أدب الرعب والعام

ضياع

بقلم : عدي الشمري – العراق
للتواصل : [email protected]

ضياع
أخذ يقفز و يقول .. إني أراك و لست أعمى

كان نائماً في غرفته التي لا تحتوي إلا على نافذة واحدة مخنوقة كما هي حياته .. و لا يسمع شيئاً من ضجيج الدنيا و غرورها , كأنه ميت بثياب حي يبحث عن ذاته بين عالمين و لا يجد نفسه في أيٍّ منهما , لا هو ميت فيرتاح من عبء الدنيا و أثقالها , و لا هو بحي يعيش ملذاتها و آثامها … إنه الضياع بعينه , بل هو الضياع نفسه الذي يمزق أوصاله و يغتال أحلامه التي لم يحلمها حتى , و يعيث خراباً و دماراً فيما تبقى من الأمل لديه .

دق الباب فجأة .. و من دون سابق إنذار سمع صوتاً يقول : افتح الباب و إلا كسرته .. تعجب صاحبنا من طريقة طرح السؤال و الطلب , فكيف بشخص يأتي إلى غرفتك و يطرق الباب ثم يقول لك سأكسره ؟ إذن هناك شيء مرعب يختبئ وراء هذا الحاجز الخشبي المهترئ , قام صاحبنا و فتح الباب بسرعة حتى تكون مفاجأة لمن يقف خلف الباب , فتح الباب فلم يجد أحداً و لكن الظلام حالك … ارتعب قليلاً و راح يفكر في نفسه : ترى من طرق الباب هل هو شبح أم أحد الموجودين في البيت أراد أن يمازحني ؟

نظر يميناً و شمالاً فلم ير أحداً غيره يقف في الرواق لا يرى إلا الظلام فأدرك أن التيار الكهربائي مقطوع .. ازداد عنده هاجس الخوف و الرعب فبدأ يمشي في الرواق ليرى أهله و لكن الضياع الذي يعيشه أنساه أن أهله قد ماتوا منذ زمن طويل , و لا يوجد في البيت سوى أخوه و لا يعرف متى يأتي و متى يذهب … و ظل يتعثر ببعض الأشياء الموجودة في البيت و هو يقول لنفسه أن هناك شيء يحدث و لا يعرف ما هو .

يا ليته لم يبحث عن الحقيقة … فمنذ أن وجدها تغيرت حياته نحو الأسوأ إن كان فيها بقية أمل .. مشى في الرواق المؤدي إلى الباحة و وقف قليلاً , سمع صوتاً يأتي من الخارج .. و كان هو نفس الصوت الذي ناداه عند باب غرفته .. هرع يركض و يضرب برجليه الأرض و يتعثر , فتح الباب فلم يجد أحداً أيضاً .. زادت حيرته و ارتعب كثيراً بمجرد التفكير أن الطارق هو شبح !

سمع صوت أناس يضحكون و يتسامرون و سمع صوت أخيه معهم .. الصوت يأتي من الحديقة الأمامية للمنزل , مشى ببطء كيلا يحدث صوتاً ينتبه منه أخوه و الجالسين معه , تعثر ببعض الأشياء بسبب الظلمة الحالكة , عندما وقف أخيراً بقرب الحديقة ناداه أخوه أن تعال و اجلس معنا .. رد عليه صاحبنا أخي هناك صوت مرعب سمعته و أعتقد أن هناك أحد ما في البيت .. ثم كيف تسهرون في الظلام ؟ ألا تشعلون شمعة أو مصباح كي تتمتعوا بسهرتكم ؟ عند هذه اللحظة سمع لغط و كلام كثير و صياح و يد تمسك به من ذراعه و تقول له أنا أخوك و المصابيح مضاءة .. ألا تراني ؟

أغمي على صاحبنا في الحال , فوقع الصدمة كان فوق ما يتصوره أو حتى يفكر أن يحلم به , فهل من المعقول أن حياته كانت بهذا الجمال لكي تسرق منه ؟ لا .. لقد زادت ألماً على ألم و ضياع على ضياع .. لقد كانت حياته كالميت في الرمق الأخير المتشبث عبثاً بأذيال الحياة فذهبت منه كما ذهبت أحلامه و ضاعت من قبل ..

المهم سمع أصواتاً قريبة منه تتكلم فعرف أنها تعود للطبيب و أخاه و أصدقاء أخوه و هم يتكلمون عن حالته , نادى أخاه و هو يبكي ألماً و حرقة أن يعطيه كوباً من الماء و عرف أنه قد فقد وعيه و هو الآن في المستشفى كالميت الذي لا يرجى له طب أو دواء , قال له أخوه أن الطبيب منعناً من البقاء بالغرفة و أنه سيجلس بالخارج لكي يبقى قريباً منه إن احتاج إلى شيءٍ ما .. خرج الجميع و عاد الصمت إلى الغرفة بشكل متدرج و آخر صوت سمعه قبل أن يطبق الصمت على الغرفة هو صوت الطبيب و هو يقول له لا تقلق : إنها حالة مؤقتة و ستزول قريباً مع مرور الوقت و اختفى الصوت …

أين أنا ؟ يسأل نفسه مراراً و تكراراً .. هل أنا في المستشفى فعلاً ؟ أم إنها مزحة ؟ أم إنها الحقيقة المرة ؟ أم و أم ….

بدأ يشك في عقله .. هل عقلي سليم ؟

كل هذه الأفكار تناولها عقله بفوضوية جامحة , هدامة للذات البشرية .. فصاحبنا و رغم الذي يمر فيه … هو نتاج لفكر الحروب و المآسي و الصدمات , لقد ولد على وقع الحرب و ترعرع في كنف الحرب و شب و اشتد عوده و هو ينظر إلى الحرب , فكأنما ولد مع الحروب و المآسي فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته , أو بتعبير آخر .. أصبح هو و الحرب توأمان لا ينفصل بعضهما عن بعض فيشعر بها و تشعر به , كلام غريب في الواقع و لكنه حقيقي بالنسبة له .. انساق أخيراً لوضعه الحالي و اقتنع تماماً أن الذي يحدث له هو حالة مؤقتة و لو كان يشوبها بعض الشك .

الذي حدث بعد ذلك جعله يتأكد أنها حالة مؤقتة .. فبعد مضي أكثر من ثلاثة أيام في المستشفى بدأ يحس بألم في مؤخرة رأسه ..

للوهلة الأولى ظن أن رأسه يؤلمه من النوم الطويل .. و لكن الألم زاد بشكل قوي أكثر من السابق .. فبدأ يصرخ و ينادي على أحدٍ يسمعه فيأتي إليه , قرر أخيراً القيام من فراشه و تلمس طريقه عسى أن يتمكن من فتح الباب و مناداة أي كان .. نزل من الفراش و بحركة سريعة لم ينتبه لنفسه منها .. و إذا به يتعثر و يقع أرضاً , و عندما رفع رأسه قليلاً .. كانت المفاجأة !!!

إنه حلم !!! كابوس مرعب أو أياً كان المهم إنه ليس أعمى , نظر إلى ما حوله فوجد أنه قد وقع من سريره بدون أن يدري .. تلفت يميناً و يساراً ليتأكد أنه بخير و أن الذي حدث هو مجرد حلم لا أكثر و لا أقل .. فنظر إلى الغرفة فتملكته السعادة و ذهبت به إلى أبعد الحدود .. فهو ينظر إلى غرفته و ليس إلى غرفة مستشفى , أسرع إلى حائط الغرفة يقبله و هو يصيح : إني أراك و لست بأعمى

و جعل يقفز و يصيح بشكل جنوني و بدون أدنى خوف و هو يقول و عيناه تدمع من الفرح .. لقد كان حلماً

ملاحظة : القصة منشورة سابقاً في موقع آخر .. لنفس الكاتب 

تاريخ النشر : 2017-03-21

guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى