اساطير وخرافات

حوريات الغابة

بقلم : شيزروان – العراق

حوريات الغابة
كانت الحوريات عند كل فجر ينزلن للاستحمام في الينبوع 

في الجنوب الغربي من قريتنا يقع جبل “لو-شان”وفي سفحه ينبوع يدعى*عين الجنيات*ويحكى أنه كان يعيش قديماً على قمته غزال صغير من حجر اليشب الكريم ، و عندما كان الناس ينزلون من الجبل عائدين إلى بيوتهم ، كانت تتناهى إلى أسماعهم أحياناً أصوات مثل : فليك فلاك فلوك ، يخيل إليهم معها أن آلافاً من الجلاجل الصغيرة تقرع ، إنه الغزال الصغير ، الشادن اليشبي ، الذي يعدو مكردحاً بقوائمه القصيرة ، محدثاً هذه الجلبة ، و لكن أحداً من الناس لم يكن يشاهده .. يقولون أنه لا يظهر إلا لمن يملك قلباً أصفى من الألماس !

في سفح جبل لو-شان هذا ، كانت تقوم قرية صغيرة ، يعيش فيها صاحب مزرعة بدين الجسم أكرش ، و بخيل شحيح حتى أنه لا يتخلى عن الماء الذي يسلق فيه بيضة ، ويستغل خدمه و أجرائه إلى أبعد حد ، و لقد جرت ألسنة الناس على تسميته بـ ” السلَّاخ” ، لأن الرحمة لم تكن تعرف إلى قلبه سبيل .

حوريات الغابة
كان يعيش في قمة جبل لوشان غزال صغير

و كان يعمل في مزرعته أجير شاب اسمه”تشانغ-تشو” ، وهو فتى طيب أمين و دؤوب ، قلَّ أن نجد نظيراً له في هذا العالم ، يعمل من الصباح حتى ساعة المغيب ، و يأكل غالباً ما لا يسد رمقه ، زد على ذلك أنه كان يصعد كل يوم إلى الجبل بحثاً عن العيدان اليابسة ، ويعود مساءً وحزمة منها على كتفه .

ذات يوم ، لم يتمكن من العودة إلا وقد حل المساء ، فوقعت عينه وهو قرب عين الجنيات على شيء ما صغير ، ملقى على الأرض يلتمع ، تلفت حوله.. فلم يرَ أحداً ! ولم يكن ذلك الشيء اللامع سوى دبوس شعر من الفضة ! قال في نفسه وهو في حيرة واندهاش .. لمن هذا الدبوس؟
كانت الغابة ساكنة والطبيعة في سبات عميق ، والنجوم وحدها ساهرة في السماء ، عالياً جداً فوق الأشجار .

حدَّث تشانغ-تشو نفسه وهو ينحني لالتقاط الدبوس :
سآخذه وأحتفظ به ، لعلني أجد صاحبه غداً !
وفي اليوم التالي انصرف كسابق عادته والشمس ماتزال فوق الأفق ، لكنه توقف عند الينبوع وأخذ ينتظر و ينتظر .. أرخى الليل سدوله وطلع القمر ، ولكن لم يبد له أحد ، فما كان منه إلا أن تناول حزمة الحطب ، وهم برفعها إلى كتفه استعداداً للمسير ، لكنه تسمر في موضعه وهو ينهض بحمله ، مأخوذاً من فرط الإعجاب .. فثمَّة فوق صخرة إزاء عينيه ، صبية تبتسم له… كانت عيناها أشبه بنجمتين ، و هي ترتدي غلالة ناعمة وردية اللون شفافة !! سألته بصوت ندي مثل نسمات الربيع :
– “قل لي أرجوك ألم تجد بالمصادفة دبوسي الفضي؟”
لم تمكنه دهشته البالغة من أن يجيب ، مد تشانغ-يده إليها بالدبوس ، دون أن ينبس ببنت شفة ، و ما إن شكرته الحسناء بمودة حتى كانت هفهفة ثوبها قد سُمِعَت في الفضاء ، ثم هبت ريح صغيرة واختفى طيفها اللطيف .

حوريات الغابة
قالت له : أرجوك , ألم تجد بالمصادفة دبوسي الفضي ؟

لم يقدر الفتى طوال الساعات التالية أن يفكر إلا بهذا الذي وقع له ، وما لم يستطع أن ينساه كان على وجه التحديد جمال الحورية الرائعة ، وقد ظلت صورتها مطبوعة في قلب عينيه لا تفارقه أبداً ، وعبثاً راح يتمنى في الأيام التالية رؤيتها… فالغابة في سكونها ، وليس للحورية فيها من أثر ، و لكن وقعت حادثة غريبة أخرى للفتى ، وهو في الجبل كان قد أتمَّ جمع أعواده وعساليجه ذات مساء ، وربط حزمته وجلس ليتناول عشاءه البسيط ، مد يده إلى صرة أكله التي كان قد أودع فيها عدداً من كعكاته المتواضعة… ولكن يا للخيبة !كانت الصرة خاوية ، ولا أثر للكعكات فيها ! حدث نفسه : يا للغرابة ! لا شك أن حيواناً غاشماً قد أكل عشائي !

إلا أن الحادثة تكررت في اليوم التالي…ثم أن الأمر ذاته أخذ يقع كل مساء ، فكر الفتى مخاطباً السارق المجهول :
انتظر قليلاً ، لسوف ألقي القبض عليك يوماً ما أيها النشال الحقير !

وتسلق شجرة صنوبر واندس بين أغصانها مترقباً .. غابت الشمس ، وحل الظلام… ومالبث البدر أن طلع فملأ السماء نوراً ، هنا ترامت إلى مسمع الفتى أصوات تلك الجلاجل الصغيرة : فليك فلاك فلوك ، بينما اعتراه الذهول مما ترى عيناه من مشهد غريب .. كانت تتدحرج نحوه من الجانب الآخر من المكان ، كرة فضية اللون وذات لمعان شديد ، وكلما اقتربت منه،اضطر إلى ان يطبق جفنيه أكثر فأكثر ، ذلك أن النور الذي ينبعث من هذه الكرة ، كان يسطع سطوعاً باهراً ، فلما فتح عينيه أبصر تحت الشجرة – المتخفي بين أغصانها – غزال صغير بدا له أنه من حجر اليشب الأبيض ، يتوهج فروه توهج الأحجار الكريمة الثمينة… ولكنه كان بما لا يدع مجالاً للشك ، يتم أكل الكعكة الأخيرة !! صرخ الفتى وهو يسرع بالنزول من على شجرته :

– “وأخيراً ضبطتك متلبساً ! فأنت إذن من يأتي كل يوم ويأكل كعكاتي؟ (و أضاف مؤنباً) ألا تخجل يا هذا ؟! لو أن عندي مزيداً من الكعك لما عاتبتك…ولكن هل تعلم أني أبيت كل ليلة خاوي البطن بسببك ؟!”
أجاب الشادن اليشبي:”أنا لم آكل كعكاتك هذه دون مقابل ، لسوف أوفيك حقك بأن أزودك بخطيبة حسناء !”
هتف تشانغ-تشو،وهو يطلق تنهدة:
– “أواه أيها الشادن الصغير ! أنت لطيف حقاً ولكن ألا ترى أني لا أكاد أقدر على تأمين الغذاء لنفسي ، فكيف أستطيع أن أقوم بإطعام زوجة ؟!” فطمأنه الشادن اليشبي الصغير :

– “لا تقلق ! لن تكون زوجتك المقبلة عبئاً عليك ، إنها على العكس من ذلك تماماً ، ستكفي نفسها بنفسها ، فضلاً عن أنها ستكون عوناً لك في حياتك .. اذهب إلى عين الجنيات ساعة طلوع القمر للاستحمام في الينبوع ، و انظر أيهن تعجبك أكثر من غيرها ، فاختطف ملابسها وانطلق بأقصى ما تستطيع من سرعة ، فإنها دون ثيابها لن تتمكن من العودة إلى السماء… وعندئذ تصبح زوجتك !”

ما إن قال الشادن اليشبي الصغير ذلك ، حتى أخذ يبتعد مكردحاً ، بجسمه الكروي الباهر النور ، واختفى في الأدغال.
وهنا تذكر تشانغ-تشو الحسناء المجهولة التي كانت قد أضاعت دبوسها الفضي قرب عين الجنيات .. آه ليتها تكون إحدى الحوريات التسع !

و في اليوم التالي ، و قبل طلوع القمر ، كان متخذاً مكانه حيث ينبغي ، مختبئاً قرب الينبوع .
طلع القمر ، وبدا سطح الماء هادئاً ، أشبه بمرآة ، و فجأة تحرك الهواء ، فأشرق نور من جميع الجهات في آن واحد ، وظهرت ضفة الينبوع فتاة حسناء في ثوب أحمر ! ثم أومض نور آخر ، بدا وكأنه يشق الفضاء ، فظهر طيف لحورية ثانية قرب الينبوع ،، ترتدي الأخضر هذه المرة…وهكذا كانت حوريات الغابة ينزلن إلى الأرض ، واحدة بعد أخرى ، ليستحممن.

حوريات الغابة
التفت فرأى حسناءه ترنو إليه بعينيها الباسمتين

كتم تشانغ-تشو أنفاسه ، يا الله ! إنه لم ير في حياته كلها هذا العدد من الحسناوات مجتمعات ! ولكن كانت في نفسه غصة .. إن الفتاة التي أمضى الليالي وهو يطلق التنهدات الحارة حيالها ، تلك الحسناء المجهولة ذات الدبوس الفضي ، ليست بين هؤلاء الماثلات أمامه .
في تلك اللحظة ، خفق فوق رأسه صوت مثل هينمة ، أو نسمة عليلة ، ثم حطت الحورية التاسعة والأخيرة على الأرض ، الحورية التاسعة…إنها هي فكانت إياها : الحسناء ذات الغلالة الوردية بدبوسها الفضي المغروز في صدرها !هتف تشانغ-تشو في ذات نفسه :
– تلك هي التي أريدها ، ولا أريد سواها .

انتظر حتى تجردن الحوريات..ثم تسلل إلى حيث ملابسهن و هن يستحممن ، واختطف غلالتها الوردية الشفافة ، وأطلق ساقيه للريح .

لم يكن قد ابتعد كثيراً لحظة خيل إليه ان هناك من يناديه ، التفت فرأى حسناءه ترنو إليه بعينيها الباسمتين ، سألته :
– “لماذا هربت مني هكذا ، مع أن كلاً منا يعرف الآخر ؟ أعتقد أننا صديقان…ألا ترغب فيَّ زوجة؟”.

جن تشانغ-تشو فرحاً ، و ما كان منه إلا أن اصطحب زوجته الشابة إلى بيته ، فكانا سعيدين جداً في حياتهما المشتركة
منذ ذلك اليوم هرب الفقر والشقاء من البيت ، فقد كانت الزوجة تغزل خيوطاً تضاهي بنعومتها ما تغزله العذراوات من خيوط…ثم يقوم تشانغ-تشو بحمل نتاجها إلى المدينة ، حيث يبيعه فيجني الزوجان من ذلك أرباحاً وفيرة و كان من البديهي ألا يرضى ذلك صاحب المزرعة ، السلاخ المشؤوم ، لقد استدعى إليه تشانغ-تشو ، و وبخه ، وأرغى وأزبد…وانتهى الأمر بالأجير إلى أن يروي لسيده حكاية الشادن اليشبي ، وكيف سطا على كعكاته ، وكيف فاجأه هو ، وأنه تعلم منه الطريقة التي مكنته من أن يحظى بإحدى حوريات الغابة !!

فكر المزارع لدى سماعه ذلك :
” كعكات تافهة ، عجينتها من الشيلم أو الزؤان ! إني إذا ما قدمت للشادن فطائر ممتازة ، مصنوعة من الدقيق الأبيض الناعم المبثوث بالزبدة والبيض أرشدني لاشك إلى الوسيلة التي أحصل بها على فتيات أروع جمالاً ! “

مساء اليوم التالي ، كان المزارع قد أعد صرة فيها ما لذ وطاب من الفطائر المغشاة بالقشدة ، وأخذ طريقه نحو الجبل هناك ، وضع فطائره على صخرة ، وتسلق شجرة ، وراح يراقب من فوقها لدي طلوع القمر ، ظهرت فعلاً ،في الجانب الآخر من المكان كرة فضية ! كانت تسرع نحوه وهي تزداد توهجاً ولمعاناً …إلى أن تجلى الشادن اليشبي في ظل الشجرة ، وارتمى على الفطائر ارتماءً .

صرخ المزارع ، وهو يهبط من مكمنه :
– “قدضبطتك متلبساً وأنت تأكل فطائري ! كيف تسمح لك نفسك بأن تأكل عشاء رجل مسكين مثلي ؟ لو كان عندي من الفطائر ما يكفي ، لما عاتبتك ، إن علي الآن أن أنام دون عشاء”.
“نطق الشادن قائلاً :
– “أنا لست سارقاً ! أنا لا آكل شيئاً دون مقابل ! سأردها إليك بأن أدلك على الوسيلة التي تستطيع أن تحصل بها على امرأة رائعة الجمال .

سأل المزارع نافد الصبر:
– “وأين يمكنني العثور عليها ؟”.
قال الشادن اليشبي:
– ” اذهب إلى عين الجنيات ساعة طلوع القمر ، وانتظر هناك ، ستأتي تسع حوريات للاستحمام في الينبوع ، اختر منهن من تستأثر بإعجابك ، واختطف ملابسها و اركض ، إنها لن تستطيع العودة إلى السماء دون ثياب ، وعنئذٍ تصبح زوجتك!”.

لم يكد الشادن ينهي كلامه ، حتى كان المزارع يسرع نحو الينبوع ، دون أن يعنى حتى بتقديم الشكر إلى الغزال الصغير .

لم يلبث هناك إلا هنيهة ، حتى طلع القمو ، و كما وقع قبل فترة قريبة ، على مرأى من تشانغ-تشو ، فان الحوريات أخذن ينزلن إلى الأرض واحدة تلو الأخرى ، كانت ضفاف الينبوع تشع بوميض باهر ، أي ألوان قزحية ! أي نور وإشراق ! لقد جحظت عينا المزارع حتى خرجتا من محجريهما !

قرر بينه وبين نفسه .. أريدهن جميعاً زوجاتٍ لي! إن كلاً منهن تفوق الأخرى جمالاً .

حوريات الغابة
شكلن حوله دائرة و بدأن بالرقص

و قام يختطف الملابس المتناثرة حول الينبوع كلها ، ويعدو بما أوتي من سرعة .
في عدوه ترامى إلى سمعه وقع خطى تتعقبه… هي خطوات لأكثر من قدمين ، ولكنها كانت خفيفة و رشيقة ، لحقت به الحوريات ، أدركنه ، تحلقن حوله في دائرة وقد أمسكت كل واحدة منهن بيد الأخرى ، وشرعن في الرقص.

اتخذت الحورية الأولى من المزارع”مراقصاً “لها ، و راحت “تراقصه”، وتدور به حول نفسها و تحوم ، و لحظة أدركها التعب ، “سلمته” إلى الحورية الثانية ، فراقصته هذه قبل أن تتخلى عنه إلى الثالثة ، وهكذا…ذلك لم يعد رقصاً ، بل أصبح”مهرجان رقصٍ”مرهقٍ إلى حدٍّ لا يطاق .

انبهرت أنفاس المزارع البدين ، ووهنت ساقاه ، وسح منه العرق ، وأخذ قلبه يخفق خفقاناً مريعاً ، و أذناه تدويان… وعبثاً كان يتوسل إليهن ، ويتأوه ، ويحاول أن يتملص من بين أذرعهن ، ولكن هيهات !
كان عليه أن يرقص و يرقص …حتى فقد القدرة على التنفس ، وهوى إلى الأرض .

و هنا ، التقطت حوريات الغابة غلائلهن وارتفعن إلى السماء.
ثم إن الفجر لاح ، وفي ذلك الموضع القريب من عين الجنيات ، لم يعد المزارع الجشع التعيس إلا جثةً هامدة ، ممدة فوق العشب .
لقد رقص حتى الموت !.

المصادر :
أسطورة من الصين نقلها من الفرنسية : فاضل السباعي- مجلة الدوحة

تاريخ النشر : 2017-08-08

شيزروان

العراق
guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى