أدب الرعب والعام

عبد الله و محكمة الجن

بقلم : هنادي – المغرب

عبد الله و محكمة الجن
استيقظت و وجدت نفسي أمام محكمة الجن
التفت الرجل وراءه و هو يلهث و صوته المنقطع ينبثق من فمه بصعوبة واضحة مردداً : من أنـ .. ـتِ ، من أنتِ ، ماذا تريدين ؟؟
هذه آخر كلماته قبل أن يفقد الوعي ، أو بالأحرى أن يدخل غيبوبة استمرت عامين ، هذه المدة بأكملها قضاها في عالمٍ آخر ، هذا ما أخبر به زوجته خديجة عندما استيقظ من سباته الطويل .

عاد للحياة يوم 9 أبريل ، و يا للصدفة نفس التاريخ الذي دخل فيه بالغيبوبة اللعينة هكذا كان يسميها ، وجدته الممرضة متكوراً فوق سريره و قد نزع الأجهزة المتصلة بجسده ، و بسرعة اتصلت بالطبيب المكلف بحالته و الذي جاء متفاخراً كأنه المنقذ المخلص .

قام بفحصه و طلب من الممرضة أن تتصل بزوجته و تبشرها بالخبر ..
دخلت خديجة عند زوجها و أخيراً بكت دموع فرح هذه المرة ، ما إن دخلت غرفته حتى قام من سريره بخفة كأنه لم يكن مريضاً طوال هذه المدة و عانقها و قبل يديها و سألها عن ابنه عثمان .. لماذا لم يرافقها ؟! بدت على وجهها الدهشة و قالت بصوت مبحوح ألا تتذكر ماذا حدث ؟
سكت و أخذ يفكر .. لعله يتذكر
أخذت ذاكرته تعود إلى التاسع من أبريل .. في الغابة كان يركض خائفاً و ممسكاً يد ابنه ، و المرأة الملثمة و راءهما تركض ، لا .. بل تطير و تصرخ بشدة !!

و فجأة سحبت ابنه من يديه و ارتمت عليه كالوحش الكاسر ، قضمت أذنه و الابن متسمر لا يصرخ و عينيه اختفى منهما السواد ، أخذ منجلاً كان بحوزته بغرض إحضار الحطب و ضربها به ، لكنها دفعته بعيداً و ارتطم رأسه بشجرة و فقد الوعي …

خديجة : لقد عثر جارنا محمد على عثمان مقتولاً و الطبيب أخبرنا بأن الذئاب هاجمته ، و لحسن الحظ أنك نجوت ، أنت أملي الوحيد في الحياة ، الحمد لله على نجاتك .

نسيت أن أخبركم بأن الرجل اسمه عبد الله .

عبد الله بدأ يبكي بشدة على كتف زوجته ، و همس في أذنها مات ثمرة حبنا .. البقاء لله و الحمد لله ، آه يا خديجة لو تعلمين ما الذي مررت به ، لقد اعتقدت بأني لن أراك مرةً ثانية ، فقدت الأمل لكن رحمة الله واسعة ، سأخبرك أين كنت يا حبيبتي في المنزل .
خديجة : سأسأل الطببب إن كان بإمكانك الخروج اليوم .

عادت خديجة إلى الغرفة و بيدها إذن الخروج و ذهبا إلى المنزل الذي لم يخلُ من الأحباب و الأصحاب قد أتوا ليهنئوا عبدالله و يفرحوا بعودته ، و لم تتسنى له فرصة إخبار زوجته أين كان كل هذه المدة و ماذا حدث لابنه ، إلا بعد أسبوع و تحديداً بعد صلاة الفجر حيث عاد إلى بيته و وجد خديجة تقرأ القرآن ، انتظرها حتى انتهت و قبَّل رأسها و قال لها :

أريد أن أقص عليكِ ماذا وقع ليلة الحادث الشنيع ، أرجوك لا ترتعبي فالحمد لله لقد انتهت المعاناة إلى الأبد و أعدك بأني سأعوضك عما وقع ، استمعي الآن إلي و لا تقاطعيني كعادتك ، أمسك بيديها و نظر نظرة عميقة و تنهد و استرسل في الكلام :

ليلتها كنت أنا و عثمان رحمه الله نلعب رمي الحجارة على سطح النهر بعدما جمعنا كومة من الحطب ، استمرينا في اللعب و كنت أرمي حجارتي قريبة عمداً ، كي يفرح فلذة كبدي برميها بعيداً ، آه .. كان فخوراً بنفسه حينها و أخذ يغيظني و أنا أضحك ، يا له من طفل مشاكس ، و بعد برهة سمعنا خطوات مسرعة تتجه نحونا ، التفت عثمان و صرخ وحش .. وحش ، التفت ورائي و شاهدت منظراً لا يستطيع عقل بشر أن يستوعبه ، امرأة ملثمة طويلة القامة لا بل عملاقة ، عيناها حمراوتان كالنار ، ماسكة بيدها جسد طفلٍ ضخم و رأسه مهشم .

وقفت و أمسكتُ بيد عثمان فصرخت صرخة مدوية ، أقسم أن الأشجار تحركت و ماء النهر صعد إلى الأفق ، و قالت :
لماذا قتلتموه ؟ “صنديع” ابني قتلتموه ، ستحل عليكم لعنتي إلى الأبد .
أخذت أركض أنا و عثمان و هي وراءنا ، كانت سريعة جداً ، تارة تطير و تارة تركض كالسباع ، فجأة سحبت ابني من يدي و انقضت عليه و أنا أترجاها .. خذيني بدلاً عنه ، لكنها لم تعرني اهتماماً ، أخذتُ المنجل و ضربتها فدفعتني بعيداً و بعدها لم أعد أرى إلا الظلام …

استيقظت و أنا مكبل الأيدي و الأرجل في قفص صغير جداً و جماعة من الأشكال الغريبة عمالقة ، أقزام و إنسان برأس حمار …. يقتادونني نحو مجلس كالمحكمة ، القاضي غريب الهيئة و وجهه أصغر من جسمه بكثير ، و لحيته طويلة و تغزوها كائنات صغيرة ، أخذ يوجه لي كلاماً بلغة غير مفهومة ، و بعد برهة تكلم بلغتننا :
محكوم عليك بشهر في السجن .. قد تتساءل لماذا حكمي مخفف ، لأن القصاص قد تم ، أما سجنك فعقاب لك حتى لا تعيد الكرة و تقترب من النهر …

لا زلت مصدوماً بما أراه ، و حكم ذلك الكائن زعزع كياني ، قتلوا فلذة كبدي و سجنت في عالم غير عالمي ، اختفى مجلس المحكمة و ساد صمت رهيب ، و لازلت أحاول التفكير بما وقع محاولاً استيعاب الأحداث ، و فجأة سمعت :

بس..بس..بس ، التفت لمصدر الصوت و إذا بي أرى شاباً في مقتبل العمر جالساً في قفص و قال لي بصوت منكسر :
أنا نبيل و قد حكم علي هؤلاء الجن بأن أظل في عالمهم إلى أن تتوفى أمي ، اقتادوني الى هنا و أنا في الخامسة من عمري ، لم أقترف أي خطأ بحقهم ، لكنهم اختطفوني لأن أمي كانت ساحرة و تابت ، و عقاباً لها أنا هنا ، لا أستطيع أن أتمنى خروجي ، فإطلاق سراحي رهين بموت و الدتي ، مسكينة أمي حرمت مني ، أخذوني منها و هي تقول (قد تبت إلى الله رب العالمين إن أخذتم ابني فربي المستعان ، سامحني يا نبيل لم أستطع حمايتك) ، مازال صدى كلامها يخالج أعماقي .. المعذرة لم أسألك من أنت و لماذا أنت هنا فلم أتكلم مع إنسي منذ أن توفي عبد الرحمن ، قد حكم عليه بالإعدام شنقاً رحمه الله ، دعنا من قصته و أخبرني ما قصتك مع هؤلاء القوم ؟؟

أجبته : أنا عبد الله ، سأخبرك بقصتي فيما بعد لا أريد الكلام الآن فأنا متعب ، سنتكلم غداً إن شاء الله ، و أنا آسف على ما مررت به .

نبيل : حسنا كما تريد ، سأنتظر حتى تكون مستعداً للكلام ، لكن إنتبه .. لا ينبغي أن نتكلم عندما يحضر الحراس ، لقد قطعوا لسان سجين لمجرد أنه تكلم مع سجين آخر .

صمت نبيل و أنا مازالت صورة عثمان بين عيني و الألم يعتري كل جزء من روحي و جسدي كلما فكرت بك يا خديجة ، من سيعتني بك في غيابي ، ليس لنا أحد ، إلى من ستلجئين ، ليس بيدي سوى الدعاء ، الله لن يتخلى عني في محنتي ، في خلوتي لم أجد إلا لذة الصلاة ، تيممت و صليت رغم أني لا أعرف جهة القبلة ، بكيت كثيراً و أخيراً أحسست براحة ، و توقف تفكيري و خلدت للنوم .

لست أعلم كم مر من الوقت و أنا نائم ، فالمكان الذي كنت فيه لا ينبثق منه نور الشمس ، استيقظت على أصوات غريبة ، فتحت عيني فرأيت تلك المرأة التي قتلت ابني أمام قفصي تكلم رجلاً أو هذا ما ظننته ، فما إن أدار وجهه حتى صرخت لهول ما رأيت ، كانت عيناه في جبهته و له أذني حمار و أسنانه فوق شفتيه ، أخذ يضحك و قال كل الآدميين بشعين و يظنون بأنهم أجمل منا ، سألني : كم المدة الذي قضيتها هنا يا عبد الله ابن زينب ؟؟
لست أدري كيف عرف اسم أمي ، و أنا أتحدث مع نفسي صرخ : أجبني أيها البشري ..
قلت : ليلة واحدة ، فقد سجنت البارحة .
فأخذ يضحك و قال : قلت ليلة واحدة ، أيامنا ليست كأيامكم ، و أخذ يعيدها بصوته القبيح مراراً و تكراراً حتى اختفى .

لم أفهم أي شيء في بادئ الأمر ، لكني صدمت حينما أخبرني نبيل بأن اليوم الواحد في عالمهم يعادل شهراً في عالمنا ، فأدركت حجم مصيبتي ، و بعد مدة من استيعابي للوضع المحتم علي ، أصبحت قادراً على الكلام فأخبرت نبيل بقصتي و تأسف لما حدث لعثمان ، و أثناء حديثنا قال لي بأنه كان يراقبني عندما صليت البارحة و طلب مني تعليمه الصلاة ، علمته كل ما أعلم و قد حفظ بعض السور ، كان نعم الأنيس في الوحدة ، مرت المدة التي حكموا علي بقضائها ، فرحت كثيراً لأني أخيراً سأتخلص من العذاب ، لكني حزنت عندما رأيت نبيل يبكي لأني سأفارقه ، طلب مني أن أبحث عن أمه و أخبرها بأنه بخير و لم ينسها و أن أقول لها أن تعتني بنفسها و بأنه نعم الخيار الذي قامت به .

ودعت نبيل قبل مجيء الحراس اللذين أخرجوني من القفص و اقتادوني إلى النهر ، و عندما فتحت عيني وجدت نفسي في المشفى ، خديجة أرجو أن ترافقيني لكي أوصل الأمانة لأم نبيل .
خديجة : سأرافقك إلى أي مكان ، لن أدعك تفارق عيناي مرة أخرى بعد الآن ..

تاريخ النشر : 2016-10-30

هنادي

المغرب
guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى