أدب الرعب والعام

قطعة من السماء

بقلم : تونسية – تونس الخضراء

متشبثاً ببندقيته و حقيبة ظهره البالية ، لم يعلم وجهته

من بين الأحراش المظلمة انطلق كالسهم ، كان يركض كالممسوس على غير هدى ، يتردد صدى أنفاسه الثقيلة في فضاء الغابة ، متشبثاً ببندقيته و حقيبة ظهره البالية ، لم يعلم وجهته ، كل ما يعلمه أنّ عليه الخروج من هذا المكان اللعين بأسرع ما يمكنه .

كانت السماء وراءه تشتعل بألسنة اللهب و الدخان ، و صوت الإنفجارات يشيّعه إلى مصير مجهول في أرضٍ غريبةٍ ، ركض الرجل تحت المطر الأسود دون توقف ، رغم الوحل الذّي يسحبه إلى القاع و رغم الخوف الذّي يهمس في أذنه ساخرا ” ما من مفرّ أيها المسكين “.

كان يلتفت ذات اليمين و ذات الشمال فلا يرى على ضوء القنابل التي تهتك حرمة السماء سوى الأشجار العملاقة و أغصانها المتفرعة و المتشابكة في إصرار مستميت لاعتراض طريقه و كأنّها جُندّت هي الأخرى لقتاله ، فتذّكر حينها ما قالته له أمّه الكفيفة و هي جالسة تغزل له رداء يقيه صقيع ليالي الشتاء الطويلة في أتون الحرب المستعرة : ” الأرض يا بنيّ تنصر أبناءها “.

و ها قد رأى بأمّ عينه كيف تنصر الأرض أبناءها .. و فجأة  سمع دويّا انتشله من أفكاره بعنف ، و أحسّ بوهجٍ ساخنٍ يغمر جسده الهزيل ، و قبل أن يدرك ما يحدث ارتفع في السّماء و وقع على بعد أمتار قليلة و غمره الوحل ..

أفاق من إغماءة قصيرة ليجد نفسه عالقاً تحت جذع شجرة ضخمة تطبق على صدره و جزء من ساقه اليسرى ، حاول إزاحتها و لكنّ ألمٌ حادٌّ مزّق أضلاعه فتأوّه و وضع رأسه على الأرض مستسلماً ، تأمّل السماء التي تحوّلت إلى قبّة من النار و الدّخان الكثيف ، كان يناضل ليبقي عينيه مفتوحتين و لكن قطرات المطر الضخمة كانت تصفع وجهه بغِلّ و تستهدف عينيه تريد فقأهما .

أنفاسه متقطعة تهادن الألم المبرح الذّي يزحف إلى قفصه الصدريّ بلا هوادة ، كان يرتعش لأدنى صوت ، حواسه منتبهة و عقله يتأرجح بين اليقظة و الحلم ، كم كانت صافية سماء بلاده بزرقتها اللازورديّة ، و بعض الغيمات البيضاء تعبرها بين الفينة و الأخرى كحملان صغيرة وديعة.. كم كانت رقيقة نسمات الهواء في بلاده ، تداعب خدّه الغضّ مربتة و تمسح عن قلبه عناء اليتم و مرارة الفقر و ذلّ القيود .

و كم كانت دافئة و مسالمة قطرات المطر في بلاده ، تغسل وجعه و تحييّ أمله ، لا تشبه في شيء هذا المطر الأسود الكريه الذيّ يصفع وجهه بلا رحمة . تذكر يوم استيقظت قريته الهادئة المحاطة بالجبال و الغابات على صوت أزيز المركبات العسكرية ، و صرير السلاسل و وقع أحذية الجنود الضخمة تدنس حرمة البيوت و تسحب أبنائها من بين أحضان أهاليهم ، كان الجميع فزعين ، مرتعبين لا يعلمون ما يحدث في قريتهم الآمنة التّي عرف عساكر المحتل طريقهم إليها فلم يغني عنها التخفي وراء الجبال الشاهقة شيئا .

سحبوه من فراشه من بين أمّه و شقيقاته و جرّوه إلى الخارج ، فيما تبعته أمّه الكفيفة زاحفة تتلمس طريقها وسط هرج الجنود و سلاحهم و أحذيتهم ، صارخة باسمه باحثة عن ولدها الوحيد الذّي لم يتمّ عامه السادس عشر ، من كُتب له أن يكون رجل البيت بعد أن ترملّت مبكرا.

فيما تكومت شقيقاته الصغيرات في ركن من البيت ، رافعات أيديهن الهزيلة المرتعشة ، محدقات في فوهة بندقية مصوبة إلى صدورهن ، صرخ لصراخ أمّه و انتفض لعويل شقيقاته ، و نفرت عروقه حميّة و قهرا، و لكنّه لم يبكي هذه المرّة .. لم يبكي لأن لا يرى العدوّ دموع قهره فيحسبها دموع جبن و خوف .

اصطحبوه إلى ساحة القرية ، أين جمعوا كلّ رجالها و لم يستثنوا سوى الأطفال الصغار و الشيوخ العاجزين ، كبّلوا معصميه و قدميه بالسلاسل كالحيوان الضّاري برفقة البقية ، و أوقفوهم في طوابير طويلة ، و انتشر الجنود في الساحة شاهرين بنادقهم في وجه الأهالي الذّين لحقوا أبنائهم، مانعينهم من الاقتراب .

بينما وقف ضابط شاب ببذلته العسكرية الأنيقة و أوسمته اللامعة يقرأ بيانا عسكريا تطالب فيه دولة الحماية ” رعاياها ” أن يلتحقوا بصفوف الجيش للدفاع عن الحريّة في بلد ما وراء البحار! و غير بعيد عن الضابط وقف عسكري محليّ يترجم للأهلي البسطاء ما يقوله ” الجنرال”.

طوى الضابط ورقته و وضعها في جيب سترته و قفز في سيارة ” الجيب” العسكرية ، فأمر العسكريّ ” المحلي” الرجال بالصعود إلى الشاحنات ، و من لم يمتثل للأوامر سُحب بواسطة السلاسل التي تكبله سحبا ، بينما وقف الجنود و بنادقهم بالمرصاد لكل من حاول المقاومة من أهل القرية ، و لما حان دور الفتى نظر خلفه فرأى أمّه بين الصفوف تقودها شقيقته الكبرى و هي تحاول الاقتراب و لكن الجنود يمنعونها فتارة يصرخون في وجهها و تارة يدفعونها .

ففارت الدماء في عروقه و حاول المقاومة و غرس قدميه في الأرض و تمنى لو أنّها تتحوّل جذورا تمتدّ في عمق التربة تمنعهم من اقتلاعه من أرضه ، و لكنه لم يكن شجرة بل مجرد إنسان ، فجرّوه من سلاسله كالشاة المساقة للذبح و لم يكن بأقلّ عجزا منها و رموه في الشاحنة .

فنهض و اقترب من بابها غير عابئ بالبنادق و لا الجنود و لا الكلاب صارخا بكلّ ما في قلبه من وجع ” أماه، لا تجزعي، سأعود.. سأعوووووود “
فضربه جندي بعقب البندقية ، و ضاع صوت أمّه و بكاء أخته كما ضاع وعيه ، و عندما أفاق وجد نفسه في معسكر تجنيد بأحد الموانئ ، و لم يطل الأمر قبل أن يُشحن برفقة مئات من الشبان في البوارج و السفن التي أبحرت إلى ” الهند الصينية ” أين تدور رحى الحرب العالميّة الثانية .

قاوم الفتى النعاس الذّي أثقل جفنيه و فتح عينيه في إصرار، و أخذ يحاول إزاحة الشجرة الجاثمة على صدره و قد أدرك بأنّه لا يمكنه أن يموت هنا في هذا المكان غريبا وحيدا ، مغطى بالوحل و العار .. لا يمكنه أن يقتل كواحد منهم ، فلا هذه الأرض أرضه و لا هذه الحرب حربه ، حربه هناك في قطعة السماء وراء البحار حيث دفن الآباء و الأجداد و حيث تنتظره الأم و الأخوات . عندها شعر بقوة غريبة تسري في بدنه الهزيل و بأن ثقل الشجرة يخف و يخف إلى أن تلاشى تماما و توقف المطر الأسود و اختفت أصوات القنابل و رائحة الخوف و الموت .

تاريخ النشر : 2016-04-16

تونسية

تونس
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى