أدب الرعب والعام

صحوة ضمير

بقلم : نوار – سوريا

صحوة ضمير
أخفض نبيل رأسه وثبَّت نظره في الأرض

– ١ –

–  شكراً لكَ .. سأقوم باتباع نصائحك
–  موعدنا في الجلسة التالية
–  إلى اللقاء ” دكتور “
ومضت خارجةً من عنده  …

أغمض الطبيب مراد عينيه وفرك صدغيه وزفر زفرةً طويلةً ثم ضغط زراً موضوعاً على الطاولة جاءت على إثره الممرضة فقال لها  :
–  كم شخصاً بقي في غرفة الانتظار ؟
–  لم يبقَ إلا شخصاً واحداً ، تفضَّل هذه بياناته .
قرأ الطبيب البيانات :
الاسم نبيل مروان
العمر 39 عاماً
العنوان  …
قال الطبيب : حسناً دعيه يدخل

وبخطىً هادئة دخل نبيل  …

رفع الطبيب رأسه وتأمله ، فوجده رجلاً طويل القامة ذو شعرٍ كستنائيٍّ وملامح رزينة لا تخلو من وسامة ، لكنَّ علامات التعب كانت باديةً عليه بشكلٍ واضح  .
أشار إليه الطبيب بالجلوس وانتظر وقتاً لا بأس به إلى أن قرَّر نبيل التكلم قائلاً  :
–  أنا إنسانٌ طبيعي أيها الطبيب ولا أشكو من مرضٍ نفسي لكني متعب .. متعبٌ جداً
وصمت ..
احترم الطبيب صمته الذي لم يدم طويلاً إذ قال  :
–  أرقٌ ينتابني يجعلني لا أستطيع النوم ، وإذا نمت تبدأ الكوابيس بملاحقتي  ..   تعبت .. تعبت من فكري الذي يظلُّ مشغولاً ولا يهدأ .. تعبت من شبح الماضي ..
أمتلك كلَّ شيءٍ يجعلني سعيداً .. المال .. الزوجة و الأطفال ..بنيت منزل أحلامي ، لكني عندما سكنت فيه وجدته بارداً وموحشاً .. من ينظر إلي يظن بأنني سعيد لكنني في الحقيقة تعيس … تعيس لحد الإنهيار .

قال الطبيب :
– أريد منك أن تقصَّ عليَّ قصتك منذ البداية ، فواضحٌ من كلامك أنه لديك قصةً طويلةً ، وإن لم يكن لديك مانع استلقي على ” الشيزلونج ” ربما ترتاح أكثر في الحديث ..
– لا .. لا أريد الاستلقاء على ذاك الكرسي فهو للمرضى ، وأنا لست مريضاً .
ابتسم الطبيب فقد سمع هذه الجملة من مرضى كثر وقال له :
كما تشاء ، أفعل الشيء الذي يجعلك مرتاحاً .

أسند نبيل رأسه إلى ظهر المقعد وبدأ يتكلم :
ولدت في عائلةٍ بسيطةٍ مكونةٍ من أبٍ وأمٍ ، ولي أخٌ يكبرني بثلاث سنوات وأختٍ تصغرني بسنتين ..

كان دخل أبي محدوداً فقد امتلك ورشةً صغيرةً لتصليح السيارات ، ومن الطبيعي لذوي الدخل المحدود أن يقتصدوا في معيشتهم من طعامٍ ولباسٍ وغيره ، وبهذا حُرمنا من كثيرٍ من الأشياء التي يتمنى الحصول عليها أيُّ شخص …

وقد نشأتُ رافضاً لهذا الواقع ، كنت ناقماً بشدة على إنجاب أبي لي لأنه لا يستطيع أن يقوم بواجبه تجاهنا على أكمل وجه ، منذ أن كنت طفلاً وأنا أتهرب من أصدقائي ، فإذا أرادوا معرفة عنواني أغير الموضوع وإذا قرروا زيارتي أدَّعي الانشغال ، وإذا كنت عائداً من المدرسة ورأيتُ أحد رفاقي يسير في نفس الشارع أغيِّرُ طريقي حتى لا يعرف بيتي ، فلقد كان بيتنا بيتاً قديماً في حيٍّ فقير ، وأنا كنت أحبُّ مصاحبة الأغنياء وليس لدي رفيقٌ فقيرٌ سوى ابن جيراننا واسمه ” وليد ” ، حتى وليد لم أكن أتعرف عليه إلا داخل الحي أما في المدرسة فكنت أتجاهله .

صمت قليلاً ثم أكمل :
كان أخي ” حسام ” عكسي تماماً ، فقد كان متصالحاً مع واقعه بشكلٍ يثير دهشتي و … غيرتي أحياناً ، فهو يقنع بما تقدمه أمي من طعام ولا يُهِلكُ أبي في المصاريف و يساعده بالعمل في الورشة بعد عودته من المدرسة ، وأصدقاؤه .. أصدقاؤه كانوا من مختلف الطبقات ويزورونه في المنزل ، حتى الغني منهم كان يزوره .. لا أعرف من أين كان يأتي أخي بهذه القناعة التي كنت أسميها آنذاك بالطموح المحدود والإستسلام للواقع .

 

كبرت وكبر معي مقتي لواقعي ، كنت أريد أن أكون ثرياً و أجاري رفاقي بما لديهم ، فهذا الذي لديه سيارة ، و هذا الذي يقضي إجازته مع أهله بإحدى المدن السياحية ، و هذا الذي يدعو رفاقه للسهر في إحدى النوادي على حسابه الشخصي ، وأنا .. أنا كنت قابعاً في منزلي أراقب أبي الذي انحنى ظهره من تصليح السيارات ، وأمي التي ارتسمت ملامح الشقاء على وجهها حتى أصبحت من معالمه ، و أختي التي كبرت وأصبحت صبيةً جميلةً ، لكن ما نفع الجمال مع الفقر !!

وحده أخي الذي بدا راضياً عن حياته ، فقد التحق بكلية الحقوق .. حتى طموحه جعله مفصَّلاً على مقاس واقعه ، فهو كان يحب دراسة الطب وقد استطاع تحصيل مجموعه ، لكنَّ الطب دراسته طويلة و تحتاج مصروفاً ودواماً في العاصمة لذلك تخلَّى عن حلمه ودخل فرعاً لا يحتاج لدوام إلزامي وهكذا خفف على والدي عبء دراسته ، والغريب أنه مع هذا كله لم يكن يتذمَّر !

 

أما أنا لم أكمل دراستي ، فبعد أن حصلتُ على شهادة الثانوية العامة لم أرغب بدخول الجامعة فلست مثل أخي ، فأنا إما أن أعيش حياتي الجامعية كبقيِّة رفاقي وإما فلا ، و هكذا تخليت عن رفاقي واحداً تلو الآخر ولم يبقَ لديَّ سوى وليد الذي لم يكمل دراسته هو الآخر ، وكان وضعه أتعس من وضعنا ، فوالده متوفى وأمه مريضة وبحاجة دائمة للدواء ، ومصدر رزقهما الوحيد هو راتب التقاعد لوالده والذي بالكاد يكفي قوت يومهما .

 

توثًّقت علاقتي بوليد فنحن جيران وكلانا عاطلٌ عن العمل ، وكان أبي يطلب مني مساعدته في العمل لكني لم أكن أريد أن أرث مهنة أبي وأصبح مثله .
كنت أحبُّ التجارة وكنت أحلم أن يكون لي معرض سيارات بدلاً من ورشة أبي ، وأيضاً كنت أحب البورصة وأتتبع أخبارها وكثيراً ما كنت أتخيل نفسي مالكاً لعدة أسهم بها .

 

وكأيِّ عاطلٍ عن العمل وعن الدراسة ، والفراغ يملأ حياته ، عرفت طريقي إلى الملاهي الليلية وكان وليد معي ، أصبحنا نذهب إليها لننسى واقعنا المر ولنرفِّه عن أنفسنا ، وكنت أعود إلى البيت مخموراً مما يثير غضب والدي وحنق أخي ، وحتى عندما كان والدي يمنع عني المصروف كنت أجبر أمي على إعطائي النقود ، وكانت أمي ضعيفة وتستسلم بسهولة .

 

ضقتُ ذرعاً بحياتي اللاهية ، و كنتُ أريد الثَّراء السريع .. الثراء الذي يقلب حياتي مائة وثمانون درجة ، ولم أجد أفضل من أن أجرِّب حظي بأوراق اليانصيب ، وهكذا أصبحت من مدمني السحب ، وآمالي كلها معلَّقةً على دواليب الحظ ، لكنِّي لم أربح حتى ثمن البطاقات التي كنت أشتريها ، ومع ذلك لم أستسلم وجاء موعد السحب السنوي على الجائزة الكبرى التي لو ربحتها لاستطعت تحقيق آمالي كلها .

والدي كان غاضباً من إضاعة النقود على أوراق اليانصيب ، وأقسم ألا يدعني أشاهد السحب في المنزل ، فأقنعت وليد بشراء بطاقةٍ هو الآخر وجلسنا في منزله نتابع السحب .
أذكر أني سألت وليد وقتها ماذا تفعل لو ربحت الجائزة الكبرى ؟ فأجابني أنه لا يوجدُ شيءٌ يشغل باله سوى إجراء عمليةٍ لأمه فقد اشتدَّ عليها المرض .

مرَّ الوقت واقترب السحب على الانتهاء  و لم نربح بعد ، وذهبت أم وليد إلى النوم فهي لم تكن تستطيع السهر ، وبقيت أنا و وليد لوحدنا ، وحان موعد السحب على الجائزة الكبرى فتوترت أعصابنا وتعلقت عيوننا على شاشة التلفاز .. تمَّ السحب وتوقفت الدواليب على الأرقام واحداً تلو الآخر ، ومع توقف الدولاب الأخير انقطع أملي في الربح أما وليد فقد أخذ يقفز ويقول : لقد ربحت .. نبيل إنه رقم بطاقتي .

وقفت مشدوهاً وأنا أنظر إلى بطاقة وليد وإلى الرقم الظاهر على الشاشة وفعلاً لقد كان رقم بطاقته .. لقد ربح وليد من أول بطاقةٍ اشتراها ، وأنا الذي أضعت نقودي بهذه البطاقات لم أربح .. أنا الذي أقنعت وليد بالمشاركة بالسحب حتى أستطيع متابعته في منزله .. أنا الذي بنيت أحلامي وآمالي على هذه الجائزة ..لم أربح .. وربح وليد .

شعرت بالغيظ وبالغيرة وبالحقد على وليد ، تمنيت أن أمزقه إرباً .. لكني تمالكت نفسي واحتضنته مهنئاً ، وأراد أن يذهب لإيقاظ أمه وإخبارها بفوزه لكني منعته بحجةِ أنها متعبةٌ ومريضةٌ ، ودعوته للذهاب إلى إحدى الملاهي و الاحتفال على حسابي كتعبير عن فرحي بفوزه ، كنت بذلك قد بدأت بتنفيذ خطةٍ شريرةٍ طرأت على بالي ..

ذهبنا إلى الملهى وأخذت أطلب الكؤوس لوليد الواحدَ تلو الآخر حتى ثملَ ولم يعد يعي ما يقول ، كان فرحاً ويتحدث عن العملية التي سيجريها لأمه وعن أحلامٍ أخرى بسيطة لا أذكرها ، و طلبت منه أن أرى بطاقته التي ربحت فأخرجها بلا وعي ، وبينما هو يتحدث ويضحك وبغفلةٍ منه قمت بتبديلها ببطاقتي الخاسرة وأعدتها إليه بسرعة ونهضت بحجةِ أننا تأخرنا ويجب أن نعود إلى منازلنا .

أخذ وليد يسير مترنحاً من شدةِ السكر فأسندته على كتفي وأوصلته إلى منزله وبجيبه كانت تقبع بطاقتي الخاسرة .

دخلتُ إلى منزلي متسللاً وكان كل من في البيت نيام ، فمشيت على رؤوس أصابعي وبيدٍ مرتجفةٍ جمعت أغراضي وذهبت إلى غرفة والدي وأخذت كل ما في جيبه من نقودٍ وبعدها خرجت من المنزل ، لم يشعر بي أحد .. والآن عندما أذكر ذلك اليوم أستغرب كيف لم يشعر بي أحد ! فأخي بالعادة نومه خفيف وأمي كذلك ، لكن كل الظروف في ذلك الوقت ساعدتني على إتمام خطتي … اتجهت مسرعاً إلى الكراجات وركبت أول حافلةٍ كانت ذاهبة إلى العاصمة ولم ألتفت أبداً خلفي فمنذ هذه اللحظة قررت أن أنسى الماضي وأودع حياة الفقر .

– ٢ –

صمت نبيل ونظر إلى الطبيب وعندما لم يرَ أيُّ اشمئزازٍ على ملامحه أكمل قائلاً :
وصلت إلى العاصمة وأنا لا أصدق نفسي أنه بعد مدةٍ سأستلم الجائزة وأصبح من أصحاب الملايين ، بحثت عن أرخص فندقٍ واستأجرت غرفةً فيه وقبعت أنتظر موعد استلام النقود ، ومرت الأيام بطيئة وأنا قابعٌ في الفندق ، كنت أقضي يومي كله بوجبةٍ واحدةٍ ، فالنقود التي سرقتها من أبي لم تكن كثيرة ، وجاء موعد استلامي للجائزة وذهبت بخطىً حذرة ، فقد كنت أخشى أن يكون وليد يلاحقني فهو بالتأكيد سيعرف أني سآتي للعاصمة حتى استلم النقود ..

لكن كلُّ شيءٍ قد مرَّ بسلامٍ وها أنا أتمُّ إجراءات التسليم وأثبت أني مالك البطاقةِ الرابحةِ ، وهاهم أخيراً وبعد طول انتظار يسلموني الجائزة .. يسلموني السعادة .. يسلموني مفاتيح تغيير واقعي الذي لطالما حلمتُ بتغييره .

لم أجرؤ على أخذ النقود معي إلى الفندق فماذا أفعل لو تمَّت سرقتها ، مبلغ كهذا سيلفت الأنظار إلي ، لذلك ذهبت إلى أقرب بنكٍ ووضعتها فيه وسلَّموني دفتر شيكات .. تصوَّر إحساسي آنذاك ، أنا الفقير المعدم يسلموني دفتر شيكات !! شيءٌ يثير الضحك ..

عدتُ إلى الفندق وأخذتُ أفكّرُ على مهلٍ ماذا سأفعل بالنقود ، وأين سأستقر وبعد تفكيرٍ طويل قرًّرت أن أستقرَّ في العاصمة فهي واسعةٌ ولن يستطيع وليد إيجادي فيها .

جلبت الجرائد التي تتحدث عن إعلانات عروض العمل والمشاريع الصغيرة ، واطلعت على عدَّة مشاريع أستطيع أن أبدأ استثمار نقودي بها ، وبما أنني جديدٌ في عالم الاستثمار والمال وجدت أنَّ أفضل مشروعٍ أقوم به هو افتتاحُ مكتبٍ لتنظيم رحلاتٍ سياحيةٍ ، سأبدؤه أولاً على مستوى داخلي ، كتنظيم رحلاتٍ لطلاب المدارس والجامعات ورحلاتٍ سياحة داخلية وما إلى ذلك ..

تواصلت مع عدة شركاتٍ للنقل وعرفت شروط التعاقد معها وتعرًّفت بشكل واسع على الأماكن السياحية الموجودة في البلد ، باختصار قمت بدراسةٍ شاملةٍ للمشروع واقتنعت بإمكانية نجاحه ، وهكذا استأجرتُ شقةً خصصت منها جزءاً حولته لمكتبٍ ، وتعاقدت مع إحدى شركات النقل ، وقبل هذا كله حصلت على التصريح اللازم لافتتاح هكذا مكتب ..

وبدأت العمل الذي لم يدر أرباحاً في الفترة الأولى وهذا ما كنت أتوقعه ، لكن شيئاً فشيئاً أخذ مكتبي يصبح معروفاً على نطاقٍ ضيِّقٍ ، ثمَّ توسعت علاقاتي واستطعت تعيين مشرفٍ يسيِّر هكذا رحلات ، وله خبرة في هذا المجال ، و كنت أقدم أسعاراً مغريةً لاستقطاب الناس لرحلاتي .. ، وهكذا توسع عملي ليشمل بعض الأماكن السياحية في الدول العربية المجاورة ، وبعدها تجرَّأت وقمت بتنظيم أول رحلةٍ إلى قبرص ومن ثم إلى مدنٍ أوروبيةٍ أخرى ، وكثرت أعمالي وأصبح مكتبي ضيقاً ، فقمت بتوسيعه وجلب موظفين جدد إضافة للقدامى .. أحسست أني في سباق مع الزمن ، فيجب أن أثبت نفسي ويكون لي مكاني في السوق ، وإلا سأضيع وتضيع أحلامي التي لم أحقق منها شيئاً بعد ..

تعرف أيها الطبيب في تلك الفترة من حياتي لم أفكر بأهلي ولو للحظةٍ واحدةٍ ، حتى وليد لم يخطر على بالي ، كان همِّي الوحيد هو استثمار أموالي بالشكل الملائم وفعلاً نجحت بهذا ، وتجرّأتُ أن أدخل عالم الاستثمار في البورصة التي كنت على دراية تامَّة بكيفيّة سيرها ، بدأت الاستثمار بمبالغَ صغيرةٍ خجولةٍ وعلى أسهمٍ بسيطة ، ثم ضاعفت استثماري وتعرفت على سماسرة البورصة وكنت أعرف متى أبيع ومتى أحتفظ بأسهمي ، ودخلت أيضاً سوقَ العملة وأصبحت استثماراتي بالدولار ، ونجح عملي في مكتب السياحة ونجحت أغلب استثماراتي في البورصة .

لا أعرف .. وكأن الحظ ابتسم لي منذ أن سرقت بطاقة وليد … تصور ! الحظ يبتسم بعد عملية سرقة !!

تضاعفت أموالي خلال خمس سنينٍ من العمل المضني ، وحان الوقت لتحقيق أحلامي فبنيت على قطعة أرض كنت قد ربحتها في إحدى الصفقات المنزل الذي حلمت به طوال عمري ، منزلٌ وضعت فيه كل أسباب الراحة والهناء ، وأيضاً افتتحت معرضاً للسيارات ، المعرض الذي لطالما تخيَّلته ، وانتقلت للعمل فيه وسلمت مكتب السياحة لأحد معاونيَّ الذين أثق بهم ..

وفي هذه الأثناء تعرفت على ابنةِ أحد الأثرياء ، والذي نظَّمت لعائلته رحلةً سياحيةً بين العواصم الأوروبية ، ونشأت بيننا علاقة حبٍّ تتوَّجت بالزواج …
ومنذ أن تزوجت وعشت حياة الاستقرار بدأت السنين تمر دون أن أشعر بها ، أنجبت خلالها طفلين جميلين .. حققت كل شيءٍ خطر على بالي ، حتى دراستي أكملتها ، زرت كل الأماكن التي كنت أحلم بزيارتها ، امتلكت أحدث السيارات ، ولبست أفخر الثياب وأصبح لي وزني في المجتمع .

 

سبعة عشر عاماً مرَّت على هروبي من منزل أبي .. سبعة عشر عاماً لم أشعر بها بالذنب تجاه وليد أبداً ، فهو كان بلا طموحٍ وأنا واثقٌ أنه كان سيصرف نقوده دون أن يستثمرها بمشروعٍ ناجح ، كان همُّه الوحيد علاج أمه ، ولم أنسَ ذلك فقد أرسلت له المبلغ اللازم لإجراء عمليةٍ لوالدته مباشرةً بعد أن استلمت النقود حتى لا أكون سبباً في موتها .

لقد حققت كلَّ ما أرغب به أيها الطبيب والغريب أني لم أشعر لحظةً واحدةً بالسعادة التي انتظرتها .. كنت أوهم نفسي بأني سعيد لكني عكس ذلك تماماً ، لم أترك وسيلةً أرفِّه بها عن نفسي لم أفعلها لكن إحساسٌ بعدم الارتياح ظلَّ يلازمني .. وبالآونةِ الأخيرة أصبح يظهر لي وليد في أحلامي ، أراه ينظر إلي بعينين يجتمع فيهما كلُّ ألم الدنيا ويقول لي لماذا ؟! ، تصوَّر !! ..كنت أظنٌّه سيقتلني لكنه كان يكتفي بسؤالي لماذا ؟!

أصبح شبح وليد يؤرّقني ويحرمني من النوم ، أصبحت أراه في كل مكان ، في بيتي وفي عملي ، على مائدة طعامي ، وفي غرفة نومي ..
تعبت أيها الطبيب من كابوس وليد ، ماذا فعلت !! سرقت ؟؟ ماذا سرقت ؟ لم أسرق سوى حظٌّ وليد .. نعم حظُّهُ ، أما الباقي كان بتعبي وعرق جبيني ..

أرحني أيها الطبيب .. أنقذني من كوابيسي ، أريد أن أعيش مثل بقيَّة البشر ، أريد أن أنام دون أن يطاردني شبح الماضي .. أريد أن أرتاح وأنسى .

وصمت نبيل وخيَّم السكون على عيادة الطبيب ..

نهض الطبيب من مكانه وأخذ يذرع الغرفة جيئةً وذهاباً ثم عاد إلى مقعده خلف الطاولة وبدأ يتكلم :
صدقت .. أنت لا تشكو من مرضٍ نفسي ، أنت تشكو مما هو أقسى من المرض النفسي .. ألا وهو صحوة الضمير ، ضميرك يعذبك تجاه وليد وما فعلته معه في الماضي ، نجاحاتك التي حدَّثتني عنها بُنيت على عملية سرقةٍ وخيانةٍ وهذا ما يجعلك غير سعيد على الرغم من امتلاكك لكلِّ أسباب السعادة …
يؤسفني أن أقول لك أنه رغم كل التطور الهائل الذي حصل في عالم الطب ، ورغم كل الاكتشافات الهامة التي ساعدت في علاج كثيرٍ من الأمراض فقد عجز العلماء عن اختراع دواءٍ لإراحة الضمير ونسيان الذنوب …

اعذرني فقد جئت للمكانِ الخطأ ، ربما كان عليك أن تبحث عن وليد وتطلب منه المسامحة والغفران ، وأن تعود إلى أهلك ، فالإنسان بلا أهلٍ يبقى مكسور الجناح حتى لو امتلك الدنيا وما فيها ، وغير هذا لا علاج لك عندي … أنا آسف .

اعتدل نبيلٌ في جلسته وأحنى رأسه وابتسم ابتسامة يأسٍ وقال :
كنت أعرف أنك ستقول لي مثل هذا الكلام ، لكني أحسست أني بحاجة إلى أن أتحدث إلى شخصٍ ما ، فلم أجد أحداً أفضل من الطبيب النفسي ، فالطبيب النفسي يحترف فن الإنصات لهموم البشر ومشاكلهم النفسية ..
تعرف أيها الطبيب .. أنا بقرارة نفسي كنت قد قرَّرت أن أفعل ما نصحتني به لكني كنت بحاجةٍ إلى تشجيع ، شكراً لك .. شكراً لك كثيراً وآسف على الوقت الذي أضعته لك في سماع قصتي ..
ونهض مصافحاً الطبيب ومضى خارجاً بخطى من يحمل على ظهره هموم الدنيا ..
نظر الطبيب إليه وهو خارج وهز رأسه بأسى ..

– ٣ –

ودَّع نبيل زوجته وطفليه وأوهمهم بأنه مسافر في رحلة عملٍ والحقيقة هي أنه قرر أن يسافر إلى مدينته الصغيرة .. مدينته التي شهدت على طفولته و التي ترعرع فيها ..

فضَّل أن يقطع الطريق بسيارته ، ووصل عند العصر ، وعندما اقترب من حيِّه القديم أوقف السيارة و نزل منها ، أرادَ أن يمشي ويتأمل شوارع حيِّه أولاً ..
لاحظ أنَّ الحي قد تغير كثيراً عن تلك الصورة التي كان يحتفظ بها في ذاكرته ، فالعمران كان قد امتدًّ إليه ، والبنايات الشاهقة احتلت مكان كثيرٍ من البيوت ، مشى بتباطؤٍ متأملاً الشوارع والبيوت وعندما دخل في الشارع الذي يقع فيه منزله توتر وزادت ضربات قلبه وعاد له الماضي بصور متلاحقة ، فهنا كثيراً ما كان يقف هو ووليد يتحدثان ، وهنا كان ينتظر مرور بائع أوراق اليانصيب ، وهناك كان يسند وليد على كتفه وهو يترنح …
وصل أخيراً إلى منزل أبيه .. كان منزل أبيه ومنزل جاره وليد من المنازل القلائل التي لازالت كما هي ولم تعبث بها يد التغيير …

وقف يتأمل المنزل بعينينٍ اجتمع فيهما الدمعُ كالغيوم المحمَّلة بالمطر ، لم يكن يريد أن يبكي ، فتمالك نفسه واستعاد رباطة جأشه واقترب من الباب ، وبهدوءٍ وخجلٍ رفع يده وطرقه ..
تضاربت في نفسه المشاعر ، مشاعر خوفٍ وشوقٍ وتوجس ، أخذ يتساءل عمًّن سيفتح له الباب وكيف سيكون اللقاء !!
كلُّ هذه الأفكار مرَّت في خاطره خلال الثواني التي انتظرها قبل أن يُفتَح الباب ويُطِلُّ من خلفه رجلٌ طويل القامة ، غزا الشيب شعره الأسود وحفرت بعض التجاعيد لها طريقاً في وجهه ، هذا الرجل لم يكن سوى أخيه حسام …

وقفا للحظات وكل منهما يتأمل الآخر وبعدها ارتمى نبيل على صدر أخيه يعانقه وهو يقول له :
أخي حسام لقد اشتقت لك ..
لكنه سرعان ما ابتعد عنه عندما أحسَّ أن حسام لم يرد عليه بنفس المشاعر ، فقد كان استقبال حسام له بارداً وجافاً ..
لم يقل له سوى :
ادخل .. فقد انتظرت مجيئك منذ سبعة عشر عاماً وثلاثة أشهرٍ ويومين .
استغرب نبيل هذه الدقَّة في حساب فترة غيابه لكنه لاذ بالصمت ودخل وأغلق الباب خلفه .

جلسا في الصالة التي لم يتغير بها شيءٌ سوى بعض الأثاث .
سأل نبيل بتوجس :
– كأنك وحدك في المنزل
– نعم فقد ذهبت زوجتي لزيارة أهلها واصطحبت الأولاد معها
– أصبح عندك أولاد
– نعم ، صبي وبنتين
– وأنا أيضاً رزقني الله بولدين ..
وحان موعد السؤال الذي كان نبيل خائفاً من جوابه ، لكن لم يكن هنالك مجالٌ للتهرب منه .. سأل بصوتٍ خافتٍ وكأنه كان يتمنى في قرارةِ نفسه ألا يسمع حسام السؤال حتى لا يسمع هو الإجابة :
– وأبي وأمي ..أين هما ؟؟
– لقد توفِّيا ..
أخفض نبيل رأسه وثبَّت نظره في الأرض فقد سمع الجواب الذي كان يخشاه ، فيما أكمل حسام :
– أمك توفيت بعد هروبك بعامٍ واحدٍ ، فهي لم تتحمل الصدمة ، أما والدك فقد توفي منذ سنتين بعد إصابته بمرضٍ خبيث .
اغرورقت عينا نبيلٍ بالدموع لكنه أيضاً لم يسمح لنفسه بالبكاء ، كان لا يزال يريد معرفة بعض التفاصيل التي حدثت في غيابه ، وهكذا استأنف أسئلته قائلاً :
– وأختي ماذا حلَّ بها ؟؟
– أختك تزوجت من شاكر لطفي
– شاكر !! ذلك الأرمل الذي كان يمتلك محلاً لبيع الخضار ؟!!
– نعم هو ذاك
– لماذا ؟!!
– ومن تنتظر أن يتقدم لخطبة فتاةٍ أخوها سارق !! وزيرٌ أم رجل أعمال !!
سكت نبيل متداركاً الحقيقة .. وكأنه بدأ للتو يستوعب حجم المأساة التي خلفها وراءه .

أكمل حسام دون أن يسأله نبيل :
– وليدٌ المسكين جاءنا صبيحة ذلك اليوم الذي هربت فيه يصرخ ويبحث عنك ، لم نصدق أنفسنا عندما سمعنا بما حدث ، لكن اختفاء أغراضك من المنزل أكد لنا صحة ما تفوه به وليد .

الوضع الطبيعي أن يلحق بك وليد إلى العاصمة وينتقم منك ، لكنه المسكين لم يعد طبيعياً منذ أن غدرت به … فقدَ عقله ولم يعد ينطق بشيء سوى : صدقوني أنا الذي ربحت وليس نبيل ، أنا صاحب النقود ، وهو الآن لم يعد سوى مجنون يقبع في بيته أغلب الوقت وإذا خرج يلاحقه الأطفال للسخرية منه ، وأمه المسكينة ما فعلته مع ابنها سارع بوفاتها …
– لكني أرسلت ..
قاطعه حسام قائلاً : لقد فضلت الموت على أن تصرف شيئاً من النقود التي أرسلتها ، والنقود إلى الآن موجودة إذا شئت خذها ..
لقد انتشر في الحيِّ خبر فعلتك مع وليد كانتشار النار في الهشيم ، وسرعان ما أصبحنا محور أيِّ نقاشٍ يدور بين اثنين ، وعندما يمرُّ أحدٌ منا في الشارع يبدأ الناس بالتهامس علينا …
أوه … لقد مررنا بظروفٍ عصيبةٍ ومواقفَ محرجة ، كان على أبي أن تكون أعصابه من حديد حتى يستطيع أن يتمالك نفسه ويرفع رأسه بين الناس ، لقد أردتُ أن أبحث عنك لكن أبي منعني من ذلك وقال لي أنك اخترت طريقك ولا بدَّ أن تسير فيه حتى النهاية ، مسكينةٌ أمي كانت …
قاطعه نبيل قائلاً :
– كفى .. كفى لا تكمل ، لم أعد أحتمل ..
لم أكن أريد أن أحيا حياتي فقيراً معدماً .. لم يكن هنالك أمل في أن تتحسن أحوالنا ، ما ذنبي إذا كنت أريد أن أعيش كما يعيش بقيَّة البشر !!
– ذنبك أنك كنت دائماً تنظر إلى من هم أعلى منك بالمستوى الاجتماعي وتقارن نفسك بهم وبأسلوب حياتهم ، لم تقنع يوماً بما لديك ، كلنا يحلم ويطمح نحو حياةٍ أفضل لكنَّ طموحاتك أبداً لم تقف عند حد ، كنت تريد أن تحصل على كلِّ شيءٍ ولا تقدم بالمقابل أيَّ شيء ..
وزفر زفرةً طويلةً ثم أكمل :
– الآن لم يعد يفيد الكلام … لقد مضى كل شيء وليس عندي كلامٌ أقوله لك سوى أني صُدمت بك ، صدمت بك بكل معنى الكلمة ولا أستطيع أن أسامحك .
صمت للحظاتٍ ثمَّ استدرك قائلاً :
صحيح … لقد كتب لك والدي رسالةً قبل أن يفارق الحياة وطلب مني أن أعطيها لك ، كان واثقاً أنك ستعود يوماً ما ..
ونهض حسام لكي يجلب الرسالة ، وفي هذه الأثناء أخذ نبيل يهزُّ قدمه بعصبيةٍ و يفرك يديه ببعضهما من شدة التوتر ، فماذا يمكن أن يكون والده قد كتب له !

عاد حسام ومعه الرسالة ، سلمها لنبيل وهو يقول :
– لا أعرف ما قد جاء فيها ، فقد عاهدت نفسي ألا أقرأها ، فهي لك .

أخرج نبيل الرسالة من الظرف وفتحها بأصابع مرتجفةٍ وبدأ يقرأ :
” ولدي نبيل …
بقراءتك لرسالتي يكون ضميرك قد استيقظ .. لكن ماذا سينفعك هذا ، فما حدث قد حدث ..
هل أنت سعيد ؟؟؟ لا أتوقع هذا ، فالطريق الذي اخترته لن يخلِّف في نفسك غير الشقاء .. شقاءٌ أبديٌّ وضياع ..
مهما امتلكت من أموال فإنك لن تستطيع شراء راحة الضمير ، سوف يظلُّ الماضي يطاردك ولن ترتاح ..
كنت أريد أن أراك قبل أن أموت حتى أنظر في عينيك وأسألك سؤالاً واحداً فقط وهو أين الخطأ .. أين الخطأ في تربيتي لك ؟!!
منذ أن فعلت فعلتك وهربت ، وأنا أسأل نفسي هذا السؤال ولم أصل لإجابةٍ تريحني ..
لقد ربيتك كما ربيت إخوتك ، وحاولت أن أغرز فيك الأخلاق الحميدة لكنك أبيت إلا أن تنحرف عن طريق الصواب ..
أنا أعترف أني لم أستطع توفير الحياة المثالية التي كنت تحلم بها ، لكني أيضاً حاولت إسعادك بقدر استطاعتي ولم تُقدِّر هذه المحاولة ، بل اخترت طريقاً لن يجرَّ عليك سوى الألم والتعاسة ..
أرجو أن تكون نادماً على ما فعلت ، فالندم هو أولى خطوات العودة إلى طريق الصواب .. وليسامحك الله يا بني “

انتهى نبيلٌ من قراءة الرسالة وقد هاجت في نفسه المشاعر ، مشاعر لم يكن يعلم أنه يمتلكها من قبل .. بعد كلِّ هذه السنين أدرك أنه كان يحب والده وأنه لم يعبِّر له يوماً عن هذا الحب .. أدرك أنه ضيَّع أحلى سنين عمره وهو يركض وراء وهم السعادة .. السعادة التي كان يمكن أن يحصل عليها بكلمةٍ طيبةٍ من أبيه أو بنظرةِ حنانٍ من أمه ، بضحكةٍ مرحةٍ من أخته ومساندةٍ من أخيه ..
أمضى عمره وهو يعامل أفراد عائلته وكأنهم أعداؤه ، لم يشعر يوماً بحاجته إليهم ولم يعطِ المجال لنفسه للاستمتاع بمصاحبتهم … ياه كم كان غبياً .

فجأة أظلمت الدنيا في عينيه وأحسَّ أنه لم يبقَ أمامه سوى أن يعيش ليلاً حالك السواد ، ليلاً محمَّلاً بالذكريات المؤلمة ، ليلاً لا نهار من بعده … عندها استسلم للبكاء وانهمرت الدموع غزيرةً من عينيه .. دموعاً كان يحبسها لمدَّة سبعة عشر عاماً وثلاثة أشهرٍ ويومين .

 

تاريخ النشر : 2016-07-08

نوار

سوريا
guest
46 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى