أدب الرعب والعام

ثرثرة تحت الأرض – 1

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

ثرثرة تحت الأرض - 1
رفع هذا الرجل رأسه فجأة ثم بدأ بالتحدث بصوت مرتجف : سيد أوليڤر .. هل هذا أنت حقاً ؟!

يوجد هناك الكثير من الأماكن المثيرة للاهتمام على وجه الأرض ، بعض هذه الأماكن لا يجب على البشر أن يتواجدوا بها .. أو على الأقل يتواجدوا بها وحدهم ، لقداسة بعضها و لبشاعة منظر بعضها الآخر و لخطورة أخرى ، المقابر أبسط و أسهل مثال .. تجدها دائماً غامضة و مظلمة و كئيبة ، مقدسة هي و يمنع تدنيسها ، لكنه و على النقيض تماماً يوجد أماكن أخرى صعب أن يتم التفكير بها على أنها أماكن لا يجب التواجد بها ، أماكن بديهية لا يمكن لمعظم الناس أن يتوقعوا الخطر فيها ، أماكن مثل محطات مترو الأنفاق .. القصة تختلف هناك .

في منتصف الليل تماماً وقف أوليڤر مستنداً على العمود .. ينتظر المترو بشغف لا يمكن أن يمتلكه شخص مثله ، طبيعة عمله تفرض عليه هذا الانتظار .. ليس الأمر بيده ، إنَّ عمله غريب قليلاً و لكنه مضطر للقبول به ، حتى هو قد اعترف لنفسه في يوم من الأيام بأن عمله غريب ، كان قد اعتاد هذا الأمر .. اعتاده لدرجة الإدمان ، لا يمكن توقع أقل من هذا لرجل ظل يفعل نفس الشيء لمدة عشرين عاماً ، عشرين عام و هو يفعل نفس الشيء .. ينتظر مترو منتصف الليل المار على محطة مارسيليا المهجورة بصبر ، و بالطبع بملل ، هذا الرجل على مر السنين قد عرف كل شيء عن المترو الذي يستقله .. عن العربة التي يدخلها .. عن الكرسي المفضل لديه

هذه المحطة بالذات هي تقريباً أقل المحطات استقبالاً للناس في العالم كله ، لأنها على مدار اليوم كله لا تستقبل سوى شخصين أو ثلاثة في أفضل الأحوال ، و هو منهم بالطبع ، و المترو نفسه لا يمر إلا مرتين يومياً على هذه المحطة المهجورة ، المحطة كانت شعبية للغاية في يوم من الأيام .. هذا الجزء المنعزل كان مليئاً بالحيوية حتى جاء اليوم الذي أعلنوا فيه هدم هذا الجزء بسبب مشاكل في البنية التحتية ، ثم فكروا في أن ترك هذه المحطة لن يضر أبداً ، كان يفكر كثيراً في هذا الأمر ، الواقع هو أنهم لم يزيلوا هذا الجزء من المدينة بسبب البنية التحتية ، لو كان الأمر هكذا لكانوا قد بنوا بيوتاً أخرى مكان التي تم هدمها ..

أخذ يتخيَّل السناريو في عقله ، فيرى رجل فاحش الثراء أراد أن يكون أكثر فحشاً في ثرائه فيقرر أن يبني بعض المصانع التي تساعده في ذلك .. ثم وجد هذا الجزء المنفصل عن المدينة .. يبدو له كجزيرة صغيرة مكتظة بالسكان يفصل البحر بينها و بين الجزيرة الكبيرة التي هي المدينة ، فكر الثري و قال أن الازدحام هنا غير معقول و لكن المكان رائع من أجل أعماله .. و إذا تمكن من إزاحة السكان فسوف يتمكن من بناء مصانعه بدون مخالفة القانون لأن هذا يعتبر مكاناً منعزلاً في حد ذاته و يلزمك عبور جسر صغير كي تصل للمدينة الكبيرة ، إن الأمر سهل و ازدحام المنطقة سهله أكثر .. بعض الهراء الحقيقي و المنطقي عن البنية التحتية و التناقض و ما إلى ذلك إلى مجلس المدينة ثم ينتهي الأمر ، ثم بعد ذلك رشوتين هنا و رشوة هناك و يحصل على الأرض بكاملها له .. كان هذا منذ عشرين عاماً أما الآن فهذا الجزء ممتلئ عن آخره بمصانع هذا الرجل الثري .

كان أوليڤر يستند على العمود و هو يصفِّر بألحان أغنيته المفضلة حين سمع الصوت و رأى الضوء في النفق .. توقف عن الصفير و نظر إلى ساعة كبيرة معلقة على الحائط ثم غمغم بعدها “دقيقتين تأخير اليوم..هممم.. لابأس”
انفتح الباب أمامه فدخل بتثاقل و فوراً ذهب نحو مقعده المفضل ثم جلس ، و هنا لاحظ الشخص الآخر الذي يجلس أمامه في الظلام ، أولڤير لم يقابل في حياته سوى سبعة أشخاص في هذه المقصورة ، و مع هذا الشخص أصبحوا ثمانية .

عدا أن هذا الشخص كان مختلفاً أو هكذا بدا لأوليڤر ، حينما تحرك المترو أخيراً نظر له أوليڤر نظرة متفحصة ، كان الرجل يشبه كتلة متكومة على نفسها و لا يظهر من جسده سوى أنفه و ذقنه ، و الباقي مختفٍ تحت ثيابه و تحت تأثير الظلام ، يسمونها الإضاءة الجانبية في السينما .. تعطي انطباعاً لا بأس به لدى المشاهد .. و أعطت نفس هذا الانطباع لدى أوليڤر ، الرجل يبدو كشبحٍ يختبئ بداخل الظلام ، تعجب أوليڤر من الأمر ، فالجو لم يكن بارداً لهذه الدرجة التي تدعوه لأن يرتدي ملابس مثل هذه ، و لا أن يتكوم فوق نفسه هكذا و كأنه يطالب ببعضٍ من الدفئ .

و رفع هذا الرجل رأسه فجأة ثم بدأ بالتحدث بصوت مرتجف :
“سيد أوليڤر؟.. هل هذا أنت حقاً ؟”
نظر له أوليڤر لوهلة ثم رد و هو يحك رأسه :
“نعم هذا اسمي”
“هل؟!.. هل تمانع إن تحدثنا قليلاً ؟”
“لا أمانع أن أتحدث مع.. الغرباء”
قالها أوليڤر و هو يضغط على كلمة الغرباء.. أراد له أن يعرف أن له حدوده معه الحديث ، لكن الرجل صمت و لم يتحدث.. فقال أوليڤر :
“كيف عرفت إسمي”
“أخبروني به”
“من هم؟!”
“إن أخبرتك فلن تعرفهم على أي حال”
“و ماذا تريد ؟”
“أخبرتك.. أريد أن نتحدث”
“عن ماذا ؟”
“عن ماضيك يا سيد أوليڤر”

أخذ أوليڤر ثانيتين كي يستوعب ما قاله الرجل.. ثم ما إن أدرك معنى الحديث حتى قطَّب جبينه و قال بنبرةٍ خشنة :

“ليس من شأنك”
قال الرجل في تعجب:
“لا ؟!!”
صمت الرجل الغريب لفترة ثم أردف بعدها:
“لنعقد إتفاقاً يا سيد أوليڤر.. أنا سأقص عليك جزءاً من الماضي الخاص بي ، و أنت بدورك ستقص علي جزءاً من الماضي الخاص بك”
فكر أوليڤر في الأمر.. الرجل يبدو غريباً و لكنه يبدو مسالماً.. ولا مانع حقاً من أن يحكي له ماحدث له منذ سنين ، بالإضافة إلى أن الطريق مدته ساعة كاملة و لا مانع من القليل من التسلية.. رد أوليڤر ببساطة :
“أتعرف ماذا ؟! لقد أعجبني الأمر.. فليكن.. و سأبدأ أنا”

ثم صمت أوليڨر قليلاً و بدا أنه يسترجع ذكريات ماضيه ، و بعدها أردف بصوت خفيض و هادئ :
“حسنا.. تريد أن تعرف الماضي الخاص بي”
ثم نظر إلى الفراغ في شرود كمن يتذكر ماضيه و بدأ يتكلم :

“سأحكي لك عني .. سأحكي لك عن الرجل الذي أحب زوجته و أولاده أكثر من اللازم ، عن الرجل الذي أعطى كل شیء حقه أكثر من اللازم ، الرجل الذي أفنى نفسه من أجل عائلته ، عانى الرجل كثيراً مع عائلته ..

كل شيء حوله كان يثير حنقه .. ابنه و بنته المراهقين و صراخهما العالي ، تمردهم ، المصاريف المتراكمة ، الحياة الكئيبة المشؤومة التي يعيشها ، لكن ما كان يعزيه فقط هو زوجته الجميلة لولا .. كانت لطيفةً لطف الكون نفسه ، المضحك في الأمر أن الرجل كان يظن أنها تكرهه في بعض الأحيان .. و ليست هي فقط بالطبع بل و أبنائه كذلك ، ظن أنه كان يرى هذا في عينيها و في أعينهم .

و في يوم مشؤوم في أسبوع مشؤوم ذهب الرجل لعمله كالعادة ، ليجد أنه قد فصل من عمله ، لم يجد أسباباً واضحة لهذا الأمر .. فقط قالوا له أنت لم تعد تعمل هنا ، ما حدث بعد ذلك كان متوقعاً ، أشياء مثل تحطم معنويات الرجل ، مثل الإحباط الذي سيطر عليه ، لم يعرف الرجل من أين سيبدأ مجدداً ، لكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد و كما يقولون أول الغيث قطرة .. كان فصله من عمله هو أول قطرة من الغيث ، فبعد ذلك بدأ المطر ينهمر بقسوة ..

فقد الرجل زوجته بسبب مرضٍ خبيث ، ما ترتب على ذلك كان هو تشرد الأبناء ، الرجل لم يكن يعرف أن أولاده سيكونون هم أكثر من تأذوا من هذا الأمر ، بالنسبة لهم أمهم كانت كل شيء و أكثر ، ناهيك عن أنها هي من كانت تهتم بهم .. أو بمعنى أصح توجههم للطريق الصحيح ، لكن حين حدث هذا تداخلت الأمور لديهم و أصبحوا لا يفرقون بين الصحيح و الخطأ .. لقد ركضوا وراء الرغبة و الغريزة ركضاً ، فقط كما يجب لمن هم في سنهم أن يفعلوا إذا لم يجدوا من يوجههم كالأم .. كالعائلة ، ابنه المراهق العنيد قد صار مدمناً و ليس ذلك الإدمان العادي ، بل ذلك النوع من الإدمان الذي يمكنه أن يقتل صاحبه إذا كان متهوراً ، و كان الرجل يعرف أن ابنه متهور إلى أقصى حد ، لهذا لم يندهش كثيراً حينما وجد ابنه منكمشاً على نفسه بدون أي علامة تدل على أنه حي .. عرف حينها أنه مات هو الآخر بسبب جرعة زائدة .

و في الجنازة بدأ الرجل يعد المتواجدين .. و أحصاهم ، كانوا خمسة أشخاصٍ فقط ، تأكد حينها من أن لا أحد يود أن يكون في جنازة شخص مثل ابنه ، أو في جنازة ابن شخص مثله هو ، لم ينته الأمر عند هذا الحد بالطبع ، في وقت الجنازة بحث كثيراً عن ابنته و لكنه لم يجدها في أي مكان .. لم تحضر إلى الجنازة ، فيما بعد و مما عرفه من ابن الجيران هو أنها قد صارت فتاة ليلٍ بارعةٍ للغاية ، و أنها قد هربت لتعيش حياتها و تحظى ببعض التجارب و من المحتمل ألا تعود أبداً إلى هنا بعد أن تذوقت طعم المال .. و حينها فقط لاحظ الرجل أن ابن الجيران ربما يعرف أكثر مما ينبغي .. أكثر مما ينبغي بكثير

و هكذا في أسبوع واحد فقد الرجل كل شيء كان يعيش لإجله يوماً ، و ظل هائماً تكاد فكرة الانتحار أن تبلغ منه مبلغاً حسناً ، وقتها جلس مع نفسه و أخذ يفكر .. ما الذي أراده حقاً ؟ ما هو حلم حياته ؟ و انتبه أخيراً إلى شيء تاه عنه كثيراً ، كم كان يحب رائحة البحر و هو صغير .. لكم تمنى أن يصبح صائد سمك ، توقف الرجل عند هذه النقطة و بدأ يرسم خططه التالية ، إن الرجل معه من المال ما يكفي لشراء ما يلزمه كي يصبح صياداً ، سوف يقضي بقية عمره في فعل ما يحب .. سيصطاد و يبيع السمك !

كانت بداية الرجل صعبة للغاية .. لا يمكنك أن تكون صياداً و تكتسب الخبرة بين يوم و ليلة ، الجميع يعرف أن القاعدة الأولى و الأساسية في الصيد هي الصبر ، عانى الرجل كثيراً لكنه في النهاية صار خبيراً في الأمر ، صار الصياد الأشهر في المدينة ، حين ازداد ماله و بدأ ينتفع من بيع السمك بشكل مرضي .. بدأ يتوسع في تجارته ، اشترى مركب أكبر و وظف اثنين ليساعدوه ، باختصار كان الرجل يتسلق القمة خطوة بخطوة ..

مع مرور الوقت عرف الرجل أن حياته ما كانت لتكون أفضل من هذا .. فهو يفعل الشيء الذي يحب بل و يكسب مالاً منه كذلك ، و بعد ذلك و في نقطة معينة من حياته بدأ يفكر في كيفية جعل نفسه أسعد ، ثم بدأ العمال لديه يتكلمون معه عن حتمية زواجه .. فهو الآن رجلٌ ناجح و سعيد و لا مانع من ذلك رغم سنه ، و لكن تجربته السابقة كانت تعيقه عن هذا ، كان شيئاً ما في عقله يخبره بأن كل سيئ يحدث حينما تجد من تحبه ، إذ أنهم بطريقة أو بأخرى سوف يتمكنون من إيذائك .. سواء إن أذوك بإرادتهم أو أذتهم الظروف ، في كلتا الحالتين سوف يكون هناك ألم و حزن ، و في نفس الوقت كان الرجل راضياً عن حياته و لا يطلب المزيد ، لقد أصبح فجأة متمسكاً بفضيلة القناعة ، وجد نفسه بعد أن كان لا يهتم بهذه الفضائل المثلى و الأخلاق العليا .. وجد نفسه يدافع عنها و بشدة ، لكنه كان يعرف أن هذا فقط بسبب أنه خائف من أن يحدث ما حدث سابقاً ، كان يعرف بأن الخوف هو ما يجعله يفكر بهذه الطريقة “

صمت أوليڤر و بدا أنه قد اكتفى بهذا القدر ، فهم الرجل الغريب الموقف و بدأ يحكي حكايته هو :

” أما أنا فسأحكي لك عن الفتى المراهق الذي أثارته أفكاره أكثر مما أثاره العالم ، ذلك الفتى الذي كان يبحث عمن يحب لكنه لم يجد من يحبه ، فظل معلقاً .. شتَّان بين مشاكله الذهنية و بين رغباته الدفينة التي تعد جزءاً لا يتجزأ من مشاكله الذهنية كذلك ، كل يوم كانت تتولد لدى الفتى مشكلةً ما داخل عقله ، شيء روتيني لمن هم في مثل سنه ، لكن أكثر ما أرقه وقتها كان شيئاً كبيراً ، الفتى كان لديه مشكلة تتعلق بعدم الثقة في أقرب الناس إليه .. كان يجد نفسه أحياناً يكره كل من هم حوله ، أباه و أمه و إخوته و أصدقاؤه ، كان يعرف أنه يحتاج لشيء .. في داخله عرف هذا ، و قد تساءل عن ماهية هذا الشيء كثيراً ، لكنه لم يجد إجابة أبداً ..

و حينئذ قرر أن يذهب إلى بعض الجلسات التي قد تساعده في معرفة ما يحتاجه حقاً ، كان الهدف الأسمى في هذه الجلسات هو الاستماع ، سوف تجد من يستمع لك و لمشكلتك ، و حينها سوف تشعر بأن هناك من يقاسمك شعورك و هذا سوف يهون عليك الأمر قليلاً ، و ربما فيما بعد ستجد من يقترح عليك حلاً و ربما ستجد كذلك من يساعدك .

الجلسات بدورها كانت من ذلك النوع الذي يجتمع فيه أصحاب المشكلة في دائرة ثم يبدأ كلٌّ منهم بالتكلّم عن مشكلته و كيف بدأت ، و ما آلت إليه بعد مرور الوقت ، و بالطبع كيف إنتهت، بعض القصص كانت مثيرة حقا و ذات نهايات حزينة جداً .

واحدة من القصص التي سمعها الفتى في هذه الجلسات كانت قصة تحكيها امرأة جميلة ، و لم ينسَ الفتى أبداً صوتها و نبرتها و هي تحكي قصتها ، و لم ينسَ كلماتها كذلك ، كانت تحكي قصتها بصوتٍ واهنٍ و يائسٍ فتقول »» لقد مرت الآن عشر سنوات منذ أن رأيت إيلي لأول مرة .. في ظروف أخرى لم أكن لأتذكر كم من السنين مر علي و لكن اليوم أتذكر ، أتذكر لأن الأمر يتعلق بإيلي الطفلة البريئة التي أحبتها العجوز كثيراً .. لأنها إبنتي ، و الآن لا أريد أن أخوض في التفاصيل ، الأمر فقط هو أنني سوف أموت و أحتاج حقاً لمن يعني بها ، إنها صغيرة .. و جميلة ، لا أقارب لها و لا أحد مستعد لتحمل عبئها ، لكن لا تفهموني بشكل خاطئ ، أنا لست هنا لأبحث عن أحد كي يعتني بها ، فأنا لن أعطيها لشخص قد قابلته في مكان مثل هذا ، جل ما في الأمر هو أنني قد أصبت باكتئاب شديد نتيجة هذا الأمر و أردت أن أعرف هل هناك من هم مكتئبون مثلي أم لا .. تعرفون ذلك الشعور بأنك لست وحدك من يعاني ««

و كأن هناك جرس قد رن في رأس الفتى ، بدا له أن الأمر سيفرحه حقاً .. الاعتناء بطفلة ، و فجأة وجد الفتى نفسه يسأل المرأة عن عمر طفلتها ، نظرت له مطولاً ثم أجابته .. 10 أعوام ، كان انطباع الفتى الأول عنها هو أنها جميلة ، لكن حينما نظرت له بدأ يتنبه أكثر للأمر .. بدأ يتعمق في تفاصيل وجهها ، و حينها لم يأخذه الأمر أكثر من ثانيتين كي يعدل من انطباعه الأول ، قد كانت جميلة للغاية ، في غمرة انبهاره كان يفكر في الأمر ، إنه لمن المحزن للغاية أن تموت أم و تترك ابنتها الصغيرة بهذه السن ، لكنه من الأكثر حزناً أن يموت مثل هذا الجمال .

ما يعرفه عن هذه الأمور هو أن أي إمرأة متزوجة تخطت حاجز الثلاثين و لديها أبناء فيجب أن لا تكون جذابة .. إنه شيء مثل قانون قد وضعه في رأسه و أصبح العمل به واجب إذا توافرت الشروط ، لكنه و لأول مرة في حياته يتعارض واقعه بشيء قد درسه و استنتجه كثيراً من قبل ، و في النهاية وجد نفسه حائراً للغاية فضوليا للغاية ، كانت الأمور بسيطة واضحة أمامه ، سوف يطلب مساعدة هذه المرأة ، أن تطلب مساعدة شخص يريد المساعدة لهو شيء مثير للسخرية .. و هذا هو ما تنبه له حينما تكلم معها بعد نهاية الجلسة ، من حديثهما عرف الفتى بعض الأشياء عن المرأة .. ليس عن حياتها بل عن شخصيتها ..

كانت المرأة هادئة للغاية و تتحدث بصوت خفيض .. عرف فيما بعد و بعد التدقيق أن هذه ليست صفة الهدوء ، كل ما في الأمر هو أنها لم تعد ترى أي شيء مثير في هذا العالم ، كل ما يهمها هو تأمين مستقبل طفلتها و من ثم فتباً لهذا العالم ، و هذا هو ما استطاع أن يستخلصه من بين حديثها معه .. لقد كان ينقصها أن تتفوه بهذا مباشرة ، المضحك هنا هو أن الفتى بعد عشرة دقائق من الحديث معها أدرك شيئاً مهما .. لقد أحبها بالفعل ! ليس حب الشخصية بل الحب الذي يتحدثون عنه بالإفلام ، اعتقد حينها أن الأمر مثير للضحك كثيراً على قدر ما هو مثير للقلق ، لكنه هدَّأ من روعه .. ليس الأمر و كأنه قد ظل يحبها لعشرين عاماً ، لقد رآها للتو !!

صارحها بالأمر في النهاية .. قال لها بأنه قد استراح كثيراً لها و أنه يود فعلاً لو يعتني بطفلتها ، لكن ما الفكرة هنا ؟! ظل يسأل نفسه هذا السؤال كثيراً .. لماذا هو يريد أن يعتني بطفلة صغيرة لا يعرفها بهذه الحماسة ؟! كان ردها مفاجئاً بعض الشيء له .. قالت بأنها قد وجدت من يعتني بالطفلة بالفعل ، سألها عن هوية الشخص لكنها لم ترد فلاحظ أنه يطلب أكثر من اللازم بالنسبة لشخص قد قابلته للتو ، كانت من النوع الذي لا يحب أن يوقع الآخرين بمواقف محرجة لذا حينما طلب منها أن يساعدها بأي وسيلة شكرته بلطف و طلبت منه أن يترك رقمه معها و إذا شعرت بأنها تحتاج للمساعدة سوف تتصل به .

لم يأسف الفتى كثيراً فقد كان الأمر متوقعاً بالنسبة له .. هو فقط كان يحاول لعل الأمر ينجح ، أعطاها الرقم و حفظ تاريخ ذلك اليوم في ذهنه ، إنها نهاية مغامرة قصيرة ، و مما لاشك فيه أسرع نهاية حب من طرف واحد على الإطلاق ، لكنها على كل حال كانت شيء سوف يحكيه لأطفاله من بعده .. سوف يقول بفخر أنا الرجل الذي أحببت امرأة في عشر دقائق ثم افترقنا في عشر أخرى !!

الفتى في هذه الأيام كان لايزال مستمراً في حضور تلك الجلسات ، و أول شيء كان يفعله هو البحث عن تلك المرأة التي أثارت اهتمامه.. وقتها أدرك أنه يكره الاعتراف بالأمر ، يكره الاعتراف بأنه يشعر بالإحباط حينما لا يجدها بين الحاضرين ، إلا أنه تقبَّل الأمر في النهاية حينما شعر بالسعادة إثر عثوره عليها في جلسة من الجلسات ، و رغم أنها كانت على مسافة لا بأس بها منه ، إلا أنه كان ينظر لها متوقعاً أن تبادله نظراته ، لكنها لم تفعل و ظلت شاردةً طوال الوقت .. بمرور الوقت استسلم الفتى و فقد الأمل في أن تنظر له و أشاح بنظره بعيداً مفكراً في مشكلة من مشاكله اليومية المعتادة ، الأمر المثير الذي لم يره الفتى وقتها هو أنها أخيراً كانت قد بدأت تنظر حولها ، و أنها قد تنبهت له و تذكرته من مقابلتهما الأخيرة .

شعرت بشعور غريب حينها .. بدا لها أن ذلك الفتى تائه ، إنه يائس و يبحث عن شيءٍ ما ، أما عن ذلك الشعور الذي انتاب الفتى حينها فهو شائع ، إنه الشعور الذي بسببه تدير رأسك فتجد من يحدق بك بإصرارٍ عجيب ، و كذا قد تلفّت الفتى ليجدها تحدق فيه ، لحظة تلاقت فيها الأعين و لحظة أخرى رفع فيها يده في خجل .. و في صمت .. فقط ليحييها ، ردت عليه بالمثل مع ابتسامة قتلت نفسها من أجل إخراجها ، آخر ما كانت تريد أن تفعله في مكان مثل هذا هو الابتسام ، لكنها كانت مجدداً تلك العادة فيها .. أنها لا تحب إحراج الآخرين ، لابد من أنها قد فكرت حينها في أن التلقائية تحكم في هذه المواقف ..

و كما توقعت المرأة وجدت الفتى أمامها يحييها بلطف بعد إنتهاء الجلسة ، فعرفت ببساطة أن الفتى يريد الحديث ، لكنها لم تعترض حقاً ، لقد كانت تشعر بالاحتياج لمن يثرثر بجانبها لبعض الوقت ، فقد كانت مستاءة بدرجة فوق العادة و تريد أن يلهيها شيءٌ ما عن هذه الدرجة الغير عادية من الكآبة .

كان الفتى يريد العديد من الأشياء وقتها ، كان يريد أن يروي فضوله و يعرف من سيربي ابنتها .. و كان يريد كذلك أن يعرف الأسباب التي جعلت الفتاة يتيمة ، لكن أكثر ما كان يريده الفتى هو أن يمضي بعضاً من الوقت برفقتها .. فهو لم ينسَ أنه قد أحبها لوهلة من قبل ، ما لم يكن يعرفه الفتى بأنه سوف يسحر أكثر بجمالها و بطريقتها في الحوار ..

برغم هذا ظل ذلك اليوم من أفضل الأوقات التي حظي بها الفتى على الإطلاق ، و قد كان كذلك من الأيام التي غيَّرت مجرى حياته للأبد ، فعن إيلي قد عرف .. و عن الشخص الذي سيربيها بعد موت أمها قد عرف كذلك ، و عن أسباب تيتم إيلي تمنى أن يعرف .. لكنها لم تتحدث عن ذلك قط .
فقط أخبرته عن إيلي و عن الشخص الذي ستثق فيه من أجل الإعتناء ، هو لم يرد أن يتوغل أكثر من اللازم في حياة المرأة لذا لم يجرؤ على السؤال ، لكنه لم يتقبل ما سمعه منها على كل حال .. لقد كانت تخبره بأن أمها هي من ستربي إيلي .. أي جدة إيلي نفسها ، حينما أخبرته بهذا شعر بالغباء ، إن المرأة كبيرة في السن و ربما بالكاد تستطيع العناية بنفسها !

في الأيام التالية توطدت علاقته بالمرأة ، لقد تم الأمر سريعاً بالنسبة له ، بالنسبة له فقد كان حبه يكبر شيئاً فشيئاً .. و بالنسبة لها فقد كانت تقضي بعض الأيام الممتعة مع شخص غريب الأطوار و الأفعال ، رغم ذلك لم تفكر فيه يوماً مثلما كان يفكر هو فيها ، فقط رأته كشخص عادي .. شاب صغير غير ناضج التفكير ، عندما تكون منتظراً للموت فأنت لا تنظر لمثل هذه الأشياء .. أنت فقط تريد أن يمر اليوم بدون أن تموت ، تطور الأمر إلى أن أخذته في يوم من الأيام لرؤية إيلي و جدتها ..

إيلي التي كانت قد بدأت تستعد للأمر من دون أن تعرف شيئاً ، كل ما تعرفه هو أنها صارت تسكن مع جدتها ، لم يجسر أحدهما على إخبارها بذلك ، و هنا تكمن القسوة المؤلمة للحياة .. الاستعداد لشيء ما لا تعرفه .. ثم حينما يحين الوقت يصفعك الأمر بقسوة ، وضع الفتى نفسه مكان إيلي ، سوف يأتي صباح تأخذه أمه فيه إلى بيت جدته ، ستقبله على خده و تخبره بلطف أنها تحبه ، ستخبره بعد ذلك أن أنه سينقل للسكن هنا مع جدته بدلاً من بيته الأصلي ، سيحاول أن يعرف لماذا لكن الكبار يجيدون الكذب حقاً على الأطفال ، سيفكر بعقله الطفولي عن السبب قبل أن ينام ليلاً ثم في النهاية سينام من فرط الارهاق ..

ستمر الأيام عليه و سوف يرى الحزن في أعين جدته و أمه كثيراً ، سوف يراهما تتهامسان في حزن و هما تنظران إليه ، بعدها ستبدأ أمه بذرف الدموع في صمت .. و حين يتقدم نحوها و يسألها عما بها ستحضنه فوراً و هي تزيد من حدة بكائها مخبرة أياه بأن لا شيء و أن كل الأمور على مايرام ، و في يوم من الأيام سوف يستيقظ من نومه و يخرج ليرى جدته .. و حينها سوف يشاهدها لأول مرة و هي تذرف الدموع هي الأخرى ، لابد من الأمر سوف يكون صعباً عليها .. أن تخبره بأن أمه قد رحلت تماماً ..

يتبــــع ـــــــــــ
ــــــــــــ

 

تاريخ النشر : 2017-03-11

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى