أدب الرعب والعام

البوابة

بقلم : رائد قاسم – السعودية
للتواصل : [email protected]

يلمح بوابة ضخمة في الصحراء !

في ظلمة الليل وفي الصحراء الموحشة يمشي على غير هدى… رفقائه القمر والنجوم المتلألئة من حوله..انه متعب من عناء السير المتواصل ولكنه أمله الوحيد…يتطلع في كل الاتجاهات لعله يرى بصيصا من أمل .. يلمح بوابة ضخمة فيهرول إليها ….. كلما اقترب منها شعر ببرد شديد، إلا انه يظل ماضيا باتجاهها…. قوة هائلة تجذبه نحوها… رياح عاتية تقدف به إلى بابها الضخم …. يتمسك به لكي لا تجرفه الرياح الغاضبة… يحاول مقاومتها إلا انه يفشل.. يسقط في وادي سحيق مظلم وهو يصرخ…

يفتح عينيه فيرى نفسه على السرير….
-ما الذي حدث لي؟

..تدخل عليه امرأة في الخمسينات من عمرها..
– سمير هل استيقظت أخيرا؟
… ينظر لها بتعجب..
-من أنت؟

.. تتطلع له بذهول..
-من أنا؟ أجننت يا ولد؟ كيف لك أن تسأل مثل هذا السؤال؟ هيا قم واغسل وجهك واستعد للذهاب للمدرسة!!
-مدرسة !!
-نعم والى أين تريد الذهاب إذن؟ للتسكع في الشوارع !!.

… تضربه برفق..
-هيا قم بسرعة.
..ينظر إلى وجهه في المرأة فيرى نفسه في السابعة عشر من العمر!!!
-لا يمكن!! لقد تحولت إلى شاب مراهق !!.. مستحيل!!!

… تنادي عليه مرة أخرى..
– هيا ارتدي ملابسك واحضر كتبك بسرعة.
يفعل ما تأمره به ثم يجلس على مائدة الطعام ليتناول وجبة الإفطار معها.. يخمن بأنها والدته..
-أمي أنا….
-أنت ماذا؟ لا تقل لي بأنك لا تريد الذهاب للمدرسة، الحافلة ستصل بعد قليل.. أتفهم.

…يتناول طعامه بهدوء حتى وصولها… تضع والدته مصروفه اليومي في جيبه … تقبّله
ثم يذهب.

يصعد الحافلة وهو لا يعرف ماذا يفعل، ينظر لجميع من فيها بتعجب وذهول..
… يناديه احدهم..
– سمير ما بك تعال اجلس بجانبي!!!
.. يتوجه له على الفور..
– ما بالك اليوم؟ يبدوا بأنك لم تنم جيدا.
– نعم هو كذلك.

ينظر للمدينة من النافذة فيرى الشوارع مكتظة …
-قل لي في أي يوم من الأسبوع نحن ؟
-ما بك تسألني سؤال أكثر من بديهي؟!
-اجبني أرجوك!
-نحن في يوم الاثنين الموافق السابع عشر من مارس2030 .
-مستحيل!!
-ما هو المستحيل؟
-كلا لا شي!

يصل للمدرسة وهو لا يكاد يصدق ما يجري له…
-مستحيل أنا في عام2030 !! وعمري 17 عاما!! ، لا يمكن ، لا بد أن هذا حلم يقظة محبك!!
-ما بالك يا سمير هيا بسرعة قبل أن يعاقبنا الأستاذ!

يقضي يومه المدرسي مع زملاء صفه، يحاول الانسجام معهم ومعرفة منهم كل شي عنه !!.. .. تنقضي ساعات المدرسة بسلام ليعود إلى المنزل، تستقبله والدته بالأحضان..

.. يتناول طعام غذائه ويسلم نفسه للنوم .. يستيقظ عصرا ، يشعر بفراغ ممزوج بغربة ..يملئه بالتجوال في أنحاء المنزل …يشاهد صوره وصور والدته ووالده وبعض الأشخاص الذين لا يعرفهم….
-هل حلّت روحي في هذا الجسد؟ أيمكن أن يكون ما أنا به تناسخ أرواح ؟

.. يبدأ بالتنزه في أنحاء الحي ، يوقفه بعض أقرانه للتحدث معه .. يجاريهم في الحديث حتى لا يقع في أي خطا محرج…
-مستحيل! كل هؤلاء الناس يعرفونني وأنا لا اعرفهم!! كل شي طبيعي!! استيقظت لأرى نفسي شاب مراهق اسمه سمير!! لا يمكن!! غير معقول!!.

… مع حلول الظلام يعود إلى منزله…
– سمير! الم تذهب اليوم للنادي على جري عادتك؟
– النادي!!
– نعم، ما بالك مضطرب هكذا؟ أنت كل يوم تذهب للنادي وتعود عند المغرب.
-(بتلعثم) كلا لم اذهب أنا متعب قليلا اليوم.
-سأحضر لك طعام العشاء.

يتناول طعامه وهو ينظر لوالدته..
– ما بالك تنظر لي هكذا يا ولد؟!
– ( يبتسم ) أمي كم احبك!!
-قل ما تروم إليه دون نفاق! لا شك انك تريد مصروفا إضافيا!!

.. يقترب منها ويقبّل يدها!!
– كلا أريد تقبيل يدك وهذا عندي بكل أموال الدنيا.

تبتسم ثم تحتضنه بحنان..
-ابني حبيبي، كم كنت أتمنى أن يكون والدك معنا ليراك وقد أصبحت شابا.
ينظر لها بدموع منهمرة …

تمسح دموعه بأصابعها..
– ولكنك عوضي عن فقده وسلوتي في هذه الدنيا.
… يرتمي في حضنها باكيا…
– سأظل معك ولن يفرقنا إلا الموت يا أمي الحبيبة.
– (بابتسامة مشوبة بالبكاء) هيا با بني ذاكر دروسك واخلد للنوم ، غدا أمامك يوم دراسي جديد.

يرتمي على مخدعه.. يتأمل في غرفته….
-كل شي حقيقي، ولكن ما هي الحقيقة وما هو الواقع؟ بت لا اعرف شيئا!!
… بعد تقلب عدة ساعات يبحر في عالم النوم…

****

… يرى نفسه مجددا عند البوابة وسط الصحراء …
-أنا هنا مرة أخرى، ماذا افعل؟ هل أغادر هذا المكان أم أتجاوز هذه البوابة ؟!

… لا يرى سوى صحراء قاحلة ملبدة بظلمة قاتمة وهدوء رهيب، يسمع أصوات إطلاق رصاص من داخل البوابة…
– لعل هناك أناس عالقين مثلي، لا بد أن اذهب إليهم.

يتجاوز البوابة ليسقط مرة أخرى في الوادي المظلم وهو يصرخ صراخا مجلجلا في غمرة الظلام العاتي الرهيب….

****

-استيقظ يا سيدي أرجوك الأمر خطير.
…يفتح عينيه.. يجد نفسه في غرفة تحت الأرض ، وأشخاص يرتدون الزي العسكري يحيطون به ..
– سيدي أرجوك إن القائد يريدك حالا.

.. ينهض من فراشه ناظرا لمن حوله بذهول….
-أين أنا ؟
-عفوا سيدي!!

ينظر للجميع بتعجب ولكنه يتمالك أعصابه..
– كلا لا شي، اخرجوا من غرفتي وليقف أحدكم على الباب ليذهب بي إلى القائد.

يبقى وحيدا ، ينظر لوجهه في المرآة فيشاهد نفسه وقد أصبح رجلا في الخامسة والأربعين من العمر ومرتديا بزة عسكرية..
– لا يمكن، مستحيل، لابد باني ميت وأعيش حياة زائفة، كل هؤلاء مجرد ممثلين من العالم الآخر، كل هؤلاء ليس لهم وجود حقيقي، كل ما أنا فيه ليس سوى وهم!!

يناديه الجندي..
– سيدي القائد يريدك حالا، أرجوك تعال فورا.

…يخرج إليه وهو يسمع ازيز الرصاص وهدير المدافع حتى وصوله لمقر القائد ….
– أين أنت يا عماد ؟ أيعقل أن تنام كل هذه الساعات؟
– ( بذهول) عفوا سيدي!
– قلت بأنك سترقد خمسة ساعات فإذا بك تهجع ضعفها!!
– (باضطراب) أنا آسف يا سيدي، حقا أنا آسف.

– عماد، أنا لست قائدك فقط بل صديقك، نحن في الجيش منذ عشرين عام.
– (بتعجب) عشرين عام!!
– طبعا ألا تذكر؟، اليوم هو الثلاثاء ، الثامن عشر من مارس 2030، وهو المكمل للعشرين عاما من عمر صداقتنا وزمالتنا، المهم استمع إلي جيدا، قررت أن أقود هجوم مباغت ضد العدو، وعلى هذا ستكون أنت القائد حتى عودتي أو مصرعي.

… يتقدم منه وقد شعر بعاطفة شديدة نحوه.
– لا تقل مثل هذا الكلام، ستعود سالما دون شك.
– نحن عسكريين يا عماد، وقد تعلمنا أن نحمل أكفاننا فوق ظهورنا أينما ذهبنا.

..يجمع القائد جنوده ويأمرهم بأن يلتزموا طاعة عماد وأن يؤذوا له التحية العسكرية …

يقف عماد مذهولا لا يعرف كيف يتصرف وماذا يفعل!!… أزير الرصاص يزداد كثافة ، وهدير المدافع يزداد ضراوة…
– سيدي ماذا لو قتل القائد؟.
– لا تقل ذلك، سيعود حتما.

…يسمعان استغاثة القائد على جهاز الاتصال اللاسلكي….
– يا الهي انه القائد.
– لا بد أن اذهب إليه.
– كلا لا تفعل ذلك أرجوك.
– بل سأذهب لمساعدته لقد قال بأنه صديقي وزميلي.
– بالطبع سيدي أنتما أصدقاء منذ سنوات طويلة.

يمسك بكتفيه…
– لن أتخاذل عن أداء واجب هذه الصداقة حتى لو لم أعشها حقا.
– ماذا تقصد؟
– (بابتسامة ) لا شي، أنت قائد المعسكر الآن، تصرف بحكمة.

يخرج إليه في عدد من الجنود… يقتربون من خط التماس ….
-سيدي يجب أن نكون على حذر.

… يحاصرهم بغتة جنود العدو
-القوا أسلحتكم وإلا أطلقنا النار.

… يلقي عماد وبقية الجنود أسلحتهم …. يقودهم الأعداء إلى السجن…. ما أن يزجوا فيه حتى يشاهد عماد القائد جريحا وملقى على الأرض فيتوجه له على الفور…
– قائدي هل أنت بخير؟
– عماد ما الذي جاء بك إلى هنا؟
– (والدموع منهمرة من عينيه) لقد جئت باحثا عنك يا صديقي.

… يضع كل واحد منهما يده في يد الآخر…
-هكذا أنت دائما لم ولن تتغير، كلانا الان في ألاسر.
-لا تقلق كل شي سيكون على ما يرام .

ينادي عماد على جنود العدو…
– إن قائدنا مريض، من حقه أن يتلقى علاجا.
– لا داعي يا عماد، إن إصابتي بالغة وسوف أموت عما قريب.
– كلا ، لا تقل ذلك.
– أنصت إلي يا عماد، إذا عدت إلى المعسكر، أرجوك اتصل بزوجتي وابلغها بأني أحبها وسأظل أحبها، وإذا ما رجعت سالما للوطن أرجوك لا تدعها بمفردها، كن دائما إلى جانبها.
– (بدموع منهمرة) لا تقل ذلك ، أنت الان متعب فقط وستكون بخير.

يبتسم في وجهه، ثم يغفوا إلى الأبد… ..يجتمع حوله الجنود ويبكونه…..

يبكيه عماد وكأنه يعرفه، وكأنه عاش معه عشرين عام من الصداقة والزمالة … يأتي جنود العدو ويفرقون الأسرى عن بعضهم البعض.. يحتجز عماد في زنزانة منفردة، … لا يصدق ما يجري له وما هو عليه… يتخذ له زاوية ليبكي صديقه الذي لا يعرفه … يصيبه نعاس شديد، يحاول التغلب عليه ولكنه لا يتمكن من مقاومته، يستلقي على فراشه الرث وينام…

****

– استيقظ يا عاطف ما كل هذا النوم؟
… يفتح عينيه فيرى نفسه في غرفة واسعة والى جانبه فتاة جميلة…

ينظر إلى ما حوله بصمت مطبق…
– ما بالك يا عزيزي؟ ما دهاك؟
– مستحيل، لا يمكن!!
– ما هو المستحيل والغير ممكن؟ يبدوا انك شربت بكثرة ليلة البارحة!!
– ليلة البارحة!!
– نعم، اذهب واغسل وجهك، لقد أعددت لك بعض الأطعمة الخفيفة، علينا الخروج قبل المساء.

… ما أن تخرج من غرفته حتى يهرول نحو المرآة ليشاهد نفسه وقد أصبح شابا في الخامسة والعشرين من عمره…
– لا يمكن !! بالأمس كنت رجلا في الخامسة والأربعين واليوم شابا في الخامسة والعشرين!!

..يخرج مسرعا باحثا عن الفتاة ، فيراها وهي جالسة في الحديقة…
-أهلا عزيزي هل هدأت الان؟.
-بالطبع ولكن اخبريني ما اليوم وما تاريخه؟
-عزيزي هل أنت جاد في سؤالك هذا؟
-أرجوك أجيبيني.
-اليوم هو الأربعاء.
-من أي شهر وفي أي يوم منه وفي أي عام؟
-التاسع عشر من شهر مارس عام 2030، أرجوك لا تشرب مرة أخرى!!

يتركها بسرعة ليحدق في كل ما حوله ويتلفت بذهول في كل الاتجاهات…
-مستحيل!! لا بد أني ميت وهذه المأساة التي أعيشها عقاب السماء، أنا أعيش بشخصيات مختلفة بل متناقضة وفي زمن واحد!! انه عقاب يضاهي عذاب جهنم !!

ولكن إن كنت ميتا فكيف هؤلاء لا يشعرون بأنهم أموات ؟ كيف تكون حياة ما بعد الموت كحياة ما قبله؟ …أكاد اجن!! هل اقتل نفسي ؟ ولكن كيف يموت الميت ؟ ولكن كيف اتاكد إذن ما إذا كنت حيا أو ميتا؟

– عاطف.. ما دهاك يا عزيزي ؟
– ( بارتباك) أنا بخير، أين تريدين أن نذهب؟
– الم نتفق أن نذهب إلى معرض السيارات لاستكمال بيع سيارتي الثانية وقبض باقي ثمنها؟
– (بأعصاب منهكة) بالطبع ولكني متعب يا عزيزتي.
– لا عليك سأقود السيارة بنفسي، استرح أنت فقط ولا تبذل أدنى جهد.

… يذهب معها ، يتأمل شوارع المدينة وطرقاتها فيراها مدينة عامرة.
– هذه المدينة ليست تلك التي كنت فيها عندما كنت شابا في الثانوية العامة قبل يومين، كيف ذلك؟ هل هناك تفسير لما يحدث لي؟

… يصلان إلى معرض السيارات ، تنشغل الفتاة بإجراءات بيع سيارتها ..
– الان إلى أين سنذهب يا عزيزتي؟
– إلى الملهى طبعا؟ هناك ساعزمك على وجبة عشاء فاخرة ولكن ليس قبل منتصف الليل فالوقت لا يزال مبكرا!!!

تنزله في الملهى…
– سأضع المال في الخزنة وارتدي فستان السهرة وأعود إليك، استمتع بوقتك..

… يدخل الملهى، لا يعرف أين يذهب والى أين يتجه، يناديه احد العاملين…
– أهلا سيد عاطف.
– أنت تقصدني؟
– بالطبع، أهلا بك، هل تريد عصير برتقال؟
– ( بتردد) نعم .
– في ليلة البارحة كنت مضطربا وغير مدركا لما حولك.
– (بذهول) أنا كنت كذلك؟.
– أنت طبعا!! ولولا ريما لهمت على وجهك واعتقلتك الشرطة!!
– من ريما؟
– ريما صديقتك يا عاطف، ما بالك ؟

…. فجأة يشعر بضربة خفيفة تأتيه من الخلف….
… يشاهد أمامه شابا دو شعر غليظ ولحية رثة…
– مرحبا عاطف.
– من أنت؟
– من أنا ؟ سؤال غبي! اسمع أنا هنا أحذرك للمرة الأخيرة!!!
– تحذرني عن ماذا؟
– ريما!!
– ريما!! ما بها؟
– إنها لي ولن تكون لك أو لغيرك، ابتعد عنها وإلا..

ينظر له باشمئزاز ثم يعرض عنه ولا يعره أي اهتمام….
– ما لك خرست؟!! قل شيئا ؟ صمتك ونظراتك تثيران غضبي.
لا يستطيع عاطف التحمل … يقف غاضبا ويقذف بكاس البرتقال على الأرض..
-فلتذهب أنت وكل هؤلاء إلى الجحيم. لم اعد أطيق العيش في هذا الحلم المجنون أكثر من ذلك، لقد تعبت، أما آن لستارة النهاية الحتمية أن تنزل؟!!

– عاطف إذا تفوت بكلمة أخرى سأضربك.
-افعل ما تشاء ، لا أعرفك ولا اعرف ريما، ولا اعرف احد هنا، إنني أمارس دورا مفروض علي ، أنا لا انتمي لكم وليس لي علاقة بكم، لا شك أنكم مجموعة من الشياطين تمارسون علي لعبة قذرة.
-اسكت وإلا…
-انتم كائنات شريرة، لا شك أن جسدي أسير عندكم، وأعيش بعقلي في عالم من صنعكم.

يتقدم منه ويضربه ضربة تسقطه أرضا… يتجمع حوله الناس، تصل ريما فتهرول له مسرعة وهي تلهج باسمه..
-عاطف، حبيبي هل أنت بخير؟

ثم توجه أنظارها نحو ضاربه…
– يا لك من مجرم، لقد قلت لك مرارا وتكرارا بأني أحب عاطف ولن أكون لك أبدا. يغضب من كلامها فيحاول ضرب عاطف من جديد إلا أن الناس يمنعونه، بينما يفقد عاطف وعيه ويغط في سبات عميق…

****

-استيقظ يا سامي قبل أن يأتي نائب المأمور.. الأمر خطير!!
.. لا يرى بديلا من ضربه حتى يستيقظ…. يفيق بصعوبة إلا انه قد فات الأوان….

… يفتح عينيه فيرى رجل ضخم الجثة دو شارب ملفوف..
– أهلا يا سامي بيك!! أكل هذا نوم!!
– ( بإرهاق ) لقد تلقيت ضربة موجعة في ليلة الأمس!!

…ينظر الجميع إلى بعضهم البعض فتعلوا ضحكاتهم….
-وأين كنت ساهرا يا سيد سامي؟
-في الملهى!!

يضحكون ضحكا تصل مسامعه خارج أسوار السجن..
زميله في الزنزانة – يبدوا انك أثقلت في العشاء ؟

مأمور السجن – (بجدية) استرجع نشاطك وتناول إفطارك واذهب إلى حضرة المأمور، انه يريدك لأمر هام، ودع هناك تناول طعام العشاء بشراهة!!

…يغادر الزنزانة وهو يضحك …..
-سامي استعد وعيك أرجوك.

…يقف بصعوبة بالغة.. يرى نفسه في زنزانة …
– أين أنا؟
– (باستغراب) أين أنت؟ ما هذا السؤال ؟ أنت في الشيراتون يا صديقي!!

… يلمح مرآة فيذهب إليها بسرعة..يشاهد نفسه .. رجل في الخامسة والثلاثين يرتدي ملابس زرقاء!!
– مستحيل!!لا يمكن!! لقد كبرت عشر سنوات !! وفي السجن!!.
– ما دهاك يا صاحبي؟!! ما الم بك؟، لما أنت مضطرب هكذا؟
– اخبرني منذ متى وأنا هنا؟
– هل أنت جاد في سؤالك هذا؟
– أرجوك اخبرني.
-أنت هنا منذ عشر سنوات!!

-مستحيل!!
-ولماذا مستحيل؟ هذه هي الحقيقة !!
-في أي أيام الأسبوع نحن؟
-(بتأفف) نحن في يوم الخميس، العشرين من مارس 2030
-مستحيل..مستحيل!!
-ما هو هذا المستحيل؟ بت لا افهم منك شيئا!!

… يدخل احد أفراد شرطة السجن…
– سامي المأمور يريدك فورا.

..ينظر سامي لزميله باستغراب..
-اذهب إليه فورا.
-حسنا سأفعل.

يخرج من زنزانته متجها لمكتب المأمور، في طريقه يلقي عليه زملائه التحية، يرد عليهم وهو في قمة تعجبه واستغرابه حتى يصل إليه…
-المسجون سامي يا سيدي.
-حسنا، دعه يدخل واخرج أنت.
– أهلا بك يا سامي تفضل بالجلوس.
– أهلا بك يا سيدي.
– كان من المفترض أن تعاقب على تأخرك.
– أنا آسف يا سيدي.

… يقترب منه ويكلمه بهدوء …
– لا باس، المهم كما عهدتك في العام الماضي، لا بد أن ترفع رأس إدارة السجن هذا العام أيضا!!
– (بتلعثم) أنا تحت أمرك يا سيدي.
– عظيم!! اسمع، بعد ثلاث أيام سيأتي رئيس مصلحة السجون لزيارة السجن وأريدك أن تقود مهام تنظيم وترتيب ونظافة السجن مثل العام الماضي.
– حسنا!

– إن انتهت الزيارة بسلام سوف أكافئك مكافئة جزيلة، سأرفع تقريرا بدرجة ممتاز عن حسن سلوكك وتعاونك ، وقد تحصل من خلاله على إعفاء من مدة محكومتيك، وسوف آمر بإدخال التلفزيون لزنزانتك وارفع من مكافأتك الشهرية.
– (يرد عليه ببرود) سأفعل كل ما تطلبه مني.
– رائع أبدا فورا !.

يخرج من مكتب المأمور وهو في حالة يرثى لها من تشتت الذهن والإنهاك..يحاول البدء بتنفيذ اتفاقه مع مأمور السجن ولكنه لا يستطيع …يضطر للمكوث في زنزانته..
-سامي يبدوا انك مريض هل اطلب لك الطبيب؟
-كلا سأكون بخير احتاج للراحة فقط.
-ما رأيك أن نتنزه قليلا في الباحة؟

… يستحسن الفكرة فيخرج منه…
– ما رأيك؟ الشمس ساطعة والجو جميل.
– أريد أن أسالك سؤالا ولكن عدني بأن تجيبني من دون انفعال.
– لا عليك أسال كما تريد.
– لماذا أنا هنا؟!
ينفجر ضاحكا….

– سامي يبدوا أن حرارتك مرتفعة !! سؤالك يدل على انك لست أنت!
– أرجوك اجبني فقط.
– أنت هنا لأنك متورط في جريمة سرقة خزنة الشركة التي كنت تعمل فيها!
– مستحيل!!
– أنت هنا منذ عشر سنوات وبقي لك خمس سنوات أخرى، وستخرج بعدها للدنيا الفسيحة!! طبعا ستخرج فقيرا معدما لان المال الذي سرقته تمكنت الشرطة من إعادته!!

..تنتابه نوبة هستيريا… يجتمع حوله السجناء…
– مستحيل أنا لم أكن معكم قبل هذا اليوم، أنا لم اسرق أبدا!!
– يا الهي يبدوا انه جن!!
– صدقوني لقد جئت من المجهول وقذف بي إلى هنا، أخرجوني من هذا المكان.

…يحاول زميله تهدئته …
– سامي إن سمع المأمور بكلامك هذا سوف يأمر بك إلى زنزانة انفرادية، تعال معي، أنت بحاجة إلى الراحة.

يأخذه إلى زنزانته لينام حتى المغرب…
-ما هو شعورك الان ؟
-أنا هادئ تماما، ولكن عند الصباح لن تراني مجددا!!
-هاها هاها، اطمئن أنا معك منذ عشر سنوات!! وسأظل معك لخمسة أعوام قادمة.
-قلت لك لن تراني مع شروق شمس الغد.
-حسنا ، اهدأ فقط وهيا لنتناول وجبة العشاء.

يتناولان الطعام…ينظر سامي للناس من حوله وهو في غاية الكآبة..يأخذه زميله إلى حلقة مع بعد السجناء إلا انه يجلس بينهم صامتا اغلب الوقت حتى موعد إغلاق الزنازين… يعودان إلى زنزانتهما ويفترش كل منهما سريره للنوم…
– مع السلامة يا رفيق الزنزانة، لن أراك بعد ليلتي هذه!!
-هاهاها نعم لن تراني ، لا تقل لي بأنك ستتناول سما!
-لا سأدخل البوابة لأعيش حياة أخرى أفضل من حياة السجن الكئيبة.
– مهما حلمت بالحرية يا صاحبي فأن حقيقة أمرك ستظل مسجونة معك في هذا السجن!!.

…يحاول النوم بصعوبة، يتجول في أنحاء الزنزانة حتى يغمره النوم إلا انه يستيقظ في منتصف الليل…
-مستحيل ! كيف لم أغادر هذا المكان؟…. ما زلت هنا!!

يوقظ زميله..
– سامي ماذا تريد؟
– أنا ما زلت هنا، لم ارحل!
– ( بتجهم ) سامي نم، أمامك عملا كثير في الغد، دع عنك هذا الهراء.
– قل لي هل أنا معك حقا منذ عشر سنوات؟
– أكيد!
– هذا يعني انه جرت بيني وبينك الكثير من المواقف والأحداث.
– بالطبع.
– مستحيل! لا يمكن أن اتجزء إلى عدد من الأشخاص!! من المستحيل أن تنقسم الكتلة إلى مجموعة من الكتل !!

– ( بتأفف) سامي أرجوك دعني أنام ، يبدو انك بحاجة إلى طبيب نفسي، في الغد يمكننا أن نتقدم بطلب علاجك في العيادة النفسية، ارجع لفراشك الان.
يعود إلى سريره، يتقلب يمينا ويسارا عله يغفوا، وبعد عشرات التقلبات يدخل في عالم النوم… …يجد نفسه بالقرب من البوابة مرة أخرى….
يتلمس أطرافه وأعضاءه …

– كل شي طبيعي تماما، أنا في وعي تام، هذه المرة لن أخشى شيئا، وليس عندي ما اخسره، سأرمي نفسي في الوادي السحيق بكل قوة وجرأة، لن أخاف أبدا.
…. يركض بأقصى سرعته ويتجاوز البوابة ليسقط في الحفرة العميقة قائلا بأعلى صوته : إرادتي ستنتصر!!

****

-استيقظ يا سامي.
يفتح عينيه فيرى امرأة جميلة إلى جانبه…
-لن اسمح لك بالسهر مرة أخرى أفهمت.

ينظر لها بتعجب….
-ما بك؟
-(بابتسامة حانية) لا شي، لقد نمت نوما عميقا ليس إلا.
-اليوم سأذهب للعمل والأطفال سيكونون تحت رعايتك.
-أطفال!!
-نعم ، هذا ما اتفقنا عليه بالأمس، هل نسيت؟
-(بابتسامة ) كلا لم أنسى.

يدخل عليه طفلين جميلين..
– صباح الخير يا بابا!!

ينظر لهما بذهول !!سرعان ما تتغرغر عيناه بالدموع..
يناديهما..
-تعالا، اقتربا مني.
يحتضنهما بدموع منهمرة …

-ما بك يا حبيبي؟ كأنك لم تلتقي بهما منذ أمد بعيد.
-بل هذه المرة الأولى التي أشاهدهما..

يعود للنظر إليهما..
-كم أحبكما.
-ونحن كذلك نحبك يا بابا.

ترتمي هي الأخرى في حضنه…
– كم أحبكم، لن اسمح لأحد بان يفرقنا عن بعضها.
زوجته- حتى الموت لن يفرقنا ستظل أرواحنا تعانق بعضها البعض ابد الوجود.
– حبيبتي، لا تذهبي لعملك اليوم، أريدك أن تبقي معنا.
– ولكن….
– أرجوك، أريد أن اقضي كل اليوم معكم.
-حسنا سأفعل.

يقضي معهم يومه الدافئ، يغمرهم بحنانه ويغدق عليهم بعطفه، أصبح كل همه هو أن يمنحهم أجمل ما عنده..

– لن اخشي منك أيتها البوابة بعد اليوم ، لن أدخلك ولن اسقط في واديك السحيق، ساغفوا واستيقظ مجددا وسوف أبقى مع أحبائي مرة أخرى ، لن اسمح لكِ بان تقذفي بي وسط أقدارك العاتية ، هذه المرة سأنتصر والى الأبد.

تاريخ النشر : 2016-02-01

رائد قاسم

السعودية
guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى