أدب الرعب والعام

الموت مرتين

بقلم : أحدهم – كوكب الأرض

في قاعة المحكمة كنتُ حزينة وبائسة في قفص الاتهام بتهمة قتل نفسي

قاعة المحكمة:
في قاعة المحكمة كنتُ حزينة وبائسة في قفص الاتهام بتهمة قتل نفسي ، المحامي كان يستميت في الدفاع عني غير مدرك حقيقة كون القاتل هو المقتول نفسه .. في الحقيقة كان الكل لا يعلم هذه الحقيقة غيري .. في صمت كنتُ أرقب أبنائي الثلاثة وزوجي على الناحية الأخرى خلف طاولة أصحاب الدعوى ، كم اشتقت لهم كثيراً .. لكنهم الآن لا يعرفون من أنا في الحقيقة.. وجهي الذي تشوه نتيجة الحريق أخفى ما تبقى من حقيقتي .. دموعي تنسال ببطئ من جفوني المحترقة شوقاً إليهم وخزياً على ما أنا عليه .. طفلتي الكبرى ترمقني بحقد بعيون تحدّق بغضب إلى من قتلت أمها قبل خمسة سنوات بحادث سير غريب من نوعه وهربت من مسرح الجريمة.. وزوجي المكلوم الذي شرد يتذكر زوجته الميتة وهو لا يعلم بأني في الحقيقة أنا هي زوجته المقتولة.. هل علي الاعتراف ؟ أم أن الاعتراف سيزيد الوضع توتراً وينسف صورة الأم الشريفة المحبة لأبنائها التي خانتهم على حين غرة.. لكني فضلت الصمت بقلب يعتصر الندم والحزن والخزي.. سأقبل بقدري كما قبلتُ بالرحيل عنهم تلك الليلة..

***
البداية:
كنتُ فيما مضى سيدة مرموقة في المجتمع وأم ناجحة تملك بيتاً سعيداً ومنصب وظيفي جيد .. كان زوجي هو أروع رجل في الوجود وأبنائي الثلاثة هم همي الأكبر في الحياة .. لم أكن بحاجة لوظيفة فعائلتي من النخبة لكم منصبي الرفيع في شركة العائلة يمنحني السلطة التي تتناسب وشخصيتي الحازمة التي زكتها الخبرات والمؤهلات والمناصب المتتابعة .. لكن شخصيتي المتسلطة هذه ما تلبث إلا أن تتلاشى فور وصولي للبيت الدافئ عند كل عصر.. زوجي من عائلة معروفة كان يعمل مهندساً معماريا مستقلاً وله سمعة رفيعة.. أبنائي الثلاثة كانوا متفوقين وبكامل صحتهم وعنفوانهم وحبهم للحياة.. لم يكن ينقصني شيء إطلاقاً.. كنتُ إمرأة ناجحة في العمل والبيت والمجتمع.. وعائلتي كانت من الطراز الأول فيه.. حياة يحلم بها الكثيرون.. لكن الأقدار كانت تحمل لي الكثير من المآسي القادمة التي ستهز عرشي وكياني وعائلتي.. لم أكن أتصور أن أركل هذه السعادة بكامل قواي العقلية نحو حياة بائسة ..

***
الموظف الجديد:
بعد إستقالة مساعدة مكتبي (السكرتيرة)، كنتُ بانتظار مساعِدة أخرى.. هذه المرة لم تكن (سكرتيرة) بل كان (سكرتير).. مساعد مكتب وسيم مغترب.. كنتُ أكبره بخمس سنوات.. بدا واضحاً أنه ملم بعمله ومخلص لوظيفته.. وبحكم الوظيفة كان هذا الشاب الأعزب الوسيم يقضي جل وقته معي خلال ساعات العمل اليومي التي ما كان يعكر صيرورتها الرتيبة غير الإجتماعات الدورية بين كل فترة وفترة.. نمت علاقة بيني وبين هذا الموظف المغترب.. بدأت كعلاقة إحترام موظف لمديرته.. ثم إحترام زائد.. ثم تودد.. ثم تفاقمت المشاعر المتضاربة واحترقت عشقاً لهذا الشاب مع الوقت.. لم استطع البوح ما يجول بصدري من هيام وعشق مجنون.. لا أدري لكنه أمر خارج عن إرادتي.. وكنتُ أعلم تماماً ما يكنه لي من حب يخفيه عني وسط نظراته الخجولة ونبرات صوته.. كنتُ أنتظر من الزمن أن يطفئ هذه الجمرة العابثة في صدري.. أنا زوجة وأم لثلاثة أبناء.. وما كان ينبغي لي أن أقع في مأزق عاطفي كهذا.. لكن صدقوني هو الحب.. وطوبى لمن لم يكن في مثل حالي تلك..

***
العذاب:
مع الوقت كان وضعي سيء بين البيت والعمل.. كنتُ أحسبها نزوة عاطفية عابرة وكنتُ أرجوا من الزمن أن يمحوها.. لكن تلك الجمرة كانت تزداد لهيباً مع الوقت.. وكان هو مثلي يتعذب بصمت.. ثم جاء ذلك اليوم الذي صارحني بحبه بعدما لم يتمالك لوعات عذاباته.. كان قد قرر الرحيل إلى بلده لكن دموعه أبت قبل أن تصارحني بما كنتُ أعرفه ويعرفه.. ما كان علي أن أسمح له بالرحيل.. فلن استطيع تحمّل غيابه.. وجوده كان أشبه بالحياة ورحيله كان أشبه بالموت.. كان يملؤ فراغي العاطفي.. لكني كنتُ مخلصة لزوجي كما يجب على الزوجات نحو أزواجهن.. غير أني كنتُ أعتصر بين حبين لا استطيع أن أفرق بينهما ولا أن أفرط كلا منهما.. لكن الصراحة أني لم أخن أحداً بالغيب.. وهو يعلم ذلك ويدركه.. لكنه الحب لرجلين إثنين.. ماذا كان علي أن أفعل بشأن قلبي التعيس؟.. لم استطع فراق الإثنين.. يا ويلي من حالي..

***
الرحيل:
حاول مساعد مكتبي تبرير المشاعر المتبادلة بيننا على أنه إحترام أخوي وأنه سيحمل كل الود الأخوي الذي كان.. لكني لم استطع إلا أن أنبش له حقيقة مشاعري الحقيقية وسط عيوني الباكية.. أنا أريده هو.. ولن استطيع العيش بعيدة عنه.. لذا قررت الرحيل معه.. كنتُ على إستعداد أن أتنازل عن كل حياتي الناجحة من أجله.. حاول أن يثنيني عن قراري وتذكيري بأني زوجة وأم لثلاثة أبناء وإمرأة ناجحة وظيفياً ومجتمعياً.. لكن باتت حججه باهتة مقارنة مع عنفوان الحب الخالص الذي كنا نتقاسمه بصمت.. هل علي الرحيل معه؟.. لكن كيف؟.. إنها فضيحة.. ماذا عن أبنائي؟ كيف يكون موقفهم؟.. لا أدري حقاً.. الشيء الذي كنتُ أعرفه هو أني لن أستطيع الحياة بعيدة عن ذلك الحبيب.. ولن استطيع التوفيق بين حياتين في نفس الوقت.. لذا فضلت قرار قلبي وعاطفتي.. وغضضتُ الطرف عن نداءات عقلي.. وقررت الرحيل عن حياتي هذه معه.. لكن كيف؟

***
الوداع:
كان علي إختلاق عذر.. لن تدع عائلتي إختفائي المفاجئ يذهب سدى.. سيبحثوا عني من خلف الشمس.. نفوذ زوجي كان يسمح لهم بتقفي دبيب النحل وخبايا النمل خلف البحار البعيدة.. لن استطيع الهروب والإختباء حتى لو غادرت إلى بلد آخر.. وما كانت لدي أدنى فكرة.. وفي ليلة كنت على فراشي وكان زوجي ينام في سلام قربي، وكان الأرق يعصرني ، تلقيت رسالة نصية من رقم جوال غريب.. رسالة هروب مفاجئ من الحبيب مع قبلة قبل السفر.. عرفت المرسل وفهمت الرسالة وطار عقلي وصعدت الدرج إلى سطح المنزل واتصلت به أعنفه على سفره الغادر وأثنيه عن قراره في غضب.. كان في المطار ينتظر رحلته وكنتُ أنا مجنونة ساعتها.. ركبت سيارتي على جناح السرعة وطفقت مسرعة إلى المطار..

***
الحادث:
في طريقي للمطار كان علي أن أعبر هضبة مرتفعة تشرف على جرف شاهق.. في الطريق المظلم وعند تلك الهضبة لم ألحظ تلك المرأة العابرة مع حقيبة سفرها.. وكان دواسات الفرامل أبطأ من سرعتي الجنونية.. طارت السيدة تلك مع حقيبة سفرها في الهواء وسقطت ميتة بلا حراك.. عند خروجي لتفقد حالها لاحظت أني قد قتلت السيدة أو هكذا كنت أظن.. لم تكن هناك دماء لكنها كانت لا تتنفس وكانت تبدو ميتة.. كان جواز سفرها ملقى على الطريق مع تذكرة سفر.. يبدو أنها كانت تهم بالذهاب إلى المطار.. لم أدري ما أفعل.. تفقدت جواز المرأة وتذكرة سفرها.. الغريب أن المرأة الميتة كانت تشبهني كأنها توأمي وتذكرة سفرها تشير إلى أنها كانت تريد السفر إلى نفس بلد الحبيب في تلك الليلة.. وهنا خطرت في خاطري فكرة جنونية.. حملت جسدها الخامد ووضعته أمام مقود السيارة.. أدرت المحرك وسددت الباب ودفعت بالسيارة من فوق ذاك السفح.. ورأيت السيارة تتدحرج في جنون قبل أن تصطدم بعنف فوق الصخور وتشتعل فيها النيران عند سفح الهضبة.. كان الاصطدام عنيفاً وكنت أعلم بأن جسد تلك المرأة سيختفي مع وصول فرق الإنقاذ..

***
الهروب:
أما أنا فحملت التذكرة وجواز السفر والحقيبة المكسورة لتلك المسكينة واتجهت امشي في الطريق.. رأيت الناس تتوقف عند الهضبة وتلقي نظرات على ذلك اللهيب أسفل السفح بينما أنا أركب سيارة عابرة قَبل أصحابُها أن يوصلوني إلى المطار.. عند المطار إتصلت بالحبيب على رقم جواله الجديد وأخبرته بأني قادمة للسفر معه.. لم يستطع المقاومة فالحب كان أقوى منه ومني، والحظ حالفني بأن رحلته كانت نفس الرحلة لتذكرة تلك السيدة المسكينة.. والحظ حالفني بأني اجتزت الحواجز الأمنية وإجراءات العبور بسلاسة رغم مظهري الغريب الغير متكلف بملامة النوم وحذاء “الفلب فلاب”.. لم يتعرف عليّ أحد وملامح وجهي بدت قريبة من صورة السيدة في جواز سفرها.. وسافرت جنباً إلى جنب مع حبيبي بشخصية جديدة وبصورة رسمية.. أرمق البيوت والشوارع المضيئة من نافذة الطائرة المحلقة نحو المجهول.. وأودع بقايا حياة سعيدة نحو حياة كنتُ أحسب بأنها بنفس السعادة وأكثر.. لكن كنتُ مخطئة في تقديري..

***
الحريق:
عشت مع زوجي الجديد حياة جديدة وبهوية السيدة الميتة التي قتلتُها بالسيارة.. كانت مقطوعة من شجرة، بلا أهل أو أقارب، وهذا ما يسّر عليّ الأمر في تقمص شخصيتها عند الضرورات الرسمية.. لكن سنوات السعادة هذه لم تستمر طويلاً.. إندلعت الحرب.. البعض سماها ثورة والآخرون سموها تمرد.. لكنها كانت شراً على الجميع.. كنا في بيت عائلة زوجي نستعد لتوحيد الصفوف في الزمن الصعب.. لكن إنفجر المكان فجأة إثر قذيفة.. سقط نصف البيت واشتعلت النيران في النصف الآخر.. مات من كان في البيت وزوجي لقى مصرعه وأما أنا وجدت نفسي محترقة وسط لهيب النيران.. استيقظت بعد غيبوبة دامت شهور ووجدت نفسي شخصاً آخر.. جسدي طالته النيران على نحو شبه كامل وفظيع.. وجهي تشوه ولم يتبقى منه شيء من الماضي سوى العينين الخضراوين.. أصابع يداي إحترقت وتلاشت بصماتي.. قالوا بأن نجاتي كانت أعجوبة في زمن الحرب التي أتت على الأخضر واليابس.. وكان هذا الجزاء من جنس فعلتي مع تلك السيدة.. وانقلبت سعادتي إلى بؤس.. فقدت كل شيء.. زوجي وعائلة زوجي وحياتي .. وفقدت وجهي الجميل.. وكان علي الذهاب.. وقررت السفر بهويتي المزورة تلك إلى بلدي الأصلي.. السيدة التي قتلتها بحادث السير ذاك كانت تعمل كجليسة كبار السن في دار عجزة قريب من الهضبة حيث لقت مصرعها بسببي.. وكان عليّ أن أتقمص الدور حتى أعيش.. فلم يبقى لي شيء لأعيش من أجله.. كنتُ ما أخشاه هو أن يفتضح أمري ولو أني قد اشتقت عيون أبنائي وحضن زوجي في حياتي السابقة..

***
الرجوع:
رحلة السفر كانت طويلة لكن وصلت.. رجعت الديار ودخلت مسكن تلك السيدة.. السكن كان عقاراً مسجلاً باسم السيدة ولم يكن مستأجراً لحسن الحظ.. في الصباح كان عليّ الذهاب إلى دار العجزة واقناعهم بأني تلك السيدة التي إختفت في سفرها عنهم قبل خمس سنوات.. ولم يكن الأمر صعباً كثيراً خصوصاً أن أغلب من كانوا قد رحلوا والكل كان يواسيني على ما جرى لوجهي من حروق.. وتوقعت أن أعيش ما تبقى من حياتي البائسة في سكون بعيداً عن ضوضاء الماضي.. قبالة مسكني كنت ما زلت أتذكر نفس البقعة التي صدمت فيها تلك السيدة التي أحمل هويتها الآن.. وكانت بقايا السيارة المحترقة باقية هناك عند سفح الهضبة.. انظر إليها كل صباح.. كنت أحاول أن أدفن الماضي بكل ذكرياته السعيدة والمؤلمة بصمت.. وكنتُ أتمنى أن أموت وحيدة في خزيي وجُرمي ووجهي الممسوخ..

***
الشرطة:
لكن بعد عدة شهور أتت جموع الشرطة إلى مقر عملي فجأة في دار العجزة يسألون عني ويحققون مع كل موظف.. في البداية لم أفهم الوضع جيداً.. كنتُ خائفة وكنتُ أحسب أنهم كشفوا أمري أخيراً.. كنتُ أظن أن الأمور كانت كما كنتُ أتصور أن تكون.. أنا السيدة المرموقة صاحبة المكانة المجتمعية التي قتلت موظفة دار العجزة في حادث سير قبل خمسة سنوات وهربت.. لكن التحقيق كان يدور على نحو مريب.. وفهمت الوضع المحرج على نحو مخالف وغريب.. كانوا يعتقدون العكس.. يعتقدون بأني أنا موظفة دار العجزة التي قتلت تلك السيدة المرموقة في سيناريو عجيب اتضحت معالمه في جلسة المحكمة فيما بعد.. ولم أدري ما أقول وهل عليّ الكشف عن هويتي.. كنت أخشى العار.. كنتُ أخشى نظرات المجتمع لي.. أخشى نظرات زوجي وأبنائي.. ولذت بالصمت واعترفت بأن ما تقوله الشرطة صحيح.. أنا موظفة دار العجزة التي قتلت السيدة المرموقة قبل خمسة سنوات ولذت بالفرار نحو بلد آخر..

***
المحكمة:
في المحكمة رأيت أبنائي وزوجي عند طاولة أصحاب الدعوى.. اشتقت لهم لكن هيهات أن أكشف لهم عن حقيقة من أكون .. الخزي كان يأكلني.. كان المدعي يوضح للقاضي وهيئة المحلفين طبيعة الجرم الذي ارتكبته.. كانت هناك عروض تقديمية وأدلة جنائية وشهود.. قالوا بأن السيدة المرموقة كانت مسرعة ودعست على الفرامل فجأة على الطريق قرب مسكني أنا موظفة دار العجزة عند تلك الهضبة وآثار الإطارات كانت ما تزال واضحة.. وقالوا بأن السيدة المرموقة أصيبت بإغماءة خلف مقود السيارة فجأة .. شهود رأوني في لحظاتي الأخيرة أدفع بالسيارة نحو سفح الجبل والهروب مع حقيبة سفري باتجاه المطار.. موظفي دار العجزة أكدوا بأني أخذت إجازة سنوية وذهبت ولم أعد إلا قبل أسبوع وأنهم علموا بحالي والحريق الذي لحق بوجهي وجسدي.. قالوا عني أنني كنت غريبة الأطوار ووحيدة.. كانت هناك صور ومقاطع فيديو وكشف عن آخر إتصالات الضحية قبل مقتلها.. كانوا يتكلمون عن جريمة مقتلي في حين أنا حية.. أنا تلك السيدة المرموقة.. غير أني لم أختلف معهم في قرارة نفسي في أني أنا المجرمة في كلتا الحالتين.. وفي خزي من سوء فعلتي لذت بالصمت.. طوال الجلسة كنت أرمق إنعكاس وجهي الذي مزقت معالمه النيران على مرآة قريبة.. وانتهت الجلسة الأولى..

***
الزيارة:
أودعوني السجن في زنزانة إنفرداية حتى موعد الجلسة الأخرى.. كان المحامي يشك في أمور كثيرة والجرم لا يتعدى إلا أن يكون حدثاً عرضياً وليس مع سبق الإصرار وحاول أن يستوضح مني الدافع وراء دفعي للسيارة إلى ذلك الجرف من فوق الهضبة لكني لذت في صمتي ودموعي.. قلت له أني مذنبة وسأتحمل قرارة فعلتي هذه.. وأن ما قاله الإدعاء والشهود صحيح ومن الأفضل أن تسير العدالة مجراها الصحيح.. بعد يومين أتتني زيارة غريبة ومفاجئة.. كان الزائر زوجي القديم مع إبنتي الكبرى.. لم أتحمل الزيارة وطلبت من الحارس أن يرجعني إلى زنزانتي فلم يعد لي مقدرة تحمل تلك العيون.. إلا أن زوجي كسر الصمت (أرجوك سيدتي.. نريد دقيقة من وقتك.. فقط حديث قصير.. نعلم بأنك لست مذنبة وأن الحادث كان عرضياً.. ولسنا هنا للمعاتبة.. أرجوك.. فقط دقيقة من فضلك(..

***
زوجي:
كم اشتقت لذلك الصوت الرخيم في لحظات كربتي أيام حياتي السابقة.. لم أكن أملك قراري أبداً.. فالأفضل أن تموت سيرة تلك السيدة المرموقة الشريفة في عيونهم.. لا أريد أن أسيء إلى حياتي السابقة بسمعة سيئة.. يكفيني أنهم يعلمون بأني ميتة في حادث سير غريب عند منتصف الليل.. لكني سحبت الكرسي وقعدت حتى أهنئ بذاك الصوت الحنون وأرى عيون إبنتي الكبرى بشوق في لحظاتي الأخيرة.. ابنتي كانت ما تزال غاضبة وحاقدة لكن زوجي كان كما كان.. نبيل وأخلاق راقية.. قال بأنه وعائلته لن يستطيعا الحياة من غير مسامحة من خطف منهم عزيز لهم.. وقال بأنه مقتنع بأن ما جرى كان عفوياً وهربت بدافع الخوف وبأن الجلسة القادمة سيتنازل عن جميع حقوق عائلته الشخصية لكنه لن يستطيع فعل شيء بخصوص الحقوق العامة فليس كل مجرم يفلت من العقاب خصوصاً في جرائم القتل ..

الصوت:
وهنا تكلمت بعد صمت طويل ودموع غزيرة تسيل على وجهي المخسوف.. كنتُ أحاول تقمص المذنبة بثوب تلك السيدة التي قتلتها بالسيارة.. (سيدي.. أنا مذنبة.. لا أدري ما حل بي.. لا أدري لماذا كان علي فعل ذلك في تلك الليلة.. ربما الخوف.. لا أدري أنا آسفة حقاً.. هذه هي الحقيقة).. هنا فغر زوجي وإبنتي أفواههم.. وأخذوا يحدّقون في ما تبقى من وجهي المشوه وعيوني بصمت وترقب كما لو كانوا مدركين حقيقتي.. وتابعت تبرير الأمور على أساس أنها جريمة مقصودة وإن كانت عفوية وغير مدبرة.. في قرارة نفسي ما كنتُ أستطيع العيش.. كنتُ أريد أن أنهي حياتي بأي وسيلة.. والأهم كنت أحرص على أن لا تنكشف حقيقتي.. وهنا لاحظت إبنتي تهمس في إذن زوجي المذهول.. لم أفهم ذلك الغمز واللمز بينهم وكنتُ أرى في ذلك مبالغة في ردة الفعل.. كانوا يحدقون في حركات يداي ورأسي أثناء الحديث.. شعرتُ بأنهم ينصتون لهفواتي ونبرات صوتي وكلماتي.. وهنا نطق زوجي بعد ذهوله الصامت (الصوت.. ذلك الصوت..) وثم أردفت إبنتي في حماسة (صوت أمي..).. وهنا دارت بي الدنيا.. يا رباااه هل افتضح أمري؟.. وفي غضب مصطنع لملمت نفسي وطلبت من الحارس إنهاء الزيارة.. لكن زوجي ناداني باسمي قبل أن اخرج من قاعة الزوار.. وبعفوية التفت إلتفاتة صغيرة لأرى عيون من اشتاقت عودتي.. لكن كنتُ خائفة أكثر من خوفي من الموت.. ولذتُ إلى زنزانتي أبكي..

***
الزنزانة:
في الزنزانة لم أكن خائفة من الموت.. فالأدلة الجنائية كانت تشير بأني مجرمة مع سبق الإصرار.. رغم علمي بالمبالغة في بعض تلك الأدلة.. وكانت المشنقة هي أقل عقاب أستحقه.. فأنا قاتلة.. وكنتُ راضية بذلك.. الشيء الذي أرقني في زنزانتي هو هل كشفت عائلتي حقيقة من أكون؟.. كان هذا أكبر مخاوفي.. أي خزي وأي عار؟.. كيف حينها أبرر إختفائي.. (تركتكم وهربت مع عشيقي ؟!؟).. كان هذا آخر شيء ممكن أن أقوله.. وكنت أفضل المشنقة على إفتضاح أمري.. كنت لا أريد أن ينكشف أمري حتى بعد موتي على حبل المشنقة.. كان هذا آخر قلق أرقني وأنا في زنزانتي..

***
الجلسة الأخيرة:
بعد ساعات من سجالات بين الإدعاء والمحامي أدليت بشهادتي بأني مذنبة ونادمة على فعلتي.. ثم أعلن القاضي بشكل رسمي كحكم قضائي نهائي بأني مذنبة فيما نُسب لي من التهم في قتل تلك السيدة المرموقة من قبلي أنا موظفة دار العجزة .. وحكم على بالموت .. هذه المرة كان موتي حقيقياً.. ودفنت معي عاري وقصتي..

تاريخ النشر : 2016-03-31

guest
71 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى