أدب الرعب والعام

فارس الهدهد وأرواح الأجداد

بقلم : المستجير بالله

فارس الهدهد وأرواح الأجداد
وكان سليمان فارس شجاع

نعم تنفطر القلوب عندما ترحل الأجساد ذات الارواح الجميلة ، ولكن تبقى ارواحهم تهيم في خبايا الذاكرة ربيعاً لا يغشاه صيف ولا خريف ولا شتاء ، ونهاراً لا يقاربه ليلاً، ولا غيوم حالكة في لوحة السماء.

(سليمان) شاباً تمثلت فيه صفات الشخص المثالي ، وكانت ميزاته تفتك بقلوب العذارى ونفوس الحاسدين وتهيم بعقول سكان القبيلة سُكرا لا تحرمه الأديان بل هو من مما جبل عليه الإنسان حينما يضعف الايمان . 

وكان لسليمان طائر هدهد نذر في شبابه أن يصطاد واحدا ليقتنيه ليشابه النبي ( سليمان عليه السلام) في جزءا يسيرا من حياته في أن يكون له هدهدا أليفا يطير معه أينما حل وارتحل ، وايضا لم ينسى الأهم ان يتجمل بصفات النبي الكريم من شجاعة وكرم وتملك وسيطرة لا تغضب الرب ولا تنكرها قلوب العرب

كان الهدهد حينما يحط على كتفه يسبح الخيال بسليمان أنه أيقونة العزة والكبرياء قبل قتال الأعداء ، أو أنه صار لحظاتها كاحد تماثيل الخالدين حينما تنصب في وسط الميادين

كانت قبيلة (سليمان) تسمى قبيلة الشهداء لكثرة من ضحوا بأرواحهم فداءاً لنداء الذود عن تراب الوطن في وسط معارك الشعب الدموية ضد الطغاة الغاصبين المحتلين وأريقت دماءهم لتنبت ورودا حمراء جميلة تشمها الأجيال من بعدهم جيلا بعد جيل ، وكل جيل يروى للجيل الذي يليه لوحات الفداء العظيم وهم يفترشون الأرض ورياح العزة تداعبهم بل هو ذلك النسيم

جاءت الأخبار ان القبائل لم تمت في عروقها الأنفة والكبرياء ، فلبت القبيلة ذاك الصوت الشجي والنداء واختار شيخ القبيلة ( زكريا ) وهو والد( سليمان) فارس القبيلة وأيقونتها المعاصرة شبابا ورجالا من قبيلته ( قبيلة الشهداء ) ليلتحقوا بجحافل الوطن الكريمة في دحر جحافل المعتدي اللئيمة 

جاء يوم الوداع لفرسان القبيلة ، وتجمعت سكان القبيلة كلهم بمختلف أعمارهم أمام خيمة شيخ القبيلة( زكريا)  
ودع الناس فرسانهم الأحباب والالسن تدعوا  ان يكون النصر مجاب 

(زكريا ): يا بني انت ومن معك نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، وان تردوا تراب الوطن من اراضي اخواننا المغتصبة من العدو الغاشم .

(سليمان) : لا توصي يا ابي فكلا من يعرف حجم المهمة الملقاة على عاتقه ، وانه لم يمشي للتنزه بل هو ذاهب اما لجلب النصر او للشهادة في سبيل الله ثم التنزه في رحاب جنته بإذنه تعالى .

(زكريا) : هو كذلك يا فلذة كبدي ولا تنسوا المرور بالقبائل والعشائر التي اخبرتكم بها قبل وصولكم الى مكان التجمع المنشود لابرار هذا الوطن الغالي .

سليمان : ان شاء الله يا والدي

وهنا تحرك الموكب الكريم وبدأ الاصوات بالوداع والدعاء : في أمان الله . في رعاية الله . النصر النصر بإذن الله . الله يكون معكم . مع السلامة .

سار موكب الفرسان يتقدمهم سليمان وعلى كتفه الأيمن حط طائره المحبوب الهدهد وشخص (سليمان) ببصره كدليل على انه بداية المسير للمجد الكبير . مروا أولا بقبيلة الذئاب وكان في استقبالهم شيخها نمر الذي استضافهم هو وقبيلته واكرموا وفادتهم . قضوا معهم نصف يوم ليرتاحوا ، ثم بدا النفير لتحرك موكب القبيلتين وبدات معه عبارات الوداع الجميل 

مروا بالقبائل المنشودة واحدة تلو الأخرى وفي كل مرة تستريح المواكب لإسترجاع القوة لمواصلة الطريق نحو مجد الوطن حتى كان عدد ما مروا به تسع قبائل تجمعت كلها في منطقة عسكرية متاخمة لمناطق العدو سميت بمنطقة (الأشراف)

لأن الوافد اليها من ابناء الوطن سيخلد في سجل الشرفاء سواء اكان منتصرا ام شهيدا ولكن بشرط ان لا تدنسه رزايا الجبن ولا الخيانة ، وبذلك انضمت هذه القبائل التسع مع الوفود الكبيرة من أبناء الوطن البارين

بدأ المسؤولين بتوزيع الأدوار على القادمين ، ونظرا لسمعة (زكريا) الفائقة التي سبقت قدومه إليهم فقد كلفه المسؤولين بقيادة الفوج الثالث ، وكان عدد الأفواج في مجملها خمسة عشر فوجا ً كالنسور الجائعة التي تتحين الفرص للإنقضاض على طرائدها من فرائس العدو المحتل ، وكل فوج فيها حوال 2000 جندي . قضى المسؤولين و الجنود أول يومين بالتعارف فيما بينهم وتنسيق الخطط وتوزيع الأدوار والأسلحة والذخائر والمؤن بين الأفواج . كان اليومين بلياليهما زمانا لشحذ الهمم العالية لإحراق العدو عن بكرة أبيه . أشرق صباح اليوم الثالث وبدأ معه تباشير أيام العزم والمجد والشرف الموعودة

بدأت المعركة بإرسال الجيوش العربية لفصيلة مكونة من 30 فردا لإستطلاع امكامات العدو واعطاء تقرير تقديري عن اعدادهم ونوعية الاسلحة التي يمتلكونها ، وكانت افادة التقرير ان العدو يقل بعدد قليل جدا عن الجيش العربي ولكن امكاناته العسكرية تفوقهم بحيازتهم للاسلحة النارية الأتوماتيكية بالاضافة الى الصواريخ البعيدة المدى والدبابات العسكرية

تنهد الجميع وبدأت المعركة من جانب العرب بعبارة (( الله اكبر )) واطلاق نيران بدء المعركة في الهواء 

بدأ القتال وبدأت مدافع الهاون تتقاذف من هنا وهناك وبدا الرصاص أيضا يأخذ نصيبه في حصد الأرواح

كان بطلنا (سليمان )في الوسط المتقدم جدا من الجنود باعتبار أنه قائد الفوج الثالث .

بدأ يوجه جنوده ، وسقط أمامه بعض جنوده صرعى ، ولكن واصل الزحف يشحذ الهمم ويبشرهم بالنصر أو الشهادة وعلى حين غرة أنطلقت رصاصة طائشة من العدو أصابت القائد (زكريا) في كتفه فتأوه ولكنه لم يتزعزع من على صهوة جواده ، واصل إطلاق النيران وأصاب أول جندي من العدو وبدأت ابتسامة عزة عريضة على وجهه ترتسم فرحا بالبشائر . ثم واصل اطلاق النيران حتى وصل عدد قتلاه في ذلك الصباح 6 اشخاص من العدو . توقف القتال في الساعة الواحدة ظهرا كهدنة مؤقتة لإلتقاط الأنفاس واستعادة القوى 

تواصل القتال مساء ولسوء الحظ اصابت فارسنا (سليمان) شظية مدفعية أحدثت في جبينه جرحا غزيرا أغشي بسببه لمدة دقائق 

ووجد نفسه بعد أفاقته محاطا بزملاءه في الخندق وملفوفا بضمادة ، ولكنه نهض من مكانه رغم ذلك رغم طلبهم منه الراحة ، ولكنه رفض وانضم الى صفوف المجاهدين محاولا اقتناص المزيد من جنود العدو . انتهى القتال في العاشرة وتراجعت الخصوم لثكناتها ، وفي تلك الليلة يبدو أن ( سليمان) نسى لبرهة طائره الهدهد، ولكن زميله جمال همس في اذنه : الم تنسى أحدا ما هذا اليوم ، مثلا صديقاً أو حبيبة أو ماشابه ؟!

فرد عليه مستغرباً : لا أذكر أني نسيت أحدا رغم هذه الحرب الطاحنة 

فأستاذنه جمال لثواني ثم عاد وهو يحمل قفصا به هدهده العزيز .

 فتبسم(سليمان) وشكر( جمال) ( سليمان)  كثيرا ثم بدأ باخراج الهدهد ويداعبه مصعدا اياه على جسده والهدهد يتراقص عليه شوقا لصاحبه الآدمي وزكريا يحادثه: 

– الم ترى يا هدهدي الحبيب كيف اليوم اصطدت ستة من جنود العدو وتمنيت ان أطعمك لحومهم القذرة ولكنك للأسف أنك لا تاكل أمثال هذه الأشكال النجسة ! والجميع يبتسمون من كلامه مع هذا المخلوق الذي لا يرد له جوابا سوى القفز عليه 

نام الجميع في تلك متاخرين قليلا وعليهم الاستيقاظ مبكرا ولكن عليهم التعود على هذا النظام في الحرب لأن ظروفها تجبرهم على ذلك . تواصل القتال باليوم الثاني وبعد التراجع لفترة الهدنة بالظهيرة جاء الخبر الفاجعة لزكريا بمقتل صديقه جمال فكانت صدمة قوية له أخذ يشهق معها (سليمان)  بشدة ودموعه تبلل لحيته الخفيفة . ولكنه تماك نفسه بعده وصبر نفسه واحتسب
ذلك عند الله ودعا له برضوان الله ورفض بشدة أن يكون لغيره أكثر مراسم تكفين ودفن صديقه جمال والصلاة عليه فكان له ذلك

استمر القتال في المساء والأيام التالية، وكانت شدة القتال تتقادم مع مرور الوقت حتى يبدو كأنها تحدث في جهنم وليس على الأرض 

وكانت أعداد القتلى من هنا وهناك ولكنها في صفوف العرب أكثر نظرا لفارق الامكانات العسكرية المتطورة

ومع نهاية الأسبوع ، ومع وصول اخبار تعسر مهمة المحتل لمسامع قادتهم قرروا انهاء الموضوع ووضع حد له وذلك بإرسال طائرات حربية لمواقع القتال وهي التي ايضا مع الدبابات يفتقدها المقاتلون العرب . اصدروا الاوامر بخروجها للقتال وبدات بارسال قذائفها تفجر مواقع الجيش العربي وتتفجر معها الاشلاء الطاهرة لجنود العز والشرف والكبرياء وتسقى دماءهم تراب الوطن وتقول للعدو : نعم سنموت عزا وستروي دماءنا الوطن ولكن ستنبت اناسا سياخذون الدور عنا لمواصلة الكفاح والكفاح حتى تلوح شمس النصر من بين غيوم الهزيمة .

انحسر( سليمان)  مع هذا الوضع بالبقية القليلة من جنوده الى مغارة قريبة اتقاءا لقذايف الطائرات حتى تحين الفرصة لمعاودة القتال والتفكير بخطة اخرى بديلة .

 ولكن احدى الطائرات لمحت بقية الفوج وارسلت تعليماتها لجيش العدو الذي تحرك بسرعة للمغارة وحاصروا القائد العربي زكريا ومن معه وبدا باطلاق النار الى داخل المغارة وبدأ بعض رفاق (سليمان) بالتساقط بينما تساقط من العدو اقل منهم بكثير

واشتد اطلاق النار بينهم حتى ظن الأعداء انهم قتلوهم جميعا فلم يصدر اي صوت من المغارة خلف الجثث الهامدة امامهم

فظنوا انهم قضوا عليهم جميعا ، ولكن(سليمان) كان هو ونائبه عن دخول المغارة قد اخذوا مكان عميقا في المغارة وأثناء القتال مع العدو لم ياخذوا مكانا جيدا لاقتناص العدو ، وفقط هي بضع رصاصات خرجت من بنادقهم .

المهم أن مع نهاية القتال وانصراف العدو وحلول المساء بدأ المقاتلان بتضميد جراحهما ولكن جراح زميله الآخر اسماعيل كانت ابلغ
وزادهما بلاءا نفاذ الطعام والشراب المتبقي فقضيا الليلة في المغارة بدون طعام وشراب

 ولكن بدا الوجع يشتد على(اسماعيل) حتى فارق الحياة امام عيني( سليمان)  الذي بكاه كاكثر ما تبكي الأم ابنها . ولكنه صمم على الانتقام من الاعداء لرفاقه وللوطن في الغد ، وقضى طاويا ليلته جائعا وعطشا ومحاطا بجثث الرفاق بتلك المغارة ولكن مصحوبا بهدهده الرفيق الأزلي له في هذه الدنيا الفانية 

جاء الصباح وتنهد المقاتل زكريا عميقا رغم جراحه الكثيرة وجسده المنهك وهو يسمع بقية من اصوات نيران القتال تتعالى هنا وهناك فاستل بنادقه يمشي بتثاقل من المغارة وعلى كتفه طائر الهدهد . أخذ نظرة شاخصه صوب الاعداء والشمس تلفح وجهه وتعشي عينه وصاح بأعلى صوته : (( الله أكبر )) (( حي على الفلاح )) (( اما النصر واما اللحاق بأرواح الأجداد والأصحاب ))

وتوجه صوب الأعداء يصوب بندقيته يمينا ويسارا ويتساقط منهم اعداد لا بأس بها ولكن الكثرة غلبيت الشجاعة فتكالب عليه الأعداء يمطرونه بوابل من الرصاص حتى تغطى جسده بحفر الرصاص الكثيرة ولم يسلم طائر الهدهد الوفي منها ولم يبارح كتف صاحبه وفاضت روح (سليمان) وطائره وسقت دماءهم الأرض الطيبة العطشي لدماء الكرام حتى موعد النصر على اللئام 

نعم تنفطر القلوب عندما ترحل الأجساد ذات الارواح الجميلة ، ولكن تبقى ارواحهم تهيم في خبايا الذاكرة ربيعاً لا يغشاه صيف ولا خريف ولا شتاء ، ونهاراً لا يقاربه ليلاً، ولا غيوم حالكة في لوحة السماء.

تاريخ النشر : 2016-06-12

المستجير بالله

سلطنة عمان
guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى