أدب الرعب والعام

العائلة – الجزء الثاني

بقلم : وائلوف محمد – السودان
للتواصل : [email protected]

العائلة - الجزء الثاني
و بينما كنت بانتظار ” عماد ” ظهر لي شبح المرأة التي غرقت .. كانت تتجه نحوي بثوبها الطويل !!

قال لي “عماد أحمد :
بدأت قيادة السيارة على مهل و التحرك نحو المدينة.. أنت تعرف أنني لا أجيد القيادة ، و تعرف شعور الشخص الذي لا يجيد القيادة و يقود سيارة يجلس ثلاثة موتى في مقعدها الخلفي ، فلو نظر في مرآة السيارة لرآهم ، و حينها سيثق أنهم ينظرون إليه ، و يفقد التحكم في السيارة و تنقلب به..

قاطعته في حنق :
اسمع.. لا تقل لي في بداية كل جملة “أنت تعرف.. ” أنا لا أعرف ربع ما تقوله لي ، و بالتأكيد لا أعرف شعور شخص يقود سيارة بها موتى ، فأنا لم أقد سيارة يجلس موتى في مقعدها الخلفي !

ضحك في عصبية و واصل حديثه دون أن يعلق على قولي :
لم نتحدث أنا و “مصطفى” في طريق عودتنا ، و لم يحوّل نظره من خارج النافذة ، و إن كنت أسمع أحياناً صوت نحيبه ، كما لم أجرؤ أنا على النظر لمرآة السيارة الداخلية أو للمقعد الخلفى ، كنت فقط أحدق في الطريق أمامي و أقود ببطء حتى لاحت أخيراً معالم المدينة فتنهدت في ارتياح و توجهت نحو المشفى .

*****

في مكتب الطبيب جلسنا مع الضابط الذي حضر بعد أن اتصلت به إدارة المشفى ، أحضروا لنا قهوة ساخنة و أخذت سيجارة من الضابط ..
“مصطفى” كان قد كف عن النحيب لكنه جلس صامتاً و يديه على رأسه ، في الحقيقة بعد أن أخبرت الضابط بقصة عثورنا على السيارة الغارقة جلسنا صامتين جميعاً كأن على رؤوسنا الطير حتى دخل الطبيب الذي خلع معطفه الأبيض و وضع على ظهر مقعده ثم جلس و قال للضابط :
– الجميع موتى

زفر الضابط :
– حسناً .. الغرق هو سبب الوفاة أليس كذلك ؟
– ظاهرياً نعم .. لكن يحتاج الأمر للتشريح ليثبت أن هذا هو سبب الوفاة الوحيد .
نظر الضابط نحوه في اهتمام و سأله :
– ماذا تعني ؟
أجاب و هو ينظر نحونا نظرة اتهام واضحة :
– ربما قتلوا و تم وضعهم في الماء ليبدوا الأمر و كأنهم قد غرقوا !
نظر “مصطفى” نحوي في توتر ، و الطبيب يستطرد :
– لكن التشريح سيحسم الأمر
نظر الضابط نحونا و قال :
– هذا أمر محتمل بالتأكيد ..
فأزدردت لعابي في توتر و الضابط يسأل الطبيب :
– هل يمكنك تحديد وقت الوفاة ؟
– بين الساعة التاسعة و الحادية عشر .
نظر الضابط نحوي و سألني :
– متى وجدتم السيارة ؟
قلت متوتراً :
– في العاشرة و النصف تقريباً
في برود قال الضابط :
– هذا يجعلكما المتهمين الأساسين ..

انتفض “مصطفى” مذعوراً ، و شعرت ببرودة تسري في جسدي كأن أحدهم قد أدخلني في ثلاجة .. قال “مصطفى” بصوت باكٍ :
– و لكن لماذا سنحضرهم إن كنا نحن من قتلهم ؟
قال الضابط في حنكة :
– ربما لأنكما تظنان أنكما عبقريان ، و أنكما بهذا التصرف ستبعدان عنكما أي شك !
صرخت :
– هل تعني أننا قتلناهم ، ثم ذهبنا للترعة و أغرقناهم ، ثم أخرجناهم و أحضرناهم للمشفى؟
رد في برود :
– ربما
قال “مصطفى” بصوت منتحب :
– أقسم لكما أننا لم نقتلهم و أننا بريئان ، فقط حظنا العاثر هو الذي جعلنا نرى ضوء السيارة الغارقة .. ثم لماذا نقتل أشخاصاً لا نعرفهم أصلاً ؟
نظر الضابط نحوه و سأله :
– و من قال أنكما لا تعرفانهم ؟ على العموم التشريح سيثبت كل شيء
ثم نهض و أضاف :
– ستذهبان معي إلى قسم الشرطة للتحقيق .. و سيذهب أحدكما مع قوة من الشرطة ليدلهم على مكان السيارة الغارقة ..
و التفت نحو الطبيب قائلاً :
– عليكما البدء في التشريح فوراً .

*****

– هل تشعر بالتعب ؟ .. قال لي “عماد أحمد” و هو يشعل سيجارة و أضاف :
– ما رأيك أن نلتقي غداً و أكمل لك القصة ؟
نظرت للساعة كانت تشير للرابعة و النصف -أنا بخير.. لكن إن كنت متعباً بإمكانك الذهاب .
قال لي و هو يضحك ضحكته القصيرة العصبية :
البيت الذي يعيش فيه معك ثلاثة موتى لا أظن أنك ستكون متلهفاً للعودة إليه .. و نفث دخان سيجارته و أضاف :
– أنا جائع .. سأذهب و أحضر بعض الشطائر ، هل أحضر لك معي؟
-لا.. شكراً ، لست جائعاً .

جلست وحدي أمارس هوايتي في التحديق في رواد الحديقة الجالسين وحدهم و الجالسين مع آخرين .. حين مر بجانبي شاب ممكساً بعلبة سجائر يبدو أنها فارغة لأنه كان يتسلى بضغطها بيده ، ثم ألقاها لتسقط في حجري تماماً !! نظرت نحوه مندهشاً بسبب هذا السلوك الغريب الذي لم يعتذر عنه بل واصل سيره دون أن يكترث أصلاً .. شعرت بغضب جارف فنهضت و أنا أصرخ فيه :
– ما هذا يا ابن ال “…..” ؟
كان صوتي عالياً ، و لم يكن الشاب قد ابتعد أكثر من خمسة أمتار لكن لم يتوقف و لم يلتفت نحوي فصرخت بصوت أعلى :
– ألم تعلمك أمك ألا تلقي الأشياء على الناس أيها الحمار ؟ توقف لثانيتين و تلفت حوله و واصل سيره ، قررت أن ألحق به و أعلمه درساً في الأخلاق لن ينساه طوال حياته ، و قبل أن أتحرك خطوتين رأيت الطفلين !!

طفلة حلوة بضفيرتين طويلتين ، و ترتدي فستاناً به الكثير من الألوان ، و طفل يرتدي قميصاً أبيضاً و سروالاً أزرقاً قصيراً و جزمة أنيقة ، كانا مبتلين بالماء تماماً ، يضحكان في سعادة و هما يعدوان نحوي .. أرتجف جسدي كأن تياراً بقة ألف فولت قد سرى فيه .. و فجأة توقف الطفلان و التفتا للخلف ، كان هذا حين ظهرت المرأة ، خلفهما تماماً ، المرأة الحافية التي ترتدي فستاناً أسوداً طويلاً مبتلاً ، المرأة التي يغطي شعرها المبتل نصف وجهها ، و تنظر نحوي بعين واحدة.. نظرة حزينة ، متهمة ، كارهة.. أنتصب الشعر في ساعدي و ازداد ارتجاف جسدي حتى أن ساقاي لم تقويا علي حملي ، فتهاويت في المقعد و رأسي على صدري .. وحين رفعت رأسي لم أجد المرأة و لا الطفلين .. كانوا قد اختفوا !

حين عاد “عماد أحمد” وجدني ألهث و أرتجف و العرق يغمر وجهي ..
– ما بك؟.. يبدو كأنك كنت مشاركاً في سباق الألف متر ؟.. سألني
– ها.. أجبت شارداً
نظر نحوي في دهشة حقيقية و قال :
– تبدو كأنك رأيت شبحاً !!
ثم ضحك ضحكة مقتضبة.. و أضاف :
– أنا الذي يسكن معي ثلاثة أشباح أبدو أكثر تماسكاً منك !

هل أخبره أن ما قاله هو الحقيقة و أنني رأيت أشباحه التي يتبجح بها ، أم أنه سيظن بعقلي الظنون و يعتبر أن قصته هي التي فعلت بي هذا و أنني مجرد شخص جبان فقط !! ثم ربما كنت أتوهم ، و أن ما حدث معي حدث بسبب تأثير قصته اللعينة ! لكن منذ متى كان الوهم يبدو بهذا الوضوح ؟!
– قل لي ما بك ؟… انتزعني صوته من أفكاري
– أنا بخير.. غمغمت :
– لا تقلق .. أجلس و أكمل لي القصة
جلس و بدأ يلتهمشطيرته و هو صامت .. فقط قال لي :
-هل تقتسمها معي ؟
– شكراً

واصل الأكل في صمت ، و حين أكمل الشطيرة أشعل سيجارة جذب منها نفساً عميقاً و واصل قصته .

*****

قال “عماد أحمد” :
– في قسم الشرطة قام الضابط الذي جاء للمشفى بالتحقيق معنا ، سألنا عن اسمينا و عملنا و لماذا كنا نسير في هذا الطريق ، ومتى وجدنا وجدنا السيارة.. الكثير من الأسئلة ، و حين انتهى التحقيق كانت الشمس قد بدأت رحلة الشروق .. ثم أخبرنا الضابط أن أحدنا سيذهب مع قوة من الشرطة ليدلهم على مكان السيارة الغارقة ، وافقت أنا على الذهاب لأن حالة “مصطفى” النفسية لم تكن تسمح له بالذهاب إلى أي مكان ، و قبل أن أذهب سألت الضابط و نحن خارج مكتبه :

– هل ستضعون “مصطفى” في الحجز ؟
قال الضابط :
– لا.. فأنتما لستما متهمين حتى الآن ، و ضغط بشدة على حروف “حتى الآن”
و أضاف :
– سيجلس في مكتبي ، لا تقلق .. حتى أنه بإمكانه الذهاب إلى بيته ، لكن من الأفضل أن ينتظر هنا حتى تصل نتيجة التشريح ، فقد أخبروني أنهم قد بدؤوا به ..
– حسناً .. قلت ، أومأت للضابط براسي محيياً و خرجت للذهاب مع قوة الشرطة .

*****

قوة الشرطة كانت عبارة عن ثلاثة سيارات بها ما يقارب العشرين شرطياً ، و كنت أركب في السيارة الأمامية مع الضابط الذي يقود القوة ، كنت قد أخبرته أنني لن أستطيع تحديد مكان السيارة فلقد كان الوقت ليلاً ، و لم يكن هنالك ما يميز المكان الذي عثرنا فيه عليها عن غيره ، كل ما أعرفه أنها في منتصف الطريق بين القرية و المدينة.. قال لي الضابط أنه لا بأس ، فهم سيقومون بالسير جوار الترعة ، و سألني إن كانوا سيلاحظونها أم أنها غارقة بالكامل ؟ أخبرته أن بالإمكان ملاحظتها فمقدمتها كلها تقريباً خارج الماء .

كانت سيارات القوة تسير ببطء على ضفة الترعة حتى لا يفوتهم ملاحظة أي شيء غريب ، بهذه السرعة سنصل للمكان في ثلاث ساعات و ربما أكثر .. ساعتان و نحن نسير دون أن نرى شيئاً ، نظر الضابط لساعته ثم نظر نحوي في تساؤل فازدردت لعابي في قلق ، ساعتان و نصف و لا شيء !! كنت أحاول طمأنة نفسي بأنهم لم يروا السيارة لأننا لم نصل لمكانها بعد بسبب سيارات القوة البطيئة .. لكن نفسي أبت تصديقي كانت تثق تماماً أن هنالك خطأ ما ..

ازدادت دقات قلبي ، و بدأت أشعر بالعرق يغمر وجهي رغم جو الصباح البارد إلى حد ما ، أضف لهذا أنني كنت منهكاً جداً و لم أنم لحظة واحدة طوال الليل ، لذا كان منظري يدعو للرثاء حين رأيت وجهي في مرآة السيارة .. فجأة توقفت السيارة ، كدت أصرخ من السعادة ، لابد أنهم لمحوا السيارة الغارقة، لكن صوت الضابط الغاضب قتل سعادتي حين صرخ في وجهي وهو يقف خارج السيارة :
– ها نحن على مشارف قرية صديقك ، أين هي السيارة اللعينة بحق الله ؟!
نظرت مذهولاً فإذاً نحن فعلاً على مقربة من قرية صديقي التي كنت بالأمس ضيفاً مكرماً فيها ؟ هل حقاً حدث هذا مساء الأمس ؟ أشعر أن زيارتي لهذه القرية قد مر عليها قرون .

– لم أنت صامت ؟ … صرخ الضابط
تلعثمت :
– ها..
في حنق قال :
– أين السيارة التي تزعمان أنكما وجدتما الجثث بداخلها ؟
– لا أعرف
ضرب مقدمة السيارة بقبضته و هتف :
– ماذا ؟
قلت و أنا أغالب دموعي التي أشعر أنها ستنهمر في أية لحظة :
– لا أعرف.. أقسم لك أنني لا أعرف .. لقد وجدناها فعلاً في منتصف الطريق أقسم لك
– أين ذهبت إذن؟ هل تبخرت ؟ ذابت في الماء ؟
قلت بصوت متحشرج :
– ربما جرفها التيار
قال غاضباً :
– أي تيار ؟!! فقوة مياة الترعة لن تستطيع جرفها و لا تحريكها أصلاً !

شعرت ببلل يغمر وجهي ، لابد أنها دموعي.. أحتاج لإرادة الأبطال الأغريقيين لأحافظ على تماسكي و لا أبكي بصوت عالٍ بعد كل ما حدث معي ..
ربت الضابط على كتفي و قال في صوت حاول أن يجعله هادئاً :
– حسنا.. سنعود من نفس طريق قدومنا ، فربما نرأها هذه المرة .. و في حال وجدناها أو لم نجدها سنعود للقسم .. ثم بصوت حازم قال للجميع :
– هيا بنا..
ثم أستدرنا عائدين .

*****

قال “عماد أحمد” :
– لوح الضابط بإصبعه في وجوهنا متوعداً صارخاً :
– أنتما في موقف سيئ !
كنا قد عدنا لقسم الشرطة دون أن نعثر على السيارة الغارقة
– الآن سيتم توجيه الإتهام لكما بقتل ثلاثة أشخاص… أضاف الضابط
قال “مصطفى” الذي بدا هادئاً :
– لكننا لم نقتلهم .. نحن حتى لا نعرفهم ..
كنت قد وصلت للحد الأقصى من الإرهاق البدني و النفسي لذا لم آبه لاتهام الضابط لنا ، فليقوموا بسجننا أو إعدامنا لا فرق ، فحينها سوف أرتاح و أتخلص من هذا الموقف السخيف الذي سئمته لدرجة الموت .

قال الضابط :
-من قال أنكما لا تعرفونهم ؟ لو كنا وجدنا السيارة التي تزعمان أنكما وجدتما المرأة و الطفلين فيها فحينها كنا سنجد فيها أوراقاً تدل على هويتهم ..
و نظر نحونا في اتهام و أضاف :
– لكن الآن كيف نستطيع أن نعرف أن هؤلاء ليسوا زوجة و أطفال أحدكما ؟ أو ربما زوجة و أبناء شخص تعرفونه ؟
– هل تسمح لي بأخذ سيجارة من علبتك ؟.. قلتها للضابط بلامبالاة و برود غريبين ، فنظر نحوي مندهشاً و هتف :
-هل تمزح ؟.. أنت الآن مـ …
و قبل أن يتم جملته طرق أحدهم الباب ، ثم دخل ضابط أقل رتبة من الذي يحقق معنا و قال بعد أن حيا الضابط :
– هذا تقرير الطبيب الشرعي ، لقد أحضروه الآن
سلم التقرير و ألقى التحية مرةً أخرى و خرج ..

فتح الضابط التقرير و بدأ في قراءته ، كان “مصطفى” قد تخلى عن تماسكه و بدأ يرتجف ، أما أنا فقد تحولت دقات قلبي لدقات طبل في قبيلة هندية تدقه إعلانا للحرب ، لم أستطيع رفع يدي بالسيجارة التي أخذتها من الضابط لآخذ منها نفسا لذا اطفأتها في المنفضة الموجودة في مكتب الضابط … حريتنا و حياتنا ذاتها سيحددها هذا التقرير .

رفع الضابط نظره نحونا و قال متمهلاً :
– يقول التقرير أن سبب الوفاة هو الغرق
ثم صمت مدة و أضاف :
– وأن الوفاة حدثت بين الثامنة و التاسعة و النصف
تنهدنا في ارتياح ، و كأن أحدهم صب علينا دلواً من الثلج في نهار صيف ساخن .
قال “مصطفى” و على شفتيه شبح ابتسامة :
– حمدا لله.. في هذا التوقيت لم نكن قد خرجنا من قريتنا أصلاً .. و بإمكانكم أن تجدوا العشرات من أهل القرية يشهدون بهذا .

*****

لم نكن على استعداد لنصدق أننا أخيراً تخلصنا من هذا الكابوس الذي ظننا أنه لن ينتهي إلا بموتنا كان أعمام “مصطفى” و أخواله و بعض جيرانهم قد جاؤوا من القرية بعد أن أحضرتهم قوة من الشرطة ليشهدوا أننا كنا معهم في الوقت بين الثامنة و التاسعة و النصف ، فشهدوا بهذا ورهم يحلفون بالإيمانات المعظمة حينا و بالطلاق حينا آخر .

كان “مصطفى” قد خرج مع أهله ، و بقيت أنا في مكتب الضابط الذي سألني :
– هل تريد أن تخبرني بشيء ؟
تنحنحت و قلت :
– والآن ماذا سيحدث ؟
– بخصوص ماذا ؟
-الجثث !
غمغم :
– سنقوم بنشر صورهم في الصحف فربما يتعرف عليهم أحد أقاربهم و يأتي ليأخذهم ، و إن لم يأتِ أحد سنقوم نحن بدفنهم
– متى؟… سألته
– بعد غد
تنحنحت مرة أخرى و نظرت للأرض و قلت :
– هل بإمكاني حضور عملية الدفن ؟
نظر نحوي مندهشاً و سألني :
– لماذا ؟
– لا أعرف … فقط أريد حضور دفنهم

كنت أشعر داخلي بمسؤولية تجاههم لم أكن أعرف سببها ، و لكن كنت أرى أن من واجبي أن أصلي عليهم و أشارك في دفنهم
– لا بأس ، بإمكانك الحضور بالتأكيد… قال الضابط
شكرته ، وصافحته ثم خرجت لألحق بـ “مصطفى” و أهله .

*****
وجدت “مصطفى” في المقهى الذي يقع بجوار قسم الشرطة يشرب القهوة مع أهله ، حييتهم و أخبرتهم أنني ذاهب إلى البيت لأنني مرهق جداً و أشعر بالحاجة للاستحمام و تغيير ملابسي ثم النوم بعمق ، طلب مني “مصطفى” أن أنتظر ليقوم بأخذي بسيارته ، فقلت له أنه لا بأس بإمكاني تدبر أمري ، ثم صافحتهم و ذهبت .

وصلت للبيت الساعة السابعة مساءً ، فتناولت وجبة خفيفة في المطعم المجاور ثم صعدت ، فأخذت حماماً سريعاً ، و استلقيت في سريري أفكر في الذي حدث معي في الأربع و عشرين ساعة الأخيرة .. كل هذا حدث في أربع و عشرين ساعة فقط ؟ كم يبدو قول “اينشتاين” صحيحاً حين حاول تبسيط نظريته النسيبة للعامة فقال ” حين تكون سعيداً فالوقت يمر سريعاً ، وحين تكون تعيساً يمر الوقت ببطء مستفز ” أشعر بالنعاس و بأن أجفاني تزن أطناناً ، و كان قول “اينشتاين” يتردد في ذهني .. ودون أن أشعر غرقت في نوم عميق .

*****

قال “عماد أحمد” :
كان يوماً عادياً لا يختلف في شيء عن باقي أيامي المملة .. الذهاب للعمل ، الشجار مع من يأتون للمصلحة ، تذمر المدير بسبب غيابي في اليوم السابق – الذي هددني بالفصل إن تكرر – لم أخبره بسبب غيابي و أنني قضيت اليوم في قسم الشرطة ، بل قلت له أنني كنت مريضاً ، فصرخ و لعابه يتطاير في وجهي :
– مريض؟ هل معك شهادة من طبيب تثبت أنك كنت مريضاً ؟
– لا… أجبت في برود
واصل صراخه و قد احتقن وجهه حتى ظننت أنه سينفجر :
– حتى لو كنت تحتضر فلا مبرر لغيابك في نظري إلا إن كانت معك شهادة من طبيب .. هل تفهم أيها الأبله ؟
ثم ضرب مكتبه بقبضة يده :
– و الآن اغرب عن وجهي .

بعد انتهاء الدوام اشتريت صحيفة من الكشك المجاور و في صفحتها الأخيرة وجدتهم .. ثلاث صور ملونة واضحة للأم و طفليها.. لم أنظر للصور سوى ثانيتين فقط ، لكنها استقرت في أعمق أعماق روحي ، و تحت الصور كانت هنالك مناشدة لمن يتعرف عليهم أن يحضر لقسم شرطة “……” ، ثم خبر صغير أن هؤلاء تم العثور عليهم غرقى و هم الآن في المشرحة ، طويت الصحيفة و وضعتها في المقعد الذي كنت أجلس عليه في الحافلة .

قررت بعد نزولي من الحافلة الذهاب لقسم الشرطة لسؤال الضابط إن كان هنالك من جاءهم لأنه تعرف على صورهم ، لكن فكرت أن اهتمامي بالأمر – الذي لا أجد له نفسي مبرراً – سيجعلني في موضع الشبهات ، فعدلت عن الفكرة و ذهبت للبيت .

في تلك الليلة لم أستطع النوم ، فكلما نمت لدقيقة رأيت امرأةً و طفلين يغرقون في بحر من الحبر ، ثم تمسك المرأة بالطفلين و يخرجون من الصحيفة التي أمسك بها و ينقضون علي .. أستمر هذا الأمر حتى الصباح و لم أنم إلا بعد السابعة صباحاً ، لأستيقظ مذعوراً في العاشرة لأن علي اليوم أن أذهب لقسم الشرطة لحضور دفن جثث الأم و الطفلين .

*****

ذهبت لقسم الشرطة ، و دخلت مكتب الضابط الذي وجدته يتناول إفطاره ، طلب مني أن أفطر معه ، فشكرته ثم نادى على الشرطي الذي يقف بالخارج و قال له أن يحضر كوب قهوة
– لقد نشرنا صورهم في الصحف .. قال لي و هو يمضغ طعامه
– لقد رأيتها
بلع لقمته و قال :
– لكن لم يحضر أحد ليخبرنا أنه يعرفهم
ثم مسح يديه بمنديله و أضاف :
– هل تظن أنهم غرباء و ليسوا من المدينة ؟
– ربما
قال محتاراً :
– لكن حتى لو كانوا من خارج المدينة فمن المفترض أن يعرفهم أحد في مكان ما أليس كذلك ؟
و تنهد مضيفاً :
– أين أهلهم ؟ جيرانهم ؟ زملاءهم في العمل ؟!!

و زفر في ضيق :
– لقد نشرنا صورهم في كل الصحف ، و معظم هذه الصحف يصل لكل أرجاء البلاد ، فلماذا بحق الله لم يأتِ أحد يعرفهم ؟
قلت في غير اقتناع :
– ربما من يعرفونهم لم يطلعوا على الصحف ، أو ربما قرؤوها و لم يلحظوا الصور !
نظر نحوي و ضيّق عينيه :
– هل تظن هذا ؟
أشحت بيدي في يأس :
– قلت ربما
نهض من كرسيه و قال :
– فليرحمهم الله ، و يرحمنا جميعاً … و أضاف :
– حسناً .. هيا بنا إلى المشفى لنقوم بإجراءات الدفن .

*****

كنا تسعة أشخاص ، الضابط و أربعة عساكر و طبيبان و حارس المقبرة و .. أنا ، صلينا عليهم ثم قمنا بإنزالهم في القبور التي وجدناها جاهزة ، كنا أولاً قد ذهبنا للمشفى ، و قد قامت ممرضة بمساعدة ممرض بتغسيلهم ثم تكفينهم ، فقد كانا يفعلان هذا على الدوام مع الجثث مجهولة الهوية حتى صارت هذه مهنتهم الثانية بعد التمريض .

كنت أثناء الصلاة عليهم و أثناء دفنهم أحاول جاهداً منع نفسي من البكاء .. كانت هنالك غصة تسد حلقي ، و عيناي تغرورقان بالدمع الذي جعلني لا أستطيع الرؤية حتى .. في ظروف أخرى كانت جنازة هؤلاء ستعج بالبكاء و الحزن الحقيقي الذي ينبع من قلوب أحبائهم ، زوج ، أب ، جدة عمات ، خالات ، أما الآن فقد تجمع غرباء ليقوموا بتشييعهم لمثواهم الأخير بدافع الواجب فقط ، لا حزن حقيقي ، فقط ما يتطلبه الموقف من حزن ربما قد يكون مصطنعاً !

غرباء يدفنون غرباء

انتهينا من دفنهم ، ثم قرأنا الفاتحة أمام قبورهم .. و تفرقنا في حال سبيلنا .

*****

قال لي “عماد أحمد” و هو يرى الخيبة مرتسمة على وجهي :
– القصة عادية .. أليس كذلك ؟
قلت و أنا أقضم أظافري :
– باستثناء أنها محزنة و كئيبة بعض الشيء ،فهي عادية جداً .
ضحك ضحكته المقتضبة و قال :
– لا تحكم على الكتاب من عنوانه
قلت ساخراً :
– كل هذا عنوان ؟ يبدو أن كتابك هذا مجلد
ثم أضفت :
– يقولون: لا داعي لالتهام التفاحة كلها للتأكد من أنها فاسدة
أشعل سيجارة و غمغم :
– لا تتعجل لقد تبقت من تفاحتي قضمة صغيرة ، و إن كانت قصتي ليست تفاحة بل حنظلة .
ثم مسح وجهه بيده و واصل الحكاية قائلاً :

لقد بدأ الأمر أول أمس .. استيقظت في الحادية عشر مساءً على صوت الخطوات التي سمعتها تأتي من الصالة ، في البدء تخيلته فأراً مشاغباً من الفئران التي تملأ شقتي ، فقررت أن أتجاهل الأمر و أواصل النوم ، لكن صوت الخطوات هذا من المستحيل أن يصدر بسبب فأر إلا إذا كان يعاني من داء العملقة ! هذا صوت خطوات إنسان !! مهلاً .. لا يبدو صوت خطوات شخص واحد ، ربما شخصان أو أكثر .. لصوص ؟ لو كانوا لصوصاً فهم بكل تأكيد لصوص حمقى ، فاللصوص في العادة يسيرون بخطوات حذرة يحرصون على ألا يسمعها أحد ، لكن الخطوات القادمة من الصالة لابد أن يكون المرء أصما حتى لا يسمعها .. ما العمل الآن ؟ أذهب إلى الصالة و أواجههم ؟ لكن ربما كانوا مسلحين !

فكرت أن أفتح نافذة غرفة نومي فهي تطل على الشارع و أستغيث بالمارة .. لكن ماذا سيحدث لو لم يكن هنالك لصوص و كان هذا فاراً أو قطاـ تسلل بطريقة ما إلى شقتي ؟ ماذا سيكون موقفي ؟ لن أحتمل فكرة العيش بجوار جيران سينظرون لي طوال حياتي باعتباري الشخص الذي أرعبه قط يعبث في صالة بيته ، من الأفضل أن يقتلني اللصوص – إن كان هنالك لصوص – و تذكرت الجملة العبقرية التي تصف حالي ” كل قصص الشجاعة في التاريخ كانت بسبب أشخاص يخشون أن يظهروا بمظهر الجبناء “.. تشجعت قليلاً و صرخت بأعلى صوتي كما يفعل رجل الشرطة في الأفلام العربية القديمة :
– من هناك ؟

فتوقفت الخطوات لثوان ثم عادت كما كانت في السابق ..
هنا قررت أن علي أن أواجه الأمر و أخرج للصالة و ليحدث ما يحدث .. حملت الكرسي الموجود في غرفة نومي لأستخدمه كسلاح إن أقتضى الأمر ، فتحت الباب و تسللت بحذر نحو الصالة ، كان النور مضاءً ، الفئران و القطط لا تستطيع أن تضغط على مفتاح الإنارة !! ازدادت دقات قلبي و أنا أسير ببطء نحو الصالة ممسكاً الكرسي بقوة ، و حين وصلت و رأيت مصدر الخطوات انتصب الشعر في ساعدي ، و ارتجفت ساقاي و توقفت دقات قلبي ، و سقط الكرسي من يدي !

*****

لم أصدق عيناي لأول وهلة ، لابد أنني أتوهم .. ضغطتهما بيدي في قوة و حين فتحتهما لم يتغير شيء مما أراه أمامي ، المرأة و الطفلين لا يزالون في الصالة !!
المرأة و الطفلان اللذين نقلت جثثهم للمشفى و حضرت دفنهم في قبورهم ! .. يا الله ، ما هذا الذي أراه ؟!!

استندت للحائط حتى لا أسقط ، كانوا يسيرون في الصالة جيئة و ذهاباً بلا أي هدف ، شهقت مذعوراً فانتبهت المرأة و توقفت و نظرت نحوي ، و الطفلان أيضاً فعلا نفس الأمر ، ستة أعين لا أثر لبريق الحياة فيها تنظر نحوي ، ساقاي فقدتا أي قدرة على حملي فتهاويت على الأرض .. يا الله ، لابد أن هذا كابوساً ، هذا ليس حقيقياً …

المرأة جلست على مقعد و هي ما زالت تنظر إلي ، و جلس الطفلان بجوارها على الأرض ، أنا أحلم و سأستيقظ بعد قليل لأجد نفسي في غرفة نومي ، علي أن أقرأ بعض آيات القرآن لأستيقظ من الكابوس ، لم أستطع تذكر أية واحدة ، و حتى إن تذكرت فلساني صار ثقيلاً و لن أستطيع النطق أصلاً … فكرت داخل عقلي أنه “بسم الله الرحمن الرحيم” و حين حاولت نطقها بدوت كطفل ما لم يتعلم نطق الحروف أصلاً ، و المرأة تنظر نحوي نظرة ميتة باردة مخيفة ، بصوت متحشرج تمتمتُ :
– أ … أعو… آه ! ثم دون أشعر صرخت بأعلى صوتي :
– ماذا تريدون مني؟ من أنتم؟
التفت الطفلان نحوي و نهضت المرأة و نظرها مثبت علي و بصوت عميق تشوبه نبرة حزن قالت :
– أنا زوجتك.. و هؤلاء أطفالك !

يتبـــــــــــع ـــــــــــــــــــــــــ
                                 ـــــــــــــــــــــــــــــ

تاريخ النشر : 2016-11-26

وائلوف محمد

السودان
guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى