أدب الرعب والعام

العائـد 3

بقلم : وائلوف محمد – السودان
للتواصل : [email protected]

العائـد 3
قال بصوته العميق .. أنا هنا فعلاً
حين وصلت “لمياء” للسيارة فعلت كل ما تفعله امرأة وجدت زوجها غارقاً في دمه .. بكاء ، صراخ ، عويل ، لطم .. لم يكن الأمر صعباً عليها ، فكل النساء يُجِدن التمثيل في براعة يحسدن عليها ، و كلهن هستيريات بطبعهن !

المشفى .. التحقيق ، لم يشك أحد في أن “لمياء” لها علاقة من قريب أو من بعيد بمصرع زوجها ، إذ لا يمكن لامرأة تحمل هذا الوجه الملائكي أن تقتل ذبابة ، “حاتم” ليس لديه أعداء لدرجة أن يقتله أحدهم بهذه الطريقة البشعة ، لابد أن القصد من الجريمة كان السرقة ثم تطور الأمر ، و في النهاية قيدت القضية ضد مجهول !

شاركت في تشييع “حاتم” مع زملائي في الشركة الذين كانوا يحاولون إخفاء سعادتهم بموته بصعوبة ، و اصطنعوا الحزن ، لكن رغماً عنهم كانت تفلت منهم ابتسامة أو إثنتين .. أما أنا فقد كنت هادئاً و طبيعياً و كأنني لم أكن السبب في هذه الجنازة ، و هذه السعادة التي تغمر دواخل زملائي !

في تلك الفترة انقطعت علاقتي بـ “لمياء” تماماً .. لا مقابلات ، و لا مكالمات هاتفية .. اتفقنا أن نترك الأمور حتى تهدأ ثم نتفق بعد ذلك على ما ينبغي أن نفعله ، و كان كل شيء يسير كما خططنا له ، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، و كانت الرياح التي عصفت بسفينتنا عودة “حاتم” .

* * *

جرت “لمياء” نحوي في لهفة و شوق مزيفين ما إن فتحت باب شقتي ، و احتضنتني و هي تردد في سعادة تصرخ بالكذب :
– لقد اشتقت إليك
أبعدتها في جفاء ، و قلت في برود :
– حسناً ها أنا ذا .. ماذا تريدين أن تقولي ؟
ضحكت في دلال :
– ألا تشتاق إلي ؟
صرخت حانقاً :
– “لمياء” أنا لم آتِ لهذا الهراء ، أخبريني ماذا تريدين أن تقولي ؟

لم تفارقها ابتسامتها و قالت و هي تتقدمني نحو الصالة :
– اهدأ .. و أخبرني ما الأمر ؟
– الأمر كما قلته لك في الهاتف تماماً .. “حاتم” عاد و هددني بالقتل ، و أنا سوف أبلغ الشرطة بما فعلناه .
جلست واضعةً ساقاً على ساق و غمغمت :
– الأمر هكذا إذن ؟.و هل تريد تدمير مستقبلي و مستقبلك بهذه البساطة ؟ ألهذه الدرجة تملكتك غريزة إفناء الذات ؟ و لأجل هراء كالذي تقوله !!
قلت في غضب :
– دعي عنك سخف الأطباء النفسيين هذا
– هذا ليس سخفاً
– و ما هو إذن ؟
– الحقيقة .. و أضافت في برود :
– هل يمكن لشخص عاقل أن يصدق أن ميتاً قد عاد من قبره لينتقم منه ؟!

و نظرت نحوي في تحدي :
– و الآن أين هو ؟ دعه يظهر .. ألا يفكر في الانتقام مني أنا الأخرى ؟
تلعثمت :
– ربما لا يعرف أنك شريكة في قتله !
ضحكت في سخرية :
– أي شبح هذا الذي لا يعرف قاتليه ؟ هذا شبح هاوي على ما أظن ..
قلت غاضباً :
– اسمعي .. لا يعنيني إن كان هاوياً أم محترفاً .. و لا تعنيني سخريتك اللعينة ، أنا سأبلغ الشرطة ، هذا كل شيء

نهضت و على شفتيها ابتسامة هادئة :
– اسمع .. سأعد لنا كوبين من الليمون لتهدأ أعصابك قليلاً ، ثم نفكر في ما يجب أن نفعله مع هذا الشبح الهاوي ..
و غمزت لي بعينها .

* * *

كانت تبتسم في سخريةٍ و تشفٍّ و دلال و وداعة ، و هي تشاهدني و أنا أتلوى و أصرخ صرخات مكتومة ، نيران تشتعل في داخلي ، سكاكين حادة تمزق أحشائي ، و صوتها يدوي في أذني :
– يجب استئصال العضو المريض ليعيش باقي الجسد ، و أنت عضو حقير مريض كان لابد من بتره .

أقسم أنها كانت تبتسم ابتسامة ساحرة خلابة و هي تخبرني أنها دست لي السم في عصير الليمون ، أفعى .. هذه المرأة أفعى .

كانت تحرك رجلها التي وضعتها فوق رجلها الأخرى في استهتار ، و تنظر إلي في لامبالاة و أنا أتمزق ، دموعي تنهمر بغزارة على وجهي ، جسدي كله يرتجف ، “لمياء” تبتسم.. نيران ، سكاكين ، أسمع صوتها الساخر الساحر :
– و الآن يمكنك أن تمرح مع صديقك البغل ، بعد أن تصير أنت أيضاً شبحاً .. و ضحكت و هي تستطرد :
– كان ينبغي أن يكون هنا ، ليشاهد موت قاتله …
كان هذا حين سمعت الصوت العميق :
– أنا هنا فعلاً .

و التفتت لتجد “حاتم” خلفها !!

* * *

انتفضت “لمياء” مذعورة و شهقت في رعب ، كان “حاتم” ينظر لها نظرة باردة قاسية تجمد الدم في العروق ، و لم يعرني أنا انتباهاً ، و لم يكترث لي أصلاً .. كنت على الأرض ، أضغط بطني بيدي في قوة و دموعي منهمرة ، والزبد يسيل من فمي .

“لمياء” تتراجع في خوف .. يا إلهي لقد زاد الخوف وجهها جمالاً و فتنة !
“حاتم” يسألها بصوته العميق الذي يثير الرعدة في القلوب :
– لماذا أيتها الحقيرة ؟
“لمياء” تغمغم و هي تبكي :
– هذا مستحيل ، لا يمكن .. أنت لست حقيقياً !!
ابتسم في غموض و قال :
– طبعاً .. أنا لست حقيقي ، هل تريدين أن تتأكدي ؟
لم ترد ، كانت تبكي في حرقة و هي ترتجف
أضاف هو :
– حسناً ، انظري لتتأكدي ..

ثم بدأ الهول ..

جلده بدأ يتغضن و كأن عمره صار فجأة سبعين سنة ، وجهه صار ممصوصاً ، جلد على عظم فقط .. فتح قميصه صارخاً :
– أنظري
كان قفصه الصدري ظاهراً للعيان ، لم يكن هنالك جلد .. حتى أنني رأيت قلبه بين ضلوعه … الجلد يتساقط عن بطنه ، يده ، وجهه .. ثم سقطت إحدى عينيه من محجرها ، صرخت “لمياء” .. من محجر العين الفارغ خرجت دودة و سارت على مهلها في وجهه .. و قال هو بصوته المخيف :
– انظري أيتها اللعينة ، أنا أتحلل
ثم تحرك نحوها

“لمياء” تصرخ ، الألم يمزق أحشائي ، “حاتم” يقترب منها ..
“لمياء” تغطي وجهها بيديها ، أشهق شهقات سريعة و جسدي ينتفض ، “حاتم” يضع يده على كتفها ..

و كان آخر ما رأيته “لمياء” تندفع نحو النافذة و تقفز منها ، نافذة بيتي في الطابق الرابع في البناية .. أسمع صرختها اليائسة .. ثم لا شيء

                                       … تمت …

تاريخ النشر : 2016-12-17

وائلوف محمد

السودان
guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى