أدب الرعب والعام

نزلاء الصمت

بقلم : ميهرونيسا بربروس – الجزائر

نزلاء الصمت
في البداية كانت أصوات صراخ أطفال ، بعدها تحولت إلى ضحك و فجأة ساد الصمت !

من نافذة غرفتي التي في الطابق الثاني أنزلت ساقي ببطء شديد أتحسس غصن الشجرة التي أمام البيت ، ثم ألحقت الساق الأخرى , و هكذا خرجت مثل كل مرة متجهة صوب الغابة .. شجرتي الكبيرة المجوفة كما عهدتها أيام طفولتي مازالت كما هي أو بشكل أوضح ” كما صُوِّرت لي” .

دخلت جوف الشجرة ، لقد كانت فارغة فأشعلت شمعة و جلست استرجع ذكرياتي و افكر بقلق في وجه المستقبل الآتي و لم أنتبه على نفسي إلا وقد غفوت و الدموع تبلل خديّ و لم أكن أشعر بها . 
لم اكن أعلم أن هذه آخر مرة أخرج فيها من منزلي لأنني لم أكن أدري أنني لن أعود إليه بعدها .

” أنا جنات ابنة ثمانية عشر عاماً , و في ظل تلك الظروف القاسية التي تمر بها البلاد في ذلك الوقت انجبتني أمي ، و لأننا نعيش في الجبال كنا – ككل سكانها – في خطر ، كانت أمي دائمة التفكير في مسلك لي للنجاة في حال تم اعتداء إرهابي مباغت على القرية , كانت أمي قلقة دائما في ذلك الوقت .. كانت البلاد تقريباً في نهاية العشر سنوات من الأزمة التي نسميها ” العشرية السوداء” .. ثم بدأت الأوضاع تتحسن .

اعتاد أبي في أيام عطله على زيارة البحر برفقة أصدقائه و ذلك من أجل الصيد , في ذلك اليوم الذي غادر فيه – و يا ليته لم يغادر – عارضت أمه (جدتي) ذهابه , قالت أنها غير مرتاحة ” بني لا تذهب و كفى ” لكنه ذهب بعد أن طمأنها … و هاج البحر و دون شفقة ابتلع كل من كان مبحراً على متنه دون تفرقة بين صغير و كبير , إن البحر حين يهيج كأنه مخلوق حي له يد يبطش بها ..

مات أبي تاركاً خلفه زوجة حبلى ، و ابنة لم يتجاوز عمرها السنتين , و بعد ذلك حدثت عدة أمور محزنة …”

صحوت من غفوتي هذه على اضطراب شديد في نفسي ، لم أعرف ما هو أو ما سببه , كل ما أعرفه أنني كنت قلقة و خائفة جداً , و فجأة هبت رياح قوية فدخلت جوف الشجرة و أطفأت الشمعة .. و بعدها بدأت أسمع أصواتاً غير واضحة تقترب , و أخذت الأصوات تعلو شيئاً فشيئا حتى تملكني إحساس أنها أحاط بالشجرة من كل النواحي , كانت تلك الأصوات بكاء لأطفال !! 

خرجت ببطء من الشجرة ، فلعلهم أطفال ضائعون يحتاجون للمساعدة , لكنني لم أجد أحداً ، و تغير الصوت إلى ضحك شديد ثم عاد ليكون بكاء مرة أخرى , و فجأة ساد الصمت و خيم سكون رهيب .. 
إلتفت حولي ، كان المكان مظلماً , و من ذلك الظلام أمامي خرج طفل صغير وديع الملامح هادئ القسمات يمد يده إلي كأنه يريد أن يتمسك بي , و ما إن أمسكت يده حتى قبض عليها بقوة كبيرة و أخذ يجذبني إليه و هو يضحك بغرابة , و في لحظة انفعالي الشديد صرخت بقوة و فصلت يدي عن يده .

سقطت أرضاً , فلقد سيطر الرعب على أوصالي و لم أستطع الوقوف , و كان الطفل أمامي ينظر إلي و يبتسم , نظرت حولي فإذا بي محاطة بأطفال آخرين أخذوا يحدقون بي في صمت , و تقدمت طفلة من بينهم عيناها تلتهبان غضباً و قالت :

( أنت اخترقتِ صمت رؤى و افسدت عليها هدوؤها بصراخك .. فلتدفعي ثمن أخطائك )

لم أستطع المواصلة بعد هذا و أغمي علي لفرط الذعر .

فتحت عيني في مكان غريب , مدينة كبيرة مكتظة و بجانبي كان ذلك الطفل , فجلست و كنا في وسط الطريق تماماً , كان كل شيء ساكناً .. السيارات متوقفة في الطريق , الناس يقفون بلا حراك .. الطيور محلقة في كبد السماء ساكنة .. بدى و كأن الوقت تجمد , بادر الطفل إلى الكلام قائلاً :
( انظري ما أكبر هذه المدينة .. كل شئ حولنا .. الآلات .. البنايات .. المرافق .. تحمل البشر لكن لا شيء منها أبداً يحس بآلام البشر , لا شيء منها أبداً يستمع إليهم , هكذا هم البشر مع بعضهم البعض .. البشر ليسوا بأبرياء )

لم تكن عندي أية فكرة عما يحدث فبقيت أستمع إليه بصمت , قال لي .. اتبعيني , فدخلنا بين الناس و مر بي من زقاق إلى زقاق ثم إلى منزل كبير  ( تعالي ننظر من النافذة ) هناك داخل البيت امرأة عجوز واقفة قرب المطبخ و ثلاثة رجال .. اثنان منهما جالسان على الأريكة و الآخر نازل من السلالم , و ثلاثة أطفال يلعبون بمجموعة ألعاب إلا طفل واحد يقف وحيداً في زاوية البيت مطرقاً برأسه , و كلهم متوقفون عن الحركة !

( هيا بنا .. إلى الداخل ) و ما إن دخلنا حتى عادت الحركة إلى البيت .. لم يكن أحد يرانا أو يشعر بوجودنا , و تابع الطفل الحديث :
( لم يكن أحد يهتم بي أو يبالي بمشاعري كإبن للعائلة , بل على الأقل كإنسان , لمن أفضي بمشاعري و لا أحد يسمع ! لمن أشكو آلامي و مخاوفي و لا أحد يهتم .. لا أحد يريد أن يعرف , ألأنني يتيم الأبوين ؟ ألا يفكر العم بابن أخيه .. ألا تحنو الجدة على حفيدها الذي ترك وحيداً بين أنياب الدهر .. أين الجميع .. أين جميع من كانوا حولي يعطونني و يلاطفونني في الكلام .. أين كلمات المودة السالفة التي طالما كانت تنحدر على ألسنتهم ..؟ كلا .. ما هي إلا المظاهر الخادعة التي تعودوا على إظهارها لأصدقائهم و جيرانهم و حتى إخوانهم ..

عقلي الصغير الذي لم يستوعب فقدانه أبويه عجز أكثر عن استيعاب تغير أهله من ناحيته .. لماذا ؟.. لماذا ؟ لم أفهم و لحد الساعة لا أفهم , بينما كانت الحياة تفلت من أناملي ما كان لي من مأوى غير رائحة أبي إخوته و أمه , ذبلت الزهور التي كانت في مخيلتي كطفل يافع مفعم بالحيوية و الأمل , طموح للمستقبل شغوف بالحياة , و انهارت جنتي الجميلة و نضبت أنهارها و غارت وديانها و شحبت سماؤها , تبدل حبي للحياة بغضاً لها و لما فيها .. انهارت تنمقات الناس أمامي و أصبحت مؤمناً منهم بشيء واحد هو أنه لا رحمة في قلوبهم , لا مودة و لا محبة و لا قرابة .. هذه كلها شعارات مضللة و دعايات كاذبة لترويج الظلم .

عمي إذا ما اقتربت منه طردني و إذا ما شكوت له أنبني , جدتي لا تحبني .. لا تحب أمي و تميز بيني و بين أحفادها الآخرين .. أولاد أعمامي لا يشاركونني اللعب و يسخرون مني باستمرار , ففي النهاية أنا في نظر كل العائلة اليتيم الذي لم تبقَ له مظلة تقيه المطر )

و هنا تنهد تنهيدة طويلة ثم التفت إلي و أمسك بأسفل ثوبي و أشار بصمت إلى مكان به أشجار خريفية مصفرة الأوراق , سرنا حتى دخلنا بينها و استمرينا في المسير حتى ظهر لنا بيت , إنه البيت الذي قضيت فيه أيام طفولتي التعيسة , و ما إن وقعت عيناي عليه حتى جريت نحوه بكل ما أوتيت ساقاي من قوة و نظرت من النافذة , كان الجميع ساكناً في حاله كما في المنزل السابق , هناك رأيت الحقيقة .. 

جدتي التي لا تبالي بمشاعري و لا بمشاعر أي أحد دؤوبة على سب أبي المتوفى , دؤوبة على إيذائي بكل ما أوتيت من قوة , خالي الذي لا يسمع إلا لأكاذيب زوجته سهل له أن يكون لعبة في يدها أن يكره أخته و ابنة أخته , أن يحتقرها و يرى أنها مخلوق بغيض غيور و حاقد , زوجات الأخوال اللاتي يتهامسن و يطعن في الأعراض و يقذفن بالأكاذيب , فجنات عندهم قتلت أخاها بملئ إرادتها , و أظن أنهم استطاعوا إقناعها بطريقة ما ..

خالاتي كل منهن تسعى خلف مصالحها الشخصية و لا ترى في أحاديثي و إفضائي سوى مضيعة غير منتهية للوقت , أمي التي تعمل منذ الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساءً لا تجد الوقت لسماعي , لكنها لا تواجه مشكلة في إيجاد صعوبة لفهمي ..أحاسيسي .. أحلامي ..طموحاتي .. مخاوفي .. هواجسي و مشاكلي , و مع مرور الوقت لم أعد أتحدث لأحد منهم , لم أعد أخبر امي بمشاكلي , ظلمت و لم يساندني أحد .. تألمت و لم يفكر أحد بالتخفيف عني , كل واحد منهم شارك في قتلي و كل بطريقته الخاصة , لقد مررت بجميع المراحل لوحدي و أريد أن أبقى لوحدي .

و هنا مد الطفل إلي يده و قال : 

( أنا وسام ابن عشرين سنة , لقد دخل البشر بظلمهم دائرة العدم , ضعي يدك بيدي و لنهجر هذا العالم المقرف , لن ندعهم يسمعون أصواتنا .. لن نبوح لهم بما في نفوسنا , فلننتقم منهم .. و ليبتلع الصمت كل شيء ) 

وضعت يدي بيده و إذا بحجمي يتقلص لأعود طفلة تماماً كوسام , قلت : 

( و أنا جنات ابنة ثمانية عشر عاماً , لنسحق أعداءنا , فلنخيم عليهم بالصمت .. فالصمت الرهيب يخترق طبلات الآذان أقوى من كل صوت , و ليدخل البشر دائرة العدم ) .

عدنا إلى غابة الصمت و لم تكن شجرتي في مكانها .. لقد اختفت , و انضممت إلى الأطفال أول أصدقائي و آخرهم في هذه الدنيا , أمسكت بيمين وسام و أمسكت رؤى بيميني وسرنا بين أشجار الطبيعة الفاتنة لا يقلق هدوؤنا صخب المدينة و لا أكاذيب الناس .

أيها البؤساء و المحزونون أيها المنبوذون من قبل أقرب الناس إليهم , أحزاننا التي لن يقوى على حملها أحد , أحزاننا التي صنعها هذا الأحد , لن نكلمهم .. لن نبوح لهم بما يجول في خواطرنا , فلنتصرف بصمت , فلنفعل ما يحلو لنا بصمت , لسنا مضطرين لأن نشرح لهم مواقفنا لذا لن نقدم أي تفسير , فلتنضم إلينا أيها الوحيد المنبوذ لنكون جسداً لك نحن ” نزلاء الصمت “
 

تاريخ النشر : 2017-07-12

guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى