أدب الرعب والعام

الرجل العائد من الموت (2)

بقلم : جوهر الجزائر – الجزائر

الرجل العائد من الموت (2)
حكم على صالح بالنفي مدى الحياة في إحدى الجزر النائية في أمريكا التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي في تلك الفترة.

قضى “صالح” أسبوعين كاملين في مقر الشرطة خضع خلالهما لكل أنواع التعذيب و الاستجواب حتى يعترف بما لفقه الضابط “يوسف” له و لكنه صمد فما كان من الضابط و مساعديه سوى تزوير اعتراف الشاب الذي حكم عليه بالنفي مدى الحياة في إحدى الجزر النائية في أمريكا التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي في تلك الفترة.

و نقل “صالح” رفقة مجموعة كبيرة من المساجين معظمهم من المقاومين و المناضلين ضد الوجود الفرنسي في الجزائر إلى أحد المعتقلات الفرنسية في تونس ريثما ينقل إلى منفاه في النصف الثاني من الكرة الأرضية.

في هذه الأثناء وضعت “سلمى” مولودها ، كان صبياً شديد الشبه بوالده، اختارت له اسم “نور الدين” تيمنا باسم ابن الحاج “عبد الرحمن” كما كانت رغبة “صالح”.

مرت الأيام الأولى في السجن عصيبة و طويلة على “صالح”، فقد أصيب بالأرق و الغبن و قضى لياليه في التفكير في زوجته و طفله الذي لم يره و قد لا يمنحه القدر فرصة لرؤيته، كان يراهما كل ليلة في أحلامه و قد اجتمع شملهم في قريته الصغيرة ..كان يكتب الرسائل الواحدة تلو الأخرى و لكن ما من رد .

اقترب موعد نقل المساجين إلى منفاهم، و اصطف الجميع يحملون أوعيتهم لنيل حصتهم من طعام الغداء، و انتشروا في أرجاء الباحة يتناولونه و همّ “صالح” بتناول أول لقمة عندما تصاعدت صرخات السجناء المتوجعة و هم يتلون من الألم. لقد قامت إدارة المعتقل بتسميم الطعام لكي تتخلص من أكبر عدد من السجناء نظراً لأن عددهم يفوق سعة الباخرة التي ستنقلهم إلى منفاهم بمرات…

انقبضت ملامحنا جميعاً و نحن نتابع ما تقصّه جدتي، لم نصدق ما كانت تسمعه أذاننا عن وحشية المستعمر و جرائمه الشنيعة في حق مواطني المستعمرات.

لم أتمالك نفسي فعلقت قائلة:

– و لكن يا جدتي ما داموا سيقتلونهم في النهاية، فلماذا لم يحكموا عليهم بالإعدام منذ البداية بدل أن يسمموهم؟

– لأنهم يا عزيزتي يتظاهرون بالإنسانية و يخففون حكم الإعدام إلى النفي في العلن و لكنهم في الخفاء يقتلوننا بدم بارد، كما أنهم يعلمون بأننا لا نخشى الموت في سبيل الوطن بل إن الموت في سبيله شرف و شهادة يبقى وسام على صدر صاحبه مدى الدهر، و هم يريدون لنا العذاب لا الشرف، و النفي يحقق لهم ذلك ، يعذبون المنفيين بأملهم المهووس في العودة إلى الوطن، يقتلونهم بالانتظار و الرجاء و الحنين للأهل و الأحباب..

لنعد إلى قصتنا، كما قلت لكما سابقا لقد نجا “صالح” من الموت بأعجوبة، و نقل في من نقلوا إلى منفاهم في الجزيرة النائية، كان يجب عليه أن يقضي فترة عقوبة ل3 سنوات في السجن قابلة للتمديد في حالة محاولة الفرار، ثم عند خروجه من المعتقل سيجد نفسه مجبراً على الاندماج في المجموعة الصغيرة التي اتخذت من المنفى وطنا جديداً لها، هكذا أخبره شيخ المساجين “عبد الحق” الذي قضى عقوبة امتدت ل29 سنة كاملة نظراً لمحاولته الهروب لمرات عديدة.

بعد أن رحل “صالح” ظن “يوسف” بأن الفرصة مناسبة لاستعادة “سلمى” و لو غصباً، و لكنها رفضت و قاومت تهديداته الكثيرة، فنسج حيلة جهنمية و زور شهادة وفاة “صالح” و برقية من المعتقل تفيد بأن السجين قد توفي أثناء نقله لمنفاه و تم دفنه، و أرسلها إلى منزل الحاج “عبد الرحمان” أين تقطن “سلمى”.

وقع الخبر على “سلمى” كالصاعقة، فقد كانت تمني النفس بأمل عودة زوجها و لو بعد سنين ، أمل ضعيف و لكنه كاف لإعطائها القوة و الجلد لانتظاره، أما الآن و بعد رحيله الأبدي، فقد باتت لقمة سائغة لليأس و للضابط “يوسف” الذي لن يدعها في حالها و سيستعمل كل وسائله لإخضاعها لرغباته.

و لم يكن أمامها من حل سوى الزواج ، من أجل مصلحة ابنها الرضيع و حمايته و حماية نفسها من مكائد الضابط المجنون. فوافقت على اقتراح الحاج “عبد الرحمن” و تزوجت “حسين” ابن عمها الذي فقد زوجته مؤخراً بسبب مضاعفات الولادة. و انتقل الاثنان للعيش في مدينة بعيدة عن العاصمة في أحد منازل الحاج “عبد الرحمن”.

انقضت عقوبة “صالح” في المعتقل و أفرج عنه، و انتقل للعيش رفقة أحد السجناء التونسيين الذي نشأت بينهما علاقة صداقة قوية في أحد الأكواخ الخشبية المنتشرة في الجزيرة. و لكنه لم يستطع كغيره نسيان وطنه و زوجته و طفله و أمه، و رفض اقتراحات الجميع بالزواج و الاندماج في مجتمع المنفى. كيف يقبل بذلك و هو ينام و يصحو على حلم واحد : عودته إلى بلده و يتحين لذلك كل الفرص الممكنة. حتى أنه قد انخرط في نادي الجزيرة للملاكمة لما علم بأن الفائز يغادر لخوض المباراة النهائية في مدينة “باريس” و كان يعلم بأنه متى ما وصل إليها فإنه سيعود إلى وطنه و إن كلفه الأمر السباحة طوال المسافة الفاصلة بين فرنسا و الجزائر.

حلم العودة إلى الوطن منع “صالح” من رؤية الحب و التعلق في نظرات “ماريا” إحدى الفتيات الفرنسيات التي تعمل كممرضة في الجزيرة، أو لعله أدركه و لكن حنينه و حبه ل”سلمى” منعه. و لكن هذا الحب و هذا الحلم هو ما دفعه للانتصار في كل نزالاته المحلية و لكنه للأسف تعرض للضرب من قبل المرابين الذين أرادوه أن يخسر أمام منافسه مقابل نصيب من الأرباح ، و لأن العودة إلى بلده هي الغاية الأسمى فإنه رفض عرضهم المغري، و عندها قاموا بضربه و افقاده وعيه و كسر أصابع يديه لمنعه من المشاركة في النزال.

عندما أفاق “صالح” من إغمائه كان قد خسر المقابلة، و لم تجدي احتجاجاته و لا صراخه نفعاً ، فقد سحب و حبس في زنزانة انفرادية ، أين قضى الليلة قبل أن يعود للمنفى.

مسحت أختي دمعة ترقرقت في عينيها و قالت بأسف:

– يا له من مسكين، لقد عانى الكثير في سبيل الرجوع إلى موطنه لابد من أنه قد فقد الأمل بسبب هذه الحادثة

هزت جدتي رأسها موافقة و واصلت روايتها:

– بلى لقد حطمت هذه الواقعة أماله بالعودة و رقد طريح الفراش لأيام يعاني من الحمى و الهذيان، و كانت تلك فرصة ل”ماريا” استغلتها كما يجب للتقرب منه فتزوجها بعد أشهر قليلة و حاول أن ينسى ما كان و يندمج.

و لكنه كان عاجزاً عن نسيان الوطن و الزوجة، لم يعد يتحدث عنهما و لكنهما كانا جليين في نظرات عينه الكسيرة في صوته المرتعش و في دموع عينيه كل ليلة.

ساعد الزواج “صالح” على التخلص من الأرق الذي رافقه في سنواته الخمس في السجن و المنفى و لكنه لم ينسه “سلمى” و طفله و الجزائر، كان مجرد رماد ثرى على جروحه الأبدية.

كان قد مر على رحيل “صالح” عشر سنوات كاملة، أنجبت خلالها “سلمى” فتاة ثانية من زوجها “حسين” فيما كان “صالح” ينتظر طفلاً من زوجته “ماريا” و كان الربيع قد ألقى حلته البهية على الجزيرة ذات الطبيعة الخلابة فخرجت زوجة “صالح” الحامل لتجمع بعض الفطر لتحضير الطعام، و بينما هي تتجول في الغابة، صدمت لمشهد شيخ المساجين “عبد الحق” المتدلي من شجرة ضخمة بعد أن وضع حدا لحياته عندما فقد الأمل بالعودة إلى موطنه بعد 39 سنة من النفي غادر فيها معظم المنفيين الجزيرة. صرخت “ماريا” و وقعت مغشياً عليها، فركض زوجها و صديقه عندما سمعا صوتها ليعرفا ما حصل معها.

يتبع …

تاريخ النشر : 2016-09-29

guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى