أدب الرعب والعام

جنون الأمنيات

بقلم : نوار – سوريا

جنون الأمنيات
كانت مجرد أمنيةٍ عابرةٍ .. لكنها تحققت !

أمام شاليه يطلُّ على شاطئ البحر توقفت سيارةٌ سوداء ، و خرج منها شابٌّ و فتاة كانا قادمين لقضاء شهر العسل في هذا المكان الذي حرصا أن يكون منعزلاً عن الناس حتى يستمتعان معاً في جوٍّ هادئٍ ..

تعرف قيس على ليلى في الجامعة و اشتهرت قصة حبِّهما بين الطلاب الذين كانوا يتندرون عليهما بسبب توافق اسميهما مع قيس بن الملوح و ليلى العامرية ، لذلك كان زملاء قيس ينادونه بمجنون ليلى .. و بعد تخرُّجهما بفترةٍ قصيرةٍ حددا موعد الزفاف و هكذا كلل حبهما بالزواج ..

**   **   **

جلس قيس في كرسيٍّ على الشاطئ مادَّاً ساقيه للأمام و متأمِّلاً الشمس التي شارفت على المغيب ، اقتربت منه ليلى و همست في أذنه قائلةً .. أحبك ، ثم جلست في كرسيٍّ إلى جانبه ..

تنهد قيس بعمق و نظر في عينيها و قال بكلِّ صدقٍ و هيام :
– بعد أن حصلت عليكِ لم أعد أريد شيئاً من هذه الدنيا ، أنا سعيدٌ جداً حبيبتي ..
ابتسمت ليلى و أسندت برأسها على كتفه و قالت :
– و أنا أيضاً قيس ، سعيدةٌ لدرجة الخوف من هذه السعادة .. 
أمسك بيدها و أغمض عينيه قائلاً :
– كم أتمنى أن يتوقف الزمن بنا عند هذه اللحظة 
همست ليلى :
– و أنا أيضاً ..
و أغمضت عينيها هي الأخرى و استسلما لنومٍ حلَّ عليهما بشكلٍ مفاجئ ..

**    **    **

فتحت ليلى عينيها و قد أحست بألمٍ في رقبتها لأنها كل الوقت كانت مائلةً على كتف قيسٍ الذي استيقظ هو الآخر .. فرك عينيه وتساءل بضيق :
– ما هذا ؟ كيف استطعنا النوم كل هذه المدة ؟!
نظر باستغراب إلى قرص الشمس و قال :
– ليلى .. ألا تلاحظين معي أن الشمس لم تغب بعد ؟!
ضحكت ليلى و قالت :
– هذا يعني أننا لم ننم طويلاً كما اعتقدنا 
أجاب قيس بثقة :
– لا .. لا ، أنا واثقٌ أننا غفونا وقتاً لا بأس به ، ثم أنَّ الشمس على هذه الوضعية منذ أن جلسنا و لم تتزحزح قيد أنملة !!
نظر في ساعته ثم نهض قائلاً :
– عقارب ساعتي متوقفة على السادسة و النصف !
قالت ليلى بعدم اهتمام :
– بطاريتها فرغت 
– لا .. لقد أبدلتها منذ مدةٍ قريبةٍ و من غير المعقول أن تفرغ بهذه السرعة .. صمت قليلاً ثم أكمل :
– كم الساعة عندكِ ؟
نظرت ليلى في ساعتها ثم رفعت رأسها و قالت باندهاش :
– ساعتي متوقفة على السادسة و النصف أنا أيضاً !!!
قال قيس و هو يخرج هاتفه من جيبه :
– سأنظر في ساعة هاتفي إذا كانت نفـ… 
اتسعت عيناه رعباً و نسي ما كان يقوله عندما و جد أن التوقيت من هاتفه قد اختفى و عندما بحث في إعدادات الهاتف عن الضبط كانت العملية تفشل !!

رفع رأسه عن الهاتف و قال بصوتٍ مرتعش :
– ليلى .. لا يوجد سوى تفسير واحد لما يجري حولنا 
نظرت إليه ليلى بتساؤلٍ فأكمل : 
– لقد توقَّف الزمن .. قالها و عاد للجلوس  
قالت ليلى بذهول :
– غير معقول .. أنت تمزح 
التفت إليها و قد بدأ يفقد أعصابه :
– إذاً اشرحي لي سبب توقف ساعاتنا عن العمل و اختفاء التوقيت من الهاتف .. اشرحي لي سبب عدم غروب الشمس ، نحن هنا منذ وقتٍ طويل لماذا لم تغرب الشمس بعد لماذا .. لماذا ؟
وضعت ليلى يدها على كتفه و قالت له :
– اهدأ .. أرجوك اهدأ ، لكلِّ شيءٍ تفسير .. نعم ، لابد من تفسيرٍ لما يحدث
 
ساد الصمت بينهما قليلاً إلى أن قطعه قيس قائلاً :
– عرفت السبب .. نظرت إليه ليلى فأكمل :
السبب هو أنني تمنيت من شدة سعادتي أن يتوقف الزمن بنا .. و على ما يبدو أن ما تمنيته قد تحقق !!

**   **   **

هرعت ليلى إلى الداخل لتجلب هاتفها و تتأكد ما إذا كان التوقيت قد اختفى منه أيضاً و قد كان مختفي بالفعل ، نظرت إلى الساعة المعلقة في وسط حائط الصالة فوجدتها متوقفةٌ على السادسة و النصف .. عادت إلى الشاطئ و قد وجدت قيس ساهماً ينظر بعين ثابتة إلى قرص الشمس الذي كان جزءاً منه مختفٍ خلف البحر استعداداً للغروب ..
قالت كمن اكتشف شيئاً هاماً :
– سأتصل على أهلي و أتأكَّد 
أجابها قيس بهدوءٍ دون أن يلتفت إليها :
– لا تتعبي نفسك .. الهاتف لن يعمل ، فقد جرَّبت الاتصال عندما ذهبتِ للداخل و كانت المكالمة تفشل لأننا أصبحنا خارج نطاق الخدمة ! 

قالت ليلى و قد بدأت دموعها بالتساقط :
– ماذا يعني هذا ؟! لا .. مستحيل ، بالتأكيد أنا أحلم .. قيس قل لي بأنني أحلم ، أرجوك .. 
– ليته كان حلماً 
صرخت ليلى و قد فقدت أعصابها :
– أنت السبب .. أنت من تمنيت تلك الأمنية المشؤومة 
التفت إليها و قد بدأ بالصراخ هو الآخر :
– هل أنتِ جادة ؟ و هل كنت أعلم أن هذا سيحصل ؟!! كل الناس يتمنَّون هذه الأمنية بلحظاتٍ معينة و لم يحدث لهم شيء .. ثم أذكر جيداً بما أجبتني عندما تمنيت ذلك ، قلت و أنا أيضاً .. أي أنَّ كلانا السبب فيما يحدث الآن إن كنتِ تبحثين عن المسبِّب 

استدركت نفسها و قالت بخجلٍ : 
– آسفة .. لم أكن أقصد ، لكني لا أصدِّق ، لا أصدِّق .. و استسلمت للبكاء فاقترب منها قيس و قال محاولاً تهدئتها :
– لا بأس عزيزتي .. اهدئي ، أكيد سيعود كلُّ شيءٍ إلى طبيعته بعد قليل ، فمن غير المعقول أن يستمرَّ الوضع هكذا !
أجابت من بين دموعها :
– و هل من المعقول أن يحدث حتى يكون من غير المعقول أن يستمر ؟!!
– لا أعرف .. صراحةً ذهني عاجزٌ عن التفكير 
صمت قليلاً ثم قال باندفاع :
– ما رأيك أن نذهب بجولةٍ في السيارة لنرى الناس و نسألهم إن كان الزمن قد توقَّف عندهم هم أيضاً ؟ 

تحمَّست ليلى لهذه الفكرة و مضت مسرعةً نحو السيارة و جلست بجانب قيس الذي شغَّل المحرِّك لكن السيارة كانت تأبى التحرك ، نزل و فحصها فلم يجد فيها أي خلل ، عاد و جرَّب تشغيلها مجدداً لكن لا فائدة ، لم تتحرك 
خرج منها و صفق الباب وراءه بعنف قائلاً :
– ما هذا ! كلُّ شيءٍ ضدنا .. بدأت أشعر بالاختناق
قالت ليلى مقترحة :
– ما رأيك لو ذهبنا سيراً على الأقدام ؟
– مع أننا سنمشي كثيراً قبل رؤية أي إنسان إلَّا أنه لا يوجد سوى هذا الحل .. هيا بنا 

أمسك بيدها و مضيا لاستكشاف المنطقة .. لكنهما كانا كلما يمشيان مسافةً ما يجدان أنهما أمام الشاليه ، بقيا يحاولان لفترةٍ إلى أن انهارت ليلى على الأرض قائلةً :
– لا فائدة .. نحن ندور في حلقةٍ مغلقة ، إننا محبوسان هنا .. لا يمكننا الخروج .. ثم بدأ صوتها يتحوَّل إلى عويلٍ و هي تقول :
– آه يا إلهي أخرجنا من هذا الكابوس ، لا أصدِّق أنَّ ما يحدث حقيقة ، قيس نحن نحلم أليس كذلك .. أليس كذلك قيس ؟
جلس قيس بجانبها على الرمال و قال باستسلام :
– بل إنها الحقيقة مع الأسف ..

**   **   **

دخل قيس إلى غرفة النوم فقد أنهكه التفكير بما يحدث ، أراد أن يهرب من الواقع لذا استلقى على السرير و سحب الغطاء على نفسه و أغمض عينيه .. 
أطلَّت عليه ليلى بعد مدَّةٍ و قالت له :
– قيس انهض .. لابدَّ أنك جائع ، لقد أعددت الطعام .. هل نمت ؟
رفع رأسه قائلاً بضيق :
– لا .. لم أستطع ، حاولت كثيراً لكن لم أغفو و لو للحظة 
– تعال لنأكل قبل أن يبرد الطعام ..

وضع قيس لقمةً في فمه ثم قال :
– من الجيد أننا ملأنا المخزن بما يكفينا من طعامٍ و شراب لمدةٍ تزيد عن الشهر و إلا كنا سنموت من الجوع 
ابتسمت ليلى و قالت :
– أذكر ماذا قلت لي وقتها .. و رفعت رأسها و قالت بصوتٍ حالم :
قلت لي .. لا أريد أن أضيِّع أي لحظةٍ دون أن أكون معكِ فيها ، لن أتعب نفسي بجلب ما يلزمنا كلَّ يومين أو ثلاثة ، بل ملأت الشاليه بمواد تكفينا لوقتٍ طويل ..
صمتت قليلاً ثم تنهَّدت بحسرة و قالت :
– ليت الزمن يعود للوراء ..
قال قيس بتهكُّم :
– يعود للوراء ؟! و هل هو الآن يسير للأمام ؟؟ هو الآن متوقِّف ، يا إلهي لا أصدِّق ، أحسُّ بأني أعيش أحداث فيلمٍ و ليس واقعاً حقيقياً 
– ليتنا في فيلمٍ و يقفز المخرج بعد قليل ليقول Stop .. عمل رائع !!
– على كلِّ حال عزيزتي نحن لا نعلم إلى متى سيستمرُّ هذا الكابوس ، لذا علينا أن نقتصد ما استطعنا في طعامنا ، فكما ترين نحن حبيسا هذا المكان ..
– مهما اقتصدنا سيأتي يومٌ و تنتهي مؤونتنا .. ماذا سنفعل عندها ؟؟
– لا أعلم .. 
قالت ليلى في هلع :
– في حالات الجوع يتحوَّل الإنسان إلى وحش .. قيس هل ستقتلني لتأكلني ؟؟
نهض قيس من على المائدة قائلاً :
– ما هذا الكلام ؟ أقتلك أنتِ حبيبتي ؟ لو استمرَّ الوضع هكذا و انتهى طعامنا فسنموت معاً !!

**   **   **

استسلم قيس و ليلى مع الوقت لقدرهما و أخذا يحاولان التأقلم في العيش من دون الزمن .. لا ليل أو نهار ، لا قمر و لا نجوم ، حتى الرياح لم تكن تهب و البحر هادئ ، لا شيء سوى الصمت المطبق .. إنه أشبه بصمت القبور ! 

لكن رغم كل المحاولات فإنه تأتي على أحدهما أوقاتاً ينفجر فيها و يهرع الآخر لتهدئته .. كانا يقضيان الوقت بالسباحة تارةً و بصنع بيوت من الرمال تارةً أخرى ، لكن معظم وقتهما كان الجلوس على الشاطئ و مراقبة الشمس التي أبت أن تغيب ..

تساءل قيس في إحدى المرات :
– ترى كم يوماً مر علينا و نحن على هذه الحال ؟ 
أجابت ليلى :
– على حسب الطعام الذي بقي لدينا أستطيع أن أقدر أنه مر علينا قرابة الأسبوعين ..
– حسابك ليس دقيقاً .. ربما أكثر و ربما أقل 
– آه .. لكم اشتقت إلى أبي و أمي 
– و أنا أيضاً اشتقت لأهلي و للحياة و صخبها .. للشوارع و البيوت .. لكلِّ شيءٍ يشعرني أنَّ الزمن يمر 
– معك حق ، فقد مللنا هذا الصمت المخيف ..
– الوضع كله مخيف ، لا أعرف إلى متى سأبقى متماسكاً فما نحن فيه الآن يقود للجنون .

لم يكن قيس مخطئاً بكلامه ، فتماسكه بدأ ينهار ، مرةً دخل غرفته  و لحقته ليلى .. و ما إن رآها حتى انفجر في وجهها قائلاً :
– ماذا تريدين ؟ لماذا لحقتِ بي ؟ اخرجي .. دعيني لوحدي ، لقد سئمت منكِ و من أحاديثنا و من الجلوس  و من النوم .. سئمت كل شيءٍ .. لم أعد قادراً على الصمود 
أجابت ليلى و قد صدمت من كلامه :
– لكني لم …
قاطعها مكملاً صراخه :
– اصمتي لا أريد سماع صوتك .. و اغربي عن وجهي  

خرجت ليلى و هي تبكي و جلست أمام الشاطئ ، كانت تعلم أن قيس لم يكن قصده أن يجرحها و أنَّ الكابوس الذي يعيشانه جعله يفقد أعصابه ، و بالفعل لحق بها بعد مدةٍ قصيرةٍ و اعتذر منها ..

**   **   ** 

اندست ليلى في الفراش إلى جانب قيس و قالت بقلق :
– لم يبق لدينا الكثير من الطعام .. لا اعرف ماذا سنفعل عندما ينتهي !
– لن نفعل شيء .. سنجلس منتظرين نهايتنا ، فالموت أرحم من هذا الوضع 
أجابها قيس ثم أدار ظهره عنها و أغمض عينيه محاولاً النوم ، فما كان منها إلَّا أن صمتت هي الأخرى و أغمضت عينيها و … ذهبا في سباتٍ عميق 

فتحت ليلى عينيها فلاحظت أن الضوء يغمر المكان ، اندفعت نحو النافذة فرأت الشمس مشرقة معلنةً عن بداية نهارٍ جديد و لتتأكد نظرت في ساعتها فوجدتها العاشرة صباحاً ، فاندفعت بفرحٍ نحو قيس توقظه :
– انهض قيس ، لقد انتهى الكابوس .. الزمن قد عاد ، إنه الصبح !!
و ما كاد قيس يستدير و ترى وجهه حتى صرخت برعبٍ و رجعت للخلف و هي تقول :
– غير معقول .. غير معقول ، أنت لست قيس !!
نهض قيس مقترباً منها و قال بعد أن تأملها :
– أنت أيضاً لا تبدين ليلى التي أعرفها !!

اندفعا نحو المرآة و كانت الصدمة لكليهما …

لقد مرَّت سنواتٌ عديدةٌ على مكوثهما في هذا المكان ، هذا ما تدل عليه هيأتيهما .. فقيس كان قد فقد معظم شعره و انتشر الشيب فيما تبقى منه و بشرته متغضِّنة و جسده كان مترهِّلاً ، أما ليلى فقد انتشرت التجاعيد حول عينيها و غلب اللون الأبيض على شعرها و بانت عروق يديها .. بقيا يتأملان نفسيهما فترةً ليست بالقليلة ، إلى أن بدأت ليلى بالصراخ و العويل :
– وا حسرتاه على شبابي الذي ضاع .. وا حسرتاه على عمري الذي مر دون أن أعيشه ، قيس قل لي أنه كابوسٌ آخر ، قل لي أن هذا ليس حقيقة .. أرجوك إن كنت أحلم أيقظني 

جلس قيس على طرف السرير و قد انهار تماماً ، على الرغم مما مر بهما طيلة هذه المدة فإنه كان يمنع نفسه من الاستسلام للبكاء ، لكنَّه هذه المرة لم يستطع ، فلم تكن صدمته بأقلَّ من صدمة ليلى التي ما إن رأت دموعه حتى أيقنت أنهما لا يحلمان و أنها الآن العجوز ليلى !!

اندفعت خارج الغرفة و هي تقول :
– لن أحتمل ، سأضع حدَّاً لحياتي التي كان يجب أن أنهيها منذ أن توقف بنا الزمن ..
لحق بها قيس إلى المطبخ و أخذ السكين منها و قال لها :
– لا .. أرجوكِ لا تتركيني وحيداً ، ماذا أفعل أنا لو أنتِ رحلتِ ؟
أجابت من بين دموعها : 
– لكن قيس إنَّ ما يحدث فوق مستوى الاحتمال ، غير معقول ، أنا لا أصدق أننا أصبحنا مسنَّين !!
تنهَّد قيس و نظر إليها بيأس :
– ليس بيدنا حيلة ، يجب أن نصدِّق و نتأقلم أيضاً 

قالت ليلى – بعد أن هدأت – و هي تتأمَّل المكان : 
– غريب !! انظر إلى طبقات الغبار التي تملأ المكان و كأنه مهجورٌ منذ سنوات !!
نظر قيس حوله و قال :
– بالفعل .. الغبار يغطِّي كل الأجزاء و شِباك العنكبوت أيضاً !!
صمت قليلاً ثم أكمل :
تعالي لنستكشف المنطقة و نرى ما حلَّ بها 

خرجا و شاهدا أن الشاطئ مهجور و لا يوجد أحدٌ في الجوار ، فاتَّجها إلى السيارة التي خشي قيس ألا تعمل ، لكنها بدأت تسير بعد أن أدار المحرك فتنفس بارتياح ..

سارا مسافةً لا بأس بها لكنهما لم يصادفا إنساناً ، الشاليهات الأخرى كانت تبدو خالية و على طول الشاطئ لم يشاهدا أيَّ دليل على الحياة ، فاستغربا الأمر لكنهما مضيا في طريقهما إلى أن لاح لهما من بعيدٍ شخص أخذ يلوح لهما بيديه مشيراً إليهما بالتوقف .. 
قال لهما و قد كان رجلاً مسناً جداً : 
– من أين أتيتما ؟ لم أرَ سيارةً تسير منذ سنين !!
ضحك قيس و قال :
– منذ متى ؟
– منذ أن هاجر البشر إلى المريخ 
نظر قيس إلى ليلى ثم التفت إلى الرجل قائلاً بذهول : 
– ماذا تقول ؟؟ المريخ !!
أجاب الرجل باستغراب :
– لماذا أنت مستغرب و كأنك قادم من كوكب آخر ، من غير المعقول ألا تكونان على علمٍ بأن كوكب الأرض أصبح مهجوراً منذ بضع سنوات و أن الحياة البشرية انتقلت إلى المريخ ..
سألته ليلى :
– في أي عامٍ نحن يا عم ؟
قال الرجل بدهشة ؟
– ما هذه الأسئلة ؟ نحن في عام ٢٠٤٧ 
– ماذا تقول ؟؟ تساءل قيس و ليلى من فم واحد مما جعل الرجل المسن يقول :
– من أنتما ؟ و من أين أتيتما ؟ تبدوان لي و كأنكما لستما من هذا الزمن !! 

ابتسم قيس على الرغم من هذا الموقف الصادم و أجاب :
– نعم صدقت ، نحن لسنا من هذا الزمن و لا نعرف شيئاً مما جرى على الأرض منذ عام ٢٠١٧ ، و لهذا قصةٌ طويلة إن كنت ترغب بسماعها .
قال الرجل و قد ثار فضوله :
– بالطبع أودُّ سماعها .. كلِّي آذانٌ صاغية 

**   **   **

نظر الرجل إلى قيس و ليلى بدهشةٍ و قال :
– إذاً أنتما هما العريسان اللذان اختفيا في شهر العسل !!
قال قيس :
– و هل تعرفنا ؟
ضحك الرجل و قال :
– و من لا يعرفكما !! لقد أحدث اختفاؤكما المفاجئ ضجةً في وسائل التواصل الاجتماعي في وقتها ، و أصبحت كل المواقع تتحدث عن العريسين اللذيَن اختفيا ، و نشر أهاليكما نداءً لكل من يعرفكما أو رآكما ، و انتشرت فرقاً للبحث عنكما على طول الشاطئ ، و قال البعض أنَّ اختفاءكما يكمن خلفه عملٌ إجراميٌّ ، و قال البعض الآخر ربما أنتما من اخترتما الابتعاد ، و فسر البعض هذا الاختفاء الغامض بأسباب ماورائية .. 
قالت ليلى :
– أنت تذكر ما حدث بالتفصيل !
أجاب الرجل :
– نعم ، فقد شاركت في البحث عنكما 

صمت قليلاً ثم تابع كلامه قائلاً :
– هذا إذاً يفسر ما حدث في الشاليه الذي كنتما تقطنانه ، لقد اشتكى كلُّ من سكنه بعدكما من سماع أصواتٍ و حركةٍ مريبةٍ داخله ، و كان كل من يقيم فيه يتركه بعد مدَّةٍ قصيرة ، إلى أن اشتهر في المنطقة بأنه مسكونٌ بالأشباح مما اضطر أصحابه إلى إغلاقه بشكلٍ نهائيٍّ و عدم تأجيره ، و هذا أضاف المزيد من الغموض و الإثارة على قصة اختفائكما .
قال قيس باستغراب :
– هل يمكن أنهم كانوا يسمعون أصوات حركتنا و تنقُّلنا في الشاليه ؟!
أجاب الرجل :
– لا يوجد سوى هذا التفسير .. و الله قصتكما أغرب من الخيال و بالكاد أصدقها ، ثلاثون عاماً تحتجزان في اللازمن ثم تعودان فجأة !! لو لم يُهجَر كوكب الأرض لأصبحتما مشهوريَن جداً .

قال قيس :
– و الآن جاء دورك لتخبرنا ما الذي حدث في فترة غيابنا و كيف رحل الناس إلى المريخ ؟؟

ابتلع الرجل المسنُّ ريقه ، و أخذ نفساً طويلاً ، و بدأ بسرد تفاصيل جعلت قيس و ليلى يفتحان عيناهما على وسعهما ، فقد بلغ التطور التكنولوجي حدَّاً مخيفاً جداً و بسرعةٍ هائلة ، و مع تطوره زادت الحروب بين البشر مات فيها الكثيرون ، و كثرت الزلازل و الحرائق التي أودت بحياة المئات ، و دُقَّ ناقوس الخطر ، فقد أعلن عن اقتراب نفاد المياه الصالحة للشرب من كوكب الأرض و مصادر الطاقة بدأت تنضب ، و انقرضت الكثير من الحيوانات بسبب الجفاف و كان العالم قد وصل لدرجةٍ فظيعةٍ من اليأس ، إلى أن عاد أفراد بعثةٍ كانت قد أرسلت إلى المريخ و قد جاءت هذه البعثة بأخبار أحيت الأمل في النفوس ، فقد أكد أفرادها بالأدلة و البراهين أن المريخ يصلح للحياة البشرية و أنه يشبه  إلى حدٍّ كبير كوكب الأرض و أنه غني بالمياه و مصادر الطاقة ، و بالإمكان استيطانه و بناء حياة جديدةٍ على سطحه .

رأى الكثيرون أنَّ هذا الكلام ضرباً من الجنون ، لكن مع هجرة بعض الأشخاص و إرسالهم صوراً عبر الأقمار الصناعية تظهر فيه مدى تأقلمهم و راحتهم هناك اقتنع البقيَّة و قرروا الانتقال إليه ، و تم ترتيب الكيفية التي سينتقل فيها البشر إلى المريخ ، و بدأ الناس يهاجرون بالتدريج و لم تبقَ إلا نسبةٌ قليلةٌ من سكان الأرض الذين رفضوا الهجرة و ظلوا في أماكنهم .

قال قيس بعد أن أنهى الرجل كلامه :
– و أنت لماذا لم تذهب ؟
– أنا ولدت على الأرض و سأموت فيها .. هذه قناعتي 
تساءلت ليلى :
– هل يوجد الكثير من السكان في هذه المدينة ؟
أجاب الرجل :
– لم يبقَ فيها الكثير ، بعض البيوت المأهولة هنا و هناك 
– و مدينتا هل بقي فيها أحد ؟
– ما أعرفه أن مدينتكما أصبحت خالية 
– هل نستطيع الذهاب إليها ؟
– لا أعتقد ذلك ، فالوقود الذي في سيارتكما لن يكفي ، و لم تعد هناك سيارات أخرى تقلَّكما ، و المطارات أغلقت .. من تبقى من البشر أصبح يتَّبع أسلوب الحياة في الأزمنة الماضية ، حيث لا كهرباء و لا وسائل نقل سوى بعض العربات التي تجرها الأحصنة و حتى الطعام أصبح بسيطاً جداً ..

سأل قيس ليلى :
– إلى أين تريدين الذهاب ؟
أجابت ليلى بحزن :
– أريد أن أعود للشاليه ، إنه بيتنا من الآن فصاعداً 
– معك حق ..

شكر قيس و ليلى الرجل المسن الذي دلَّهما على مكان بيته ، و طلب منهما اللجوء إليه إن احتاجا لأيةِ مساعدة و مضى يخبر كل من يعرفه عن قصتهما .. أما هما فقد ركبا السيارة و عادا من حيث قدما ..

**   **   **

على شاطئ البحر جلس قيس متأملاً منظر الغروب ، جاءت ليلى و جلست بجانبه ..
تكلم قيس قائلاً :
– ليتنا بقينا عالقين في منطقة اللازمن و لم نعد 
– معك حق ، لقد عدنا من كابوس لنعيش كابوساً آخر أشد و أفظع 
– ترى ما الذي حل بأهالينا و الناس الذين نعرفهم ؟؟
– نصفهم مات و النصف الآخر بالتأكيد هاجر ..
– نعم .. و حتى لو بقي بعضهم لم يعد الأمر يهمني ، و لا أريد رؤيتهم ، فما مر بنا لحدِّ الآن كافٍ و لا رغبة لي بسماع المزيد من المآسي ..

ساد الصمت بينهما ، و في هذه الأثناء اختفى قرص الشمس تماماً خلف البحر .. ضحك قيس و قال :
– كنت أراقبه .. خشيت أنه لن يغرب 
قالت ليلى بأسى :
– ليته لم يغرب و نُحتَجز مجدداً 
سألها باستغراب :
– لماذا ؟
– حتى نظلَّ معاً و لا نكبر أكثر .. قيس لا أريد أن أفقدك ، عدني أنك لن تموت قبلي 
نظر إليها بحنان و أمسك يدها و قال :
– أعدك أني سأبقى ما استطعت على قيد الحياة من أجلك ، فلم يعد شيءٌ يربطني بها سواكِ .. 
ثم أكمل مغيراً مجرى الحديث عندما رأى دموعها على وشك النزول :
– لقد كنا دائماً نبحث عن الهدوء و ها قد حصلنا على مبتغانا ، و ليس ذلك و حسب ، الآن الأرض كلها ملكنا .. يجب ألا نحزن 
أسندت ليلى رأسها على كتفه و قالت : 
– أحبك قيس .. و طالما أنت معي سأحتمل كلَّ ما يمر بنا .
لف ذراعه حولها و قال محاولاً إغاظتها :
– و أنا أيضاً أحبك أيتها العجوز .. 
لكنها لم تنزعج هذه المرة ، بل ضحكت .. ضحكت بشدة إلى أن دمعت عيناها .

 

تاريخ النشر : 2017-04-20

نوار

سوريا
guest
33 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى