أدب الرعب والعام

المكالمة

بقلم : ​​​​​​​Maha – سلطنة عمان
للتواصل : ​​​​​​​[email protected]

آخر مكالمة وصلتني ليلة الأمس

أهلاً ..

اسمي الدكتور علي.. في الستينيات من عمري

أنا مشهور بخبرتي في الأمور الخارقة عن الطبيعة.. أو ما وراء الطبيعة.. تصلني كل يوم قضايا تتعلق بأمور خفية.. عندما لا تجد الناس أمراً جليّا في مشاكلها.. تلجأ إلي.. نعم.. هذا ما أصبح عليه عملي.. لا أنكر أن بعض القضايا كانت مثيرة للاهتمام؛ إلّا أن أغلبها أصبح نمطاً عاديا بالنسبة إلي.. كل يوم تُعاد نفس القصص تقريباً.. أليس هذا مملاً؟

عموماً.. ما أردت أن أخبرك إياه يتعلق ب..

تباً.. انطفأ المصباح مرة ثانية.. لحظة واحدة سأحاول إنارته..

نعم.. سأكمل..

ما أردت قوله يتعلق بمكالمة واحدة من بين كل المكالمات التي تلقيتها.. آخر مكالمة وصلتني ليلة الأمس..

نعم.. بدأ الأمر عندما كنت أجلس في المنزل كعادتي في الساعة الثانية عشر ليلاً.. ولطبيعة عملي فإن الاتصالات تكثر في ساعات الظلام ؛فالمخلوقات الخفيّة لا تنشط إلا في ساعات الليل, وأيضاً هو أكثر وقت يتصل فيه المصابون بالأرق ذوي الاضطرابات النفسية.. كما أن المخاوف تفيض بالليل أكثر مما تفيض بالنهار.. بالطبع تعرف ذلك.. 

لحظة.. إنها الأصوات مجدداً.. هذا أمر مزعج لمحبي الهدوء أليس كذلك؟.. سأكمل.. كنت قد انتهيت لتوّي من الاستحمام ..جلست على أريكتي وبدأت بملء كوبي بالقهوة.. وما إن امتلأ حتى رنّ الهاتف فجأة فانتفضت يدي بحركة لا إرادية وانسكبت قطرات من القهوة على ثيابي……فأمسكت بمنديل أمسح به وأنا غاضب ألعن الهاتف مائة مرة.. رفعت السماعة وقلت بغضب:

– نعم؟

– …

– ألو؟!.. من هناك؟

– ولماذا تصرخ؟

سؤاله هذا استفزني كثيراً, ولكن مالم أفهمه هو نبرة الهدوء البادية في صوته.. فأجبته

– من يتحدث معي؟

– أنت هو الدكتور الشهير صحيح؟

– نعم.. ولكن..

وقاطعني بقوله:

– جيد..

تعجّبت هنا بعض الشيء..ولكني تصرّفت معه بطبيعتي فقلت:

– إن كنت تعاني من مشكلة ما فكان عليك الاتصال بعيادتي لا برقم هاتفي, وهناك سيحدد لك السكرتير موعدك معي.. أنا لا ..

وهنا قاطعني مجدداً.. و لكنه قاطعني بضحكة لم تخرج عن سياق هدوءه.. فسألته مذهولاً:

– ما المضحك في الموضوع ؟!!

أجاب ولايزال يضحك:

– يا عزيزي.. أنا سفاح.. أتظن أنني سأتصل بعيادة مهترئة كي أحضر مواعيداً تافهة؟

وهنا تململت على كرسيي….فأجبت ساخراً:

– حقاً ؟.. و ما الذي يدفع سفاحاً عاقلاً إلى الاتصال و الاعتراف بنفسه.. أوو صحيح.. نسيت أنه لا يوجد سفاح عاقل.. فأنتم جميعكم مجانين في النهاية

أجاب والحنق بادٍ في نبرته:

– اسمعني جيداً.. أنا لم أتصل لأنصت إلى شخص تافه بإمكاني أن أسلخ جلده في خمس ثوان مثلك.. أنا اتصلت لأن هناك شيء يحدث.. شيء لا أفهمه.. ربما يفهمه رأسك الكبير

صمتّ قليلاً…وقلت بعدها:

– أنا أحذرك.. فأنا بإمكاني أن أكشف المتلاعبين حتى من نبرات أصواتهم.. فرأسي الكبير هذا أذكى مما تظن

قال بنفس النبرة:

– هذا جيد إذاً. إن كنت حقا "خبيرا" في الكشف عن المتلاعبين.. فأرجو أن تريحني من شكوكك التافهة التي تضيّع وقتي الثمين.

