أدب الرعب والعام

من العالم الآخر

بقلم : حمزة عتيق – فلسطين
للتواصل : [email protected]

هناك من يراقبنا من بين الأشجار !

في تلك الليلة الموحشة , حاول القمر بنوره المتواضع ان يُخفّف بعضاً من ظلمتها الكئيبة , رغم كثافة الضباب الذي خيّم حول السيارة المتوقفة هناك , بسبب نفاذ وقودها .. ليجدوا الأصدقاء الثلاثة : مالك ، أحمد , و يزن .. انفسهم بعدما انقطعت فيهم السبل , عالقين في وسط غابة يكاد لا يكون فيها شكل من أشكال الحياة , غير اشجارٍ عملاقة مُخيفة المنظر , مُتناغماً مع صوت حفيفها المرعب !

مالك مُحدِّثاً أصدقاءه :
-يا أصدقاء !! يبدو أننا علقنا ! .. و لا أظن أننا سنجد أحداً هنا , خاصة بهذه الساعة المتأخرة !.. فلنبيت الليلة في السيارة منتظرين حلول الصباح , و حينها نحاول ان نطلب العون من ..

يزن بعصبية :
-سنطلب العون ممّن , يا مالك ؟!! الم اطلب منك : أن نبقى على الطريق العام ؟ لما اصريّت على سلوك هذا الطريق ..
احمد مقاطعاً : اهدأ يا يزن !! هو اراد ان نسلك طريقاً مختصراً
-يزن بغضب : و ياله من طريق !! .. انظرا الى تلك الغابة الموحشة .. لو امعنّتما النظر اليها , لاستشعرتم مثلي بوجود من يراقبنا من بين تلك الأشجار , التي تبثّ الرعب في النفس !

-أحمد ضاحكاً : على مهلك يا يزن ! لا تقل لي أنك تصدّق ما تراه في أفلام الرعب , فهي مجرد أساطير لا أكثر .
-يزن بعصبية : الأساطير لا تأتي من عبث , يا صديقي !!

-مالك : كفى يا أصدقاء ! هذا ليس وقتاً للجدال !!
-احمد : مالك معه حق .. و لنحمد الله , على انه مازال معنا عدّة التخييم ..

-يزن مقاطعاً بعصبية : اتريد ان تخييّم هنا ايضاً !! على الأقل المنطقة التي خيّمنا بها منذ ايام , كانت فيها تغطية للجوّال .. لكن هنا لا يوجد ايّ شيء .. انظر و تأكّد بنفسك من جوّالك !!

-مالك : من الأفضل ان نطفىء الجوّالات , لنحافظ على شحنه … احمد !! اعطنا كشّافات النور , في حال احتجناها لقضاء حاجتنا .. و غداً بإذن الله نجد حلاً لمصيبتنا هذه
-يزن بقلق : اتمنى ان امسك نفسي حتى الصباح , فأنا لا اريد الخروج اصلاً من السيارة !

و بعد دقائق .. حلّ الصمت في السيارة .. بعدما تمكّن الأصدقاء من تجاهل قلقهم , و الخلود الى النوم ..

***

القمر البدر في منتصف السماء , كان يضيء جزءاً من ظلمة المكان المحيط بهم .. و بحلول الساعة الثانية بعد منتصف الليل , كان أحمد الوحيد بينهم الذي جافاه النوم …فظلّ يتأمّل بعيونه الناعسة اشجار الغابة , و طريقة تحرّكها المهيب مع الرياح ..

و فجأة !! اصطدم حجرٌ صغير بزجاج السيارة (من جهته) .. فتفاجئ أحمد ! لأن الحجر لا يمكنه أن يطير لوحده هكذا ! فنظر إلى أصدقائه , و وجدهم يغطّون في نومٍ عميق zZz !!!
تجاهل أحمد ما حدث , و أغمض عينه في محاولة أخرى منه للنوم ..و إذّ بحجرٍ صغيرٍ آخر يُقذف نحو نافذته من جديد !

و هنا !! قرّر ان يخرج من السيارة ليتفقّد المكان في الخارج .. و صار يمشي و يمشي حاملاً كشّاف النور , دون ان ينتبه على انه ابتعد كثيراً عن السيارة ..
ثم احسّ بشيءٍ غريب , جعله يرتبك ! .. فنادى بصوتٍ معتدل :
-هل من أحدٍ هنا ؟!!
لكن ما من مجيب ! 

فصار يحدّث نفسه : ما هذا الشعور المخيف ؟! .. لما أشعر بوجود من يراقبني ؟! … يا إلهي ! هل كان شعور يزن صائباً ؟!
و إذّ بصوتٍ اجشّ يجيبه :
-ربما .. شعور يزن صائباً !!

أحمد يكّلم نفسه : يا ويلي ! من هذا ؟! ..و كيف سمع ما قلته لنفسي ؟!
ثم صرخ قائلاً :
-من أنت ؟!! هيّا أظهر نفسك !!

و فجأة !! يتحرّك شيءٌ ما , من بين الأشجار بسرعة غير طبيعية ! و الظلام المخيّم في المكان , زاد من رهبة الموقف !

فصار أحمد يتلفّت من حوله بفزع !.. و اذّ به يلمح عيوناً كثيرة تطلّ نحوه من خلف الأشجار !
فيرتبك و يتراجع للخلف بسرعة , ليتعثّر بحجر ..و يسقط على رأسه مغشياً عليه .

***

مالك و يزن الذين كانا يغطّان في نومٍ عميق , استيقظا على صوتٍ قادم من عُمق الغابة ..
صوتٌ بدأ يرتفع تدريجياً , و كان أشبه بالصياح !

هنا !! انتفض مالك قائلاً :
– ما الذي يحدث ؟!
-يزن : لا أدري ……. و أين أحمد ؟!

فصار مالك ينظر من زجاج السيارة في جميع الإتجاهات :
-تباً ..انا لا اراه ! هيّا يا يزن , علينا ان نخرج و نبحث عنه ..هناك شعوراً سيئاً يراودني !

ثم نزلا من السيارة و معهم كشافيّ النور , و صارا يناديان عليه بصوتٍ عالي :
-أحمد !! اين انت ؟!!!
لكن ما من مجيب !

فقال مالك :
-اسمع !! سأبحث انا من هذا الإتجاه .. و انت خذّ ذلك ..
يزن مقاطعاً و بقلق : 
-لا !! من الأفضل ان لا نفترق .. بصراحة يا مالك , انا خائفٌ جداً !
-يزن !! هذا ليس وقتاً للخوف .. قد يكون صديقنا في خطر …

و بعد ان اقنعه , افترقا للبحث عن صديقهم أحمد .

***

في هذه الأثناء .. استيقظ أحمد ليجد نفسه واقعاً على الأرض , و قد شجّ رأسه .. و كان مُحاطاً بعددٍ مهول من العظام و البقايا البشريّة الغارقة في بركة دماء , و مستنقعٍ من الأشلاء النتنة !

فصار يكلّم نفسه , و هو يرتجفّ من الخوف : يا الهي ! ما هذا المكان المرعب ؟! ..أين أنا ؟! و لمن تعود كل تلك الجثث المتعفّنة ؟!
…(ثم صار يسعل) ..اكاد اختنق من هذه الرائحة المُقرفة !!

فردّ عليه صوت من العدم :
-مرحباً بك في العالم الآخر !!!
ثم تبِعَ جملته , ضحكاتٌ هستيرية !

-أحمد خائفاً : من أنت ؟! … أظهر نفسك !!

و لم يكد ينهي كلامه .. حتى تراءى له من بعيد ..عيوناً كثيرة حمراء اللون , واسعة و مستديرة الحدقات , مع ابتساماتٍ مخيفة جداً !
ثم علا صوت التصفيق و التصفير من كل مكان !

فصرخ أحمد بفزع :
-من انتم ؟!! و ماذا تريدون مني ؟! .. انا لم افعل شيء ! ..رجاءً أخرجوني من هنا !! و دعوني اعود إلى بيتي .. أتوسّل اليكم !!
فأجابه الصوت :
-و هل من الحكمة أن نُخرج فأراً من المصيدة ؟

ثم تعالت أصوات الضحكات الهستيرية .. و أحمد مُتجمّدٌ في مكانه من شدّة الخوف !

***

في مكانٍ آخر من الغابة .. و بعد ان افترقا مالك و يزن كلاً في طريقه , للبحث عن احمد الضائع

كان يزن يمشي بموازاة الغابة , فهو لا يريد التوغّل فيها بهذا الظلام الحالك .. و رغم انه مازال يمشي على الإسفلت , الاّ ان الضباب كان يعيق رؤية نهاية هذا الطريق الطويل ..

و فجأة !! سمع صراخاً قادماً من بين الضباب :
-أنقذوووووني !!!! .. أنقذووووني !!!!

فركض يزن مُسرعاً نحو الصوت , ظنّاً منه : أنه صديقه أحمد !
فواصل الركض , الى ان بدأ الصوت يتضح تدريجياً .. ثم اختفى فجأة !

دقائقٌ مرّت و يزن مازال يتلفّت يُمنةً و يسرى , و هو ينادي هنا و هناك بقلق :
-احمد رجاءً !! قلّ ايّ شيء لأعرف مكانك !!

و اذّ به يلمحه من بعيد !
كان احمد يمشي باتجاهه ببطء , خافضاً بصره نحو الأرض !
..فركض يزن اليه بفرح :
-أحمد !! الحمد لله على السلامة .. أين كنت يا رجل ؟! ظننّا بأن مكروهاً أصابك !

فرفع احمد بصره اليه .. و لاحظ يزن على الفور : بأن عين احمد غَارَتِ في حَدَقتِها , و كانت شديدة الإحمرار ! و قد شحب وجهه تماماً ..
ثم قال احمد بصوتٍ خشنٍ مبحوح :
-من هو أحمد ؟!

عندما رأى يزن ما حلّ بصديقه ! أطلق رجليه للريح و فرّ هارباً , في محاولة لإيجاد مالك و تحذريه من الخطر المحدّق بهما .

***

في مكانٍ آخر ..
مالك الذي لم يثمر بحثه عن احمد بشيء , قرّر العودة إلى السيارة لينتظر صديقاه بداخلها .. و في طريق عودته , سمع صوتاً من بعيد يقول له :
-اقترب !! .. اقترب أكثر .

و مالك كان اشجع اصدقائه .. لهذا الصوت لم يفزعه , بل على العكس !! صار يتتبّع مصدره بخطواتٍ ثابتة … الى ان اختفى الصوت فجأة !

***

يزن الذي ركض مسافةً طويلة , توقف قليلاً ليلتقط أنفاسه و هو مازال يفكّر : ما الذي حدث ؟! ماذا أصاب أحمد ؟! لم تغيرت ملامحه هكذا ؟!
و إذّ بصوتٍ يقطع تسلّسل أفكاره :
-أحمد لم يعد لكم !!

فيصرخ يزن بفزع و غضب :
-من هناك ؟!! .. مالك !! اذا كان هذا انت , فلا وقت ابداً للمزاح .. فأحمد اصيب بشيء ..

ثم توقف عن الكلام , و صار يحدّث نفسه : لحظة ! ..كيف لمالك أن يقرأ أفكاري ؟! … اوووفّ ! ما هذه الرائحة النتنة ؟! و كأني أقف في مكبٍّ للنفايات !

ثم انتبه يزن الى اقتراب مجموعة من المخلوقات الغريبة نحوه , كانت اشبه بإشلاءٍ بشرية مُتحرّكة ! و كان من بينهم احمد .. و جميعهم ينظرون إليه , كأنه وجبة شهيّة على طبقٍ من ذهب !

يصيح يزن بفزعٍ شديد :
-من أنتم ؟!! و ماذا تريدون مني ؟ انا لم اؤذيكم بشيء ! رجاءً لا تقتربوا مني !! … احمد !! اهرب منهم بسرعة , و دعنا نبتعد عن هذا المكان !!… احمد رجاءً !!!

***

بعد ان اضاع مالك ذلك الصوت , وجد نفسه في وسط الغابة المُلتفّة الأغصان .. و علم انه أضاع الطريق !
فصار يحدّث نفسه بقلق : يالا غبائي ! كيف سأخرج الآن من هذه الورطة ؟!

و في هذه اللحظة ! يتناهى الى سمعه سعال شخصٍ ما !

فيقترب مالك من مصدر الصوت , ليرى عجوزاً يسير بخطواتٍ مُتثاقلة !

فيدنو منه بتردّد , و يقول له :
– يا عمّ !! .. يا عمّ , هل تسمعني ؟! … مرحباً !!

– مالذي اتى بك الى هنا , في مثل هذا الوقت المتأخّر ؟!
– بصراحة , كنت سأسألك السؤال ذاته ؟ .. ثم كيف تمشي يا عمّ , دون كشّاف نور ؟!
– نور القمر يكفيني

فاستغرب مالك من كلام العجوز ..فنور القمر بالكاد يستطيع ان يتخلّل بين كل هذه الأغصان المُتشابكة داخل هذه الغابة .. لكنه تجاهل الأمر , و حاول الإستفسار اكثر ..
-و هل انت من سكّان ..
العجوز مقاطعاً و بجديةّ :
-ماذا تريد مني بالضبط , ايها الشاب ؟!!

-كنت انا و صاحبيّ قد سلكنا هذا الطريق , بعد ان انهينا تخيّيمنا بالمنطقة المجاورة …لكن لسوء حظنا ! نفذ الوقود , فتوقفت السيارة امام هذه الغابة .. و بعد ساعات , ضاع صديقي الأول ! .. (ثم صار يتلفّت حوله) ..و اظنّني الآن اضعت الآخر ! و احتاج مساعدتك لإيجادهم .. فهل تستطيع ان تدلّني على ..

مقاطعاً :
– ما رأيك أن تأتي لكوخي ؟ فهو قريبٌ من هنا
-ماذا ! ..ألم أقل لك يا عم , أنني أبحث عن صديقايّ .. فكيف تريدني ان انعم بمكانٍ دافئ ! و هما في مكانٍ ما , يواجهان برد و وحشة الغابة ؟!

-بنيّ !! اسمع الكلام , و لا تتعبني معك .. فلم يبقَ على بزوغ الفجر سوى ساعتان .. و حينها نبحث عنهما سويّاً ..
– و هل لديك هاتفاً في كوخك ؟
-بالتأكيد !! و يمكنك الإتصال بالشرطة ليساعدوك

ففكّر مالك قليلاً , ثم قال :
-تمام ..تبدو فكرة جيدة .. هيا اذا !! لنذهب يا عمّ

***

بعد ان توغلا اكثر في الغابة , وصل العجوز مع مالك إلى كوخٍ خشبي قديم .. و بعد ان دخلا .. صار مالك يدير الكشّاف في ارجاء المنزل المظلم , باحثاً عن شيء ..
ثم قال :
-أين تضع الهاتف , يا عم ؟!

لكن الرجل لم يجيب ! بل كان مشغولاً بإنارة قنديل الغاز , الموضوع فوق الطاولة في آخر الصالة ..

فيعيد مالك عليه السؤال , بعد ان رفع صوته ليسمعه :
-يا عم !! أين الهاتف ؟! عليّ أن اكلّم الشرطة حالاً , حتى يصلوا في الوقت المناسب .

ثم التفت الرجل المسنّ إلى مالك .. و هو يرفع القنديل امام وجهه , لتظهر ابتسامته المخيفة :
-عن أي هاتف تتحدّث ؟

فصعق مالك من هول المنظر !

و صار يكلّم نفسه : ما هذا ؟! هل تغيرت ملامحه فجأة ؟! ام انني لم انتبه جيداً على وجهه القبيح !

و كان العجوز يقترب منه بخطواتٍ بطيئة .. فحاول مالك الهرب , لكن قدميه تجمّدتا من الخوف .. فحدّث نفسه بقلق : يا إلهي ! مالذي يحصل معي ؟! هيا تحرّكي , أيتها اللعينة !!!

لكن لا فائدة , فقدميه التصقتا بالأرض ! فلم يجد نفسه الا و قد اخرج مفتاح السيارة و غرزها بقوة في قدمه .. و اذّ بجسمه ينتفض , بعد ان شعر بالألم .. فتحرّرت قدماه , لينطلق مسرعاً نحو الباب .. لكنه يجده مقفولاً !

و صار العجوز يقترب منه ببطء , مُصدراً صوتاً يشبه الزمجرة !

فما كان من مالك الاّ ان رمى بكرسي (وجده امامه) على النافذة .. فكسرها .. ثم اسرع بالقفز منها , و الهرب من ذلك الكوخ الملعون !

و ظلّ مالك يركض في الغابة بكل ما اوتيّ من قوة .. الا انه انتبه بعد دقائق , بأنه اضاع الطريق .. فصار يبحث هنا و هناك بقلق و بشكلٍ عشوائي , الى ان وصل إلى طريقٍ كان قد مشى فيه من قبل .. فسار فيه , حتى وصل اخيراً للسيارة ..

و من بعيد , لاحظ جلوس يزن في المقعد الخلفي .. فأسرع اليه !! و دخل (مالك) الى السيارة كالمجنون , و إقفل بابها بسرعة !! 

و قال ليزن بصوتٍ مُرتجف :
-علينا ان نهرب من هنا بسرعة !! فالمكان أصبح خطيراً !

لكن يزن لم يجيب ! ..فالتفت مالك الى الخلف بغضب , ليرى يزن مُخفضاً رأسه !
-يزن !! ما بك ؟! أهذا وقت النوم ؟!!

-يزن بصوتٍ خشن : من هو يزن ؟

تاريخ النشر : 2016-01-10

حمزة عتيق

فلسطين
guest
39 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى