطوار ! فلما اقضي معظم وقتى أتلقّف افكاراً مجهولة الهوية و اقوم بتقليبها من كل النواحي حتى يصيبني الصداع ؟ لما اعذّب نفسي هكذا ؟! بالله عليك يا كارون , اخبرني لماذا ؟!!
– كل هذا بسبب عزلتك .. يجب عليك ان تخرج و تلعب مع أقرانك , بدل ان تظل قابعٌ في غرفتك
هنا !! أطلق تشابو ضحكةً عالية ساخرة , قائلاً :
– لا مستحيل !! كل شيء ما عدا هذا … فالأمر اشبه بأن تقضي حياتك مع الحكماء , ثم تتركهم لتجالس الجهلاء ! لا طبعاً !! فأنا لم اعد احتمل البشر , ولا نظراتهم الفضولية لمنظري الغريب .. فكما يقول الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) :
“ان الجحيم هو نظرات الآخرين” .. تخيل بعد ان قضيت جُلّ وقتي بين كتب الفلسفة و الروايات العالمية و مثيولوجيا الشعوب , اعود لأتكلّم مع أشخاص لا يعرفون في حياتهم سوى العاب الفيديو و الأفلام و المسلسلات التى لا فائدة منها ! هذا عدا عن حبهم للموسيقى الصاخبة , و حلق شعورهم على أشكالٍ شاذة غبية ! بالتأكيد لن يوجد ايّ شيء مشترك بيننا , بل سنكون اقرب الى قطبين مغناطيسيين متشابهين لا يلتقيان … و لن يلتقيان ابداً !!
– لكني أخشى عليك ان بقيت هكذا ..
فقاطعه (تشابو) قائلاً :
– و ممّا تخشى يا كارون ؟! انا هنا في أمانٍ تام , طالما انني بعيد عن تلك الوحوش البشرية
– بل أخشى عليك من اكبر عدوٍ لك .. نفسك يا تشابو !! أخشى عليك من ان تصاب بالجنون !
– لا تخشَ شيئاً .. فلقد مررّت من قبل بتلك المرحلة : حين كنت ارى فيها الإنتحار فكرة معقولة , لكني اراها الآن حماقة كبيرة .. فكيف اقتل نفسي و يظلّ المتسبّب حياً ؟ و اقصد بالمتسبّب هنا : جميع البشرية ! لهذا يا (كارون) فلتهنأ بالاً , يعني لو كان بإمكاني القضاء على البشرية اجمع , لكنت انتحرت منذ مدّة طويلة .. و لا تخفّ عليّ ايضاً من الجنون , لأني اصلاً مجنون !!
فاكتفى (كارون) بهزّ رأسه , و هو يشعر بالأسى على الحالة النفسية السيئة التي وصل اليها الشاب .. و صار يطفو بهدوء الى الأعلى , و من ثم مرّ من خلال السقف و اختفى !
ليظلّ تشابو لوحده يفكّر بما قاله كارون .. و الحق ان جزءاً منه يريد فعلاً ان يعيش حياة طبيعية مثل بقية الناس , لكن الجزء الأكبر المسيطر عليه : يأمره بالإبتعاد عن البشر , كيّ لا يصاب بعدوى افعالهم المشينة .. و مع هذا مازال يشعر بالكثير من الأسى على نفسه ؟ خاصة عندما يراقب بحزن المراهقين الذين هم في مثل عمره : و هم يضحكون و يلعبون الكرة في الشارع مستمتعين بحياتهم , بينما يجلس هو كالعجائز حبيس الغرفة , حتى بات يكره النور كالخفافيش , غارقاً في ظلمة اوهامه !
و بدأ غضب تشابو يزداد بسبب كل تلك الأفكار المتضاربة .. لذلك قرّر ان يتخذّ حلاً سريعاً لكي يهدئ نفسه , و إلاّ فالويل له و للجميع !!
فخرج من غرفته .. و استغلّ عتمة الليل ليقف خلف منزله , و يرفع ببصره الى السماء , ناظراً الى القمر الذي بزغ من بين السحب.. كانت تلك وسيلته الوحيدة لتهدأة غضبه : و هي برمي كل ما يزعجه للقمر.. ربما حلٌ سخيف , لكنه كان يشعره بالراحة .. و بعد ان فعل ذلك , وقف مُغمض العينين منتظراً استقبال مشاعر السكينة .. لكن بدل ذلك , أعاد له القمر كل ذكرياته أليمة دفعةً واحدة ! فصار عقله يتذكّر كل افكاره الكريهة , التي كان ألقاها سابقاً للقمر ! و كأن القمر سئِمَ من ذكرياته تلك , قائلاً له بغضب :
” إسترجع ذكرياتك ايها الشاب , فقد إكتفيت منها “
و على الفور !! اصابت (تشابو) رعشةً قوية ! و غزت وجهه إمارات الدهشة من فيض كل تلك الذكريات السيئة .. لأنه حينما تغضبك إحدى افعال البشر , فإنك تستطيع كتم غضبك .. لكن عندما تجرفك أمواجاً منها , فأنت لن تستطيع منع غضبك المتفاقم !
و هنا !! بدأ يشعر بالغضب الذي لا نهاية له , و الذي بسببه : ستُرسَم نهايته و نهاية بعض الأشخاص المحيطين به..
(( البشر لا يتركون شيئاً امامهم إلا و يفسدوه !! البشر يشبهون الحيوانات في إنقيادهم لشهواتهم ! البشر يتركون الفاسد يسرح و يمرح على راحته , بينما يحاكمون الشريف الضعيف بشتّى انواع العقوبات ! البشر يسعدون بأفحش الأقوال و الأفعال ! البشر عبيداً للمظاهر الخدّاعة .. يكرهونك فور ارتكابك لأصغر هفّوة , متناسين بثواني كل محاسنك معهم ! يالهم من منافقين !! جبناء !! انذال !! )) ظلّت هذه الجمل تتردّد في ذهن تشابو , الى ان ازدادت حدّة غضبه بالتدريج مع إرتفاع صوت الموسيقى الصاخب , الصادر من الكازينو الرخيص الذي اُفتتح البارحة
لكن فجأة !! اختفت تعابيره الغاضبة , ليحلّ محلها إبتسامةٍ باردة ! حتى جسمه توقف عن الإرتعاش !
و على الفور !! عاد الى منزله , ثم اتجه بثبات ناحية مكتبة والده , ليخرج من خزانة الحائط : ذلك الرشّاش الضخم ..
– جيد ان ابي نسي اليوم ايضاً , قفل باب الخزانة
قالها و هو يتأكّد من ان الرشاش ملقّمٌ بكامل رصاصته ..
ثم خرج من المنزل و هو يحمل الرشّاش بإحدى يديه , و الذي كان بالرغم من ثقله يحمله بخفّة و كأنه لعبة اطفال , ربما لأن الغضب اعطاه قوةً خارقة !
ثم مشى بخطواتٍ ثابتة باتجاه أضواء الكازينو التي تشعّ من بعيد .. و صار صوت الموسيقى يعلو في اذنه مع كل خطوة يخطيها نحو الحفل ..
لكن فجأة !! تشكّل امامه في الظلام ضباب رمادي اللون , ليتجسّد له (كارون) الذي قال بقلق :
– تشابو ! ايّاك ان تفعل .. فغضبك سيدمّر كل شيء ..
فأجابه تشابو بنبرةٍ باردة :
– لدى كل شخص طاقة معينة للتحمّل ..و انا إكتفيت من تفاهتهم .. فلأكن عود الثقاب الذي سيشعل محرقة البشر !! و الآن إبتعد عن طريقي !! فلديّ مهمة عليّ إنجازها
– و ماذا عن والديك ؟
فابتسم تشابو بلا مبالاة , و اكمل طريقه ..
فعرف كارون (بعد ان قرأ افكار الشاب) بأنه حتى هو لم يعد باستطاعته ايقافه ! و تمّتم قائلاً :
– لقد زاره (آمون) شيطان الغضب .. و إنحنى (اوكون) إحتراماً لغضبه.. و (الهاربي) يطلبون الرحمة من ثورة غضبه .. أصبحت له نظرة القاضي و مشية جلاّد ! فلتشهدوا ايها البشر على هذا اليوم !! حينما يستحوذ الغضب على جسد الإنسان!
و صار كارون يطفو مُلاحقاً (من بعيد) صديقه تشابو , الذي كان يراه و هو يخطو بخطواتٍ ثابتة في اتجاه الكازينو ..
فقال كارون في نفسه :
– كلّ هذا , بسبب رسالة صديقه الأمريكي !
ثم بدأ يستذكر (كارون) بقيّة تلك الرسالة :
(( صرت الاحظ آدم و هو يقضي جُلّ وقته في المعمل , يقوم بخفّية بتجاربٍ ما ! بل اصبحت لديه نظرةً حادة و مرعبة.. و كثيراً ما كنت اسمعه يتمّتم بكلمة غريبة , و هذه الكلمة كانت : (شينرا- تنسي).. و في أحد الأيام , صارحني آدم بكل ما كان يفعله.. و قال لي : بأنه مهتم بطاقة (الكايّ) .. و هذه الطاقة موجودة في كل الكائنات الحيّة.. و لا يستطيع احد التحكّم فيها , إلا بالتأمّل و التركيز الشديد.. و لأنه عانى كثيراً من المتنمّرين , صار مهتماً اكثر بطريقة إستخراج تلك الطاقة الكامنة .. لكنه اراد استخراجها كدفعةٍ واحدة ! فاكتشف لاحقاً : ان الغضب هو المُسبّب الرئيسي لتلك الطاقة , و في حال ازدادت قوة الغضب , فالنتيجة قد تشابه : القنابل المتفجّرة ! و بالفعل !! و بعد عدّة محاولاتٍ يائسة على الفئران .. استطاع اخيراً ان ينجح بإغضاب احداها : و ذلك بعد ان قام بتجويع الفأر لأيام , ثم اعطاه الطعام .. لكن ما ان يقرض الفأر المسكين اول لقمة , حتى يُبعد عنه الجُبن من جديد .. و صار يعذّبه بهذه الطريقة لأكثر من ساعة , الى ان انفجر الفأر و تحوّل الى اشلاء ! اتصدّق يا تشابو هذا الكلام الخرافي ؟! فقلت له ساخراً : لو كان كلامك صحيح , لنفجر شخص كل ساعة حول العالم .. لكنه لم يهتم لسخريتي ,و اكمل كلامه عن تلك التجربة قائلاً : بأنه قبل ثواني من انفجار الفأر , اختفت رعشته فجأة ! و كأنه حصل على بعض السكينة .. ثم انفجر بقوّة ! .. و كان صديقي سعيداً جداً بهذا الإكتشاف , حتى انه اسماه ب (شينرا- تنسي) .. و قال بأنها تطبيق حرْفي لتقنية (باين) التي تقول : بأن الغضب يحرّر الطاقة الكامنة التي في داخلنا … و بصراحة لم احب ان اجادله , رغم كلامه الغير منطقي .. فسألته عن هدفه من هذا الإكتشاف ؟
و ليتك يا تشابو رأيت ابتسامته الشريرة , حين قال :
– الإنتقام يا صديقي !! الإنتقام من كل الذين سخروا مني , و تلقينهم مبدأ الألم الذي سيحقّق السلام .. تماماً كنظرية (باين)
و هنا ! أيقنت ان صديقي مخبولاً بالفعل ! فطالما انه يأخذ كلام شخصية انمي بهذه الجدّية , فهو بالتأكيد مجنون .. لكن اتعرف مالذي حصل , يا تشابو ؟ كنت قد انشغلت عنه بفترة الإمتحانات المدرسية , فهو مفصول من المدرسة كما اخبرتك ..حتى انني لم اعد التقي به في الحيّ
و في صباح احد الأيام , تفاجأت فور وصولي الى المدرسة : بتجمّع للطلاب و الأساتذة , و الكثير من المارّة خلف الشريط الأصفر التابع للشرطة .. فقد وجدوا بقايا آدم بالقرب من بوابة مدرستنا ! و كان رجال الأسعاف يحاولون لمّلمة اشلاءه التي تبعثرت في كل مكان .. و كان تماماً كمن فجّر نفسه ! ليتك رأيت الحيرة على وجه المحقّق الجنائي , فالشرطة لم تجد ايّ اثر للحزام الناسف .. وحدي انا , عرفت السبب ! فهل معقول انه توصل لطريقة يحرّر بها طاقة (كايّ) , و لهذا لاقى نفس مصير ذلك الفأر ؟! و الأهم من هذا , هل كان يريد تفجير نفسه بباقي الطلاب , الاّ انه انفجر ابكر من الوقت المحدّد ؟! ما رأيك انت يا تشابو ؟ فأنت قرأت الكثير من العجائب … فهل صحيح ان للغضب طاقة مدمّرة تفجّر صاحبها , كما حصل مع صديقي المجنون ؟!
***
في هذه اللحظات .. وقف تشابو عند مدخل الكازينو , و وجهه يعكس بروداً ليس بعده برود ! لكن في داخله كان هناك ألف شيطانٍ و شيطان يتصارعون فيما بينهم ..و رغم حمله للسلاح , الا انه لم ينتبه عليه احد ا! فالجميع منشغلون بالرقص و ترديد كلمات تلك الأغنية التافهة ..
فقال في نفسه :
(ستدانون جميعاً بتهمة كونكم بشر .. لقد حانت لحظة العقاب)
ثم صرخ صرخة مدوّية قائلاً :
– شي..نرا..-..تن..سي !!!!!
***
عشرات الجثث توزّعت في ارجاء الكازينو , و الكثير منهم حاول (برعب و يأس) اتقاء وابل الرصاصات العشوائية .. و تشابو مازال يصرخ بهستيريا (شينرا- تنسي) !!! (شينرا- تنسي) !!!! ….
بينما طيف (كارون) يراقب صديقه من سقف الكازينو :
– لا تستنجد بتلك الطاقة يا تشابو , فأنت لن تنفجر ! و ستواجه قريباً نتيجة قرارك المتهوّر !
و فجأة !! سُمِعَت سيارات الشرطة , و هي تصطفّ على عجل خارج الكازينو ..و اصوات صفّاراتها العالية ارعبت الحيّ كلّه ! ثم صرخ الشرطي (و هو يتكلّم عبر مكبر الصوت) :
-سلّم نفسك !! المكان مُحاصر !!
فتوقف تشابو عن اطلاق الرصاص , ليس خوفاً من الشرطة بل لإنتهاء الذخيرة ..
و في هذه اللحظة : انتبه بأن والده (الشرطي) هو من كان يتكلّم بالميكرفون (في الخارج) :
– اياً كنت يا هذا !! سلّم نفسك , قبل ان نطلق عليك الرصاص !!
فقال الطيف (كارون) في نفسه :
– تباً ! صار لابد ان اتدخّل بنفسي
***
و في الخارج .. هرب جميع الشرطة بفزع (بما فيهم والد تشابو) بعد رؤيتهم لذلك المارد الضبابي الضخم و هو يطير بسرعة , خارجاً من بوابة الكازينو !
ليحلّق كارون (فيما بعد) فوق رأس تشابو , الذي كان يركض متوغّلاً تلك الغابة .. باكياً .. خائفاً .. غاضباً على عدم نجاحه بإطلاق طاقته الداخلية (كايّ) .. ليواجه بذلك مصيراً مجهولاً !
———————————
تنسيق : أمل شانوحة
تاريخ النشر : 2015-12-16