– جيد إذاً.. أخبرني أيها "السفاح الخطير".. ماهي قصتك

– نعم هذا جيد.. والآن أنصت و لا تقاطعني..

 

قبل أسبوع.. نهضت على شعور مريع.. شعور دائماً ما يلازمني قبل أن أخطف شخصاً ما.. اكتئاب لا يوصف.. و كأن شيئاً يصرخ في داخلي (إما أن أموت.. و إما أن أقتل من جديد)

– ههه لابد أنه اكتئاب ما بعد القتل

– أجل لا يهم.. استخدمت أحد أساليبي في استدراج الضحية و كانت فتاة يبدو أنها تدرس بالجامعة.. قيدتها ورميتها في القبو الذي اعتدت أن أحتجز ألعابي ..أقصد ضحاياي فيه.. نعم فأنا استمتع بتعذيبهم نفسياً ليوم كامل قبل كل شيء.. و لكن ما أثار حيرتي أنني لم أسمع لها صوتاً منذ أمسكت بها.. لذلك اعتقدت أنها بكماء و هذا أزعجني نوعا ما.. صحيح أن سماع صراخهم أثناء التعذيب يسبب الصداع أحياناً  ؛و لكنه من أهم الأمور التي تسبب لي المتعة..لكن أتتصور تعذيب فتاة بكماء؟ لا فرق بينه وبين قطع شجرة.

وهنا شعرت بنيران الغضب تأكلني.. فرددت بغيظ:

– يا لك من نذل.

قال ببرود:

– لا ترغمني على أن أجعلك زبوني التالي.

– هه تقصد قتلي.. وكيف ستجدني يا فهيم.

– أتظن أنني لا أعرف مكان عيادتك السخيفة؟.. يمكنني مشاهدتك في أي ليلة أشاء يا.. مالك السيارة الحمراء.

وهنا ازدردت ريقي و صمتّ لحظات ثم س.. ما هذا؟؟.. أوو إنه صوت ماء الحنفية ..انتظر قليلاً علي إغلاق الصنبور..

حسناً.. أين كنت؟ .. نعم.. سألته بدهشة:

– كيف عرفت.. أهاا.. إذاً أنت تراقبني في أوقات عملي.. أليس كذلك؟

– هه يمكنك قول هذا إن شئت.. اعذرني.. ولكن هذا لضمان عدم إخبارك لأي شخص آخر عني ؛ففي حال كنتَ غبياً وفعلت ..فلن يكون مصيرك سوى قبوي العتيق.

– أهاا.. هكذا إذا.. كل هذا كان مجرد تمثيلية.. لاستدراجي.

ضحك بصوتٍ عالٍ منافٍ لهدوئه المسبق.. وحين هدأ أجاب:

– لا يوجد شيء يجذبني إليك أيها العجوز.. إن أمثالك هم آخر ما قد يفكر به مجرم لعين في اختطافهم .. حتى صراخك يبدو إزعاجاً.

– سأعدّ هذا إطراءً.

– فقط أسدِ إلي خدمة وأعرني صمتك.. دعني أكمل القصة

عندما حلّ الظلام.. كنت تعباً جداً بعد أن خطفت تلك المعتوهة؛ لذلك خلدت إلى النوم سريعاً.. لكني ما كدت أنام حتى سمعت أصواتاً غريبة .. و أنا أقول لك أنها غريبة لأنها كانت تخرج من القبو حيث احتجزت ضحيتي الجديدة .. نهضتُ بسرعة وأمسكت بهاتفي كي يضيء في الظلمة.. اقتربت من القبو فبدا لي وكأنها تحدّث شخصاً آخر معها بالداخل.. نعم.. تلك الفتاة لم تكن بكماء.. ولكن ما حيّرني وأهلَكَ مضجعي هو أن تلك الأصوات كانت أصواتاً ضخمة لا تخرج من فتاة..

– بالتأكيد لم تجرؤ على الدخول صحيح؟

– ولا حتى أنت كنت ستجرؤ .. ولكني راقبتها من ثقب صغير.. وكانت هي .. هي من تصدر كل تلك الأصوات مع حركاتٍ غريبة لم أفقه منها شيء.. كانت تقول كلاماً مبهماً لم أفهم منه سوى عدة كلمات (يقتل.. ملعونة وفرصة)

– وماذا فعلت حينها.. هل أطلقت سراحها ؟

– ههههه.. يا لك من غبي.. لو كنتَ شخصاً عقلانياً لفكّرتَ بالطريقة نفسها التي فكرت أنا بها.

– وما هي هذه الطريقة؟

– فتاة ذكية بارعة في تقليد الأصوات تفعل كل هذه التمثيلية دفاعا عن نفسها لزرع الرعب في نفسي ومن ثم إطلاق سراحها.

– أنت لم تتصل لتقول لي مثل هذه القصة التافهة صحيح؟!

– و ماذا تحسبني؟ ..أنا لست أحمقا مثلك .. بالطبع لن أتصل من فراغ.

– في الحقيقة لو كنت مكانك لأطلقت سراحها.. صدقني هذا ليس غباءً أبدأ

– بالطبع ستفعل ذلك ؛ فعقلك لم يمتلئ إلا بالأمور الغريبة.. لذا لا تحدثني من منطلق (لو كنت مكانك)

– حسناً.. كما تريد و لكن ألم تفترض أنها مريضة نفسياً ربما؟

– كان احتمالاً ضعيفاً لا معنى له..  في اليوم التالي فعلت ما أفعله مع كل ضحية.

– لحظة أيها الحقير.. أتقصد من ناحية التعذيب أم من ناحية القتل؟

– أولاً.. لا تنسى أني أعرف أين يقبع مسكنك لذا نصيحة.. انتقي كلماتك معي

ثانياً.. بالنسبة لسؤالك (أكمل و بان أنه ابتسم في هذه اللحظة) فالاثنان معاً.

– أهاا.. ذكرني بالسبب الذي يجعلني أكمل المكالمة معك؟

قال بدهاء:

– ذكّرتك قبل قليل.. بعد قولي كلمة (أولاً) مباشرة.

(وهنا لا أنكر أنني مكثت أشتمه في قرارة نفسي من كل قلبي)

أردف بعدها:

– ولكن ما حدث بعد ذلك هو ما دفعني للاتصال.. بعد أ.. اللعنة..

وانقطع الاتصال فجأة.

لا أعرف ما الذي حصل بالضبط.. ولكني مكثت دقائق أنتظر حتى رنّ الهاتف مجدداً… فرفعت السماعة وكان هو فقال:

– لا تقلق.. فهذا أصبح شيئاً عادياً.

– تقصد انقطاع الخط؟

– أجل.. منذ أن قتلت تلك المعتوهة و أنا ألعن حياتي ألف مرة.. لم أرتح ليلي ولا نهاري.. بدأت أراها وكأني لم أقتلها..  أراها أحياناً خارج المنزل من النافذة.. أحياناً أراها تدخل القبو في الظلام.. وأحيانا أراها تأكل في المطبخ بشكل مرعب..  ليس هذا فقط.. الأبواب أصبحت تُفتَح وتُغلَق من تلقاء نفسها.. أسمع خطوات شخص يمشي ومع ذلك لا أحد.. الأثاث يتحرك فجأة لثواني ويتوقف فجأة.. الملابس المعلّقة تسقط أمامي.. الأسلاك تنفصل فجأة تماماً كما حصل للهاتف الآن

– هكذا إذاً

– أتعلم ما هو أسوء جزء في هذا الأمر ؟

– ماذا؟

– أرى نفسي أمامي

– جميعنا نرى أنفسنا

أخذ نفساً عميقاً وقال:

– غبائك بحد ذاته قصة مرعبة.. ما عنيته هو أنني أراني أمام عيني وكأنني انفصلتُ لجسدين.. ذات مرة دخلت المنزل ورأيت نفسي في لمح البصر وأنا أدخل غرفتي.. وحين دخلت الغرفة لم يكن هناك أحد.. والآن أيها الخبير ..عليك أن تجد لي تفسيراً وحلاً لهذا الجحيم ولا تقل لي أنني قتلت جنية أو شيطانة..لأن غبائك بدأ يغضبني.

– وهنا أخذت دقائق من الصمت لأفكر.. وقلت بعدها:

– بل أنت هو الغبي يا سفاحي العزيز واعذرني لصراحتي فكل الإشارات كانت واضحة تماماً

– ماذا تقصد؟

– أخبرتني أنها كانت تصدر أصواتاً ضخمة لا تصدر من فتاة ,وقلت أنك سمعتها تقول كلمات (يقتل والملعونة وفرصة)

– أفهمني بسرعة

– أنت لم تقتل شيطانة.. بل قتلت إنسية متلبّسةً بالشياطين.. فأنت وبفعلتك هذه أصبحت بالنسبة لهم بمثابة الشخص الذي قطع عليهم رزقهم.. ألا تعلم أن الشياطين يستمتعون بالتلبّس ويتخذون جسد المتلبِس مأوىً لهم ؛بل فندقاً يسكنون فيه ويرتعون.. فأنا فهمت من كلمتيْ (يقتل) و(الملعونة) أنهم كانوا يتحدثون عنك بأنك ستقتل الملعونة.. ويقصدون الفتاة نفسها بكلمة الملعونة

– هراء.. لو كانت مسكونة بالشياطين لاستطاعوا قتلي قبل أن أقتل مسكنهم كما تقول

– لا يا عزيزي.. إن الشياطين لا تستطيع أذية غيرها من دون أن تتلبّس فيه فلو كان الأمر كما تقول لهُلِكنا جميعنا منذ زمن… أوليست هي عدونا اللدود؟.. أقصى ما تستطيع فعله هو الوسوسة وحسب

صمت قليلاً ثم قال:

– وماذا عن كلمة فرصة؟

– أظن أنها كانت تقصد فرصة للدخول فيك.. أن تجد فرصةً للظروف المثالية حتى تسكنك, وأظن أنها فعلت بالفعل فعلتها من خلال إخافتك بكل تلك الأمور التي حصلت معك..

– أتقصد أنني متلبّس بالشياطين؟!

– يبدو ذلك.. ولكني أحذرك.. قد تتجاوز غايتها في الحصول على جسد جديد إلى رغبة الانتقام.. لم أخبركَ أنها تستمتع بالقتل بعد وقتٍ طويل من تعذيبك نفسياً.. أجل.. قد تكون كل تلك الأمور المرعبة مجرد تهيئة نفسية.. يا إلهي.. ألا تذكرك بسلوك شخصٍ ما؟

وهنا سمعتُ صوت شيء يسقط على الأرض.. وسمعته يقول:

– ما الذي تقوله (صوت ضجيج) أنا لا (تشويش) لا ت (أصوات غريبة) لا لا لا(يصرخ)..

– ألو؟!

– (صوت حشرجة.. ثم سكون تام)..

بعدها سمعت صوت أنفاسٍ عميقة.. فسألت بسرعة:

– ماذا يحدث؟!

– وهنا تحدّثت أصواتٌ ثخينة في نفس الوقت:

– إذاً استطعت حل اللغز.. ها؟.. لم نتوقع منك أن تكون ذكياً لهذه الدرجة

وهنا بلعت ريقي وفكّرت في إغلاق السماعة.. وحين أنزلتها من أذني.. سمعت الصوت يقول:

– لا لا تفكر في الأمر

– ماذا تريد؟

–  ماذا نريد ! أخبرنا يا دكتور.. أتعلم ما فائدة كاميرا المراقبة المعلّقة خلفك ؟

(نظرت إلى الكاميرا المقصودة) ثم أردفتْ تلك الأصوات تقول:

– إنها ترى كل شيء يحدث بالمكان, وترى أموراً في الوقت الذي لا يمكنك رؤيتها يا عزيزي

رميت السمّاعة بسرعة وركضت في السلم إلى الطابق الأعلى قاصداً غرفة كاميرات المراقبة.. و حين وجدت الشاشة المخصصة لكاميرا الغرفة التي كنت أجلس فيها.. صدِمتُ لدرجة أنني لم أستطع الحراك ؛فقد رأيت نفسي أجلس على كرسيي في جمود.. وكأني لم أنهض منه قبل قليل.. وكأني انفصلت لجسدين !

 

______________________________

 

والآن يا عزيزي..  هل عرفت سبب انطفاء المصباح في البداية و مصدر تلك الأصوات وذلك الضجيج؟ و من كان يفتح صنبور المياه طيلة ذلك الوقت ؟؟!

نعم..  أصبحوا ضيوفي منذ الأمس.. على الأقل نادرون هم من تسنح لهم فرصة استضافة الشياطين أليس كذلك؟

أوو.. انطفأ المصباح ثانية..

تاريخ النشر : 2016-08-25

maha

سلطنة عمان
guest
35 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى