تجارب ومواقف غريبة

الزئبق الأحمر

بقلم : جيجي عادل – مصر

الزئبق الأحمر
الزئبق الاحمر .. مادة خارقة لا تقدر بثمن ..

منذ عشره سنوات و بعد وفاه جدى رفض ابى رحمه الله ان يأخذ شيء من ميراثه الا مذياع قديم اشتراه جدى فى اربعينات القرن الماضى وكان ابى سعيد جدا بهذا المذياع الضخم الذى كان يماثل تلفاز متوسط الحجم و خاب رجاء امى عندما رات ابى و هو يكاد يطير من الفرحه بهذا المذياع العتيق و احتفى به والدى ايما احتفاء فانتقى له ركنا بارزا فى غرفة مكتبه العتيقه و اصبح رفيقه الدائم فعندما يستيقظ فجرا يهرع لمذياعه الاثير لسماع تواشيح الفجر ثم ينتقل الى اذاعه البرنامج الموسيقية ثم  إلى اذاعه البرنامج الاوربى واذاعه القرأن الكريم و يقضى جل وقته مع مذياعه الاثير .

وكثيرا ما كنا نمزح بشان هذا المذياع و كان ابى يغضب غضبا شديدا و يخبرنا بأن هذا المذياع هو الباقى من زمن التراث و الاصاله و العراقه و اننا لا نفهم او نقدر تاريخ هذا المذياع فلقد كان اول مذياع فى قرية ابي و كان اهل القريه يجتمعون فى بيت جدى ليستمعوا الى الاغنيات القديمه و الحلقات المسلسله و كان اهل القريه من العامه و البسطاء يعتقدون ان بداخله جن وبالطبع كان هذا المذياع مثار للفخر والاعتزاز لابى و اخوته على اقرانهم فمن منهم يمتلك مذياعا مثله؟؟؟؟ .

وكان اصدقاء ابى مجموعه من المثقفين و المناضلين القدامى يجتمعون كل اسبوع فى منزل احدهم للقراءه والاستمتاع بالشعر الذى يلقيه عمى عادل وهو شاعر رائع ولكن من منازلهم بالطبع , واصبحت هذه الامسيات كالصالون الثقافي وكان نصيب ابى او اختياره اذا اردنا الدقه هو الخميس الاول من كل شهر حتى يواكب اغنية ام كلثوم  والتى كانت تقيم حفلها فى هذا الموعد كل شهر وعلى الرغم من وجود كل الاشرطه المسجله لاغانى ام كلثوم لديه الا انه كان يشعر عندما يستمع الى صوت ام كلثوم عبر هذا المذياع تحديدا و فى نفس موعد حفلتها الشهريه كانه يستمع الى الاغنيه لاول مره بنفس الاستمتاع و نفس النشوه و الهيام .

وكان غالبا ما يحضر اصدقاء ابى شخص جديد من عشاق الادب و الفن و السياسه , وفى احدى ليالى شهر اغسطس الحارة جاءت شلة  ابى او الحرافيش كما كانوا يطلقون على انفسهم مثل روايه نجيب محفوظ الشهيره و جاء معهم شخص جديد تماما طويل القامه وسيم يغزو الشيب فوديه و استقبله ابى بابتسامه عريضه مرحبا به و متمنيا ان يستمتع بسهرته معهم و لكن الرجل لم ينتبه لحديث والدى فلقد كانت عينيه تتركز على شيء واحد و هو مذياع ابي القديم الذى لم يخفض عينيه عنه طوال مدة السهره و العجيب انه لم ينبس ببنت شفه اثناء السهره و بدا و كأنه لا يتابعهم ولا يفهم ما يقولونه اساسا. و بعد انتهاء السهره ودع ابى رفاقه واصطحبهم حتى باب المنزل , و وجد  ابى ان الضيف الغامض يتلكأ و يتباطأ فى المسير و استشعر والدى ان الرجل لديه سر ما و صدق حدس والدى و مال الرجل على اذن ابى و هو يقول له انه يريده فى امر عاجل و خاص جدا و رحب والدى بالضيف و اصطحبه الى غرفة مكتبه مره اخرى و هنا انتبه ابى ان الرجل  يصطحب معه حقيبه جلديه سوداء و فتحها الضيف و اخرج عده الاف من الجنيهات ووضعها امام ابى على مكتبه و قال له هذا ثمن المذياع !!! .

وفغر ابى فاه و تجلت الدهشة على وجهه و هو يسأله لما تريد شراء هذا المذياع القديم الذى لا يساوى شروى نقير فى سوق الاجهزه ؟ . قال الضيف  بخشونه ليس هذا من شانك فانا اريده و سأنقدك ثمنه على الفور واظن ان هذا المبلغ اكثر مما يستحق بكثير , وزم والدى شفتيه و عقد حاجبيه وقال بصوت لم تفارقه الدهشه و يحتوى على رنه من الغضب "وهذا المذياع ليس للبيع" فقام الرجل بفتح الحقيبه الجلديه و ضاعف المبلغ الموجود على  سطح المكتب وسط دهشه ابى العارمه و كرر ابى نفس الجمله انه لن يبيعه بكنوز الارض لانه يعتز به وهنا قام الرجل و انصرف على الفور .

و فى هذه الليله الشديده الحراره اسيقظ اخى ليلتقط بعض نسمات الفجر العليله من شرفة المنزل و غلبه النوم على الاريكه الموجوده فى بهو المنزل و لكنه استيقظ على صوت جلبه واضحه فى حجره مكتب والدي فاستنتج على الفور انه بالتاكيد لص و تسلل اخى بخفه و ايقظ والدى من نومه وقام والدي بفتح باب المكتب و اشعال الضوء الذى غمر وجه اللص و ذهل والدى عندما وجد انه نفس الرجل الى استضافه منذ ساعات قليله و القى الرجل المذياع من يده فزعا ووقع بدوى هائل على الارض ايقظ كل من بالمنزل .

و اصر اخى على استدعاء الشرطه و نظر ابى الى الرجل الذى تورد وجهه خجلا واشاح بنظراته حتى لا تلتقى بنظرات ابى و تهدج صوته و هو يقول لابى انا لست لصا و الدليل انى تركت مبلغا كبيرا من المال على سطح مكتبك . وهنا تنبهنا بالفعل بوجود مبلغ كبير من المال ملقى على سطح المكتب و عقدت الدهشه السنتنا جميعا و قال والدى بحزم اخرجوا جميعا و اغلقوا باب الغرفه و اشار للرجل بالجلوس و قال له ابى  من الواضح انك تمر بضائقه ما و تفضل هذا المذياع هديه منى لك و يمكنك ايضا الاحتفاظ بنقودك و هنا انفرجت اسارير الرجل و قال لوالدى ان هذا ليس اول مذياع يشتريه بل ان لديه فى المنزل عشره منهم و ايضا بعض ماكينات الحياكه القديمه فهو يبحث بداخلها عن شىء واحد ..

الزئبق الاحمر ..

و تعجب والدى من كلام الضيف و نظر اليه مرارا و تكرارا عله يسبر اغواره و قال والدى ولكنك لا يبدو عليك انك من السحره او الدجالين او الباحثين عن الكنوز قال الرجل بانه لديه ابنة واحدة هى كل حياته و لكنها مصابه بمس من الجن و الشخص الذى يعالجها قال له ان الجن الذى يتلبس جسدها  لن يخرج الا اذا احضروا له زئبقا احمر ليجدد به شبابه وقال الرجل ان الزئبق الاحمر للجن هو اكسير الشباب , و يقال انه فاكهه الجن ؛ و هو على هذه الحاله من عده اشهر يدور على الاسواق لعله يجد ضالته فيها من هذه الاجهزه القديمه كما يقول العامه , و عندما سمع  من صديقه بان ابى يمتلك مذياعا المانيا قديما اصر ان يحضر الى منزلنا معه.

انا اعلم ان والدى لا يقتنع بمثل هذه الخرافات و لكنه لم يناقش الرجل كعادة ابى لاقناعه بان ما يفعله بنفسه و ابنته خطأ كبير لانه استشف عدم جدوى النقاش مع الرجل و قال له ابى تفضل المذياع هديه كما وعدتك و عن طيب خاطر فقال الرجل انه يحتاج الى انبوب صغير بداخله فقط و لا يحتاج الى المذياع نفسه فى شىء و هنا قام ابى بطلب مفك براغى من اخى و قام بفك غطاء المذياع و خاب امل الرجل الذى لم يجد ما يصبو إليه و لكنه شكر والدى و انصرف وسط دهشه الجميع .

وعندما قص ابى علينا قصه الرجل لم نحر جوابا فكنا بين مصدق ورافض و خصوصا ان فى هذه الفتره انتشرت شائعات كثيره عن وجود هذا الزئبق الاحمر المزعوم بداخل بعض الاجهزه القديمه و تباع بمبالغ  خرافيه و بالطبع  لم يحالفنا الا خيبه الامل لفقد هذا المبلغ الضخم و لكن ابى  رحمه الله حزن لشىء اخر وهو عطب مذياعه المفضل .

تاريخ النشر 26 / 03 /2014

guest
61 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى