أدب الرعب والعام

الغبار

بقلم : shamtel – Syria
للتواصل : [email protected]

الغبار
شاردة بين الحقول خلف الفراشات .. كانوا يريدونها أن تبقى في سنوات عمرها الثمانية

– 1 –

كانت الشمس تشارف على المغيب خلف أشجار الكينا العملاقة على ضفة النهر و بدأت الحركة في القرية بالهدوء.. أنهى الفلاحون أعمالهم في حقولهم وأغلقت المتاجر القليلة أبوابها ، إنه وقت الراحة للرجال بعيد نهار عمل طويل يبدأ منذ صياح الديك وشروق الشمس ، النساءاللواتي لا تنتهي أعمالهن أبداً منذ الشروق وإلى المغيب كان عليهن الآن الاعتناء بالزوج العائد من الحقل تعباً متسخاً جائعاً وطبعاً على الأغلب غاضباً …

يغضب الرجال في القرية من كل شيء .. من شح الأمطار هذا الموسم , من تلف قنوات الري التي يحفرونها من سرير النهر إلى أراضيهم وحاجتها إلى الصيانة المستمرة , وبالتالي المزيد من الأعمال … يغضبون من حركة الأولاد في المنزل وضجيجهم .. يغضبون من كل شيء تقريباً ولكن في حقيقة الأمر كان مبعث الغضب الحقيقي والوحيد هو قلة الحيلة والفقر المادي الذي يعيشون فيه مما يحول دون تنفيذ الكثير من أمنياتهم وأمالهم .. كتوسيع المنزل وترميم الجدران والسقف وشراء أدوات عمل جديدة لحقولهم وإرسال أطفالهم إلى المدينة للتعلم …

أوه إن الأماني والرغبات والحاجيات لا تنتهي أبداً بل تزداد .. بينما النقود تتناقص فور أن يضعوا يدهم عليها …

كان أحد الفلاحين يفكر بكل همومه في رأسه وهو يراقب سيارة تلوح من بعيد متجهة إلى قصر البيك , وقد ازداد لونها سواداً مع الغروب , كان يعرف هذه السيارة ويعرف سائقها …ويحسده …. ليس لديه هم واحد من هذه الهموم التي في رأسه هو

– 2 –

كمال كان يقود سيارته بسرعته المعتادة متجهاً إلى قصر أبيه , كان عقله لا يتوقف عن التفكير بمشاكله المتراكمة وهمومه الحاضرة … لقد أنهت فتيات الليل والنهار والطاولات الخضراء والليالي الملاح كل نقوده منذ وقت طويل , ورزح تحت ديون تتزايد عليه… حتى هذه السيارة لم تعد عملياً ملكاً له بعد أن رهنها بعيد ليلة خضراء مخمورة خاسرة … كان قبل يومين يفكر في زيارة البيك والده ليحاول معه زيادة مخصصاته المالية وكان يحبك الحجج والأكاذيب لذلك الغرض , وقبيل أن يتم حبكته أتاه خبر الاستدعاء من القرية لمرض والده .. 

تباً قال لنفسه .. لم يعد من الملائم طلب المزيد من النقود الآن .. لو كانت والدته لاتزال حية لما فكر بكل هذه الهموم … كانت لا تقطع النقود عن ابنها الوحيد أبداً .. كان عليه فقط أن يطلب منها فتدس له خلسة مبلغاً محترماً يفوق مخصصاته الشهرية التي كان والده يصر على أنها يجب أن تكفيه في حياته الدراسية في المدينة … أين أنتِ يا أمي … كان يردد هذه العبارة في كل وقت يمر فيه بأزمات مالية كبيرة و لا يجرؤ على طلب معونة أبيه الصارم الذي لا يدري شيئاً عن الحياة الصاخبة التي يحياها …..

– 3 –

أرخت إحدى الخادمات الستارة التي رفعتها عن نافذة القصر الأمامية لترى من أتى بعد أن سمعت صوت سيارة تقترب .. هرعت بسرعة إلى غرفة البيك المريض وهي تصيح : لقد وصل … هرع باقي الخدم لاستقبال القادم ببشاشة متكلفة … في الواقع كانوا لايحبونه لصلافته وقساوة تعامله معهم … على العكس مما هو عليه أبيه الذي تشهد له القرية كلها بكل ما هو خير من كرم إلى رجاحة عقل إلى عدل لا يخلو من صرامة .. كان الجميع يحبونه لصفاته هذه ولكن معرفتهم للأموال الطائلة التي يملكها زادت من حبهم له درجات … الجميع يحلم بامتلاك ما يمتلكه هذا العجوز …

– 4 –

العجوز كان على سريره يرقد واهناً … يغفو ويصحو ويسأل فوراً إن كان كمال قد وصل … لقد تأخر كعادته في كل مرة يستدعيه فيها … ولكن هذه المرة ليست كسابقاتها … كان يشعر بدنو الأجل ولديه إحساس غريب أن رقاده الحالي سيستمر إلى الأبد … لذلك كان يتحرق شوقاً لرؤية ابنه الوحيد وعلى الرغم من كل آلامه فقد ارتسمت ابتسامة على محيَّاه عندما رأى الخادمة تهرع إلى غرفته صائحة مبشرة : لقد أتى

– 5 –

لقد أتى أخيراً… دخل كمال غرفة أبيه مسرعاً واتجه نحو سرير والده ولسانه يسبقه بعبارات الاعتذار عن التأخر والكلمات المعسولة من قبيل الاطمئنان على صحة أبيه … أشارت له يد والد بوهن أن يجلس على السرير إلى جانبه ففعل … وضع كمال يده فوق يد أبيه … أتاه شعور غريب بأنه يعرف ما سيقوله له والده سلفاً وهو غير كل ماقاله له سابقاً…

– 6 –

كان شعوره هذا صحيحاً … … تكلم البيك بصوت ضعيف و واهٍ … كان حديثه بطيئاً وبينما كمال يصغي كان عقله يستعرض له في رأسه كل ذكرياته عن هذا الرجل الصارم ذو المبادئ التي لا يحيد عنها … انتبه على يد والده تشير له إلى صندوق صغير موضوع على رف معلق على الحائط … سمع والده يقول له: 
يا بني لا تضع هذا الصندوق … ولا تفتحه إلا في حالة واحدة فقط .. لا تفتح هذا الصندوق إلا عندما تشعر بأنك قد أضعت شرفك بين الناس …

لا يمكن اتهام كمال بعدم الاكتراث بموت أبيه ، فتعابير وجهه ودموعه المنسدلة لا توحي بهذا أبداً … ولكن لا يمكن تجاهل التعليقات والتلميحات التي تدور بين جدران هذا القصر من أن هذا اليوم هو اليوم الذي كان ينتظره هذا الشاب المتهور الطائش منذ زمن بعيد … كان جميع العاملين في القصر ممن عاشوا فيه سنوات طوال يتفقون على أن نهاية البيك تعني نهايتهم أيضاً … لن يسكن البيك الصغير في القرية وبالتالي لن يكلف نفسه عناء تحمل نفقاتهم … كان طفلاً رائعاً في صغره … أحبه الجميع … ورباه البيك والده بصرامة على جميع القواعد الأخلاقية الممتازة المعايير … ولكن المدينة قلبت كل المعايير … شيئاً فشيئاً حولته إلى متصلف متعجرف لا يطاق له معشر

– 7 –

مضت أيام الحداد ثقيلة بطيئة على كمال … أتى الناس من كل حدب وصوب ومن كافة الشرائح للتعزية … كان الرجل محبوباً قال كمال لنفسه … وسيحبونني كما أحبوه فهم في الواقع يحبون نقوده … من الآن كان يلاحظ نظرات التزلف وحركات التملق والكلمات المداهنة المعسولة .. الجميع يريد التقرب إلى البيك الصغير وكسب وده , ولكن هذا البيك كان لا يريد إلا شيئاً واحداً … الانتهاء من كل هذه المراسم وحصر ثروته الضخمة التي انتبه بإمعان إلى حديث والده عنها عندما تطرق إليها على سرير مرضه

– 8 –

مر زمن طويل نسبياً قبيل أن يظهر كمال في القرية مجدداً.. اخترق القرية بسرعة أكبر هذه المرة فسيارته أحدث من تلك التي كان والده قد أهداها له عندما أصبح يعيش في المدينة … هرع الفلاحون إلى القصر يرحبون بالآتي الذي أوحت نظراته لهم وهو يترجل من السيارة بصلف أقل مما اعتادوا أن يروه في عيونه عادة … تحلق الأطفال حول السيارة يتفحصونها بينما ساعده بعض الرجال على دفع باب المنزل العالق لينفتح أخيراً ناثراً الغبار حولهم … خصص لهم كمال بعض الوقت واستمع بانتباه مصطنع إلى شكاويهم وهمومهم … عندما أغلق الباب أخيراً خلف آخر الزائرين وصفا لنفسه وحيداً في المنزل أطلق لسانه سيل من اللعنات باتجاههم

– 9 –

دار في غرف قصر طفولته غرفة غرفة , والذكريات تدور وتدور في رأسه.. عندما هز رأسه أخيراً ليستفيق منها كان في غرفة والده … المكان الأخير الذي رآه فيه .. لم يستطع لسبب ما تجاوز عتبة الغرفة .. أهي الرهبة أم تأنيب الضمير … لم يرد أن يعرف لذلك خرج من المنزل مسرعاً وقصد مختار الضيعة وجلس عنده طويلاً , وعند غروب الشمس شاهد الفلاحون العائدون من حقولهم الغبار يتصاعد كثيفاً خلف سيارته التي تنهب الطريق إلى المدينة ..

بدل التأفف والتذمر وتبادل الهموم المعتاد في القرية عند الغروب تداول الفلاحون بين بعضهم نبأ بيع كمال لقطعة الأرض الكبيرة التي ورثها عن والده , والتي تقع عند كتف النهر وتعد واحدة من أفضل الأراضي التي أورثها له أبيه …لم يعرف أحد أبداً المبلغ الذي قبضه كمال ثمناً لها ولكنهم لاحظوا في اليوم التالي أن ابتسامات المختار كانت أرحب مما اعتاد على إظهاره , لهم وأن ثقته بنفسه أصبحت أقوى بكثير

– 10 –

لم تتح الفرصة للغبار بأن يتراكم كثيراً فوق الباب الذي فتحه الفلاحون لكمال بسهولة أكثر من المرة السابقة … كانت السيارة غير تلك التي أتى بها في المرة الأخيرة …فخامتها جعلت الكبار أيضاً يتحلقون حولها تفحصاً ..من المفارقات أيضاً عن المرة الأخيرة التي جاء بها كمال إلى القرية أن المختار أتى بنفسه وأولاده أيضاً لاستقبال كمال مرحباً به أشد الترحيب , ولم يغادر إلا بعد أن وعده كمال بأن يمر عليه للغذاء , فعاد الى منزله وأمر نساءه أن يولمن للغذاء وجلس مطمئناً وهو يتذكر رد كمال على دعوته أنه في الحقيقة قد أتى للقرية ليتغذى عنده ..كان هذا تلميحاً كافياً للمختار لأن يعتني بضيفه بأكثر مما يسمح به بخله المعروف عنه …

– 11 –

كمال هذه المرة تجاوز عتبة غرفة نوم أبيه … وسار ببطء وحذر إلى السرير ولم يأبه للغبار المتراكم عندما جلس في نفس المكان الذي جلس فيه في المرة الأخيرة عندما جلس إلى جوار أبيه المريض … استعرض عقله كلمات العجوز الأخيرة و وصاياه له , ثم تذكر كيف امتدت يد العجوز وقتها ببطء شديد و وهن أشد لتشير له إلى مكان ما …التفت رأس كمال بسرعة إلى الرف وشاهد العلبة التي قال له والده أن لا يفتحها إلا عندما … يضيع شرفه … ياللطلب العجيب ! ما عساه أن يكون قد وضع فيها ؟؟ 

سار كمال بحذر إلى حيث تقبع العلبة على الرف محاطة بالصديق الوحيد المتبقي لهذا المنزل … الغبار … أمسك بها كمال فشعر بخفة وزنها فنفخ عليها عدة مرات ليزيل الغبار قبل أن يهزها ليتأكد من أن قطعة معدنية على الأغلب توجد داخل هذه العلبة … ماعسى هذا الشيى أن يكون ؟؟ يالغرابة أفكار والده الذي لم يفهمه يوماً … ويجب عليه ألا يفتحها إلا إذا أضاع شرفه … هه ماهذا الشيء الذي يوضع في علبة لا تفتح إلا عند ضياع الشرف ؟؟ بعد تردد قصير أحجم عن فتح العلبة ممتثلاً لوصية أبيه وتفاجأ بنفسه يقول بصوت أعلى مما يتطلب وجوده وحيداً في الغرفة وهو يعيد العلبة إلى مكانها على الرف :
على الأغلب أنني لن أفتحها أبداً إذا يا أبي

***

كان الباب يقرع بشدة محدثاً ضجيجاً غير مألوف في البناء الهادئ عادةً والواقع في ضاحية راقية في المدينة … كان الإلحاح يوحي بأن الطارق كان يعرف أن كمال موجوداً في المنزل … فتح كمال عينيه بصعوبة … نظر إلى ساعة الحائط كانت تشير إلى السابعة مساءً .. لقد نام إحدى عشرة ساعة وهو بكامل ملابسه … لم يتساءل كمال عمن يكون الطارق … على الرغم من تشتت ذهنه من جراء كل الأحداث التي وقعت له مؤخراً إلا أنه كان بإمكانه أن يخمن بسهولة من الذي يقف عند بابه بهذا الإصرار …

كان تخمينه صحيحاً عندما فتح الباب , كان طارق يقف وراءه متكلفاً ابتسامة مزيفة لا توحي بشيء ولا حتى باعتذار عن هذا الإزعاج …تنحى كمال بصمت ليفتح له طريقاً للدخول ولكن طارق لم يتحرك ليدخل … فقط قال له أنه على عجلة من أمره وأنه لم يتوقع أنه لايزال نائماً , وتساءل طارق باستغراب مصطنع عما إذا كان كمال سيحضر الليلة أيضاً الى السهرة , ودون انتظار رد منه تابع قائلاً أنه يعرف أنه قد يزعج كمال بطلبه هذا ولكنه مضطر عليه بسبب التزامات طارئة , لذلك فهو يتوقع من كمال أن يخلي له المنزل في أقرب فرصة ممكنة خلال هذا الأسبوع وسيرسل له المحامي الذي سينظم كافة الوثائق المطلوبة ..

وختم كلامه قائلاً أن لا يأبه كمال لشأن تلك ” الساقطة ” إن أراد الحضور الى السهرة وأنه شخصياً قد أدبها وعنفها جداً بعد مغادرة كمال لهم , وقبل أن يغادر لم ينسى طارق أن يلمح لكمال بألا يكترث كثيراً بشأن المبلغ المتبقي عليه لسداده , فهو ليس ذا شأن كبير , ومحبته لكمال تمنعه من أن يضيق عليه بطلبه , ويمكنه أن يسدده له على دفعات , وربت على كتفه قائلاً اصمد يا رجل ما بالك ؟؟ لم تخرب الدنيا بعد … حسناً أنا ذاهب الآن لا تنسى ما قلته لك بشأن المنزل … ننتظرك في السهرة .

– 12 –

أغلق كمال الباب وعاد إلى سريره , أشعل لفافة تبغ واستلقى عليه واضعاً ساعد يده خلف رأسه وعينيه تتابع الدخان المتصاعد وهو يتذكر تفاصيل ماحدث بالأمس …كان مرعباً… لقد أسرف بالشراب وبالغ في اللعب, لقد خسر كل شيء , كل شيء تماماً …كان هذا المنزل آخر ما يملكه , وكان يمني نفسه بأن يبيعه وبثمنه يعيد تقويم أعماله وتجارته وإعادة أموره إلى نصابها ولكنه فقد هذه الفرصة الى الأبد … لقد راهن في لحظة جنون على المنزل تحت تأثير الخمر وهمسات تلك الساقطة وتشجيعها المريب له بأن حظه آتٍ لامحالة وأنه سيعوض كل خساراته … بضربة واحدة

في الواقع كانت الضربة قاضية له …عانده الحظ وخسر كل شيء …والأبشع ماحدث بعد ذلك …فعندما التفت إلى تلك الساقطة ليلتمس منها بعض العزاء ولو بالكلام أشاحت بوجهها عنه والتفتت إلى البعض من الجالسين تتغامز معهم بنظرات ذات معانٍ كثيرة … جن جنونه اندفع إليها معنفاً إياها ولكنها بصقت في وجهه وحال باقي الرجال دون الضربة التي هم بتسديدها لها … أما هي فنظرت إليه بشماتة عجيبة وسارت ببطء ودلع وجلست في حضن …طارق… طارق الذي تصنع الإحراج قال بفخر لم ينجح بإخفائه :
الرابح يأخذ كل شيء…

عندما تذكر كمال هذه اللحظة وتذكر نظرات الجالسين وهو يرفع كم قميصه ليمسح البصقة التي على وجهه … عرف أنه لم يفقد كل شيء …بل في الواقع أنه فقد أهم شيء …لقد فقد احترام الجميع …كانت النظرات المرتكزة عليه متنوعة مابين الرثاء والإشفاق والشماتة وحتى الحذر …كانت هناك جميع أنواع النظرات ترنو إليه ولكن لم يكن بينها نظرة واحدة تدل على الاحترام …لقد فقدت شرفي… ما إن نطق كمال بهذه الكلمات لنفسه حتى هب كالمجنون من رقدته واستوى جالساً على السرير , تذكر كلمات أبيه وتذكر … وصيته الأخيرة

– 13 –

كانت سيارة الإجرة تنهب الطريق نهباً إلى القرية ومع كل سرعتها كان كمال يستزيد السائق ويلح عليه بالإسراع أكثر فأكثر … لقد تذكر تللك العلبة التي على الرف وتذكر أن ما بداخلها كان قطعة معدنية … كان والده حكيماً في الواقع … لابد أنه كان يعرف تفاصيل الحياة التي يعيشها كمال في المدينة كلماته الأخيرة توحي بذلك … ولابد أنه كان يعرف ما بأنفس أهل القرية الحقراء الذين لم يعد أحد منهم يهرع لاستقباله منذ زياراته الأخيرة للقرية بسيارات الإجرة , ولاسيما ذلك الحقير المختار الذي أحجم في المرة الأخيرة عن استضافته بحجة ذهابه لعمل طارئ … 

كان والده يعرف ولاشك أن أياماً قاسية ستأتي على إبنه الوحيد ولاشك أنه وضع له شيئاً ثميناً في العلبة يخرجه من قسوة الأيام …كان يأمل بحسب مايتذكره عن العلبة بأن يكون ما بداخلها قطعة ذهبية … حكماً بالوزن فإن كان مابداخلها ذهباً فإنه كفيل بفك ضائقته الحالية وإعادة الأمور إلى نصابها

– 14 –

كانت أمل تقفز خلف الفراشات بين الأزهار في الحقول المحاذية للطريق الرئيسي الواصل إلى القرية , لم تكن هي الوحيدة التي شاهدت السيارة تأتي مسرعة قاصدة القصر المهمل …ولكنها الوحيدة التي تابعت عيناها سير تلك السيارة حتى توقفت عند الباب ونزل منها كمال الذي تكلم مع السائق قليلاً ودخل المنزل تاركاً السيارة تعود أدراجها , ولكن بسرعة معتدلة هذه المرة 

أوحى باب القصر المفتوح لأمل بما ستفعله… التفتت يميناً وشمالاً وتفحصت عيناها جميع الأزهار حولها بعناية طفولية قبل أن تختار وردة برتقالية جميلة …قطفتها بعناية شديدة …نظرت إليها …ثم نظرت إلى القصر وسارت باتجاهه بعزم وثبات ونسمات الربيع العليل تدفع بشعرها الأحمر الطويل وتعبث به على وجهها ذو حبات النمش الجميلة…كانت لاتشبه أحداً , وكان أهل القرية يدعونها بالحمراء 

تبتسم الحمراء للجميع بصمت …قلما شاهدها أحد تلعب وتلهو مع أقرانها …شاردة بين الحقول خلف الفراشات كانت أمل تعويذة فرح وسعادة للجميع , كانوا يريدونها أن تبقى في سنوات عمرها الثمانية , لم يكونوا يرغبون أن تكبر …كان الجميع يتفاءل بالنظرات المبتسمة بهدوء عجيب الصادرة عن الحمراء …هذه النظرات كانت مصوبة بثبات الآن إلى القصر بينما كانت الحمراء تقطع المسافة الطويلة نسبياً على قدميها الصغيرتين بإصرار

– 15 –

اندفع كمال إلى داخل القصر تاركاً وراءه الباب مفتوحاً هذه المرة , لم يقم بالطواف في أرجاء القصر , كانت وجهته محددة …غرفة أبيه , دخلها واتجه دون تردد إلى الرف وأمسك بالعلبة … نعم هوذا …لابد أنه الذهب الذي سيفرج عنه كل ضائقته … هوذا المفتاح الذي سيفتح له أبواب السعادة مرة أخرى وسيعيد إليه شرفه الضائع …

بعد عدة محاولات متسرعة استطاع فتح غطاء العلبة وعندما نظر إلى ما بداخلها ارتجفت يده وأفلتت العلبة منه وعيناه تتابعان سقوطها على الأرض وخروج ما بداخلها نتيجة الارتطام …غير معقول …قال لنفسه …كانت عيناه مسمرتان على مفتاح معدني كبير قديم صدئ من تلك المفاتيح التي تستعمل مع الأبواب الخشبية الكبيرة التي لم يعد أحد يستعملها …غير معقول …كرر كمال قوله …هل سطى أحد على الذهب ووضع هذا المفتاح بدلاً عنه ليعبث بي ؟؟ ولكن من ليفعل هذا …ثم أنه لو أن أحداً قد فعل هذا كان من الأحرى أن يعبث بالمحتويات الأخرى من القصر …

ولكن مهلاً… إنه يعرف هذا المفتاح جيداً , بل إنه أكثر من يعرفه … إنه مفتاح غرفة الطابق العلوي في القصر في الواقع لم يكن في هذا الطابق سوى هذه الغرفة التي كانت ملعب طفولة كمال , وكان دائماً يتفاخر بهذا المفتاح أمام أصدقاء طفولته القرويين الصغار السذج مدعياً أمامهم أن هذا مفتاح قصره الخاص , متشجعاً بابتسامات الرضا التي على وجه أمه و هو يتفاخر ..كان يذكر قولها له في هذه المناسبات : 
ستكبر يابني وتصبح ناجحاً مثل أبيك وستملك قصرك الخاص … فقط تعلم من أبيك كيف تحب الناس وكيف تجعلهم يحبوك ..

أفاق كمال من ذهوله بفكرة طارئة على رأسه … لابد من أن والده قد خبأ له من الذهب ما لا تتسع له هذه العلبة الصغيرة فوضعه في مكان ما بين محتويات الغرفة … نعم هذا هو 

انحنى وأمسك بالمفتاح وهرع إلى الغرفة وهو يختصر درجات الدرج بقفزات طويلة , عانده القفل ليدور في الباب , وعانده الباب أكثر لينفتح , بضربات قوية من كتفه أجبر كمال الباب على الارتداد إلى الخلف بعنف شديد محدثاً دوياً قوياً ومخلفاً عاصفة من الغبار المتطاير بثورة احتجاج على إيقاظه بهذه الطريقة من سبات سنوات … وقف كمال على عتبة الغرفة مبحلقاً داخلها … انتظر إلى أن يهدأ الغبار ليصدق ما تراه عيناه … كانت الغرفة خاوية من كل شيء … من كل شيء تقريباً

– 16 –

بهدوء عجيب تسمرت عينا كمال على الشيء الوحيد الموجود في غرفة طفولته , كان هذا الشيء يتدلى من السقف الخشبي المسود نتيجة السنوات والغبار , كان هذا الشيء : حبل مشنقة , حبل مشنقة وكرسي خشبي قديم تحتها .. تقدم كمال بخطوات بطيئة من الحبل المتدلي , نعم يا أبي أنت على حق فالذهب لا يعيد الشرف , بل هذا هو ما يعيده…

بخطوات آلية متلاحقة وكأنه يفعل هذا كل يوم بروتين ممل …نفذ كمال حكم الإعدام بحق نفسه… إرتقت قدماه فوق غبار الكرسي , ارتفعت يداه لتمسك بطوق المشنقة فأدخلها برأسه بعد أن حل أزرار ياقة قميصه .. عندما دفعت قدما كمال الكرسي من تحته كان وجه أبيه راقداً بسلام وهدوء في سريره هو آخر ما ظهر لكمال قبل أن يهوي الكرسي إلى الأرض معيداً الغضب للغبار , فثار مجدداً غامراً جسد كمال الذي فقد ارتكازه على الكرسي فهوى بثقله إلى الأسفل بعنف , فاستوقفه الحبل الملتف على عنقه بقسوه وشده مانعاً سقوطه وبنفس الوقت مانعاً كمال من التنفس , فتأرجح الجسد وتحركت الأطراف مظهرة غريزة تقاوم حكم العقل بيأس شديد , وكان خشب السقف يصدر أصواتاً مريعة وكأنها صادرة عن وحشٍ يطبق على الأنفاس لانتزاعها محدثاً من الآلام ما لا يطاق على عنق كمال الذي أغمض عينيه بيأس مستسلماً لمصيره وهو يشعر بأنفاسه تتخامد وبآلامه تتمازج بكافة أحاسيسه , وكان الغبار الذي استنشقه في آخر أنفاسه يدفعه إلى الغيبوبة بسرعة , فلم يبال بصوت الانفجار الكبير , كان الصوت الفاصل ما بين الموت والحياة

– 17 –

هل أستطيع فتح عيني في الحياة الأخرى أيضاً… كان هذا أول سؤال يتبادر لكمال, كان يشعر بآلام شديدة وبدوار رأس عنيف …إذاً أنا لست في الجنة قال لنفسه …هل أنا في النار ؟؟…هل هذه هي عقوبتي …من سأرى إذا فتحت عيني ؟!

ببطء شديد وحذر غير عابئ بحرارة آلام جسده فتح كمال عينيه ونظر فلم يعي ما يراه للوهلة الأولى …فبقي على حاله يحدق ببلادة إلى أن استطاع أن يخمن أن ما يراه الآن هو لاشيء سوى سقف غرفة طفولته المتهاوي !

تذكر صرير الخشب وقرقعته … تذكرصوت الانفجار المدوي…لابد أنه نتج عن إنكسار العارضة الخشبية التي كان حبل المشنقة معلقاً عليها …ولكن كيف لجسده أن يكسر مثل هذه العارضة الضخمة الشديدة المتانة على قدمها…إذاً أنا لم أمت ؟؟ لا..أنا أتنفس ..أنا ملقى على أرض غرفتي !!

ببطء وألم حرك كمال رأسه يميناً فرأى جزء من حبل المشنقة يظهر ويختفي تحت أكوام من القطع الذهبية المتناثرة على أرض الغرفة … أدار وجهه يساراً …الذهب يغطي الأرض في كل مكان مبرزاً بعض القطع الخشبية ملساء الطرف رغم ما يفترض عن انكسارها …أعاد كمال النظر إلى سقف الغرفة فرأى بخياله وجه أبيه ينظر إليه راضياً مطمئناً…

استوى كمال بجلسته ببطء شديد وهو يعاني آلام جسده نتيجة الارتطام بالكرسي الملقى على أرض الغرفة … نتيجة الضغط الذي أحدثه الحبل على عنقه ومن جراء الغبار الذي جن جنونه عند سقوط جسد كمال على الأرض , كان كمال يسعل ويسعل … ولكن ما اصطدمت به عيناه عند باب الغرفة جعل ليس سعاله فحسب … بل جعل أنفاسه تتوقف للمرة الثانية في غضون بضع دقائق…كانت أمل الصغيرة تقف عند الباب تنظر إلى كمال بهدوء شديد , قدماها مضمومتان ويداها خلف ظهرها 

 

– 18 –

عندما وصلت الحمراء إلى القصر القديم اتجهت إلى بابه الكبير المفتوح بحذر طفولي , أطلت برأسها داخله , ثم و بخطوات مترددة دخلت إلى المنزل التي كانت تحلم برؤيته من الداخل دوماً… مشت بخطوات بطيئة داخل الممرات فشاهدت باب غرفة مفتوح فاتجهت إليه , وعند وصولها إلى عتبة الباب لم ترَ أحداً داخل الغرفة عكس ما توقعته … كان كل ماشاهدته هو علبة سوداء صغيرة ملقاة على الأرض

قبل أن تفكر بخطوتها التالية ارتجف قلبها الصغير على صوت قوي مرعب ممتزج بصرخة قوية أعقبه صوت ارتطام شيء ما بالأرض …لم تسعفها شجاعتها للبقاء لتعرف ما يجري …اتجه نظرها إلى باب المنزل الكبير فوصلته راكضة ويدها تقبض بقوة على الوردة البرتقالية … خرجت من القصر وهمت بمتابعة الركض بعيداً عنه .. ولكنه شيئاً ما استوقف هذه الصغيرة التي لم تكن تشبه أحداً , لم يكن هذا الشيء هو شعورها بالأمان بعيد خروجها من القصر …ولم يكن أيضاً هو فضولها لمعرفة ما يجري…كان ذلك هو صوت الألم الذي سمعته ممتزجاً مع صوت القرقعة الشديدة …كان هناك أحد ما في الداخل يتألم وقد يكون في حاجة إليها

ترددت كثيراً قبل أن تعيد تسيير خطواتها إلى داخل القصر وقلبها الصغير يدق بعنف شديد…هذه المرة كان صوت السعال الشديد الذي تسمعه هو الذي حدد وجهتها صعدت الدرج وهي تتبع مصدر الصوت وقد ازداد يقينها أن هناك من هو بحاجة لمساعدتها , عندما وصلت إلى باب الغرفة العلوية توقفت عنده ولم تبالي بالغبار الثائر … شاهدت كمال مستلقياً على الأرض ينظر إلى سقف الغرفة و يسعل و يسعل ولكنه يعود فينظر إلى الأعلى

– 19 –

بعد كل ما جرى كمال لم تسعفه قدماه للوقوف …ولم يقاوم النظرة الهادئة المسددة نحوه من عتبة باب الغرفة …فاتجه نحو الباب على يديه وقدميه …وبسبب وضعيته هذه لم يكن عليه أن ينحني لتصبح عيناه ملتقيتان مباشرة بعيني هذه الحمراء الصغيرة …كانت أجمل ما شاهدته عينيه في حياته كلها , وعندما سألها عن اسمها تأكدت هذه الصغيرة من أنه بخير و على ما يرام … فتحركت يدها من خلف ظهرها متجهةً نحو كمال , مقدمة له وردة برتقالية يبدو أنها قد عانت من بعض الضغوط مؤخراً ولكنها لاتزال محتفظة بكامل رونقها وجمالها …

امتدت يد كمال إلى الوردة فأخذها من يد الطفلة وعندما وضعها قرب أنفهه شعر بأن رائحتها قد غسلت رئتيه من كل الغبار الذي تراكم بهما …فابتسم بصفاء للمرة الأولى منذ سنوات وأعاد سؤاله للطفلة التي نظرت اليه بعينين خجلتين وهمست باستحياء : أمل …قبل أن تقوم قدمي الحمراء بجولة سباق جديدة مع الريح …

– 20 –

في السنوات اللاحقة ورغم كل الأشغال التي كانت يقوم بها كمال سواء في عمله أو في بيته مع زوجته وأطفاله لم يمر عليه يوم واحد دون أن يتذكر تفاصيل يومه الرهيب في غرفة طفولته … وكان المفتاح الصدئ الكبير المعلق في مكتبه داخل إطار كبير يلفت النظر إلى تناقضه في وجوده إلى جانب إطار كبير آخر بداخله وردة مجففة بالية توحي بقايا ألوانها أنها كانت برتقالية اللون يوماً… كان لا يبالي بانتقادات زواره من الأصدقاء عن أنه لم يوفق في ابتداع “ديكور” جميل لهذا الحائط …وكان يرد عليهم بغموض : 

إنه حائط الشرف والأمل وليس مطلوب منه أن يكون جميلاً ولكن من الضروري جداً أن يكون موجوداً ..

على الرغم من غرابة أحداث ذلك اليوم الرهيب إلا أن كمال كان يستغرب فيه شيئاً واحداً فقط …كان يذكر جيداً كيف ركضت الطفلة الحمراء مبتعدة عنه بعد أن أعطته الوردة و يذكر جيداً جداً أنها عندما ركضت مبتعدة لم تتجرأ ذرة واحدة من الغبار على الثوران وراءها .
 

 

تاريخ النشر : 2017-05-26

shamtel

سوريا
guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى