أدب الرعب والعام

الباب المغلق

بقلم : محمد حمدي – مصر
للتواصل : [email protected]

لما تغلقون باب الغرفة بالخزانة ؟!

اكتظّت إحدى شقق ذاك المبنى المتهالك الواقع في أحد الضواحي الشعبية لمدينة المنصورة , بعددٍ كبير من أفراد الشرطة و المحققين ..و بالطبع ! بعض الصحفيين ايضاً ……. يبحثون جميعهم عن أيّ دليل ليفكّوا به غموض هذه القضية المحيّرة ….

يدخل المحقق (المسؤول عن القضية) ليشرف على العمل .
المحقق : ما هو الوضع أيها الشاب ؟
المساعد : تحياتي سيدي !! حتى الآن , وجدنا أشلاء و بقايا بشرية مًتناثرة في ارجاء المنزل .. و الظاهر انها بُعثرت عمداً بهذه الطريقة !
المحقق : ماذا تقصد ؟!
المساعد : من تتبّعنا لآثار الدماء , تبدو ان جميع الأشلاء قادمة من تلك الغرفة المغلقة .. و منذ الصباح و نحن نحاول فتحها .. الا انها مُقفلة بإحكام !
المحقق : ما هذا الكلام ؟! جدوا ايّ طريقة لفتح القفل .. اريد انتهاء هذا الموضوع اليوم .. اسمعت !!
المساعد : لا تقلق سيدي , سنجد حلاً ما
المحقق : و ماذا عن نتائج المعمل الجنائي ؟
المساعد : ظهرت النتيجة : و يبدو ان الأشلاء و الدماء لا تعود فقط للأم و الأبنة , بل تعود لأكثر من عشرين فرداً آخر !!
المحقق : ماذا ! هل قتل هذا المجنون كل هؤلاء ؟! أوَلم يكفيه ما فعله بعائلته !
المساعد : الغريب يا سيدي , ان الجيران يستبعدون كون هذا الرجل مُختلاًّ عقلياً , بل ما قالوه عنه هو النقيض تماماً ! فقد كانت سمعته جيدة …. لكن بعضهم اخبرنا : انه بدأ يتصرّف ببعض الغرابة في الآونة الأخيرة !
المحقق : و ما الغريب في الموضوع .. فكل المجانين و السفّاحين يبدؤون هكذا .. المهم أين هو هذا الرجل الآن ؟ هل تم القبض عليه ؟
المساعد : هنا تأتي الغرابة حقاً ! فقد اتضح أن بعض البقايا المُمزقة تعود له شخصياً !!
المحقق : ما هذا بحق الجحيم ؟!! إذاً من فعلها ….. إن لم يكن هو , فمن اذاً ؟!
المساعد : حقاً لا أعلم , سيدي ….. لم أرى قضية مُعقدةً إلى هذا الحدّ طوال مسيرتي المهنية ! ….. ربما نحن أمام لغزٌ كبير ….. بل أكبر مما نتصور !
المحقق : توقف عن هذا الهراء .. و ابحث عن الدليل بسرعة !!
المساعد بامتعاض : كما تشاء , سيدي المحقق.
المحقق : حسناً ..سأعود للمقرّ الآن , و انت اهتم بالعمل بنيابة عني ….. إلى اللقاء.

فجأة ! صاح أحد رجال الشرطة قائلاً :
-سيدي المحقّق !! لقد وجدت ما يبدو أنه مذكّرة يومية لصاحب الشقة …. إنها مُلطخة بالدماء !
المحقق : أرني إيّاها ….. علّنا ننتهي من وجع الرأس هذا.
المساعد بصوتٍ منخفض : سيدي ..لا أعتقد أنه من المناسب أن تقرأها أمام هؤلاء الصحفيين.
المحقق: أوافقك الرأي ….. إذا لا مشكلة .. سأتوجه إلى المنزل , و أقرأها هناك.

و يخرج المحقق من الشقة ……. و يقود سيارته متجهاً لمنزله …… و هناك , يسلّم على زوجته و ابنه ….. ثم يدخل مكتبه ….. يغلق الباب ….. يستلقي على أريكته ….. و يخرج من حقيبته , تلك المذكرة الملطّخة بالدماء .
المحقق : فلتريني أي نوع من المجانين كنت , أيها الوغد ..

يفتح المذكرة و يبدأ بالقراءة :
((لا أعلم حقاً من أين أبدأ قصتي …أأبدأ من نقطة فتحي لتلك الغرفة , أم من نقطة لقائي بذلك السمسار الغريب ..أم بما حدث لأهلي …..نعم عرفت .. سأبدأ من نقطة انتقالي لهذه الشقة اللعينة !!
أنا رؤوف ..رجل في ال 35 من عمري ..كنت اعمل في أحد البنوك كمحاسب …. أنا متزوج من 6 سنوات بإمرأة جمعني معها الحب , وعشنا في سعادة تحت ظلّه…… و بعد سنة من زواجنا .. رزقنا بإبنتي العزيزة , فلذة كبدي و أغلى ما أملك “سارة ” ….. كانت حياتي سعيدة جداً رغم صعوبتها , إلا ان زوجتي (أمل) كانت تخفّف عليّ دائماً بصبرها و تقبّلها لحالي ..و هذا ما زادني سعادة فوق سعادتي .

لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن …. فقد طُردّت من عملي …… و كل هذا بسبب قضية لفّقها لي أحد رفاقي في الشركة , بسبب الحسد و الحقد …… ليسامحه الله.
كانت فترة صعبة عليّ حقاً ..لكن وفّقني الله لأجد عملاً آخر , لكن المشكلة انه بعيد عن مكان سكني …. فبدأت رحلة أخرى للبحث عن شقة ذات ايجار قليل , لأن اجر وظيفتي الجديدة ليس بمستوى القديم ….. و كنت على وشك ان ايأس في إيجاد منزلٍ مناسب , حتى دلّني أحدهم على سمسارٍ جيد ..فذهبت إليه.

لا ادري كيف اصف الرجل .. كان غريباً حقاً ! لكن من يهتم .. المهم أن أحصل على منزلٍ يناسب مستوايّ المادي الجديد ….. أخبرته بظروفي و ما حدث معي , و أني أريد منزلاً رخيصاً مهما كانت حالته ….. لمعت عيني الرجل بطريقة مخيفة ! و ابتسم ابتسامة باهتة , و قال لي :
-طلبك عندي !!
فشعرت بإبتهاجٍ شديد , أنساني شعوري الغريب تجاه الرجل .. و قلت :
-دلّني عليه , أرجوك !!

و بأقل من ساعة .. كنت معه في شقتي المستقبلية الجديدة ..و على غير المتوقع ! كانت أفضل حالاً مما ظننت .. رغم انه ساورني القليل من الشكّ ..فسألته :
-ما اجار الشقة ؟ بالتأكيد باهظة , اليس كذلك ؟
فردّ بلؤم :
-لا تقلق يا صديقي .. هي لك !! …و من أجلك , سيكون آجارها 500 جنيه فقط في الشهر .. هل يلائمك هذا ؟
-و هل سيقبل المالك بهذا السعر ؟
-دع اقناعه عليّ ….. لكن قبل ان تجيب , عليّ ان احذّرك من موضوع : إيّاك !! ثم إيّاك , ثم إيّاك !! ان تدخل تلك الغرفة.
و اشار الى غرفة , كان بابها يسدّ بخزانة خشبية .. فسألته بقلق :
– و لما تغلقون بابها بالخزانة ؟!
– بصراحة لا أريد إخافتك ..لكنه قُتل شخص في هذه الشقة منذ مدّة طويلة ..و يقال أن جثته ما زالت بداخل الغرفة.. فقد قتلته زوجته و دفنته في احدى جدرانها , لأنه خانها ! هذا ما يشاع في …
فقاطعته معاتباً : أجننت ؟!! أتريدني ان أسكن أنا وعائلتي في بيتٍ فيه جثة أحدهم ؟!
فقال ببرود : هذه أرخص شقة , و لا أستطيع خدمتك في غيرها ….. كما لا نطلب منك ان تعيش مع الجثة …. فقط حاول تجاهل الغرفة , مهما كانت رغبتك أو فضولك .. أو مهما سمعت من أصوات ….
فعدت و قاطعته بقلق : أصوات ! عن أيّ أصوات تتحدّث ؟!
فابتسم ابتسامة صفراء و قال : لا شيء ..لا تعرّ الموضوع بالاً , كنت امازحك قليلاً ..و الآن اخبرني !! هل قبلت بالسكن هنا ؟ لكيّ نوقع العقد
فقلت بتردّد : اظن …..نعم ..موافق !
و اعتلت وجه السمسار ابتسامةً غريبة حقاً ! و تنهّد و كأن هناك ثقلاً أزيح عن صدره …. لكني لم أهتم , و وقعت العقد .. ثم اتجهت عائداً إلى أسرتي .

و بصراحة انا لا استطيع ان انكر انني كنت أطير من الفرح , لحصولي على شقة لائقة بهذا الأيجار الرخيص ….. لكن ليتني لم أقبل !! و لم أبعد تلك الشكوك …. و ياليتني لم أتغاضى عن تحذيره لي !! ….. لكن انَّ لي ان اعلم , بأن تلك الغرفة الملعونة ستُذهب بحياتي إلى الجحيم !

لنعد من حيث توقفنا .. عدت في ذلك اليوم الى زوجتي و اخبرتها بما حصل معي .. و كم كانت سعيدة بذلك , بل زادت سعادتها اكثر بعد رؤيتها للشقة …. و في خلال يومين , قمنا بنقل أثاثنا الى منزلنا الجديد ….و مع بعض التعب و الجهد لساعاتٍ متوصلة .. رتّبنا المنزل و نظفناه سوياً و نظمناه , و جعلناه على أجمل ما يكون ….. و بالطبع لم أنسى أن أحذّر عائلتي من عدم الإقتراب من تلك الغرفة بحجّة واهية , ألا و هي وجود بعض الخفافيش و الفئران التي تسكن بالداخل.

ثم بدأ الجيران يتوافدون علينا و يرحّبون بنا ..و بدأت علاقتنا تتوضّد بمن حولنا …. وعادت حياتنا كالمعتاد , قبل هذا الإنتقال …. لكن بدأت أشياء غريبة في الحدوث …… فإبنتي سارة صارت تشتكي من كوابيس حول هذه الغرفة ..فكانت تخبرنا : بأنها ترى يداً سوداء تجرّها من قدميها إلى داخل الغرفة , و هي تصرخ و تبكي و تنادي علينا , لكن لا أحد يجيبها ..و ما إن تدخل , حتى يظهر ” البعّ بعّ ” كما تصفه , ليلتهِمها .. ثم تستيقظ على ذلك.
طبعاً لم يأتي في بالي شيء غريب عن الغرفة .. فكل ما فكرت فيه : هو أنها طفلة , و ربما شاهدت فيلماً مرعباً قبل النوم .. فقامت امها بتهدأتها حتى نامت ……. لكنها صارت معاناتنا اليومية , و دائماً ما نستيقظ على صراخ ابنتنا :
-انه يريد أكلي !! و أكل ماما , و اكلك انت ايضاً ! ..ارجوك يا بابا !! دعنا نرحل من هنا بسرعة ..أنا خائفة جداً !
و ينتهي الأمر بنومها في احضاننا أنا و زوجتي ..حتى صرت لا أصدقها و اعتقد أنها تكذب , فقط لتنام بيننا.

لكن الأمر تطوّر ..فزوجتي صارت تسمع أشياءً غريبة قادمة من تلك الغرفة , كنداء شخص بصوتٍ مبحوح يقول لها :
-افتحي الباب ….. افتحي الباب يا أمل !! ….. اطعميني يا أمل , أنا جائع ….. أمل !! افتحي الباب.
بل و تعدّى الأمر , انها قالت لي مرّة : بأنها شعرت أن الخزانة صارت تهتز كالزلزال ! و كأن شخصاً يطرق بعنف على الباب , الواقع خلف الخزانة.
و كنت أضحك و اقول لها ساخراً :
-يبدو أن الإرهاق يؤثّر عليك …. فقط استريحي قليلًا , عزيزتي.
لكنها كانت تنظر اليّ بغضب , و تقول :
-أعتقد أن الأمر تجاوز مرحلة الهلوسة .

حتى جاء اليوم الذي استيقظت فيه على صوت وقوع شيء ثقيل على الأرض , قادم من الصالة ..ففتحت باب غرفتي لأجد زوجتي و قد أسقطت الخزانة , و هي تحمل المطرقة و تحاول بها كسر ذلك الباب !…… فأخذت منها المطرقة و قذفتها بعيداً ..ثم قيّدت زوجتي بذراعي محاولاً تهدأتها , لكنها كانت تقاومني و هي تصرخ :
-هناك شيءٌ بالداخل يا رؤوف !! بالتأكيد هناك شيء بالداخل ! إنه حيّ .. إنه يكلّمني دائماً .. إنه مرهق و جائع !! عليّ ان انقذه ..لابد ان انقذه !!
و استمرّت في مقاومتي , الى ان تعبت اخيراً و أغمي عليها !
فحملتها الى غرفتنا , و وضعتها على السرير ..ثم اتصلت بالطبيب ليرى ما حلّ بزوجتي .. لكنه قال بعد ان فحصها : بأنه مجرّد اجهاد لا أكثر , و عليها أن ترتاح ……..
و بعد ساعتين , استيقظت زوجتي … و حاولت الإستفسار منها عما حدث , لكنها لم تعلّق و لم ترد أن توضّح أيّ شيء .. و اكتفت أمل بالقول :
-أنا بخير ..أصبحت الآن بخير .. لا تقلق عليّ
فقمت بترتيب المنزل , و رميت الخزانة المحطّمة من بيتي ..و لم أرد للأمر أن يشغلني ..فأنا لا أريد اي سبب يجعلني أفارق شقتي الجميلة .

بعد هذه الحادثة ..لم تعد زوجتي لطبيعتها أبداً ! صحيح أنها صارت هادئة .. بل هادئة اكثر من اللزوم ! لكن عينيها لم تفارقا أبداً باب تلك الغرفة !….. و انا قمت بتجاهل الأمر !
و بعد أن تأكّدت بأنها أصبحت أخيراً بخير , عدت إلى عملي .. فقد اخذت إجازة , منذ انهيار زوجتي بهذا الشكل.

و بعد يوم عملٍ طويلٍ و شاق , عدت عصراً إلى منزلي ….. و ما إن فتحت الباب , حتى استقبلتني رائحة الدماء ! …. فانقبض صدري بشدّة ..و لسببٍ ما .. توجهت فوراً إلى تلك الغرفة .. لأجدها كما هي مغلقة , لكن دون الأقفال التي كانت عليها !….. و بدأت بالنداء على زوجتي و ابنتي , لكن ما من مجيب !….. فذهبت إلى غرفة نومنا ، غرفة ابنتي , المطبخ ، الصالة ..لكن لا يوجد أحد !…. و هنا !! انتبهت مجدداً للغرفة المحرّمة .. فهي و ان كانت مغلقة , الا انه اُزيل عنها كل الأقفال ! فهل يا ترى امل في الداخل ؟! …. و ما إن وضعت يدي على مقبض الباب , حتى سمعت صراخ ابنتي سارة , و هي تبكي (و رأسها يطلّ من خلف الكنبة) :
-لا بابا أرجوك !! لا تدخل !! سيأكلك “البعّ بعّ” كما فعل مع الماما !!!
فأزحت الكنبة و حملتها , محاولاً تهدأتها .. ثم سألتها :
-لما لم تجيبيني عندما ناديتك ؟! و أين الماما يا عزيزتي ؟
فزاد بكائُها و اشارت بيدها للغرفة المحرّمة , و قالت بفزع :
-لقد دخلت تلك الغرفة , يا بابا …. لقد كسرت الأقفال …. و ما إن فتحت الباب , حتى سحبتها يدٌ كبيرة إلى الداخل !…. يد “البع بع” يا بابا !!…. سوداء … و ضخمة ….. كانت امي تصرخ كثيراً يا بابا.
ثم عادت ابنتي للبكاء و هي تحضنني بقوّة .. و انا لم اعد أعرف بماذا أجيبها , أو مالذي عليّ فعله !…… فأجلستها على الكنبة .. و ذهبت ناحية الغرفة , متجاهلاً تحذيراتها و توسلاتها ..

و الغريب ان الباب انفتح معي بسهولة ! فنظرت بقلق الى داخل الغرفة ….. أجل لقد فعلت …… و هآلني ما رأيت ! إنها اشلاء !! و كتل من اللحم الأحمر , و بركة من الدماء تملأ أرضية الغرفة ! و في أحد الزوايا كان هناك …. رأس زوجتي !
فدخلت مذهولاً بضعة خطوات الى الداخل ! و اذّ بي انتبه الى سارة و هي تقترب بحذر من الغرفة ..فقفزت لأبعدها عن المكان , بعد ان اغلقت الباب خلفي ..ثم اتجهت مباشرةً الى الهاتف لأتصل بالشرطة .. لكني تجمّدت , بعد ان سمعت زمجرة مخيفة قادمة من داخل الغرفة ..و إذّ بالباب يفتح بقوة ! ليظهر في الداخل : شيءٌ أسود , لا أستطيع وصفه ! أقل ما يقال عنه : أنه الشيطان بعينه ..ثم خرجت يد الوحش الطويلة , و امسكني بقبضته , ثم قذفني في الهواء لأصطدم في الجدار .. و هنا بدأت في الغياب عن الوعى , و آخر ما رأيته : كان ابنتي و هي تصرخ و تناديني لأنقذها من براثن هذا الوحش , الذي بدأ بسحبها من قدميها الصغيرتين إلى داخل الغرفة !

و استيقظت ليلاً لأجد نفسي في شقتي , و كل شيء حولي محطمٌ تماماً ..و الغرفة الملعونة مفتوحة على مصراعيها ! و كان يصدر منها صوت تمزيق اللحم و تكسير العظام …..
و فجأة !! سمعت صوتاً و كأنه قادم من الجحيم : – اخيراً استيقظت !!
-من انت ؟! …و ماذا تريد ؟!
-اسمع يا هذا !! لا وقت عندي للثرثرة … أنا جائع , و أريد طعاماً !! ..ابنتك معي , و سأجعلها تلحق بوالدتها إن لم تنفّذ ما أقول .
صرخت برعب , و انا احاول القيام من على الأرض بتعب :
-أرجوك لا !! إلاّ ابنتي ..سأفعل أيّ شيء تريده .. فقط أخبرني بطلباتك و انا سأنفّذها حالاً !!
فقال بمكر .. و أقسم انني رأيت لمعان أسنانه البيضاء الحادّة في الظلام :
-انا لا أطلب الكثير …لكن مقابل حياتك و حياة ابنتك , أريد المزيد من اللحم الطازج ….. أريد لحماً بشرياً !!..أحضر لي أضحيات , و انا لن أمس ابنتك بسوء ….لكنها بالتاكيد ستبقى معي !! …. و إن تجرّأت و اخبرت أحدهم بالأمر , فسآكلها على الفور !!
فجحظت عينايّ و فتحت فمي على مصراعيه , لا أدري ماذا سأفعل ! لكن لا يوجد امامي خيار آخر .. اصلاً من سأخبر ليساعدني ؟ اكيد حينها سيعتقلونني بتهمة قتل زوجتي و ابنتي , و ان كنت محظوظاً فسيتهمونني بالجنون …. و بكل الأحوال لا يمكنني التخلّي عن محبوبتي الصغيرة .

و هكذا صارت حياتي .. ففي كل أسبوع , عليّ إحضار وجبة جديدة له .. لذلك كنت أخدع المتشردين و المساكين ليدخلوا بيتي , ثم أدلّهم على تلك الغرفة .. و ما إن يقفوا قرب بابها , حتى تسحبهم يده المتوحشة ..و تبدأ سيمفونية الصراخ و النحيب .. فهو حقاً كان يستمتع بتعذيبهم ! و انا كنت وصلت لمرحلة اليأس .

و في أحد المرّات .. خرجت لأبحث له عن وجبة جديدة , و اذّ بي الاقي ذاك السمسار ..و ما إن رأيته , حتى انهلت عليه بالشتائم والضرب و اللعن !!! و هو لا يدري ما يحدث له , الى ان ادرك السبب بنفسه ..و سألني :
-هل فتحت باب الغرفة ؟ …. اذاً هيا اخبرني .. ماذا يوجد بداخلها ؟
فقلت له بغضب : و كأنك لا تعلم ما في الداخل !!
-أنا حقاً لا أعرف سرّ الغرفة .. احلف لك !! كل علاقتي بالقصة , أن مالك المبنى قال لي : أنه يريدني أن اتصرّف في هذه الشقة بأيّ طريقة و بأيّ سعر , و سيعطيني مبلغاً مادياً في المقابل …. لكنه اكّد عليّ : ان احذر المستأجر الجديد من فتح تلك الغرفة .. و هو من اخبرني بقصّة الجثة ….. لكني احسست بأن الأمر يفوق ذلك ….. فماذا وجدت بالظبط في الداخل ؟ هيا اخبرني !!
لكني التزمت الصمت .. فقال :
-طالما انك لا تريد ان تخبرني بحقيقة الغرفة .. فعليك ان تذهب الى من استأجرها قبلك .. فلربما يساعدك .. و سأعطيك عنوانه
فنظرت اليه بحنقٍ شديد , و انا اتساءل : كيف يكون الشخص غير مسؤولاً هكذا ؟ كيف يكون كما نقول بالعامية “كلب فلوس” إلى هذا الحدّ …. لكني تحاملت على نفسي , و دعوته لشقتي ليعرف الإجابة بنفسه …. و بهذه الوجبة الدسمة .. فلن أقلق لبضعة ايام , حتى أجد الحلّ .

*******************************

و ها أنا اقف أمام بيت موجود في أحد المقابر ….. دققت الباب …. ففتح لي رجلٌ عجوز , شعره ابيض و تملأ وجهه التجاعيد … و الذي اتضح فيما بعد : أنه حارس المقبرة….. أخبرته على عجالة بقصتي , و لم أتمالك نفسي ! و انهمرت دموعي ….. فبدأ الرجل بالتخفيف عني .. فسألته :
-ارجوك أخبرني , ما سرّ ذلك المنزل ؟!

نظر اليّ مطولًا , و بدأت شفتاه بالإرتعاش .. ثم أغمض عينيه , و أرجع رأسه للوراء و قال :
-كنت مثلك تماماً .. انتقلت لهذه الشقة مع عائلتي ….. و كنت مهتماً بعلم الماورائيات …… و مهووساً بعالم الجن ..فصنعت غرفة خاصة لي ..و جمعت فيها كتب السحر , و كل ما يتكلم عن طرق استحضارهم ……. و في تصرّفٍ غبيّ مني , حضّرتُ جنياً … لكنه لسوء حظي ..لم يكن جنياً , بل شيطاناً يأكل لحم البشر !…و قد هاجمني , و قتل كل عائلتي !..ثم أخبرني بأنني سأكون التالي , اذّ لم أحضر له أضاحٍ بديلة عني ….. خفت , و نفذت مطالبه ….. لكني اكتشفت شيئاً .. فقوته محصورة بداخل الغرفة , الذي حُضِّر فيها ..فهو يفقد جلّ قوته عندما يخرج منها .. و بالتأكيد أنت أيضاً انتبهت على ذلك .. فهو يجعلك تجبر ضحاياه على دخول الغرفة .. أو على الأقل : ان توقفهم بالقرب من بابها ليمسكهم بقبضته , اليس كذلك ؟
فأومأت برأسي موافقاً .. فأكمل قائلاً :

-لذا قررت الهرب بعيداً عنه , لكن كان عليّ اولاً ان احلّ هذه المشكلة .. لذا جئت له بالضحية الأخيرة ..و خلال انشغاله بأكله , اغلقت الباب عليه بعدة اقفال .. و ادخلت ورقة صغيرة عليها بعض التعويذات في ثقب الباب تمنعه من فتحه .. ثم جررّت الخزانة الخشبية , و سددّته بها .. و خرجت من الشقة .. لكن قبل الأبتعاد عن تلك المنطقة , ذهبت الى مالك المبنى و حذّرته من دخول احد الى تلك الشقة ….. و رغم انه يملك شققاً عدة في ذلك المبنى .. لكن طالما انك استأجرتها , فهذا يدلّ على انه مالكٌ طمّاع و مادي و حقير !! ……..
المهم انني تركت ذلك المنزل , لأعيش بهدوء بعيداً عن كل الأحياء .. لذا اخترت العيش في المقابر , لربما هنا لا يؤلمني تأنيب الضمير !
فصرخت بغضب : و ما ذنبي أنا و عائلتي , أيها الحقير ؟!!! كيف ستعوضني عن موت زوجتي , و ابنتي التي ربما تلحق بأمها قريباً ؟!
و لم اجد نفسي الاّ و انا أنهال عليه بالضرب و الركل .. لكن الغريب انه لم يوقفني ! و بعد ان هدأت قليلاً , نظر اليّ بتعب و الم .. و سألني :
-اقلت أنه يحتجز ابنتك ؟!
فقلت و انا امسح دموعي :
-نعم ….. و يرفض إخراجها من هناك !
-و ما أدراك أنها ما زالت حية ….. هل رأيتها ؟
-كلا لم أفعل .. فهو لم يسمح لي أبداً برؤيتها .. لكني احياناً أسمع صوتها و هي تترجّاني بأن أنقذها , و ألاّ أتركها معه ….. و انا أعيش فقط لأجل سماع صوت صغيرتي ….. و قد خدعتُ الكثيرين من الأبرياء و أصبحت قاتلًا , لأجل ابنتي …… و مستعد لفعل أكثر من هذا , لأنقذها منه .. فهي آخر من تبقى لي من عائلتي ..

(و سكتّ قليلاً , قبل ان اعاود الصراخ عليه بغضب) : عليك اللعنة !! هيا أخبرني حالاً .. ماذا عليّ ان افعل , لأخلّصها من ذلك الوحش ؟!!!
فنظر اليّ بتردّد , ثم قال :
-انا آسف .. لكن اظن ان ابنتك ميتة منذ مدة …. لقد اكلها الوحش بالفعل و عليك الآن ان ….
-اسكت يا رجل !!
– اسمعني فقط !! هو يعلم أنك لو هربت , فلن يستطيع إيجاد غيرك لفترة .. لذا اظنه يقلّد صوتها .. و لهذا السبب : لا يدعك تراها.
فنظرت اليه و قد جحظت عينايّ .. ثم بدأت في البكاء الهستيري .. فهاقد انهارت كل حياتي بعد ان ايقنت خسارة ابنتي , هذا عدا عن خيانتي للمساكين الذين لا ذنب لهم ….

فتركته …… و بدأت أركض بأقصى ما لديّ من قوّة , متجهاً لذلك المبنى الذي فيه شقتي ..و انا عازمٌ على فعل أمر , غير آبه إن كان صائباً أم لا ….. و ما ان دخلت المنزل , حتى سمعت صوت ابنتي تناديني :
-أبي !! هل عدّت أخيراً ؟ أرجوك يا أبي , أذهب و احضر له المزيد من الناس …. سيأكلني إن لم تفعل.
فقلت في نفسي : ايحاول هذا الوحش اللعين خداعي ؟!! لا يمكن اصلاً لفتاة في الخامسة أن تقول مثل هذا الكلام ..

و هنا !! أمسكت قلماً و دفتراً , و بدأت بتسجيل كل ما حصل معي .. فلربما يأتي أحدهم و يقرأ مذكرتي , ليعرف حجم معاناتي !
و انا الآن اكتب , و في يدي الأخرى : سكين مطبخ كبير ….. و سأتوجه بعد قليل إلى تلك الغرفة .. فقد قرّرت أن أغلقها للأبد !! و رجاء أخير لمن يجد هذه المذكرة : إيّاك !! ثم إيّاك أن تدخل الغرفة .. و حذّر الجميع : بأن لا يقترب احد من تلك الغرفة الملعونة…… إلى اللقاء أيها القارئ .. و مرحباً بزوجتي و ابنتي , فقد اشتقت اليهم بالفعل .

***********

يغلق المحققّ دفتر المذكرات , و يعيده إلى حقيبته
المحقق : ما هذا الجنون الذي كتبه هذا الرجل ؟!….. بالتأكيد نفسه المريضة لم تتقبّل حقيقة قتله لعائلته , لذلك جعلته يتوهّم بكل هذه التخاريف !
ثم نظر إلى ساعة الحائط ..
-ما هذا ؟! كيف مضى الوقت بحق الجحيم ؟! هل أصبحت الساعة الرابعة صباحاً بهذه السرعة ؟!…….. (ثم فكّر قليلاً) .. يبدو أنني سأرى بنفسي حقيقة ما يجري داخل تلك الغرفة الغامضة .. فمساعديني الحمقى لم يستطيعوا الى الآن فتح بابها !

و قبيل الفجر بساعة .. توجّه المحققّ إلى ذلك المبنى .. و منه الى تلك الشقة التي كانت خالية و مظلمة .. لكن لسوء حظه كانت الإنارة معطلة في الشقة ! فأنار كشّافه و توجه مباشرةً نحو الغرفة المقصودة .. و ما ان وضع يده على قبضة الباب , حتى انفتح بسهولة ! فأطلّ برأسه الى الداخل , و هناك لمح أسناناً بيضاء تلمع في الظلام و عينان حمراوان تراقبه بشغف …. و لم يكد يفكر بشيء , حتى امتدّت على الفور !! يدٍ سوداء و سحبته الى الداخل.. ثم اغلق الباب بقوّة !

صوت نهش لحم و تحطّم عظام , رافقه صرير باب الغرفة و هو يُفتح من جديد , ليظهر حارس المقبرة العجوز ….. و قد وقف عند باب الغرفة , ناظراً إلى الوحش و هو يلتهم المحقق المسكين …. ثم قال مبتسماً :
-ايها المارد !! هل أشبع هذا العدد من البشر جوعك ؟…… أما آن الأوان لننفذ اتفاقنا ؟….. لقد أتممت شروطك ..و هآقد أصبحوا بهذا المحقق 25 فرداً , كما طلبت .. اذاً أنت الآن تحت طوعي و سوف تعطيني قوتك , اليس كذلك ؟
فردّ المارد و هو منهمك بمضغ اللحم : بل 24
حارس المقبرة : مالذي قلته , أيها المارد …. انا لم أسمعك جيداً !

فجأة !! تمتدّ يد الوحش بسرعة , و تقبض على حارس المقبرة ..ثم تسحبه لداخل الغرفة..
و في الداخل .. نظر المارد الى العجوز الذي كان يحاول الإفلات بصعوبة من بين قبضته , و قال له (المارد) :
-قلت !!! 24 فرداً .. فأنا لا أحب طعم لحم الأطفال
ثم شرع المارد بالتهام اطراف الساحر , بينما ضجّ المكان بصراخ العجوز المؤلم !!

و في أحد أركان الغرفة , كانت تراقبهما عيونٌ واهية تعود لشبح فتاةٍ صغيرة , كانوا يوماً ينادونها ب”سارة”.

تاريخ النشر : 2015-12-20

guest
122 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى