أدب الرعب والعام

العشق المظلوم – الجزء الأول

بقلم : شيطانة منتصف الليل – كوكب الظلام

العشق المظلوم - الجزء الأول
لقد كان جداً طبيعي ، وجدته كعادته مستيقظ لكنه كان ينظر إلى النافذة

أحببت أن أسطر بقلمي روايتي … قصة حياة مؤلمة أخفيتها بقلبي ، لكني بدأت أشعر أن نهايتي جداً اقتربت ، لذلك قررت أن أدوّن الآن قصة حبي التي تحولت إلى ألم و معاناة …
أردت كتابتها لتكون عبرة للعاشقين و للخائنين ، ليعرفوا أن هناك حب صادق ينبع من أرواح نقية .. قالوا لا يوجد حب صادق في هذا الزمان ، و أنا أقول يوجد .. إنه موجود بداخل قلوبنا

* * * * *
بدأت حكايتي عند عملي في مشفى الأمراض العقلية الأكثر شهرة في ” تركيا ” ، إنه مشفى يحوي المئات من المختلين عقلياً بجميع أنواع مرضهم ، لا يخرجون إلا بعد أن يعودوا أشخاصاً عاقلين يستطيعون الاندماج بالمجتمع ، كانت ” مشفى الرحمة ” معروفة كثيراً بأطبائها المتميزين ، و فيها كل التجهيزات و وسائل الراحة و غيرها الكثير الذي توفره للمرضى.

بدأت أول أسبوعي بالعمل ، كنت جداً انطوائية ، لطالما كرهت مخالطة البشر و عشقت الوحدة ، حاول الكثيرون التقرب إلي لكنني منعتهم من دخول عالمي الخاص ، كنت أستمتع بكم الهدوء الذي أحصل عليه عندما أجلس وحيدة ، كنت أعمل بكل جهدي و أحياناً عندما أقوم بالمرور من أمام غرفةٍ ما كان الأطباء يخرجون و يقولون : لا فائدة من هذا المريض ، لم يبقى حل سوى إعطائه إبرة الرحمة ؟
لطالما كنت أتسائل .. من هذا المريض الذي لا يمكن شفائه أبداً !!

إلى أن جاء يوم كنت جالسة فيه مع الممرضين ليأتي إلي طبيب ، إنه ” د. رامون ” هو إنسان جد مجتهد و طموح هكذا كنت أراه ، و كنت أسمع أنه لم يبقَ مريضاً إلا و ساعده حتى تحسن أغلب المرضى و خرجوا من هنا .
أخذني عند زاوية و باشر بالقول :
– من الآن و صاعداً سوف تكونين مشرفة على المريض في الغرفة رقم (37) ، أنتِ أثبتِ أنك جداً مجتهدة ، و أكيد تستطيعين تحمل مسؤوليته ، سأعطيك تعليمات لكي تتبعيها عند وصولنا و يجب أن تطبقيها بالحرف الواحد .

مشينا إلى أن وصلنا إلى غرفة المريض الذي لطالما أثار فضولي..!! فتح باب الغرفة لأدخل و أرى منظراً ضد الإنسانية تماماً ، لقد وجدت فيها شاباً مقيداً بسلاسل تمنعه منعاً باتاً من الحركة ، و هناك كمامة من حديد توضع على فمه ، هذا المنظر أفجعني ، ركضت نحوه و جلست عنده … ماذا أقول الشاب حتى لا يتحرك و يوحي منظره بأنه ميت .

عندها أتى إلي “د. رامون” و تكلم معي بكل حزم :
– اسمعيني جيداً ” جوهرة ” ، هذا المريض جداً خطير ، إنه يدَّعي أنه مسالم لكنه ليس كذلك ، أنا سأتقاعد قريباً و وثقت بك و سأجعلك تشرفين عليه ، اتبعي التعليمات بكل حذافيرها و إلا ..
– و إلا ماذا ؟؟ إنه إنسان تعاملونه هكذا لمجرد أنه مريض أو عقله مختل ؟! ما بالكم .. أليست هذه مشفى الرحمة كما تقولون أين الرحمة إذا !!
– أنت لا تفهمين ، إنه يختلف كثيراً عن باقي المرضى ، نحن نريد مساعدته لكنه لا يساعد نفسه لكي يشفى ، لا نعرف عنه سوى أن اسمه ” أسد” ، لا نعرف إن كانت لديه عائلة أو حتى لديه معارف ، لو لم نكن نريد مساعدته لكنا قتلناه منذ زمن .

استمعت لكلامه و الغضب يملؤني جداً ، كانت الدموع واقفةً على طرف عيني أكمل قائلاً :
– سأجعلك تهتمين به و سيكون د . جان هو الطبيب الذي سوف يشرف على علاجه .
– لن أتقيد بالتعليمات ، فمهما كانت شدة مرضه يبقى إنسان أكيد هناك ألف طريقة لجعله يتحسن .
– اسمعي يا جوهرة ، لا تدعي العواطف تحكمك ، سوف تتقيدين بالـ…
قاطعته بكل غضب :
– لن ألتزم بالقوانين ، إنه تحت إشرافي و أنا ممرضته الآن .
– طيب .. إفعلي ما تريدين يا جوهرة ، لكن أؤكد أنك سوف تندمين أشد الندم .

رحل و تركني خلفه ، عندها كان المريض الذي يدعى أسد قد أفاق ، كان ينظر إلي بثبات ، لم أعرف ماذا أفعل ! هل أتقيد بالقوانين أم اخرقها ؟ ثم حزمت أمري و فتحت وثاقه رويداً رويداً .. كان الشاب جدا هادئ ، لم يبدي أي ردة فعل ، كان وسيماً ، لم يبدو عليه أنه مجنون أو مختل ، بل بدا من نظرات عينيه أنه جداً حكيم و عقله رزين ، كانت عينيه عسليتين بلون شعره و ملامحه حادة جداً ، تلك العينين حدقت بهما لدقيقة فشعرت كأنني أغرق بهما … كأنني أعرف هذة النظرات ، إنها نظرات قاسية تمتزج بالحنان ..

هدوء الشاب جعلني أساعده على الوقوف ، إنه طويل القامة كالمارد و ضخم ، أجلسته على سريره و تكلمت معه بهدوء ، لم أفك وثاق يديه ، كانت نظراته الثابتة إلى عيني تجعلني أقلق منه ، دخل د. جان و قد تفاجأ من كون المريض غير مربوط كما سمع
– ماذا يحدث ؟ هذا المريض خطير و ملفه يوضح ذلك ، كيف فتحت وثاقه ؟! يجب علينا الالتزام بالتعليمات التي تركها د. رامون .
– لا داعي .. ألا ترى أنه هادئ ؟ هناك فرص كثيرة لعلاجه ، يجب علينا ترك التعليمات ، نحن نتعامل مع إنسان و ليس حيوان ، إنه مسالم و أنا سأتكفل به ، و إن حدث خطأ أو أي سوء عاقبة سوف أتحمل مسؤوليته .

من وقتها بدأ منعطف جديد بحياتي .. من هذة النقطة بالتحديد ابتدأت أشق طريقي بين الصعاب …

* * * * *
بدأت أهتم بـ” أسد” إنه مريض هادئ جداً ، كنت أتفاجأ من الأطباء و الممرضين اللذين يسألوني بتعجب : كيف استطعت جعله يصبح هادئاً هكذا .. كيف جعلته يتصرف بلا وحشية من دون الحاجة لأدوية ؟ كنت أتفاجأ من هؤلاء الناس ، و كأنهم لا يتكلمون عن إنسان مثلهم بل كأنهم يتكلمون عن حيوان مفترس يصعب ترويضه !!

و فعلاً كان يصعب على الآخرين التعامل معه ، فقد دخلت عليه مرة بعد أن سمعت صراخ الممرضة ، كان كل شيء بالغرفة محطم ، و ذلك كله بسبب أنها أرادت إعطاءه الدواء ، عندما يقترب منه الأطباء يتصرف بوحشية ، رأيته بعيني و قد هجم على طبيب و أبرحه ضرباً و عندما تدخل الأمن زادت عصبيته ، كان حقاً اسماً على مسمى ، خفت منه وقتها و عندما دخلت إلى غرفته وجدته مربوطاً ، كنت أخشى الاقتراب منه ، خاصة أنه يراقبني بنظرات ثابتة ، تجرأت و أزلت الكمامة عن فمه لأراه هادئاً تماماً ، كنت أتحدث إليه بكل حنان ، و أقنعته أنني لست عدوة بل صديقة ، لم أجبره على أخذ أدويته ، كنت أشعر بأننا نتشابه بشيءٍ ما ، لكن لم أعرف ما هو ! قلبي كان يتكسر و يتقطع على هذا المريض ، أنا الوحيدة التي يتعامل معها بهدوء .

قررت ذات يوم أن أجازف و أفتح يديه لأرى ردة فعله ، جعلت الأمن يقفون على الباب و كاميرات المراقبة مفتوحة ، اقتربت منه بكل هدوء و فككت قيود يديه و ابتعدت عنه قليلاً ، بدا يحرك يديه بكل بطء ، عندها اقتربت منه و أعطيته أدويته ، ابقيته محلول الوثاق لأيام ، و تحديداً بعد أسبوع عادت يداه إلى الحركة ، كان لا يفعل أي شيء سوى التزام الصمت ، لم يؤذني يوماً أو حتى فكر بذلك .. بل أصبح شديد التعلق بي ، كلما أدخل لغرفته أراه جالساً ينتظرني .

لا يثق بأي ممرضة غيري ، شعرت بالحنان تجاهه و كأنني أتعامل مع طفل ، تغير سلوكه للأفضل أصبح يتعامل بهدوء حتى مع البقية ، و بدأ الأطباء بمعالجته ، كانوا يقيمون معه جلسات لكي يتحدث لكنه كان دائماً صامت ، جلبوا له ورقة ووقلم و لكنه لم يكتب ، ظن الأطباء أنه ربما أمي و أنه أخرس لكن مع ذلك حاولوا كثيراً و لم يتحدث أبداً .

أتذكرها جيداً ، كانت النقطة لابتداء كل شيء .. تأخرت قليلاً عن الذهاب للمشفى ، فوصلت بحدود الثامنة و النصف و أنا بالعادة أتواجد في السابعة ، عند صعودي سمعت بالخارج إطلاق نار ، لم أكترث .. صعدت لأرى ” أسد ” في حالة جنونية ، كان يصرخ باسمي !! لم أستوعب الأمر ، رجال الأمن كانوا يمسكون به و لم يستطيعوا السيطرة عليه أبداً ، كان جداً قوي .. عندما رآني زاد هيجانه و أراد التقدم ناحيتي ، خفت من الاقتراب أكثر ، عندها صعقه أحد رجال الشرطة صعقه جعلته يصرخ بأعلى صوته ، ركضت ناحيته بعد أن فقد وعيه و أبعدت الكل عنه و أخذته لغرفته و أنا أبكي ، كانت دموعي لا تتوقف عن التساقط و عندما استفسرت عما حصل قالت زميلتي الممرضة ” سونيا ” :
– لقد كان جداً طبيعي ، وجدته كعادته مستيقظ لكنه كان ينظر إلى النافذة ، تقدمت نحوه ببطء و ما إن استدار حتى ظل ينظر إلي لبرهة و فاجأني كثيراً عندما تحدث إلي ، قال بالحرف الواحد
– أين جوهرة ؟؟ فأجبته : لا أعرف لم تأتي بعد .. عندها عاد لصمته ، أعطيته طعامه بحدود الثامنة إلا ربع و قلت له :
– تعال أنزلك إلى الحديقة ريثما تأتي جوهرة .. جاء معي بكل هدوء و ما إن نزلنا إلى الطابق الثاني قادمة ابتسم و حاول إسراع الخطى ، لكن عند سماعه لإطلاق النار فجأة هاج و أصبح متوحش ، نزل ركضاً إلى الطابق الثالث حيث أمسكه الأمن و الكل قال بأنه كان يصرخ بإسمك باستمرار … ثم عندما رآك بدأ يصرخ أكثر و زاد هيجانه مما أثار استغراب الأطباء و قد قال الطبيب جان :
– يبدو أن المريض أسد قد تعلق كثيراً بالممرضة جوهرة ، و هي سبيلنا الوحيد لإخراجه من هذه الحالة ، لكن يجب أن نعرف أولاً لماذا يعاني من رهاب و اهتياج عند سماع صوت إطلاق نار !

شكرت سونيا و ذهبت إلى غرفة أسد لأراه مستيقظاً ، لكنه لم يتكلم معي بل اكتفى بالصمت ، و كان ينظر إلي بسعادة . أخذته إلى الحديقة و كان معي أربعة أطباء إضافةً لسونيا و الحرس .. قررنا القيام بتجربة بسيطة ، وقفت أنا أمامه و أطلق واحد من الحراس النار سبع طلقات ناحية الأعلى و لكن أسد لم يبدِ أي ردة فعل ، عندها استعانوا بممرضة أخرى و أنا ذهبت إلى مكان قريب بحجة أن أجلب شيئاً ما ، و كان معي أحد الحراس ، لاحظت أن نظرات أسد كانت تتبعني حيث كان يراقبني إلى أن اختفيت عن أنظاره ، قام الحارس الذي معي بإطلاق النار ، عندها سمعت جلبة كبيرة جداً ، عدت لأجد أسد و قد دخل في حالة هيجان كبيرة ازدادت عندما رآني ، عندها أمر الطبيب جان الحراس أن يتركوه فانطلق ناحيتي ..

وقفت في مكاني و أنا متجمدة من الخوف ، اقترب مني كثيراً و ضمني إلى صدره بقوة ، بقي هكذا لفترة طويلة إلى أن هدأ و جلس على الارض ، عندها عرفت أنه يحبني كثيراً !! أخذته إلى غرفته و بقيت معه إلى أن استسلم للنوم .

ناقش الأطباء حالته و قالوا أنه يعاني هذه الحالة بظروف خاصة و قال ” د . داود ” :
– أرى أن هذا المريض لشدة تعلقه بالممرضه يبدو أنه يخشى عليها من الخطر .
فرد عليه د. رامون :
– أرى أنه ربما فقد شخص عزيزاً على قلبه بسبب حادثٍ ما ، و هذا ما جعل حالة الهيجان تجتاحه ، نظر إلي و أكمل …
أنا كنت جداً مخطئاً عند وضعي لتعليمات قاسية ، كنت محقة يا جوهرة ، مهما ما فعل يبقى إنسان .. إن كنت تريدين علاجه سوف تبقين معنا حتى يتعافى و يخرج من حالة الصدمة ..
اكمل عنه “د داود ”
– أرى أنه يجب أن تبقى هذه الممرضة بقربه دائماً ، و تحاشوا جعله يسمع أي صوت إطلاق نار .

خرجت من الغرفة و أنا كلي أمل أن أنقذه ، توجهت إلى غرفته و وجدته جالساً عند الشرفة جلست بجانبه ليفاجئني و يبادر بالكلام !! و عندها عرفت الحقيقة .

يـتبع …

تاريخ النشر : 2016-09-21

guest
50 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى