أدب الرعب والعام

6 ريختر – الجزء الثاني

بقلم : عمر عويس – مصر

6 ريختر - الجزء الثاني
هذه المرة كانت نكسة من كافة الجوانب ، شعور بالفشل و رغبة ملحة في البكاء بعد ضياع كل شيء

السبت .. 10 أكتوبر 1992

البروفة الأخيرة ..

أكاد أفقد اتزاني تماماً ، أكثر من نصف سكان مصر سيلعبون دور الناقد الفني معك غداً ، لهذا أصبح الإعداد الجيد هو كلمة السر .. وصلت مبني الإذاعة و التليفزيون مبكراً – على غير عادتي – و صعدت للاستديو و الحماس يعصف بي ، اتخذت قراري النهائي و لن أعود فيه ، سأكلّم علي مظلوم اليوم و ليكن ما يكون .. سأطلب منه الحضور سريعاً قبل وصول المخرج و المُعد ليظهر أمامهم و لا يكون هناك مجال للتراجع .

هناك قاعدة توصلت إليها و لازلت أطبقها إلى الآن .. إذا تعارضت كرامتك مع نجاحك يجب أن تختار المستقبل .. لن أري علي مظلوم مرة ثانية ، لكن نجاح الحلقة سيعيش معي إلى الأبد ، كما ترى .. الاختيار صار سهلا هكذا .

كان الاستديو خالي تماماً في ذلك الوقت المبكر ، فقط أنا و ديكورات البرنامج المبهرة – قياساً على تلك الحقبة الزمنية – أضأت المكان بالكامل و بأقصى طاقة للإنارة ، و وقفت متأملاً المقعد المخصص لي ، كنت أنتظر عامل الإعداد لكي نتصل بعلي و لكنني سرحت .. مقعد المذيع .. سأكون جالساً هنا بعد ساعات أسطر صفحة جديدة من كتاب الإعلام المصري .. الشهرة الطاغية ، المال ، حتى النفوذ جاءني بأحلام اليقظة ، ماذا ستنتج الشهرة عندما تجتمع بالمال ؟ يالطبع سيكون النفوذ هو ….

” سيكون لك مستقبل عظيم سيد سامح .. لا تقلق “

الصوت كان قادماً من الخلف ، هذا الصوت الرخيم أعرفه جيداً رغم أنني لم أسمعه سوي مرة واحده ، التفت لأتأكد من مصدر الصوت فوجدته هو .. علي منير مظلوم واقف أمامي وجهاً لوجه بنفس هيئة المرة السابقة و بيده حقيبة جلد سوداء صغيرة ..

– انت دخلت هنا ازاي ؟

– الوقت يمر و سيأتي الجميع و أنت لم تسمع مني بعد .

– أنا مش قادر افهمك يا أستاذ علي ، انت شخصية غريبة جدا وخليني اكون صريح معاك انا بجد بقلق واحنا مع بعض في مكان واحد ، يبئا ازاي عايز نطلع في برنامج مع بعض ؟

قلت هذا لحفظ ماء وجهي رغم استسلامي الكامل من داخلي فباغتني قائلاً :
– جسدك يبدو عليه الإرهاق الشديد ، اهدأ قليلاً يا بني .. لقد بعثني لك القدر لكي يكون لك شأن عظيم .. صدقني ، أنا لا أريد الضغط عليك بقدر ما أرغب لك في المجد ، كنت ستهاتفني و أنا وفّرت عليك عناء الإحراج ، فلماذا تعاند و تكذب ؟

هذا الرجل لعنة ، مهما حاولت ستظهر ضعيفاً أمامه ، لهذا لم أسأله كيف عرف بنيّتي .. قلت مصطنعاً اللامبالاة حتى لا أرى نظرة نصر في عينيه :
– ماشي يا أستاذ علي ، اتفضل احكي لكن لو الكلام معجبنيش بجد بلاش تستعمل أسلوبك ده وتتفضل بعدها تروّح من سكات .. اتفقنا ؟

ابتسم و لم يرد كالعادة ..

طلب مني الجلوس بغرفة الإخراج ليريني شيئاً ، فذهبنا هناك و جلست أنا أمامه ، و أخذ يحكي عن أولى سفرياته إلى الهند حتى آخرها للولايات المتحدة الأمريكية مروراً بأماكن عديدة ، الحق يقال .. كان كل ما رواه جذاب فعلاً ، حكاوي غريبة عن طقوس تلك البلدان ، جرائم عجيبة وقعت أمامه ، عروض مذهلة لفرق تبيّن ثقافات الدول الغربية … إلخ ، كان يتحدث ببطء و ثقة شديدة و بأسلوب تعشق سماعه .. هل قرأت كتاب ( حول العالم في 200 يوم ) يا عم شفيق ؟

رد شفيق مفزوعاً كأنه كان غائباً عن الوعي من بدأية الحديث :
– آه .. قرأته زمان يا باشا .

تمام .. أنت إذا وصلت لجزء بسيط من دهشتي أمامه ، المدهش أكثر من هذا كانت الداتا التي يمتلكها .. كل ما قاله كان مدعوماً بفيديوهات على كاميرا الشريط الشهيرة وقتها ، كان يحكي مثلاً جريمة قتل بشعة حدثت في جامايكا أو قبائل أفريقية تمارس شعوذة ما ، فأقوم بتشغيل الفيديو لأراها أمامي ( حقيبته كان بها الكاميرا و الشرائط ) ، ما هذا الرجل ؟ و كيف وصلت إليه هذه المعلومات ؟

كان رده جاهزاً دائماً :
– أنا أعرض ما لدي فقط ، و أنت الذي تختار .. إما تقبل أو ترفض .

– فاهم طبعاً .

سوف يسيل لعاب المخرج بعد رؤيته لهذه الشرائط ، فقرة هذا الرجل ستكون مسك ختام الحلقة بالتأكيد ، كان الجميع قد بدأ في الوفود إلى الاستديو ، فأظهرت إعجابي بما سمعته و شاهدته ، بل اعتذرت له عن جفائي في البداية ، ثم أرسلت في طلب المخرج و المُعِد لنصل إلى الرأي النهائي ، توقعت حماسهما للفكرة و هو ما تم بالفعل ، لكنهما طرحا عليّ بعض الاسئلة ..

– الأستاذ علي ده هيطلع معاك بكرة ازاي وفقرة الختام أصلا كان فيها مطربة ؟

– هطلع اعتذرلها وتيجي الحلقة التانية وبالنسبة لعليّ هو جاهز .

– انت واثق فيه ؟

– لا .

– طيب نسأل عنه في العنوان اللي عندنا ؟

– مفيش وقت

– علي مسؤوليتك يا سامح ؟

– موافق .

الفضول هو سر التجربة .. الفضول هو ما يجعلك تنجح ، و إذا غاب لن تكمل شيئاً للنهاية ، هو الدافع لكل شيء ، هو من قتل القط – كما يقولون في الغرب – و هو من جعل نيوتن عظيماً .. كل من كان بالغرفة لحظة ذلك الاتفاق كان يتنفس فضولاً ..

** ** **

الأحد .. 11 اكتوبر 1992

جرى العمل على قدم و ساق في الاستديو من التاسعة صباحاً تقريباً ، حضر علي و اأنهى معنا البروفات بشكل طبيعي ، و أريناه مكان انتظاره لإشارة دخول اللوكيشن أثناء البث .. كانت هناك حالة جميلة من التفاؤل تسري بين طاقم البرنامج ، المخرج و المُعِد و أنا نقوم بتكرار البروفات دون ملل ، عمال الإضاءة و الديكور كانوا يضعون لمستهم النهائية غير متأففين من طول وقت العمل ، مهندس البث كامل الحلواني كان متحمساً بشكل لا يصدق ..

لازلت أذكر هذا الرجل إلى الآن يا عم شفيق ، كان في العقد السادس من العمر ، ضخم الجثة ، أصلع الرأس تماماً ، له شارب عملاق و صوته دائماً عالي ، لكنه طيب القلب لأقصي درجة ، و الوحيد الذي كنت أرتاح في الحديث معه عن أحلامي و طموحي و أحيانا حزني من عدم الإنجاب ، و يصارحني هو بضيقه من العمل حيث ظل الرجل سنين طويلة يبث برامج مسجلة مسبقاً و يومها كف عن هذا العمل الممل ..

هل نسيت شيئاً ؟ بالطبع ، صورة تجمع كامل طاقم العمل للذكرى ثم نبدأ البث ..

” فوور ، ثري ، توو ، ون .. هوااااااااا “

” أهلاً بحضراتكم مشاهدينا الكرام في كل مكان ، و أولى حلقات البرنامج الخاص جداً نجوم في الظل ، نحن الآن نسطر حدث هام في تاريخ ماسبيرو بوجود مثل هذه النوعية من البرامج المميزة بكونها تذاع لكم مباشرةً دون تسجيل ، حيث استطاعت مصر أن تكون أول دولة في الشرق الأوسط تنفذ ذلك .. نجوم في الظل يجعلكم تقتربون من أشخاص ترونهم في كل مكان من حولكم ، هم ليسوا نجوم سينما أو أبطال في الرياضة لكنهم متفردين بأشياء أخرى سنعرضها لكم الأحد من كل أسبوع ، و في انتظار رسائلكم بدءاً من الغد لتقييم المواهب على 186 ص.ب مبني الإذاعة و التليفزيون – كورنيش النيل..

أعزائي المشاهدين ، لكل شخص موهبة يجب أن يحافظ عليها جيداً ، و في نفس الوقت امتاع الجماهير بها ، شاشة القناة الثانية ستكون منصة لعرض هذه المواهب .. فلنبدأ مباشرة بموهبة رقيقة جداً للآنسة ……. ستعزف لنا بآلة الفلوت الخشبية و … الخ . “

كنت مضطرب قليلاً في البداية لكن بمرور الوقت و مع بدء ظهور المواهب تباعاً تلاشي القلق ..

” آخر فقراتنا النهارده أعزائي المشاهدين هو موهبة أو نقدر نقول حالة تستحق إن حضراتكم تشوفوها وإن كنت حابب أقول عنه جملة بسيطة قبل ما يتكلم عن موهبته وهي ( سفر وترحال في أماكن ودول كثيرة ثم العودة لمصرنا الحبيبة مشحونا بحكاوي ومشاهد أقل وصف لها إنها عجيبة ) .. اتفضل استاذ علي “

دخل علي ببطء و جلس أمامي على مقعد المضيف ..

– اسم حضرتك ؟

– عليّ منير مظلوم .

– استاذ علي حضرتك قلتلنا ان موهبتك أو بمعنى أدق رصيدك الضخم من الخبرات والمواقف المصورة نتيجة سفرك حول العالم هي دي اللي هتوصلك للفوز بتقييم مشاهدينا ان شاء الله ، تمام ؟

– بالفعل .

– طبعاً قبل الحلقة عرفنا ان القصص كتير لكن انت اخترت لنا ثلاثة منهم ، تقدر حضرتك تبدأ مع العلم اعزائي المشاهدين ان القصص ليها فيديوهات عندنا بتثبت صحتها سيتم عرضها ليكم تباعاً بعد كل قصة .

– حقيقةً يا سيد سامح أنا لن أقص عليكم سوى واحدة و هي ليست مدعومة بالفيديو للأسف

– …………………

– ليس هناك سوى حكاية واحدة نعيشها جميعاً أريد أن أقصها عليكم باختصار ألا و هي .. التوبة .

– التوبة !!

قلتها في تعجب حقيقي .. لم يكن هناك أي كلام عن التوبة أثناء البروفات ..

– بلى .. مقابلة الخالق بنفس تائبة يوم الفصل ، هذه هي أمنية الجميع بما فيهم أنا .. عندما تخطأ أنت مثلاً ، تسرق ، تزني ، أو حتى تقتل ثم تتوب فيتوب عليك ربك بل و أحياناً يجعلك من أحبائه ، لكن ماذا عني أنا ؟ أنا علي منير مظلوم ، آخر نسل عائلتي ، و حامل دماء الموحدين ، لماذا لا يتوب الله عَلي ؟ لماذا أشقى للأبد و يأتي إليّ الأبد بأبدٍ آخر أشد قبحاً ؟

– عذراً استاذ علي لكن حلقتنا النها ………

قاطعني بطريقة طفولية مستفزة و هي الحديث بصوت عالي فجأة قائلاً :

– منذ فترة عرفت أن أجلي قد اقترب بسبب مرض عضال ، فقررت أن تعرف الناس قصتي و قصة أجدادي حتى لا أرحل و تموت قصتنا بالنسيان كالعادة .. منذ زمن سحيق كان جدي الأكبر رجلاً مشهوداً له بالطاعة و حسن الخلق ، يعلم قدر نفسه جيداً ، لكن القدر وضعه في اختبار من نوع مختلف فوقع في الخطأ دون عمد ، و من بعدها أصبح ملعوناً مذموماً من بني جنسه ، و عدواً لكافة الخلق ، اختيار خاطئ لكنه كلفنا الكثير من الصراعات و أورثنا – نحن أحفاده – لعنة بشعة تنضج بداخلنا كلما مرّ عليها الوقت و لا نستطيع الخلاص منها إلا بشيء واحد ..

قلت مصطنعاً التجاوب معه :

– أي لعنة ؟ و ما هو هذا الشيء ؟

– لعنة الشر .. نحن يا سيد سامح مأمورين بالشر ، و يرتبط وجودنا بإيجاده ، لا نستطيع العيش في مكان أو زمان إلا بزرعه بين بني آدم ، و الأدلة علي ذلك كثير ..

قلت في توتر :
– آسف بجد لضيفنا الموهوب الأستاذ علي لكن ….

لم ينتظر إتمام جملتي ، و قال بصوت جهوري يشبه السوبرانو :

– لا تقاطعني مرةً ثانية ، فقط دعني أوضح مآساتي لكم قبل فوات الأوان و أجِب عن هذه الأسئلة و ستعرف من نحن .. من قتل النبي يوسف ؟ من وسوس لهرتزل الصحفي المغمور بإقامة اسرائيل ؟ من أقنع الصبي غافريلو باغتيال ولي النمسا لتقوم الحرب ؟ من و من و من يا سيد سامح ؟ أقول لك الآن أمام الملايين دون خجل .. أجدادي من فعل هذا لكن و عزته و جلاله كان ذلك بلا قصد ، كانوا يحترقون من نار الظلم بداخلهم فينفثونها دون وعي بين أجدادكم ، يريدون التوبة و ما من مجيب ، يُعلنوها بين الناس أملاً في كلمة حق عنهم فيلعب القدر لعبة النسيان الشهيرة ، و الآن و قد اقترب الأجل وجب قتل تلك اللعنة بالتوبة للمرة الأخيرة .. في كل عصر كان أجدادي يعلنون فيها التوبة تفور البراكين و تقوم الحروب و تنتشر المجاعات و الأوبئة ، أتدري لماذا ؟ كي ينسى البشر و تستمر الخدعة .

قلت دون فهم في محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الفضيحة :

– في الواقع .. استاذ علي ممكن تشرح للجمهور قصتك لكن بدون مقدمات طويلة لو سمحت عشان منخرجش عن الموضوع الأساسي .. لو سمحت.

اعتدل في جلسته و قال بلهجة من يشرح لك درساً أو يعطيك نصيحة :

– هذه قصتي و سبب وجودكم ، أنتم ترددون دائماً أنه بدون شر لن يكون معنى للخير ، أليس كذلك ؟ هراء .. بدون شر ستعودون للعدم ، ستتبخرون مثل قطرة ماء لذا يجب أن تتغير نظرتكم لنا ، أنا لا أسعي لاحترام متبادل لكن لنجعلها صفقة ، أترككم لنفوسكم توجهكم دون تدخل مني مقابل الشيء الذي سيمنحنا الخلاص .

– و ما هو ؟
– عدم النسيان لتوبتي الآن مهما حدث .. فقط عدم النسيان .

قالها ثم صوّب نظره ناحية الكاميرا و أكمل حديثه بصوت متهدج كحال المعترفين في الكنائس :

– اليوم أشهدكم أنني لن أبغي الشر بعد الآن ، و لن أعود له مهما حدث ، و كل ما أخشاه أن تنشغلوا عن توبتي بأمر عظيم أو حدث جلل ينسيكم ما يحدث اليوم .. هذا هو رجائي الوحيد أرجوكم .. تذكروا ظهوري هذا و لو اشتعلت الأرض غداً ، لقد زرت الفاتيكان و قابلت الحاخامات و استشرت حتى علماء الأزهر ، الكل أجمع أننا ظلمناكم قبل أن نظلم أنفسنا ، و اتفقوا أن إعلان التوبة شَرطَه الاعتراف بالذنب ، و ها أنا أهين نفسي بطلب المغفرة من أعدائي معترفاً بالخطيئة ، لكن هل أعداء الأمس سيبخلون عليّ بعدم النسيان؟ أتمنى ذلك..

كان المخرج وصل لذروة الانفعال ، و أخذ يشير بيده لكامل الحلواني كي يوقف البث ، لكن الإرسال استمر دون معرفة السبب ، و ساد الهرج و المرج لحظات حتى قلت في محاولة يائسة لإعادة النظام للمكان :

– اهدا يا استاذ علي واحنا هنساعدك لكن محتاجين على الأقل نعرف اللعنة دي حصلت ازاي أو سببها ايه عشان نقدر نساعدك بجد ؟

– أنتم سبب اللعنة .. جدي كان يخشى مكر الله ، و اختار عدم السجود لغيره لكن الله ضحى به ، اختار جدي التقديس المطلق و أراد الله اختباركم .

– جدك !! جدك مين ؟ مين هو جدك ده ؟

نظر لي و الدموع في عينيه و قال بحزن لم أره من قبل في حياتي :

– هو .. هو المظلوم .

قالها و قام من مقعده بهدوء ، و اتجه ناحية باب الخروج في خطوات بطيئة كعادته ، ثم التفت في حركة مسرحية مخاطباً الجميع قائلاً :

– ” لا أحد يأمن مكره إلا بالعمل الصالح “

أما كل من بالاستديو فكان ينظر له في هلع و فكرة واحدة تسيطر عليهم بل و تمنعهم من الاقتراب منه .. علي منير مظلوم ليس بشرياً ..

مازلنا يوم الأحد ..

الحادية عشر و النصف مساءً .. صدر قرار من رئيس اتحاد الإذاعة و التليفزيون بتوجيه من السيد وزير الإعلام شخصياً و بموافقة اللجنة المشكلة للبت في هذا الشأن بالإجماع على البنود الآتية :
أولاً .. وقف برنامج ( نجوم في الظل ) بشكل نهائي و بلا رجعة ( كان أسرع قرار يُصدر منذ بدء العمل في ماسبيرو على ما أظن ) .
ثانيا .. وقف المستحقات المالية لجميع العاملين بالبرنامج لحين الانتهاء من التحقيقات .
ثالثا .. نقل المسؤول الأول عن البرنامج الأستاذ سامح يحيى داوود المذيع بالقناة الثانية التليفزيونية لقسم التطوير بنفس القناة ، و كذا نقل المهندس كامل عبدالوهاب الحلواني مشرف البث لإدارة الوحدات الفنية .
رابعاً .. مخاطبة الصحف القومية بشكل ودي لمنع نشر أية أخبار أو تعليقات تخص ما حدث .
خامساً .. تحرير محضر بقسم شرطة بولاق أبو العلا لاتهام المدعو “علي منير مظلوم ” بإثارة البلبلة داخل المبنى و محاولة تكدير السلم العام بعرضه قصص كاذبة للمواطنين مخالفاً ما تم الاتفاق عليه قبل البث .. انتهى القرار .

خرجت من ماسبيرو بعد اختفاء هذا الكائن متجها لبيت والديّ ، لم أكن مستعداً لرؤية سمية في تلك الحالة رغم إلحاحها عليّ بسرعة العودة .. كنت محتاجاً لشخص آخر لا يناقشني أو يستفسر عن سبب ما حدث ، شخص لا تتغير صورتي أمامه مهما كانت الظروف ، الشخص الوحيد القادر على هذا و سيراك ناجحاً حتى بعد فضيحتك على الهواء أمام مصر كلها هو أمك ..

كانت الأفكار تعصف بي طوال الطريق ، أسئلة كثيرة تدور في بالي بلا إجابة أو تفسير ، هل الكائن الذي كان يقوم بالبروفات معنا و يجلس بجواري منذ قليل هو الشيطان ؟ هل الشيطان قرر أن يتوب هكذا بكل بساطة ؟! و بعد أن قرر التوبة اختار برنامجي ليعلن ذلك فيه ؟ هل هو أحد زملائي مثلا و قرر العبث معي أو الكيد لي ؟ ثم كيف اختفى رغم غلق المبني بإحكام ؟ لماذا كان مصراً على عدم نسياننا له ؟ هل العالم أصبح خالياً من وسوسة الشياطين حقاً ؟ كنت على حافة الجنون الرسمي يا عم شفيق حتى وجدت أمي أمامي فاتحةً ذراعيها فارتميت في أحضانها و .. و أجهشت بالبكاء

** ** **

الاثنين .. 12 أكتوبر 1992

الثالثة و تسع دقائق عصراً .. زلزال ضرب القاهرة بقوة 6 ريختر تقريباً و يقتل 545 شخص تقريباً ، و إصابة 6512 شخص و تشريد نحو 50000 أصبحوا بلا مأوى ..

** ** **

عدت إلى شقتي فوجدت سمية تشاهد التلفاز .. أعتقد أنها ظلت على وضعها أمام الشاشة هكذا من وقت عرض الحلقة المشؤوم ، ما أن رأتني حتى مارست دورها المعتاد في تهدئتي لكنها لم تفلح تلك المرة ، لم أكن في حالة ثورة أو غضب أو حتى ضيق طبيعي من ضغط العمل ، هذه المرة كانت نكسة من كافة الجوانب ، شعور بالفشل و رغبة ملحة في البكاء بعد ضياع كل شيء ، الشهرة ، المجد ، الأرض الصلبة التي كنت أقف عليها في العمل صارت هشة لا طائل منها في المستقبل ..

تظاهرت بالتماسك و ابتسمت لها بمعنى ( كل شيء سيكون على ما يرام ) ، ثم جلست أتابع معها أخبار الزلزال فزاد الوجع .. الجثث تحت الأنقاض و أغلب المصريين في الشوارع .. الرئيس قطع زيارته للصين و عاد للقاهرة .. حالة من الفزع تجتاح المحروسة و الجميع حزين باستثناء طلبة المدارس لتوقف الدراسة ، لم تكن مصر من الدول المعتادة على الزلازل لذا كانت فكرة تكرار الحدث – لا قدر الله – تخيف الكل .

مات من مات و بقي شبح الزلزال محور حديث العامة لشهور طويلة حتى خبا هو الآخر ، الأغلبية حمدت ربها على عدم فقدان عزيز أو خسارة عقار ثم بدأت الحياة للعودة تدريجياً في ربوع الدولة ، و نسي الجميع تلك الفاجعة ، نسي الناس الزلزال و ما قبل الزلزال ، لم أقابل إنساناً يذكر الليلة التي سبقت الزلزال لدرجة أنني كنت أتشكك أحياناً في خوضي التجربة من الأساس بل و نسيتها طيلة هذه السنوات..

النسيان يا عم شفيق نعمة تظهر منافعها طول الوقت ، لو حزنت فالنسيان دواؤك ، و لو فرحت فالنسيان سيجعلك تبحث عن بداية جديدة لفرحة أكبر .. النسيان أكبر نعمة للبشر في نظري لكن ماذا عن غير البشر ؟

” وصلنا يا نجم .. سعادتك هتنزل ولا نقعد نتكلم شوية لحد وقت الحلقة؟ “

ضحكت بشدة و علامات الحيرة ظاهرة أمامي على وجه عم شفيق في المرآة و قلت :

– لا لا هنزل يا راجل يا طيب وبعدين مفيش كلام خلاص ، هحكيلك ايه تاني ؟

– ازاي يعني دا انا مرعوب ؟ الراجل ده كان شيطان فعلا ولا ايه ؟ وبعدين كل ده وانا لسه مش فاهم برضو حضرتك طلّقت مدام سمية ليه ؟ لو ملكش مزاج تفضفض في النقطه دي براحتك انا آسف والله ..

– بص يا سيدي .. أولاً انا معنديش اي معلومة زيادة عن اللي اسمه منير مظلوم ده غير اللي حكيتهولك ، بالنسبة للطلاق فبعد موضوع نقلي لقسم التطوير ده حسيت ان معادليش اكل عيش في ماسبيرو خلاص ، اهملت الشغل وكنت ساعات بفضل في البيت بالأسبوع منزلش ، دخلت زي ماتقول كده في حالة إكتئاب وحسيت اني عشان اخرج منها لازم إما نجاح ضخم يعوضني عن المصايب اللي حصلت دي أو طفل ننشغل بيه واحس معاه بشعور يفرحني .. طبعا مكنش فيه اي نجاح قريب أو ظاهر حتي من بعيد وده شتتني اكتر وزوّد الاكتئاب اكتر واكتر وختمت بفصلي من التليفزيون ..

– يااه للدرجه دي ؟

– اه وحياتك .. سميه كمان حست اني بتعمد اهينها يوميا ومكدبش عليك ده كان بيحصل فعلا .. الشيطان خلاني مش طايق ابص في وشها ولا حتي اسمع صوتها وكل اللي كنت بفكر فيه وانا لوحدي ان لو سمية خلفت طفل حياتنا هتكون احسن من كده ، ضغط ومشاكل ومفيش فلوس هوب مره واحده اتطلقنا .. حاولت ارجعلها تاني بعد موضوع السينما ده لكن بصراحة هي رفضت .

– لسه بتحبها يا سامح باشا ؟

– مش عارف يا عم شفيق بس اللي متأكد منه ان احنا الاتنين بنحب ذكرياتنا في الخمس سنين جواز لحد دلوقتي .. هي متجوزة وحياتها مستقرة وانا زي ما انت شايف كل يوم مع واحده شكل ومبسوط كده ، يمكن والله اعلم لو كنا كمّلنا مع بعض كنت خنتها وساعتها كانت هتكرهني اوي ..

– امممم .. صح ، كلامك مظبوط يا فنان .

– يلا اشوفك بعد ساعتين كده من دلوقتي ، هتصل بيك اول ما اخلّص تستناني هنا بالظبط .. سلام

– مع السلامة يا نجم مصر .

** ** **

صعدت لمكان الاستديو القديم فوجدت زملاء الماضي في استقبالي ، الأشكال تغيرت كثيراً لكن الكل مازل محتفظاً بنفس الروح القديمة ، الشيب و الصلع و تجاعيد الوجه صاروا علامات مميزة لهذا المكان ، و لولا وجود بعض العمال و المساعدين الشباب لقلت أنني مدعو لإحدى حلقات البرنامج التسعيناتي الشهير ( ربيع العمر ) .. أما الاستديو فلم أجد فيه شيئاً من الماضي .. الأجهزة تغيرت للأحدث ، اختفت الإضاءة الخلفية و حلّ مكانها الإضاءات الحادة ، الديكور ينافس ديكورات القنوات الفضائية الخاصة ، حتى غرف تحكم الصوت و هندسة البث تغيرت تماماً و صارت اليد العليا للتكنولوجيا ..

سلّمت على الجميع ، الكثير من الأحضان و القبلات و المشروبات و الذكريات ، حفلة ذكريات امتدت لساعة تقريباً يملؤها حنين مذهل لأي حدث في الماضي .. تكلمنا عن كل شيء تقريباً ما عدا الفترة الأخيرة لي في ماسبيرو ، البرنامج الملعون و التحقيقات و الفصل … الخ .

الكل كان يحتفي بي و بداخلهم سعادة حقيقية بوجودي ، و لم يكن بينهم مَن يريد تذكيري بتلك الفترة السيئة أو أنهم نسوها مثلي ..كان (موودي) رائقاً و لم يعكره سوى علمي بنبأ وفاة المهندس كامل الحلواني – رحمه الله – بعد خروجه للمعاش مباشرة .. لم يعش هذا الرجل حياة عملية سعيدة و لو ليوم واحد .

بعد حوالي ساعة تقدم ناحيتي شاب وسيم في عينيه إصرار و حماس قوي ، رحّب بي و طلب مني بدء التسجيل .. عرفت منه أنه مذيع البرنامج فطمأنته أنني جاهز تماماً للحلقة .. صحيح أنني لم أضف شيئاً جديداً في هذا اللقاء عن سابقيه لكنني كنت أتكلم بمزاج رائق لأقصى حد .. أعتقد أن قبولي الظهور بهذا اللقاء كان أفضل اعتذار للزملاء و للمكان نفسه إن كنت أخطأت بحقهم بسبب تهوري القديم .. هل نسيت شيئاً ؟

بالطبع صورة تجمع طاقم العمل للذكرى و نجم الأكشن بينهم ..

تذكرت الصورة القديمة فأخبرني المخرج أن الصورة الأصلية في منزله لكنه نشرها على (الفيس بوك) قبل عدة شهور ثم ناولني هاتفه المحمول لألقي نظرة عليها ..

– هو كامل الحلواني شكله متغير كده ليه في الصورة ليه ؟

– مش عارف ، اكيد كان مرهق جدا .. كلنا كان باين علينا التعب اهو ..

– لا لا مكنش مرهق ولا حاجة ، بالعكس ، الله يرحمه كان نشيط يومها جدا .. بص كده ، عينيه مش طبيعية ، حمرا بشكل غريب وبعدين نظرته نفسها كأنه تايه أو مش مركز احنا بنعمل ايه اصلا .. انا متأكد ان كان فيه حاجة غلط فيه كله علي بعضه .

– خلاص يا سامح يمكن غلطه من الفوتوجرافر ولّا حاجه في التحميض ، اليوم كان كله غلط اساسا .. اللهم احفظنا .
لم يكن راغبا في الخوض بهذه النقطة علي ما يبدو فآثرت عدم الضغط عليه ..

– يمكن .

قلتها و ناولته الهاتف مستأذناً في الانصراف ، فأصرّ المخرج و المُعِد مرافقتي لمدخل المبنى و ظلا يلوحان لي بأيديهم حتى بعد تحرك السيارة إلى أن تواريا عن عيني .. شرد ذهني قليلاً في الصورة و احتمالية تلبس الشيطان بكامل – رحمه الله – من أول اليوم في غرفة التحكم .. هذا هو التفسير الوحيد لعدم توقف البث وقتها .. لكن كيف ؟ لقد كان علي مظلوم جالساً أمامي و لم يغب عن عيني لحظة حتى اختفى ..

هل يستطيع الشيطان الظهور في أكثر من صورة في وقت واحد أم أن هناك معاونين له ؟ ثم إذا كان حفيد الشيطان هو من قابلته فأين الجد الأكبر الذي تكلم عنه ؟ يا الله كأنني كنت في حاجة لموضوع الصورة حتى تتضاعف حيرتي .. صممت ألا أفسد يومي مهما حدث فاخرجت زجاجة خمر ماركة فودكا من ثلاجة السيارة و شربت منها مباشرة ، شربت نصفها أو يزيد تقريباً ..

– سعادتك نازل كده محتار و لون وشك مش عاجبني ، حد ضايقك فوق ولا بالك لسه مشغول ؟

– شوية تخاريف في بالي ، هيروحو لواحدهم متشغلش بالك ..

– ومال اشغل بالي بمين بس يا سامح باشا ؟

– عارف يا عم شفيق رغم كل الناس اللي في حياتي بس مابرتاحش غير في الكلام معاك
يا راجل يا طيب .. بتعرف اللي جوايا من غير ما أقوله اصلا .

– دي عشرة عُمر يا فنان .

بعد فترة كانت الخمر قد لعبت برأسي تماماً حتى سقطت على صدري ، و أخذت أدندن أغنية مبتذلة ..
– الكيمي كيمي كا هههه الكيمي كيمي كوكو واوا هههههه

– خلاص يا فنان قرّبنا نوصل الفيلا اهو .. امسك نفسك شوية .

قلت بلسان ثقيل من أثر الخمر و أنا شبه نائم :

– مش عارف اتلمّ علي روحي ، وصّلني للسرير ومتسيبنيش يا شفيق .

” لم أتركك يوماً منذ ميلادك ، و سأبقى معك حتى تواريك الأرض التي جئت منها “

قالها سائقي الخاص بصوت رخيم لم أميّز أين سمعته من قبل ، و لمحت في مرآة السيارة نظرة خبيثة تملأ عينيه قبل أن أفقد الوعي .

تاريخ النشر : 2017-01-17
guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى