أدب الرعب والعام

طريق التعساء

بقلم : كوثر

خيم الظلام ، ظلام تام ، انه يكره الظلام ، جواد يكره الظلام كثيراً ، الكائنات الشريرة تحب الظلام

اليوم هو أتعس يوم في حياته ، يوم تعيس آخر ينضم إلى يوميات التعاسة خاصته ، كل ما يريده الآن العودة إلى المنزل و كل ما يتمناه الآن الاستلقاء ثم النوم ، نوم لا يقظة منه ، اليوم هو أتعس يوم في حياته فلقد طُرِدَ توا من عمله و قد أصبح الآن عاطلاً عن العمل ، ليس هذا فحسب بل ترك وراءه فضيحة حقيقية ستتناقلها وسائل الإعلام و ستنتشر كالنار في الهشيم ، فضيحة لا شأن له بها أصلاً ، لكن من يهتم و من سيصدق بائساً مثله و قد كذّب رب عمله الثري ذو النفوذ ، من المخبول الذي قد يتجرأ على عملٍ كهذا ؟ لا أحد طبعاً ، كل ما يريده الآن هو العودة إلى المنزل فاليوم هو أتعس يوم في حياته .

بعد تلك الحادثة في العمل أصابته طامة أخرى من حيث لا يدري ، لقد أخبرته نادية خطيبته ، حب حياته و وردة وجدانه أنها لم تعد تريد الزواج من فاشل مثله ، عاطل و سارق ، هل كذبت ؟ لا لم تفعل ، فكيف سيجد عملاً بعد أن أصبح موضوعه يتناقل على لسان هذا و ذاك؟ كيف سيكّون أسرة بعد أن شاع خبر كذبة مدبرة كهذه في مجتمعه الجاهل؟ لقد أحسَنَت نادية ، لقد كان سينفصل عنها لأنه يحبها لكن لا بأس لقد بادرته هي فاليوم هو أتعس يوم في حياته ، يريد فقط العودة إلى المنزل لكن هذه الأفكار لا تنزاح عن عقله بل تتضخم في تؤدة و كأنها تشبع نزواتها بتحطيمه ،

لقد اتصلت به توا أخته سمية ” اللعينة ” و أخبرته أنها تحتاج إلى المال فهي تريد أن تشتري كتاباً من أجل الجامعة ، ” تبا لها و تبا لكتبها و تبا لي كذلك” هكذا قال في نفسه ، ليس ذلك فحسب بل أخبرته أنها تريده أن يرسل لها مالاً إضافياً ؛ فوالدهما المسن يموت مرضا ( هذا ما كان ينقصه ) ، من أين سيحصل على كل هذا المال و قد أصبح لجدران البطالة طلاءا أبدياً .

و ما زاد الطين بله اتصال ” شكري ” ، ذلك الثري البدين مالك الشقة ، إنه يريد إيجار الشقة ، ” الموت له ” صاح قائلاً ، لقد فقد الأمل في الحياة و لقد خسرها ، اليوم هو أسوء يوم في حياته ، كل ما يريده هو العودة إلى المنزل دون التفكير بأي شيء آخر ، حتى هذه الطريق الخالية التي لا يعرف كيف وصل إليها ، لكن لا يهم ، فقط عليه العودة إلى المنزل لأن اليوم هو أتعس يوم في حياته .

” اللعنة من تلك الغبية التي تقف أمامي ، اللعنة السيارة لا تريد التوقف ، يا إلهي لقد صدمتها ، هل ماتت ؟ ” اليوم هو أتعس يوم في حياته فلقد قتل شخصا ما تواً ، شخص غبي كفاية ليقف أمام شخص تعيس ، محطم و بائس يقود سيارته بسرعة جنونية عبر طريق لا يعرفها ولا يعرف كيف وصل إليها .

نزل من سيارته بعد أن أطلق سلسلة من الشتائم ” اللعين أين هو ؟ ” صاح بعصبية ، لكنه لم يجد أحداً أمام السيارة ، هو متأكد أنه قد ارتطم بشخص ما ، هذا لحسن حظه أنه لم يجد ما قد صدمه .

” أتبحث عن شيء ما ؟ ” باغته صوت أنثوي من خلفه ، استدار في تؤدة ثم وضع يديه على فاه ، امتقع وجهه و كاد قلبه أن يتوقف عن النبض بعد أن رآها ، فتاة في العقد الرابع من عمرها ، بشرتها شديدة البياض ، لها عيون بيضاء كالحليب و سواد شعرها أكثر سوادا من سواد هذه الليلة التعيسة ، لها نذوب على وجهها و جرح عميق على خدها ، ترتدي ثياباً باليةً لونها أبيض ، حافية القدمين ، لقد نسي كل شيء ، كل شيء ، بعد أن رآها إلا جزء واحد و هو – أنه اليوم الأتعس في حياته – ، ابتعد عنها في تؤدة و عيونه لا زالت تحملق فيها برعب ، بينما كانت هي تحدق بعيونها البيضاء في العدم ، كل ما يريده هو العودة إلى منزله و الانتهاء من هذا الكابوس ، كابوس الحياة ، ظل صامتاً خائفاً و منهكاً يفكر .

” أتريد العودة إلى المنزل ؟ ” صاحت الفتاة ، نظر إليها متوجساً بعد أن أيقظته من يقظته متفادياً النظر إلى عينيها المخيفة ، أجاب دون تفكير ” نعم أريد أن أعود إلى المنزل ، أريد أن أنام ، هلا تركتني من فضلك ؟ ”

ابتسمت و قالت دون أن تكف عن التحديق في العدم ، ” أردت العودة إلى المنزل أيضا ، أردت أن أنام أيضاً ، أردت أن أنام عميقا ” ثم أردفت مشيرة بإصبعها خلفه دون أن تحرك ساكنة ” كلهم أرادوا العودة إلى منازلهم ، كلهم أرادوا النوم نوماً عميقاً ”

استدار في تؤدة خلفه ليرى ما الذي تشير إليه تلك المخبولة ، اتسعت عيناه و تسارعت دقات قلبه و تصبب جبينه عرقاً .

من أولائك الذين اصطفوا على ضفاف الطريق ، مئات بل ألاف ، حفاة الأقدام و يرتدون ثياباً بيضاء متهالكة و قد ملأت الندوب كل جزء من بشرتهم ، عيونهم بيضاء و يحملقون في العدم .
همس برعب حقيقي ” ما أنتم بحق الخالق العظيم ؟ ” استدار في تؤدة إليها متسائلا ” من هؤلاء بحق الجبار ؟ ” ابتسمت ثم تلاشت في العدم .
لم يعد لها وجود ، و لم يعد لهم وجود كذلك ، خيم الظلام ، ظلام تام ، انه يكره الظلام ، جواد يكره الظلام كثيراً ، الكائنات الشريرة تحب الظلام ، صرخ بصوت مبحوحٍ طفوليٍ ” أين أنا ؟ أريد العودة إلى المنزل ، أريد النوم ”

همس صوت في أذنه ” أنت على طريق التعساء ، نم هيا نم ، لن تعود إلى المنزل أبداً ، أبداً ” ثم تلاشى الظلام و تلاشى كل شيء ، أي شيء ، تلاشى هو نفسه ، لقد تلاشى جواد .

سقط الهاتف من بين يديها فتلته دموعٌ غزيرةٌ مصحوبةٌ بصرخاتٍ صامتةٍ ، ركبت سيارتها المركونة جانباً و انطلقت إلى الامكان بسرعةٍ جنونيةٍ ، كانت تبكي و توبخ نفسها و تصرخ ” لقد مات” ، لقد مات خطيبها ، لم يمت موتاً طبيعياً بل انتحر بسببها ، لقد قتلته ، لو لم تجرحه بكلماتها القاسية تلك لما انتحر ، لو وثقت به لكانت بين أحضانه الآن تهنئه ، لقد ألقوا القبض على رب عمله اليوم صباحاً ، لقد ظلمته فجواد لم يخطئ ، جواد بريء ، لكن جواد مات ، جواد انتحر ، اليوم هو أتعس يوم في حياتها ، أغمضت عينيها لبرهة و سارت عبر ذلك الطريق المجهول و كل ما تريده هو النوم ، النوم العميق و أن تحتضن صورته ، إنه أتعس يوم في حياتها ، مهلا ! ، ” ما كان ذلك بحق السماء ؟ ” قالت بخوف .

لقد داست أحدهم توا بسيارتها ، شخص غبي كفاية ليعترض سيارة آنسة يائسة ، محطمة و تعيسة تقود سيارتها بسرعة جنونية عبر طريق مجهول لا تعرف كيف وصلت إليه .

تمت

تاريخ النشر : 2016-03-17

كوثر

المغرب
guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى