عجائب و غرائب

رحلة ابن فضلان العجيبة الى بلاد الصقالبة و البلغار

بقلم : اياد العطار

بأمر الخليفة العباسي المقتدر بالله سار ابن فضلان في رحلة طويلة و شاقة الى اصقاع من العالم كانت مجهولة و متوحشة. حيث يصف لنا الحياة في روسيا و البلغار و قبائل الفايكنغ قبل احدى عشر قرنا من الزمان و يروي ما شاهده من عجائب و غرائب تلك البلاد البعيدة بصورة مشوقة جعلت من رحلته من اهم المصادر التي يعتمدها الاوربيين للتعرف على حياة اجدادهم في تلك الفترة المظلمة من تاريخ اوربا.

الساحرة “ملك الموت” تقتل الجواري ليحرقوا مع الموتى

رحلة ابن فضلان العجيبة الى بلاد الصقالبة و البلغار

رجال الفايكنغ طوال و ضخام الجثة يتنقلون بالسفن للمتاجرة بالعبيد كما وصفهم ابن فضلان في رحلته و في الصورة الى اليسار ملصق الفيلم العالمي ( المحارب الثالث عشر ) و المأخوذ عن رحلة ابن فضلان.

رحلة ابن فضلان تحتل اهمية كبيرة و أستثنائية بالنسبة للكتاب و المستشرقين الاوربيين لأنها تصف جانبا من حياة و عادات الاوربيين في ما يسمى بالفترة المظلمة من تاريخ اوربا و خاصة و انها تحتوي على وصف مثير لقبائل الفايكنغ المشهورة و التي تنحدر منها شعوب الدول الاسكندنافية كالسويد و النروج و الدنمارك في فترة كانت الوثنية و الجهل هي السمة الرئيسية لهذه الشعوب.
في عام 309هـ – 921 م أمر الخليفة العباسي المقتدر بالله بأرسال بعثة الى البلغار عاصمة بلاد الصقالبة بناء على طلب ملك الصقالبة لكي يعلمونهم اصول الدين الاسلامي و أصبح ابن فضلان المقرب من بلاط الخليفة رئيس البعثة و كان معه مجموعة كبيرة من العلماء و الفقهاء و التجار, و بعد رحلة طويلة و شاقة فقد فيها ابن فضلان اغلب رجال بعثته يصل الى بلاد الصقالبة عام 922م. و في رحلته يصف لنا ابن فضلان عادات و تقاليد الشعوب و الامم التي يمر بها في بلاد الترك و الصقالبة و الخزر (روسيا) و اهم جزء في الرسالة هو وصفه لقبائل الرس ( من القبائل الاسكندنافية ) حين قدومها الى بلاد البلغار للتجارة فيقول :

“رأيت الروسية وقد وافوا في تجارتهم ، ونزلوا علي نهر إتل ، فلم أر أتم أبدانا منهم كأنهم النخل ، شقر حمر ، لا يلبسون القراقط و لا الخفاتين ، ولكن يلبس الرجل منهم كساءا يشتمل به علي أحد شقيه ، ويخرج إحدي يديه منه ، ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين ، لا يفارقه جميع ما ذكرناه وسيوفهم صفائح مشطبة افرنجية ، ومن حد ظفر الواحد منهم إلي عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك ” .

و يستمر ابن فضلان بوصف هؤلاء القوم و عاداتهم و لعل اطرف و اغرب جزء من مشاهداته هو الجزء المتعلق بالموتى و كيف يتم حرق جثثهم بعد الموت في مراسيم و طقوس تصاحبها تضحية بشرية :
“و اذا مرض منهم واحد , ضربوا له خيمة ناحية عنهم و طرحوه فيها و جعلوا معه شيئا من الخبز و الماء و لا يقربونه و لا يكلمونه , بل لا يتعاهدونه في كل ايام مرضه , لا سيما ان كان ضعيفا او مملوكا , فأن بريء قام و رجع اليهم , و ان مات أحرقوه , فأن كان مملوكا تركوه على حاله تأكله الكلاب و جوارح الطير”.
“اما اذا مات احدهم فالعاده عندهم ان يحرقوه , فأذا كان فقيرا يعملون له سفينة صغيرة و يجعلونه فيها و يحرقونها”.

و اذا كان غنيا و لديه خدم و جوار فأن طقوس حرقه و أشعال النار فيه تتناسب مع يسره و غناه.
و قد شهد ابن فضلان بنفسه موت رجل جليل منهم و تابع طقوس حرقه من البداية فهو يقول :
“فلما مات ذلك الرجل الذي قدمت ذكره قالوا لجواريه : من يموت معه؟ فقالت احداهن : أنا , فوكلوا بها جاريتين تحفظانها و تكونان معها حيث سلكت , حتى انهما ربما غسلتا رجليها بأيديهما.
و اخذوا في شأنه و قطع الثياب له و اصلاح ما يحتاج اليه , و الجارية في كل يوم تشرب و تغني فرحة مستبشرة.  فلما كان اليوم الذي يحرق فيه هو و الجارية حضرت الى النهر الذي فيه سفينة فأذا هي قد اخرجت و جعل لها اربعة الركان من الخشب ثم مدت حتى جعلت على ذلك الخشب , و اقبلوا يذهبون و يجيئون و يتكلمون بكلام لا يفهم , و هو بعد في قبره لم يخرجوه , ثم جاءوا بسرير فجعلوه على السفينة و غشوه بمساند الديباج الرومي ثم جائت امرأة عجوز يقال لها “ملك الموت” ففرشت على السرير الفرش التي ذكرنا , و هي وليت خياطته و اصلاحه , و هي تقتل الجواري , فرأيتها ساحرة ضخمة مكفهرة.
فلما وافوا قبره نحو التراب عن الخشب و نحوا الخشب و استخرجوه في الازار الذي مات فيه , فرأيته قد اسود لبرد البلد , و قد كانوا جعلوا معه في قبره نبيذا و فاكهة و طنبورا فأخرجوا جميع ذلك , فأذا هو لم ينتن و لم يتغير منه شيء غير لونه , فألبسوه سراويل و راناً و خفاً و قرطقاً و قفتان ديباج له ازرار ذهب , و جعلوا على رأسه قلنسوة ديباج سمورية , و حملوه حتى ادخلوه القبة التي على السفينة , و اجلسوه على المضربة , و أسندوه بالمساند و جاءوا بالنبيذ و الفاكهة و الريحان فجعلوه معه.  و جاءوا بخبز و لحم و بصل فطرحوه بين يديه , و جاءوا بكلب فقطعوه نصفين و القوه في السفينة , ثم جاءوا بجميع سلاحه فجعلوه الى جانبه , ثم اخذوا دابتين فأجروهما حتى عرقتا ثم قطعوهما بالسيف و القوا لحمهما في السفينة , ثم جاءوا ببقرتين فقطعوهما ايضا و القوهما فيها , ثم احضروا ديكا و دجاجة فقتلوهما و طرحوهما فيها.
و الجارية التي تريد ان تقتل ذاهبة جائية تدخل قبة من قبابهم فيجامعها صاحب القبة و يقول لها ” قولي لمولاك انما فعلت هذا من محبتك “.  فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاءوا بالجارية الى شيء قد عملوه مثل ملبن الباب فوضعت رجليها على اكف الرجال و أشرفت على ذلك الملبن و تكلمت بكلام لها فأنزلوها ثم اصعدوها ثانية ففعلت كفعلها في المرة الأولى ثم انزلوها و اصعدوها ثالثة ففعلت فعلها في المرتين ثم دفعوا اليها دجاجة فقطعت رأسها و رمت به و أخذوا الدجاجة فألقوها في السفينة.  فسألت الترجمان عن فعلها فقال: ” قالت في اول مرة اصعدوها : ها أنذا ارى ابي و امي و قالت في الثانية : ها انذا ارى جميع قرابتي الموتى قعودا و قالت في الثالثة : ها انذا ارى مولاي قاعدا في الجنة , و الجنة حسنة خضراء , و هو يدعوني فأذهبوا بي اليه ” فمروا بها نحو السفينة فنزعت سوارين كانا عليها و دفعتهما الى المرأة التي تسمى ملك الموت و هي التي تقتلها و نزعت خلخالين كانا عليها و دفعتهما الى الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها , و هما ابنتا المرأة المعروفة بملك الموت.
ثم اصعدوها الى السفينة و لم يدخلوها القبة , و جاء الرجال و معهم التراس و الخشب و دفعوا اليها قدحا من النبيذ فغنت عليه و شربته , فقال لي الترجمان : ” انها تودع صويحباتها بذلك, ثم دفع اليها قدح أخر فأخذته و طولت الغناء و العجوز تستحثها على شربه و الدخول الى القبة التي فيها مولاها , فرأيتها و قد تبلدت و ارادت دخول القبة فأدخلت رأسها بينها و بين السفينة فأخذت العجوز رأسها و أدخلها القبة و دخلت معها.  و أخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئلا يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري و لا يطلبن الموت مع مواليهن , ثم دخل الى القبة ستة رجال فضاجعوها واحدا بعد الاخر ثم اضجعوها الى جانب مولاها و امسك اثنين رجليها و اثنين يديها و جعلت العجوز التي تسمى ملك الموت في عنقها حبلا مخالفا و دفعته الى اثنين ليجذباه و أقبلت و معها خنجر عريض النصل , فأقبلت تدخله بين اضلاعها موضعا موضعا و تخرجه و الرجلان يخنقانها بالحبل حتى ماتت.
ثم وافى اقرب الناس الى ذلك الميت فأخذ خشبة و أشعلها بالنار ثم مشى القهقري قفاه الى السفينة و وجهه الى الناس , و الخشبة المشتعلة في يده الواحدة و يده الاخرى الى خلفه و هو عريان, حتى احرق الخشب المعبأ الذي تحت السفينة من بعدها وضعوا الجارية التي قتلوها في جنب مولاها”.

و قد لاقت رحلة ابن فضلان كما ذكرنا رواجا كبيرا في اوربا و تم تحويلها الى فلم سينمائي ( مع انه تم تحوير قصة الرحلة ) بأسم ( المحارب الثالث عشر ) من بطولة الممثل الامريكي الشهير أنتونيو بانديراس.

 

guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى