أدب الرعب والعام

عار يشرّف

بقلم : Shadwoo shadwoo – مصر

عار يشرّف
الفتاة عار

في منطقة ما ..

منطقة مازال منتشراً بها اعتقاد أن الفتاة وصمة عار لمجرد أنها فتاة فقط – وُلِدَت “ورد” بنت الحاج “عبد القادر”..

 

عبد القادر فلاح لديه من الذرية فتاتان وثلاث اولاد ، ولديه من الاطيان ما يكفي ليطمع به اخوته ، لكنه كان يفتقد لشيء واحد لم تعطيه إياه الاطيان أو المال… انه العقل.

لقد كان متعصباً بشدة لفكرة أن الفتاة عبء وعار و أن وجودها لا فائدة منه، بينما الصبي لديه هو الوريث وحامل اسمه و كاسر عيون الحاسدين.

بطلتنا هنا هي ” ورد ” بنت الحاج عبد القادر تبلغ من العمر 12سنة, يشهد الكل بجمالها والتفاف قوامها و ايضاً رزانة عقلها الذي سبق سنها كما سبقه جمالها؛ الذي طمع به الكثير منهم اصدقاء الحاج عبد القادر.

لم يعارض للحظة أن يزوج ابنته من رجل عجوز طالما لديه من المال ما يملأ عينيه ، لكن زوجته كانت تقف عثرة بطريقه في كل مرة ؛ فقد كانت تشجع ابنتها على اكمال دراستها و هو ما كان يعارضه الكثير من اهل القرية حيث كانوا يرددون ( التعليم للرجال و الفتاة مكانها بيت زوجها ) .

 

في يوم من الأيام مرضت أختها الصغيرة “شمس” التي تبلغ من العمر 5 سنوات فقط ، ارتفعت درجة حرارتها كثيراً و أخذت أمها تبكي بجانبها لا تعلم ما بها ، استدعوا الطبيب واخبرهم أن لديها حمى شديدة و يجب نقلها الى المستشفى حتى لا تتدهور الحالة.

غادر الطبيب بعد أن اوصله ابن الحاج عبد القادر للخارج ، لفّت الأم ابنتها بالغطاء وحملتها وهي تستمر بالبكاء وخرجت من الغرفة بها ، وقف أمامها الحاج عبد القادر وهو ينظر لها باستهزاء قائلاً:

– الى أين تذهبين ؟

نظرت إليه قائلة بنبرة بكاء :

– الى أين أذهب ؟ ألم تسمع الطبيب يقول يجب نقلها الى المستشفى ؟

التفتَ و تباعدت خطواته قائلاً بسخرية :

– ربك الشافي ، اتركيها لأَجَلها.

تحركت بداخلها مشاعر الغضب على ابنتها ولم تدرِ إلا و هي تصرخ به و تشده من عباءته و أولادها يحاولون ابعادها…

عدّل عباءته وهو ينظر لها بغضب ثم لطمها على وجهها قائلاً :

– الفتاة فتاة و الصبي صبي أفهمتِ ؟ انهم عار بالنسبة لي حتى و ان مرضت ابنتك الأخرى (مشيراً الى غرفة ورد) فالقبر اولى بها .. في هذه الاثناء كانت ورد تحبس صوتها بيديها وهي تسترق النظر من باب غرفتها .

نظرت اليه بكراهية  وهي تقول :

– ستعيش و تموت بجهلك و لن تجد احداً بجانبك عندما يأتيك الموت.

نظر اليها ثم اخذ يجرها الى داخل الغرفة و صراخها امتزج ببكاء طفلتها التي تحملها بيديها.

و اغلق الباب عليها وهو يردد :

– أولااادي معي ، سمعتي أولاادي.

ثم صعد الى غرفته و هو مازال يردد تلك الكلمة ؛واولاده يشاهدون كل ما يحدث دون ان يحركوا ساكناً ، فبالنسبة لهم أوامر والدهم أهم من بكاء أمهم ومرض اختهم الصغرى ، فهم كما يقال (ابناء والدهم) لقد رباهم على القسوة حتى يصيروا رجالاً ، عدا واحد بينهم كان يحبس غضبه مما يرى وكان ذلك بادياً على نظراته.

لقد كان اصغرهم .. انه فارس البالغ من العمر 24 عاماً و الذي كان يُشعره والده انه مجرد طفل بكل صفعة يتلقاها عندما يدافع عن امه , لقد كان شبيه ورد بجمالها و تفتح عقلها على عكس اخوته الواقفين بجانبه .. كان اباه يدعوه بالغبي عندما يسمعه يقول أنه لا فرق بين الفتاة و الولد .

كان فارس سنداً لأمه و أختاه و نعم الرجل, كان طالباً بكلية الهندسة  وقد رفض كثيراً فكرة الرحيل الى المدينة وترك أمه و أختاه ، فقد اخذ على نفسه عهد ألا يغادر حتى يطمئن على اختاه ببيت ازواجهم ، ربما هذا سيدمر حلمه بالعمل في المدينة لكن العائلة أهم.

في تلك الاثناء كانت الأم تبكي بالغرفة و هي تترجاهم أن يفتحوا الباب و تردد :

– ابنتي تموت ، ارجوكم افتحوا الباب..

 

____

مرت الايام و الأم تسهر بجانب طفلتها المريضة التي تزداد حالتها سوءاً و كانت ورد تسهر و تساعدها ايضاً ؛غير فارس الذي كان يشتري لها العلاج و يدخل لها الطعام. .و كلما حاول اخذ اخته للمستشفى من وراء والده – كان اخوته الرجال يخبرون والدهم الذي كان يستمر بإهانته امام الكل كالطفل الصغير.

حتى جاء اليوم الذي أُغمِضَت فيه عيناي شمس للأبد معلنة رحيلها من طغيان الجهل الى نعيم ربها الذي أعطاها حريتها في حين سلبها منها جبروت أبيها ..

لن تصدقوا حين أُخبركم أن الحاج عبد القادر كان سعيداً ، لقد شعر أن جزءاً من عاره قد رحل ، لم تصرخ والدتها بل كانت دموعها تنهمر بدون صوت و هي كالجثة الهامدة ، لا تأكل ولا تشرب ولم تمضِ أيام حتى لحقت بابنتها.

شعرت ورد أنها وحيدة امام و الدها و اخوتها و كانت تدعو الله أن يظل فارس معها فهو آخر أمل لها .

لقد شعر عبد القادر أن الدنيا ضحكت له و أنه سيبدأ حياة جديدة ، لكنه كان مخطئاً فهو لم يعلم أن نهايته قد بدأت للتو.

 

في ليل هادئ بعدما نام الجميع .. استيقظوا فجأة على صراخ والدهم ، انفض الجميع الى مصدر الصراخ و وجدوا والدهم يشير الى ركن الغرفة وهو يردد :

– لقد عادت ، لم تمت ، لقد كانت تخدعنا .

رد فارس عليه :

– من هي يا أبي ؟

نظر اليه بغضب قائلاً :

– أمك ، وجه الشؤم .

كتمها فارس بنفسه ثم قال لإخوته ، ابقوا انتم معه ، سأغادر انا ، ثم همس.. لم اعد احتمل.

نزل من على الدرج و رأى ورد تقف على باب غرفتها .. اقترب منها قائلاً :

– لمَ استيقظتِ ؟

اشارت الى غرفة والدها قائلة :

– لمَ كان ابي يصرخ ؟

تنهد ثم قال :

– يبدو انه كان يحلم ، عودي الآن للنوم فغداً لديك مدرسة.

غادر الجميع للنوم وتركوا والدهم بنوبة جنونه التي اصبحت تتكرر كل يوم.. حتى جاء يوم استيقظت فيه ورد لشرب الماء ليلاً و انتفضت من مكانها برعب حين رأت أختها الصغرى شمس تبتسم لها قائلة :

– أرأيتِ ؟ امي لن تدعه يؤذيكِ كما فعل بي ؟

ثم اختفت .. قاطع خوفها صوت صراخ والدها الذي اصبح مزعجاً لهم ، صعد الأخوة على الدرج وهم يرددون لبعضهم :

– يبدو أن أباك اصابه الخرف ، لقد اصبح مزعجاً.

 

اخذه اولاده الى شيخ يقال انه دجال .. أخذ يشعل البخور و يتمتم بكلماته الغريبة كباقي النصابين اقصد الدجالين ، ثم نظر له قائلاً :

– عليك أن تتزوج حتى تتركك زوجتك الاولى بحالك ، فرشّح له امرأة و قال له انها هي من ستطرد وجودها.

و بالفعل في اليوم التالي ذهب الأب الى منزلها لطلب يدها و معه اولاده ، قاطعه احد ابنائه قائلاً :

– لكن يا أبي سمعتها سيئة و يقال انها تمارس السحر.

رد عليه ببرود قائلاً :

– حتى لو كانت من الجن ، طالما أن امك ستحل عني فلا أمانع.

 

و تم الزفاف..

____

مرت الأيام و الأسابيع و غيرة زوجة الاب من ورد وجمالها وعنادها ايضاً – تزداد يوماً بعد يوم ، كانت كلما رأتها تمشط شعرها تخاطب نفسها قائلة :

– لو كان لدي جمالك لفعلت به الكثير.

 

كانت تستمر برمي الماء المتسخ عليها و ضربها ..حتى انها جعلت والدها يمنعها من الذهاب للمدرسة ، كان فارس يأتي متأخراً ليلاً بسبب طول طريقه الى الجامعة فلم يكن يرَ أي شيء لكنه يعلم ان اخته لا تكذب ؛غير أنه كان يشك بتصرفات تلك المرأة .

في يوم ما ..وصل فارس متعباً من الطريق و قد تأخر كثيراً بسبب زحمة المواصلات ، دخل غرفته و استلقى على سريره محاولاً النوم ، فتح عينيه ببطء من التعب ليرى تلك اليد التي تمتد على جسده فاتسعت عيناه بكاملهما ليتفاجأ بوجود زوجة ابيه وهي تحاول اغرائه.

صرخ فيها قائلاً :

– ماذا تفعلين بغرفتي ؟ ، و لمَ ترتدين هكذا ؟ اخرجي حالاً.

نظرت اليه ثم تابعت قائلة :

– لا عليك لن يعلم احد شيئاً , ثم ان والدك الخرف غارقاً في النوم ، اقتربت منه متابعة..

– انت لا تعلم مقدار نفسك ، و جمالك هذا .

صرخ فيها بغضب و جرها من يدها و رماها خارج الغرفة ثم اغلق على نفسه من الداخل ، ظلت تتردد لغرفته و تنتظره حتى يأتي و هو يستمر بطردها حتى ضاق الأمر به واخبر و الده الذي كان رده صفعة على وجهه امام الجميع .. في حين ان زوجة الأب كانت جالسة تمثل دور الضحية ببكائها المصطنع .

دخل الى غرفته بسرعة و أخذ يضع ملابسه في الحقيبة ثم اخذها وخرج من الغرفة ، قاطعه صوت ابيه :

– ومن قال لك اني سأسمح لك بالذهاب ؟ عد الى غرفتك في الحال.

وضع حقيبته على الارض ثم التفت الى أبيه قائلاً :

– عذراً يا أبي لكني لن استمع اليك هذه المرة.

تقدم نحوه اخيه الاكبر ورفع يده محاولاً صفعه وهو يقول :

– أتجرؤ على عصيان اوامر ابيك ؟

لكنه امسك بيده ثم تابع قائلاً :

– إياك ان تمد يدك على يا ابن ابيك.

ثم دفعه بعيداً عنه و امسك حقيبته و بادرت خطواته بالتوجه للباب ، صرخ فيه ابيه قائلاً :

– إن خرجت من هذا الباب فأنت محروم من ميراثك.

ضحك فارس بسخرية ثم نظر بطرف عينيه قائلاً :

– لا أريد اموالك تلك التي تذكرني بموت امي واختي ، ثم التفت الى اخته التي كانت دموعها تترجاه كي لا يذهب – و بادلها بعينه التي قالت بألم : ( سامحيني ، لم استطع اكمال عهدي ) .

ثم اغلق الباب خلفه بقوة و انقطع معه آخر امل لورد التي شعرت انها كالفريسة وحولها مجموعة من الذئاب .. انه لشعور سيء..

 

و بالفعل لم تمر أيام حتى سمعت أبيها يتحدث مع شخص ما ، استرقت النظر اليهم ، فوجدت شخصاً – كأنه جاء من الموت – يضع اموالاً على الطاولة أمام أبيها ، وزوجة أبيها تبتسم و تنظر الى المال و كأنها لم ترَ مالاً بحياتها.

ثم رد اباها قائلاً :

– اتفقنا ، مبروك عليك الزواج غداً.

وضعت ورد يدها على فمها وهي تردد :

– زواج من ؟!!

 

جاء اليوم التالي ودخلت زوجة ابيها ومعها فستان الزفاف.. كانت ورد  تصرخ : ماذا تفعلون ؟ لن اتزوج من ذلك الشيطان ، وظلت تنادي امها وهي تبكي.

تم كتب الكتاب و أخذ الرجل ورد الى منزله..  رغم أنه كان معروفاً بممارسة السحر في منزله و يتردد علي المقابر ؛ الا أن هذا الامر لم يشغل بال والدها كما شغله المال.

 

____

جلست ورد في الغرفة و هي ترتعش من الخوف و كانت مثل البدر بتمامه في ذلك الفستان ، نظرت الى مقبض الباب الذي تحرك معلناً دخول ذلك الرجل الغريب ، اقترب منها و هي تغمض عينيها من شدة البكاء ، فهي لا تريد رؤية وجهه.

همس اليها و هو يتلمس شعرها قائلاً :

– حرام أن يضيع هذا الجمال تحت التراب ، ولكن ما باليد حيلة يا جميلة.

ثم امسكها من يدها و أخذ يجرها على التراب و هي تصرخ الى أن وصل الى المقابر القريبة من منزله . ألقاها في الحفرة ونظر اليها قائلاً :

– لقد باعك اباك بالرخيص فهل تتوقعين أن تكوني غالية بنظر الغرباء ؟ 

ثم اكمل بضحكات أفزعت ورد و أخذ يلقي التراب عليها و هي تصرخ و تبكي و تنادي على امها حتى غطّاها بالكامل وتركها وغادر ..

 

اخذت تختنق بجوفها و بدأ تنفسها و دقات قلبها تبطء معلنة رحيلها ، لكن فاجأتها تلك اليد التي سحبتها الى الخارج .

فتحت عينيها ببطء بعدما تجدد تنفسها من جديد لتنظر امامها ، انها شمس اختها ، ابتسمت لها ثم ابتعدت خطواتها حتى اختفت مع الريح.

ثم وقفت أخذت تجر قدماها المتسخة بالتراب حتى وصلت الى منزلها ، وقبل ان تقترب سمعت صرخات اشخاص قادمة من الداخل.

وقفت تسترق النظر .. إنه ذلك الشيطان الذي دفنها حية يصرخ بهم قائلاً :

– لقد خدعتموني ، لقد هربت ابنتكم ، إنها مجرد عار ، انتم مجرد مخادعين.

انتفض بوجهه أخيها الاكبر قائلاً :

– اخرس ايها الحقير ، كيف تجرؤ على قول هذا ؟

نظرت اليه زوجة ابيه ثم قالت ببرود :

– و ما الذي سيجعله يكذب عليك  ؟الجميع كان يعلم أن اختك متمسكة بدراستها ..ربما كان مجرد عذر.

التفت إليها الاخ الاكبر وهو يشتاط غضباً مما تقول.. وقبل ان يتكلم قاطعه اباه بهدوئه الغريب قائلاً:

– كفاكم شجاراً و اخفضوا أصواتكم ، كفانا مانحن فيه من فضيحة .

و كأن تلك الكلمات التي قالها تؤكد ان ابنته هكذا فعلاً ، اقتربت منه زوجته وهي تهمس له كالأفعى قائلة:

– و لمَ الفضيحة ؟ .. اغسل عارك بيدك قبل ان يعرف الناس ، هل ستتركها تلطخ اسمك بالتراب؟

غضب الحاج عبد القادر ونظر لأبنائه قائلاً:

– ابحثوا عنها و اقتلوها ، اغسلوا عاركم بأيديكم و إلا لا تعودوا.

 

صُدمت ورد مما سمعته فإن دخلت لتخبركم بما حدث لن يصدقوها ، لم تدرِ بنفسها إلا وهي تركض بين الاراضي ، تشعر بالبرد والتعب والخوف ايضاً ..

وقفت تلتقط انفاسها واستندت على شجرة قريبة منها ، و ماهي الا لحظات حتى وجدت مجموعة من المدمنين يحيطون بها وهم يرددون :

– ماذا يفعل هذا الجمال بمكان كهذا ؟

ارتعبت ورد و حاولت الهرب لكن شخصاً امسك بيدها ، اخذت تلكم به حتى تركها ، و تمكنت من الهرب منهم لكن شخصاً اصابها بسكينه و ترك جرحاً بمعدتها.

ظلت تركض وهي تنزف حتى تعبت واصابها الدوار .. ارتمت على الارض وهي تلتقط انفاسها ، وجدت اقدام تقترب منها .. ارتعبت و خشيت أن يكون احداً منهم تبعها .. حاولت الوقوف لتركض لكن اغمي عليها بسبب خسارتها كمية كبيرة من الدماء..

 

____

فتحت عيناها ببطء و هي تنظر حولها .. وجدت نفسها على سرير و سمعت صوتاً يصرخ :

– دكتور ، لقد استيقظت.

رأت شخص يركض نحوها ليراقب الاجهزة حولها ، يبدو انها في المستشفى لكن من احضرها ؟

نظرت الى جانبها فوجدت سيدة عجوز تربت على كتفها قائلة :

– حمداً لله على سلامتك يا ابنتي.

 

اخذت تردد ( أين انا ، من انتِ ؟ ) .

قصّت العجوز كل شيء و اخبرتها انها رأتها غارقة بدمائها على الطريق اثناء صعودها سيارتها ، و أنها هي من احضرتها الى هنا ، و انه قد مر اسبوع على الحادث بعدما اجروا لها عملية لتقطيب جرحها .. سكتت قليلاً ثم اردفت قائلة :

– و انت يا ابنتي ، ما قصتك و كيف حدث لك كل هذا ؟

قّصت ورد كل ما صار لها بالتفصيل ، و انها الآن لا تدري أين تذهب.

ابتسمت العجوز قائلة :

– لا تقلقي يا ابنتي ، ستقيمين معي فأنا وحيدة في منزلي بعدما تزوج ابني و سافر بعيداً.

اقتربت منها وتابعت قائلة :

– اعتبريني بمكانة والدتك ، و انت الآن صرتي ابنتي.

ابتسمت ورد أنها وجدت من يساعدها ، ربما تعوضها عما رأت من عذاب منزل والدها ..

 

____

مرت الايام و السنين ..

اكملت ورد تعليمها و دخلت كلية الطب لتصبح طبيبة أطفال مشهورة.

 

كان حبها يزداد دائماً تجاه العجوز ؛ بل اعتبرتها بمثابة والدتها، لقد منّ الله عليها ببئر حنان بعدما كان أقصى امنياتها أن يتركوها وشأنها و لا يستمروا بتعذيبها.

دخلت العجوز الى غرفة ورد ووجدتها تجهز نفسها للخروج ، نظرت اليها ثم تابعت قائلة :

– هل ما زلت متمسكة بقرارك يا ابنتي ؟

اقتربت منها وامسكت يدها وقبلتها قائلة :

– نعم يا امي ، سأعود فوراً ، لا تقلقي.

– حسناً يا ابنتي ، لا تجعلي بالي ينشغل عليكِ.

 

أخذت ورد مفتاح السيارة و قبل أن تغادر التفتت اليها قائلة :

– قبل ان اغادر يا أمي ، هل انتِ راضية عني ؟

نظرت اليها بحنان قائلة :

– كل الرضي يا ابنتي.

 

غادرت ورد بسيارتها .. و في طريقها اخذت تتساءل عمّا ستراه و تسمعه ..لكن لا يهم ..

دخلت بسيارتها الى الحي و أخذت تنظر الى المكان حولها.. إنه نفس المكان بمنازله ، كانت تتذكر كل ذكرى لها في كل جانب بالقرية ، كم كانت ذكريات مؤلمة.

 

وصلت أخيراً الى منزل الحاج عبد القادر ، انتظرت قليلًا في السيارة وقلبها يدق بسرعة ، والاسئلة تتزاحم الى عقلها .

قاطعت تلك الاسئلة بخروجها من السيارة ، اقتربت من الباب و قدماها ترجوها بالرجوع ، دقت الباب و سمعت صوت امرأة ينادي :

– من بالباب ؟

فتحت لها امرأة غريبة لم تراها من قبل و أخذت تنظر الى ملابسها الأنيقة و نظارتها الشمسية و سيارتها الفاخرة ، بالطبع لم ترَ شخصاً انيقاً هكذا بالقرية من قبل.

نظرت لها باستغراب قائلة :

– بماذا اساعدك ، ايتها الشابة ؟

– هل هذا منزل الحاج عبد القادر ؟

– من انتِ ؟

– انا ابنته

– ورد ؟

– عفواً ، هل تعرفينني ؟!

– الجميع هنا يعرفون قصتك ، تفضلي بالدخول.

دخلت ورد واخذت تدور بنظرها بالمكان ، لم يتغير به سوى الاثاث و بعض الترتيبات به ، لكن له نفس الرائحة .

جلست ورد ثم التفتت اليها قائلة :

– حسناً ، من انتِ ؟ واين أبي ؟

– سأخبركِ كل شيء.

لقد اشتريتُ و زوجي هذا المنزل من اخوتك و زوجة ابيك ، قاطعتها قائلة :

– و كيف سمح أبي بذلك ؟ لقد كان متمسكاً به.

تنهدت بحزن و قالت :

– اباكِ قد ذاق المر ، لقد سمعت قصتك من اهل القرية ، قالوا انك بعدما هربت بأيام قليلة ، أمسك أباك زوجته مع اخيك الاكبر في وضع ليس جيد بغرفته. و قبل أن يفعل اباكِ شيئاً ، تكاثر عليه اخوتك و زوجته و جعلوه يتنازل عن كل ما يملك لهم بالقوة ، ثم طردوه من المنزل وباعوه لنا فيما بعد .

قاطعتها قائلة:

– و أين أبي الآن ، هل تعرفين مكانه ؟

– لقد اشفق عليه أهل القرية بعدما اصابه الجنون مما حدث ، و جعلوه يقيم بغرفة في الجوار.

 

وقفت مودعة المرأة و تباعدت خطواتها مقتربة من تلك الغرفة التي تشققت جدرانها بعدما كان يعيش كالملوك ببيته الكبير ,و حوله الاطفال يرددون مجنون مجنون و يضحكون عليه بعدما كان من يحيطه يمدح به.

ابتسمت بسخرية و قالت: سبحان مغير الاحوال.

دخلت الغرفة .. أرضيتها كانت متسخة و سقفها يبدو و كأنه سيهبط في أي وقت ، و في ركن الغرفة يجلس رجل شابَ شعره و وصلت لحيته الى صدره ، ملابسه متسخة .. كان جالساً دون فعل اي شيء سوى ترديد كلمات يبدو أنه رددها كثيراً حتى صار لسانه ينطقها تلقائياً..

كان يقول :

– أولادي ليسوا أولادي ، إنهم شياطين نعم شياطين ، و يستمر بالضحك.

أخذ يتحسس الحائط بيديه وهو يقول :

– أتذكرين عندما قلتِ أن الجميع سيتخلى عني ، لقد كنت محقة ..ثم التفت سريعاً نحو ورد واخذ ينادي .. من هناك ؟ من هناك ؟

اقتربت ورد منه و دموعها على خدها حتى جلست امامه, لكنه كان ينظر بعيداً و هو يردد من هناك و يتحسس وجهها ..لقد اصابه العمى من كثرة جلوسه بالظلام ، ابيضت عيناه تماماً.

ردت عليه قائلة :

– أنا عارك يا أبي ، أتذكرني ؟ انا ورد ابنتك.

اخذ يزحف بعيداً عنها قائلاً :

– ماذا هل عدتِ لتكملي ما فعله اخوتك ؟ كيف استمريت بالعيش هل اكملتِ عارك ؟

نزلت دموعها أكثر من كلماته و هي تنظر له ,ثم مسحت دموعها وتماسكت قائلة :

– سامحك الله يا أبي ، انا طبيبة اطفال الآن.

لم يتكلم بل أدار وجهه للحائط واخذ يكلمه من جديد .. غادرت ورد و معها اباها بالسيارة ، اخذته الى المستشفى لكي يتعالج من تلك الامراض التي اصابت جسده النحيل حتى وافته المنية..

في نفس يوم وفاته كانت ورد تجلس بجانبه ، طلب منها الاقتراب منه ، ثم اخذ يهمس لها قائلاً :

– سامحيني يا ابنتي على ما فعلته ، اعلم ان ما فعلته بك و بأخيك لا يغتفر ابداً ، لقد كانت أمك محقة وانا كنت جاهلاً يا ابنتي ، لقد كنت وقتها اعمى البصيرة و انا اعمى البصر والبصيرة ، تنهد قليلاً ثم تابع قائلاً :

– إن كنتُ قد قلتُ من قبل انك عاراً .. فأنت عار يشرفني يا ابنتي.

اختفت كلماته و اختفت معها أنفاسه معلنة رحيله ، رحيل ظالم كفرعون وكانت لهما نفس الحياة و الممات ، كانوا عبرة.

غطت وجهه ثم ابتعدت خطواتها قائلة :

– سامحك الله يا أبي.

 

____

علمت ورد فيما بعد أنه تم القبض على ذلك الساحر و امسكوه متلبساً و هو يحاول دفن فتاة بعدما لفتت صرخاتها انتباه أحدهم ، واعترف أنه كان يدفن الفتيات لخدمة الجن و بالمقابل ينجزون له أعمال ، و اعترف ايضاً ان زوجة أبيها هي من كانت تتوسط له عند اهالي الفتيات بحجة الزواج و بالمقابل تأخذ مبلغاً من المال.. و بعدما كان ينتهي من دفنهم يخبرهم أن بناتهم هربوا حتى يخلص نفسه.

و لأنهم في قرية تحكمها العادات و التقاليد كان السكوت هو الحل الوحيد أمامهم .. و الآن جاري البحث عن زوجة ابيها.

لقد شعرتْ أن المحكمة الالهية قد أصدرت قرارها و أعطت الابرياء حقوقهم ..لقد كان قراراً عادلاً ليس كمن يخربون في الارض .

حاولتْ كثيراً أن تبحث عن أخيها فارس و سألت عنه في جامعته ..

علمت أنه الآن صار مهندساً مشهوراً و أنه قد تزوج صديقته بالكلية و لديه الآن فتاتان ( ورد و شمس ) ، و ما أسعدها بالفعل أنها أبلغته في الهاتف بزيارتها له ..و هي الآن في طريقها اليه في السيارة لتقف امام منزله الفاخر الذي عُلقت عليه لافتة كتب عليها : منزل المهندس / فارس عبد القادر .

 

انتهت قصة الحاج عبد القادر و ما زالت هناك قصصاً كثيرة لأمثاله تعرض على شاشة الحياة ، هناك الآلاف بل الملايين ممن لا زالوا على اعتقاد أن الفتاة عار.. ربما يفوت الاوان مثل ما حدث مع الحاج عبد القادر ليعلم أن الفتاة إن كانت عار فهي….عار يشرف.

 

ملحوظة :

أنا شادوو – كاتبة القصة – أهتم في قصصي بأخذ فكرة سلبية ترسخت بعقول الناس و أثبت صحة عكس الفكرة، أو صحة فكرة يرفض اغلبنا التصديق بحقيقتها ..

هذا ما تناولته جميع قصصي..

دعونا لا نجعل القصص تقتصر فقط على مجرد تسلية للقارئ اجعلوها تضم فكرة تساعد البعض أو ربما تغير حياة شخص يقرأها.. لا تدري ربما تغير فكرتك حياة شخص ما كما غيرت حياتك فكرة.

مع تحياتي / شادوو  ومزيداً من الافكار في قصص قادمة.

تاريخ النشر : 2016-08-20

guest
51 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى