أدب الرعب والعام

سيزيف (3) و الأخير

بقلم : Seeeba – سوريا

كنت محكومة بعذاب يشبه الم سيزيف

مرّت سبعة أشهر على واقعة كوخ “سليمان صادق” , و طالت مدّة محاكمة السّفاح “محمود” و كثرت تفاصيلها .. فأصيب الناس بالمللّ و فقدوا الإثارة , و إنشغلوا عنها بأعمالهم.. و عاد كل شيء إلى ما كان عليه ..

بينما أحدثت مآساة الكوخ تغيراً كبيراً في نفسي ، إذّ أدركت لأول مرّة بأنّ الحياة أقصر من أن أضيعها في الإستهتار و الفوضى.. حيث كان أمامي الكثير لأتعلمه في مدرسة الحياة ، بعد أن اضعتُ على نفسي فصولها لسنواتٍ طويلة .

***

إستيقظت ذات يومٍ ربيعي جميل ، فوجدت بأنني تأخرت على محاضرة الصباح ، بسبب سهري لإنهاء كتاب في الليلة السابقة ، فالمطالعة أصبحت أهم هواياتي.. و بقيت في الفراش لبعض الوقت .. ثم قرّرت أن أنزل لتناول الفطور , و الخروج إلى الحديقة للإستمتاع بالطقس الخلاّب.

أذكر يومها بأنني لم أكد أقطع نصف الرواق المؤدي إلى حديقة القصر ، حتى أقبلت مدبّرة المنزل و سلّمتني مفتاحاً عتيقاً قائلة :

-لقد وجدت هذا المفتاح في جيب سترة السيد “سليمان” , قبل أن أرسلها للتنظيف
-آه ! لابد أن ابي نسيه.. شكراً لكِ

قلّبت المفتاح بين أناملي ، و إستقرّت عينايّ على باب المكتبة الموصد .. و ظننت بأن والدي لن يمانع في أن أستعير بعضاً من كتبه القيّمة.

أدرت المفتاح في القفل و فتحت الباب ، فأصدر صريراً إقشعر له بدني ! ربما بسبب كل ذلك الترقّب الطويل قبل أن تتاح لي الفرصة لإكتشاف عالم أبي السرّي ، الذي لطالما أثار فضولي.

كانت المكتبة مذهلة ، و كما توقعت تماماً .. حيث رُصّفت كتبها ذات الأغلفة الجلدية الأنيقة , و الكتابات المذهّبة بعناية و ترتيب.. لم أقاوم رغبتي في تمرير أصابعي على المجلّدات و أنا أستنشق عبقها المسكّر ، خليطٌ غريب من الروائح المخدِّرة…

و في وسط الغرفة الواسعة ، برز مكتب والدي .. و كان فوقه كتاباً ذي غلافٍ أسودٍ عتيق , و بقربه آلة عرضٍ سينمائية .. إقتربت منها و وضعت بعض الصور , ثم ضغطت زرّ التشغيل ..

و في إنتظار أن تظهر الصور ، تناولت الكتاب الغريب ذي الغلاف الداكن و فتحته.

لم تكد عينيّ تقع على الصفحات الأولى , حتى وقف شعر رأسي من هول ما قرأت !

رميت الكتاب بسرعة و تراجعت بضع خطواتٍ للخلف .. و حينها إنتبهت إلى الصور التي تظهر على حائط المقابل .. و تسمّرت في مكاني مُرتاعة ! واضعة يديّ على فمي , لأكتم صرخةً تحشّرجّت في حلقي..

و مازلت أحتفظ في ذاكرتي بكل تفاصيل تلك اللحظات العصيبة ، عندما وقفت أطالع في رعب تلك الصور ! أذكر إنني هرعت و أغلقت آلة العرض , و أنا أكابد شعوراً مميتاً بالغثيان .. و صرت إتلفّت من حولي على غير هدى ..

فأسترعى إنتباهي : كتاب ذو غلافٍ أسود على أحد الرفوف ، فكتابٍ ثان و ثالث و رابع و خامس و…

سحبتها و تصفّحتها مُرتعشة ! و كانت كلّها مذكرات تروي تفاصيل جرائم الكوخ.. جرائم “سفّاح النساء” لكن بخطّ والدي !!

و عندما رفعت رأسي هذه المرّة ، وجدت والدي واقفاً عند باب المكتبة ، يطالعني بنظراتٍ مرعبة , و أحد كتبه السوداء مازال في يديّ..

و بهدوء أغلق باب الغرفة و إتجه نحوي .. و لما إستقرّ عند الجهة المقابلة من المكتب قال لي :
-أرى بأنك قد عرفتِ سرّي الصغير

نظرت إلى وجهه و كأنني أراه للمرّة الأولى ، و كأنه شخصاً آخر لا أعرفه ! و تمّتمّت بعد ان خانني صوتي : -أ..أكنتَ..أنتَ….أنتَ من إرتكب كل هذه الفظائع المُنكرة ؟!

و إنهمرت دموعي أخيراً , و انا احاول ان اكمل كلامي بصعوبة :
-أنتَ سفّاح النساء ! … طيب ماذا عن العم “محمود” , ما ذنبه ؟! .. يا ربي !! أيّ كابوسٍ هذا ؟!

-للأسف ..هذا ليس كابوساً يا عزيزتي .. أنا ..
قاطعته بغضب : و لما ؟!!

و أخذ صوتي يعلو أكثر فأكثر , حتى صرت اصرخ في وجهه :
-لماذا ؟!! ما الذي أذنَبّنَهُ هؤلاء النسّوة في حقك ؟!

و فجأة إنتبهت ! و تذكّرت احداث الكوخ في ذلك الصيف ، فسألته برعب :
-و ماذا عن أمي ؟! هل قتلتها هي الأخرى ؟! هل إكتشفت جرائمك ، فأسكتها إلى الأبد ؟.. هيّا اجبني !!!
-لا ، لا.. أقسم أن وفاة والدتك كان حادثاً ، لا علاقة لي به

و أخذ يقترب مني ، فيما تراجعت انا محافظة على مسافةٍ بيننا .. لأنه في تلك اللحظة , إنتهى كل شيءٍ يجمعنا : صلة الدّم ، و سنواتنا الطويلة معاً كأبٍ و إبنته ، كلّها إندثرت ..

بينما واصل “سليمان صادق” كلامه هامساً :
-لم أكن موجوداً عندما وقعت والدتك عن الدرج في ذلك اليوم ، ألا تذكرين ذلك ؟ لقد كنت في القرية أقتني بعض الأسمدة و المعدّات للمزرعة….

اسمعي يا صغيرتي .. ما حدث في ذلك الكوخ ، كان خطأً و قد مضى دون رجعة .. أنا اليوم رجلٌ سويّ قد رمى كل الماضي وراء ظهره , و يسعى إلى عيش حياةٍ مستقيمة..

– كان خطأً ؟! و أيّ خطأٍ ذاك الذي يتسبّب بمجزّرة , تُزهق فيها أرواح 89 إمرأة ؟! بل 90 روحاً , إذا ما إحتسبنا العم “محمود” الذي يُحاكم الآن على جرائم لم يقترفها ، جرائمك التي ستقوده إلى حبل المشنقة ..أيّ وحشٍ أنت ! أيّ وحشٍ أنت !!!

فأجاب ببرودٍ مقيت :
-هذا الوحش هو للأسف والدك , يا سارة.. فما الذي ستفعلينه حيال ذلك ؟ هل ستهرعين إلى المخفر و تبلغين الشرطة , بأن والدك هو الفاعل و ليس الشيخ “محمود” ؟ ..هآ !! اذاً سأخبرك مالذي سيحصل بالضبط ..

في الوقت الذي ستقضينه و انتِ تروين تفاصيل إكتشافك العظيم هذا ، سأكون انا قد أعدمت كل الأدلة التي تدينني : الصور ، المذكرات , هذا عدا عن اعطائي الأوامر لرجالي بإحراق كوخ المزرعة..و عندها سيكون كلامك , في مقابل كلامي ..و لا تنسي ايضاً , جهابذة المحامين الذين يعملون لصالحي .. فمن برأيك سيكسب في النهاية ؟

لزمت الصمت , فاقترب مني اكثر ..و سحب الكتاب الأسود من بين يديّ , فلم أقاومه ! أغلقه و وضعه على الطاولة , قائلاً :

-لنفترض أنك نجحت و كنت المنتصرة .. و خلّصتِ عنق ذلك الشيخ الخَرِفّ , الذي لم تريه سوى في مناسباتٍ معدودة من حبل المشنقة .. و لففّته حول عنق والدك , الذي لم يبخل يوماً في تلبية رغباتك و السهر على راحتك.. والدك الذي كان إسمه جواز سفرك لتحقيق أحلامك , حتى المستحيلة منها.. ما الذي سيحصل برأيك بعد ذلك ؟

ستنتشر قصة بطولتك في الآفاق , و ستتصدّرين عناوين الصحف التي سيُمجّد صحافيوها من مُتسلّقي الشهرة , موقف “سارة صادق” التي سلّمت والدها إلى العدالة .. سيحبك الناس و سيطالعونك بإعجاب , و سيتحدّثون عن شجاعتك و دفاعك عن الحقّ… و سيكون هذا إنجازك الوحيد , بعيداً عن مساعدتي و علاقاتي و إسمي ..

يعني الشيء الوحيد الذي ستقومين به و ستبرعين فيه دون شك , إلى درجة إذهال الجميع : هو تدمير والدك و عائلتك و نفسك في نهاية المطاف.

ألم يخطر ببالك أن نشوة إنتصارك هذه ستختفي بأسرع مما تتوقعين ، حين يظهر إنجازاً آخر حقيقي يسحب البساط من تحت قدميك ، فينفضّ الجميع من حولك , و يطوي بطولتك النسيان , و تعودين إلى الواقع ..

واقعك و حقيقتك ك”سارة سليمان صادق” بدون ألقاب البطولة و التبجيل .. “سارة سليمان صادق” التي ستصبح إبنة السفّاح , الذي كان فيما مضى مليونيراً ذو نفوذ , لكن إبنته المدلّلة و التي أحبها أكثر من نفسه , حكمت عليه و على نفسها بالإعدام..

أنتِ تعلمين بأنّك ستعانين بقدر ما سأعاني أو حتى أكثر , لأني ما إن أتدلّى من حبل المشنقة حتى تنتهي معاناتي إلى الأبد ، لكنّ معاناتك يا صغيرتي ستتواصل..

أتذكرين يا سارة ، عندما تمّ إستجوابي من قبل الشرطة ؟ اتذكرين كيف حاول الجميع من حولنا تفادينا أنا و أنتِ , فقط لمجرّد الشك بأن لي يداً في جرائم الكوخ ..

أتذكرين رفاق طفولتك و أصدقائك المقرّبين , كيف إبتعدوا عنك و لفظوك و كأنك وباءٌ قاتل سيلوثهم ….. تمام !! هآقد بدأتِ تتذكّرين ، أرى ذلك الإحساس في عينيك يا صغيرتي..

ثم أمسك والدي وجهي بين يديه , و نظر في عيني قائلاً :
-و الآن !! هل ستكونين قادرة على التعايش مع هذا الإحساس المميت , لبقية عمرك يا سارة ؟

أخفضت رأسي , بينما يدا والدي لا زالتا تطوقانه ، و عينيه مثبّتتان على شفتي ، ينتظر بإهتمام ما سأقوله.. فتمّتمّت دون أن أرفع رأسي , و أنا أشهق :

-لكن ما ذنب العم “محمود” ؟
فإحتضنني والدي و همس في أذني : و ما ذنبك أنتِ ؟

كانت تلك هي المرّة الأخيرة التي تحدّثت فيها مع “سليمان صادق” ..فلم يطل بي الأمر قبل أن أنهار تماماً أمام شعوري بالذنب , و التواطئ في إعدام العم “محمود” الذي لا أعلم إلى اليوم , لما إعترف بأرتكابه لتلك الجرائم ! فتركتُ كل شيءٍ خلفي , و غادرتُ إلى أبعد مكان إستطعت الوصول إليه.

و لم أدرك حينها بأنني و لسوء حظّي قد حزمت الندم و الأرق الطويل و تأنيب الضمير متاعاً في حقيبتي ، في الوقت الذي كنت أناضل فيه للهروب من هذه الأحاسيس القاتمة التي تأكل روحي…

كنت محكومة بالعذاب و الألم تماماً كأسطورة ((سيزيف)) : أنوء تحت حمل صخرة الذنب الثقيلة .. أدفع نفسي المُتهالكة بصبرٍ نحو قمّة النسيان ، فتتدحرج الصخرة و تعيدني إلى نقطة البداية !

كنت قرأتُ في إحدى ليالي أرقي الطويلة , كتاباً لا أذكر منه سوى جملةً وحيدة , تتردّد في ذهني كلّ مساء , و أنا أرتعد فرقاً من حلول الظلام و ما يجلبه معه من كوابيس و خيالات , لم تفلح الأدوية المهدّئة و لا جلسات العلاج النفسي في تخفيفها ..

و تقول تلك الجملة : بأن ((ضمير المُذنب , عدّوه)) .. و قد بُليتُ بأشرس الأعدّاء !

تاريخ النشر : 2016-02-15

Seeeba

سوريا
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى