أدب الرعب والعام

رعب العنقاء – الجزء الأول

بقلم : كووبر حكيم – المغرب
للتواصل : [email protected]

رعب العنقاء - الجزء الأول
و من بعيد لاحت لي سفينة أعرفها .. إنها سفينة العنقاء الأسطورية !

يوم مشرق آخر , شمس صفراء ناصعة الجمال و الأناقة بزغت من وراء تلال الحرية تلك , أصوات تلاطم المياه من حولي و طيور النورس تحلق في السماء الزرقاء التي لم يعكر صفوها سوى ظهور غيوم مطرية هنا و هناك , اقتربت من إنهاء ما خضته من مغامرات ووقت جميل بين طاقمي الهمجي , لحظات أمسكنا فيها الخطر بأيدينا , و داعبنا الموت و ضحكنا في وجهه ولم نهبه يوماً فنحن رجال أشداء نركب البحر و نغوص المحيطات , نقتل الوحوش و نغازل النساء وبين هذا وذاك وخلف كل صور وملامح الهمجية والشدة فينا, كنا أطفالاً مذعورين لكننا عشنا و مضينا في سبيلنا رجالاً مرفوعي الهمة و الشأن … 

– “سيدي , سيدي , أسرع أسرع ” 
إنه لصوت مساعدي الأول كالعادة يزعجني كل صباح فيصيح باسمي في أرجاء السفينة بحثاً عني كي أحل له مشكلة بسيطة في رفع الشراع أو خلاف بين اثنين من البحارة أو لربما انعكس عليه الاتجاه والسبيل فهو ضئيل الخبرة لكنه مع ذلك شديد الشجاعة و الرجولة .

– “تقدم يا جورج أنا هنا في القبو كعادتي “
“سيدي سيدي , هناك .. هناااك مشكلة مشكلة “
” هدئ من روعك أيها البحار و اشرح لي ماذا يحدث وإلا انزلتك لقرش البحر يلتهمك و جثتك اليتيمة التي أنهكها الخمر و التحسر لخسارة راتبك في القمار الليلي “
“سيدي إنها .. إنها شارة , إنها شارة خطيرة … هناك من يتجه نحونا من جهة الشمال الغربي “
” ماذا ؟ عدو قادم يستهدفنا ؟ ويلك معي أيها الغبي , أسرع و مر البحارة بالتأهب الكلي للقتال جهزوا الشراع وارفعوا الأعلام , اشحنوا المدافع بقدائفها الثقيلة وانتظروا أوامري ” .. ” أما الآن فاغرب عن وجهي يا أيها المنحوس “
” حسناً أمرك يا سيدي “

آه جورج المسكين , أحبه كثيراً فهو وفي وصادق يبلغ من السن الثلاثين , عينته فوراً مساعدي حينما حماني من الموت شنقاً بين أيدي الامبراطور ” بيدرو الأول ” في شواطئ البرازيل , أطلق سراحي من ذاك السجن العنيف و الوحشي بعدما اكتشف عندي قنينة خمر أحمر فمضى الوقت وتجاذبنا أطراف الحديث وجلسنا أحكي له عن مدى حجم و عظمة مغامراتي في البحار , أعجب فوراً بي , فتح زنزانتي ولن أنسى كلماته الرائعة وإن مرة عليها 10 سنوات طويلة و عجيبة حينها قال :

– ” اخرج فلا اظن أن غداً يوم جميل لإعدامك أيها القرصان “

ضحكت كثيراً بعدها , نزع عنه ثياب الأمن و شارة الضباط وهربنا معاً إلى شوارع و أزقة ريو الكبيرة , كانت صورنا تحتل أبواب المنازل و قصورها فجائزة رأسينا غالية و ثمينة كما هو الحال لثمن الخيانة و الغدر الذي قام بهما في حق شعب و ملكه ” بيدرو ” , فقد كنت فيما مضى مجرماً دولياً سرقت من معظم البلدات و نهبت عدداً كبيراً من المدن والموانئ , والآن قد أصبحت كهلاً هرماً أنتظر الاعتزال و الاستقرار في موطني ” سردينيا” بعد مهمتي هذه و التي انتهت سابقاً ، فقد وجدنا الكأس الذهبية للملك ” فيتوريو إيمانويلي الأول” و الآن نحن عائدون نحو شواطئ موطننا الأخير الذي يضمن سلامتنا وعدم إلقاء القبض علينا …

صعدت المقصورة فوراً , فقد اشتقت لأيام المغامرة والقتال تلك , استرجعت شبابي و لو للحظات ؛ فتلك الرياح البحرية و الشمس الخلابة و الرطوبة الشمالية لم تكن تذكرني سوى بأيام خلت و زمن جميل ولى و شباب شاب وأصبح مقعداً رغماً عنه ينتظر الرحيل من طابور الكهل …

نظرت للبحر العميق فتأملته في غرابة ، كان يشير لي إلى شيء خطير أو مصيبة قادمة نحونا , التفت فوجدت سطح السفينة في حالة فوضى عارمة , البحارة نائمون بل يغطون في أحلام دفينة و صناديق الخمر متساقطة هنا و هناك , الأحمق جورج كان الوحيد الذي يسرع إلى القبو و يفتح أفواه المدافع و يحاول جاهداً رفع رايات التحذير … 

لم أتمالك أعصابي في وجه أولئك البحارة المتخاذلين , صحت بأعلى صوت أفاق وحوش البحر من شعابها و زلزل السفينة و من عليها : 
– أيها الأنذال أفيقوا .. هناك عدو يتجه نحونا … الآن “

لقد اعتاد طاقمي على نبرتي الحادة كل صباح فكان منهم من لا يستطيع أن يبدأ العمل بدونها , وهناك من يصيبه الصداع و الارتجاج إن لم أصيح في وجهه بتلك الكلمات الغاضبة … لقد كانت مخدراً لابد منه لبداية يوم آخر من المغامرة و التشويق … 

نهض البحارة كعادتهم في كل نشاط و قوة و عزم , تفرقوا و اهتم كل منهم بعمله فقد بلغ عددهم الستين أو السبعين رجلاً لا أتذكر بالضبط , فملامحهم كانت تتشابه فلا تعبر إلا عن الكآبة و الصمت والتصميم , فلكل واحد منهم مثلت الرحلة البحرية هروباً من شيء ما أو تحقيقاً لإرادة ما , أو لربما انتحاراً أخيراً يريحه من حياة صعبة و شقية وحيدة وحزينة و غير مريحة ، فتلك هي حياة البحارة الكهال و القراصنة السابقين… 

دب النشاط في أرجاء السفينة فهذا يرمم ويمسك الساري و الآخر يشد حبل المخطف بينما آخر يحاول الوصول وصاحبه لليامعة , بينما جورج واقف و يصيح في حوالي عشرين بحاراً أكلهم العرق و أتعبهم الجهد بأعلى صوته الخشن و طاقته المكتملة 
– ” جدفوا أيها الرجال فاليوم لا موت لنا إلا بين الأمواج , ولا حياة لنا إلا فوق كتلة الخشب هذه “

في منظر مهيب للتعاون و الغزم تنسى السطور و كلماتها و مدادها , تنسى الضغينة و الكراهية و الحقد , ينسى الاصطناع و النفاق و الابتسامات الكاذبة , و ترسم بل و تسطر ملامح الحقيقة الوحيدة في الكون , فتعلوا وجوهنا ملامح التعب و الغضب و الجهد و العمل الجاد مرفوقة بخوف عميق و تشبت بأمل غريب منقرض منذ زمن بعيد في هذه البقعة من الأرض ..

اقتربت سفينة العدو أكثر من أي وقت مضى و أصبحت ظاهرة للعلن أنها سفينة قراصنة محترفين و محنكين لا يهابون الخطر بل هم يصنعونه , ظل طاقمي يعمل بأقصى جهده فالشراع مرفوع بالاتجاه الصحيح أما المدافع فجاهزة بل و متحمسة تدعو الله أن تشتعل الحرب كي تفرغ أحزانها في وجه أعدائها .

كنت أوجه السفينة و أنظر إلى العدو من منظار بحري عتيق , راودتني فكرة مفادها أنني أعرف هذه السفينة فهيكلها مشابه في حد كبير إلى إحدى السفن الملعونة في المحيطات و التي لا يعلم أحد طبيعة إن كان بشراً أم .. فيطلق عليه في وسط جموع البحارة ” شيطان البحار ” بينما سفينته ” العنقاء ” … ظننتها مجرد أساطير تروى و تردد عن ظهر قلب , مجرد ملحمات غابرة لا أساس لها من الصحة ؟ لكنني لم أتوقع يوماً أن هذه الملحمات ستقودني وطاقمي إلى درب و نفق مظلم و مغامرة ملعونة هي أيامها و أحداثها …

أصبحت تفصلنا عن تلك السفينة العظيمة مسافة ضئيلة أعددنا فيها المدافع و البنادق و السيوف و انتظر الكل أوامري بالهجوم , رغم أن غايتنا كانت الدفاع لا غير و الوصول آمنين إلى موطننا , ولكن و كما يروى إن خير طريقة للدفاع هي الهجوم الشرس .

بدأت الأجواء تتوتر و البحارة مركزين في اتجاهي منتظرين بفارغ الصبر أدنى حركة مني , لم أكن أريد التهور خصوصاً و أن عتادنا و مخزوننا ضئيل مقارنة بما قد يكون عند العدو , و بحارتنا كهال هرمين , كما أن معظمنا ليس خبيراً في المعارك و القتال فنحن لا نرجوا سوى السلام … 

و مع كل ثانية انتظار ازداد خوفنا و تصلبت حناجرنا و أصبح القتال و الموت أكثر واقعية من ذي قبل … ساد الصمت و الرهبة أرجاء البحر و أفق السماء , وقفت الطيور فوق كل جنب من جوانب السفينة بل واحتلت الشراع و المقصورة و جعلت منهما مدرجاً لتشجيع الفائز و تهنئته و مكافأة روح العزيمة و الهمجية لديه , فكان رائجاً في أيامنا أن طيور النورس المهاجرة تقدم فرداً منها كضحية للبحارة و جائزة لهم على فوزهم في القتال ، فكان يشاع أن تلك الطيور هي تجسيد لأرواح البحارة الذين لقوا حتفهم بأبشع الطرق في المحيط … 

ونحن نقترب بأمتار قليلة من العدو الغامض صرخ أحد الرجال الذي كان يرصد المحيط و المستجدات عبر تسلقه للساري ، فقال بصوت ينم عن بهجة و سرور و لو في أجواء محتدمة حرمت فيها الابتسامات : 
– ” سيدي , سيدي , إنهم يرفعون الشارة البيضاء , لقد جاؤوا بسلام لا نية لهم في القتال ” …

أمرت الرجال بالبقاء على استعداد و عدم التهاون أو التخادل فلا نعلم ماذا يخفيه لنا العدو الغامض و الأسطوري من مفاجآت .. حملت المنظار و بالفعل رفعت شارة الهدنة من طرفهم و و ما هي إلا ثواني حتى ظهر القبطان الذي كان يقود سفينته العظيمة هيكلها و الموحش شكلها نحونا …

يا إلهي ما هذا الذي أراه ؟ هل هذا هو القبطان ؟ ما هذا العالم العجيب و الغريب و المتقلب الذي نعيش فيه ؟ فعلاً أصبت بصدمة و كذلك طاقمي ، فهذا القبطان أو القرصان نعرفه جيداً ، نعرفه أكثر من انفسنا و سفينتنا .. لكن ماذا يفعل في سفينة كبيرة و ملعونة كهذه ؟ و لأي غرض هو متوجه نحونا ؟ كلها أسئلة و تساؤلات جابت ذهن البحارة فلم يجدوا لها جواباً إلا حين اسطفت السفينتين و رست كل بجانب الأخرى …

تقدمت نحو سفينة العنقاء الشهيرة و الغابرة ، وقف كل الطاقم ورائي و حملوا بنادقهم و تأهبوا لأي غدر قد يأتي من هنا أو هناك … و خصوصاً من قرصان أمضى معنا لحظات لا تعوض و لا تنسى إلا من ناكري الخير و الجميل , فقد عاش بيننا و تربى في ظلالنا فخشنت و نمت أظافره ممسكة ببنادق أصدقائها من البحارة و صائنة لها , فأعددت الطعام و غلست الثياب و كلفت بالمتاجرة و البيع و الشراء في القطع و الكنوز التي نجدها في كل رحلاتنا , نمى هذا القرصان كابن وأخ صغير لكل بحار منا .

بصراحة مبالغة لمّا لمحت وجهه البيضاوي الرقيق خده و ووجنته تذكرت أول مرة رأيته فيها , كان في سن السادسة طفل صغير بريء أكل الجوع و الضنك و البرد أطراف جسمه النحيل و القصير ، و أماته الخوف و النوم المذعور على أرصفة شوارع و ميناء “باريس” , لمحته من بعيد يبكي و يضرب بحاراً ويطالبه بأجره لقاء تلميع حذائه الجلدي , جئت مسرعاً و لأول مرة أستشعر فيها الحنان و العطف و جمالية الأحاسيس تجاه أحدهم حينما حملته بين يدي وحضنته و ركلت البحار فأسرع و هرب مبتعداً ..

أما “لويس الصغير ” فلم يتوقف عن البكاء و الشهيق إلا حين أنزلته ووضعت عشرين فرنكاً في جيب سرواله الأسود الرديء , فلم يشأ تركي منذ ذلك الوقت , فظل يتبعني في أرجاء المدينة الباريسية و أنا أطلب منه الذهاب و الانصراف إلى عائلته , لربما حسب أني سيد غني و من طبقة راقية و نبيلة , فظل يسحب و يجر ردائي و يتشبت بمعطفي الطويل , إلى أن عدت إلى الميناء و صعدت سفينتي المقرصنة تحت حجاب تجاري آنذاك .

و أنا مغادر باريس و أنوارها فكرت أن الأوضاع جد متدهورة هناك ، فالمظاهرات و الاضرابات العمالية و أحداث الشغب تحتل المكان , وبالنسبة إلى طفل صغير ضعيف في مثل سنه قد لا يصمد أمام العاصفة الثورية و التغييرية و قد يموت جوعاً مرمياً ككيس زبالة عند الرصيف ، فليس هو الأول أو الأخير … 

أوقفت السفينة وعدت في زوق صغير حملته معي بعد أن أكد لي أن لا عائلة له سواي , فانطلقنا نحو المحيط ولا أذكر أنه التفت للوراء ولو لثوان قصيرة ، ما أذكره أنه احتفظ بعدة تلميع الأحذية و استخدمها لكسب ود و رحمة البحارة المتعجرفين , كما كسب بها بضعة صحون من الحساء المجانية و خبزاً يشبعه و يدفئه في ليلالي الأمواج العاتية و السماء السوداء فوق بحر غاضب و قاتم …

يعاب علي أنني أغوص كثيراً في ذكريات الماضي و أنسى الحاضر ، و أقتل متعة سرده , فأجيب أنني أسرد لقارئي حياة واهنة لقرصان و ما قيمة الحياة بدون ذكرياتٍ ؟ بدون ماضٍ ؟ و بدون معاناة و أحزان ؟ حاولوا إنشاء خيط تخيطون به معالم القصة وأحادثها ، و شدوا الوثاق والعزم و المخيلة لأن القادم أسوأ ، فسفينة العنقاء لم تأتِ بسلام كما ظننا و ظنتتم ، فبعد الظن سوء و جحيم و مغامرة نحو اللاعودة …

***

بعد أن رست بجانبنا سفينة ” العنقاء الأسطورية ” وذاك وصف دقيق لتعدد أمجادها و درجة قوتها و قراصنتها الهائلة , تقدم القرصان الجديد و القائد الشجاع ” لويس” نحو سفينتي فنظر بكل لامبالاة و اشمئزاز نحو بحارتي أي أصدقائه السابقين , ارتسمت على محياة ابتسامة غدر ونكر
فقال بكل نخوة تفوح منها رائحة خمر معتق :
– هاليلويا أصدقائي … هاليلويا أيها العجوز “دان ” ألا زلت تقود سفينة الكهال هذه ؟ ظننتك اعتزلت و تقاعدت عن عمل القراصنة الأشداء يا جدي ..

اجبته و في قراراة نفسي غير مصدق أن هذا الوغد السكران أمامي هو بالفعل صديق الماضي و رفيق الدرب والملاحة :
– سلام لك يا ” لويس ” و نعم لم أتقاعد بعد , لكنني على خطى قريبة فأنا على أبواب الديار , أرى أنك أمسيت قائداً للعنقاء أم أنها مجرد نسخة مزورة عنها ؟ فبحارتك شبان لا أرى في وجوههم حس الخبرة و التجربة , فلا أظنهم و لا أظنك قائداً لائقاً وجديراً بالعنقاء أيها اللص الصدوق .

ضحك بأعلى صوت ملتفتاً إلى بحارته الذين بلغوا من العدد الكثير و الكثير حوالي أربعمائة بحار ، فتلك السفينة تبلغ ضعف حجم سفينتنا أو أكثر , فصاح في بحارته قائلاً :
– يقول هذا الكهل الجبان أن هذه السفينة مزورة و أنها ليست العنقاء و أن اشرعتها العملاقة ليست قوية كأشرعة العنقاء الحقيقة ثم أنني لست ” شيطان البحر الجديد ” إذن ماذا سنفعل في هذا الصدد يا أصدقائي ؟ ”

رفع كلتا يديه محدثاً بحارته لترتفع معهما مدافع سوداء هائلة و أفواه مدججة بقنابل مدمرة , وظهرت بما تشبه الأشوك الحديدية مغطية كل هيكل السفينة من الخارج مانعة بذلك العدو من الاقتراب أكثر , ولو أنني لست عدواً لكن ” لويس ” لم يتردد أن أمر كل جنوده أي بحارته بالاصطفاف و تشكيل جيش موجه لأعتى البنادق نحونا …

كانت فعلاً سفينة مهيبة و بحارة أشداء و همجيين ، فلا يترددون في الضعط على الزناد وإبادة أعدائهم , وقائداً فيه من الغدر و المكر والدهاء ما تحكم به الشعوب و تستعبد به الأمم , ازداد الجو اكتباساً و ضعطاً و أرقاً ، انتظرنا فيه الطلقة الأولى لتبدأ الحرب , رفعت نظري عائداً به إلى بحارتي فوجدتهم أيضاً متاهبين وواقفين بجانبي و أولهم جورج الذي كان يهز لي رأسه في علامة استعداد و تضحية ووداع أخير و شرف انتماء و عمل و صداقة و أيام رائعة قضاها بجانبي …

توقف بي الزمن و أنا أنظر و أسافر بين أعين البحارة في رحلة قصيرة لكنها بدت لي كسنوات طويلة عجاف , جف فيها ريق حنجرتي و نزلت فيها دموع عيناي و خفق قبلي أشد الخفقان ، وتعبت وانتهت فيها كلماتي و نصائحي و أدعيتي و رجائي و أنا أحاول منع شر ما سيحدث ,استسلمت للقدر و أخذت كل الوقت المتاح و الكافي لأنني علمت أن الموت ينتظرني ويهمس لي ” افعل ما تشاء و انظر أينما تشاء ووقت ما تشاء فأنا قادم قبيل هذا الزوال كي آخذك إلى عالم الزوال ” , سنموت كما مات العديدون , فعددهم يضاعف بعدة مرات أعدادنا ، وقوتهم وشبابهم و دقة تصميمهم تهزم تصميننا وعزمنا الكاهل, أما عتادهم ودروعهم فتتصدأ و تخترق أسلحتنا ودروعنا المنخورة و الصدئة …

وقد جاءت فعلاً طيور النورس كي تبتلع أرواحنا كما ابتلعت أرواح من هزمناهم في الماضي المجيد , لم تكن الهزيمة مهمة لي و للبحارة بقدر ما كانت خاسئة و مريرة على يد صديق سابق لنا و طفل كبر بين أحضاننا و أطعم من طعامنا ولبس من ملابس كل بحار منا فويل لمن طلب منه ” لويس ” قميصاً أو حذاءً أو كنزة و لم يعطيها له , تنفس من رياح سفينتنا و اصطاد من شباكنا و قتل و سرق و نهب رفقتنا و ببنادقنا وتحت حمايتنا .

ذلك كان الماضي البعيد في نظره أما الحاضر فقد أرسل فيه ما يقارب السبعين رجلاً إلى الفناء والحجيم … سقطوا كما تتساقط أوراق الاشجار مستسلمة لوحشية فصل الخريف , كما يتساقط الأحباء و العشاق وتظهر حقيقتهم المخادعة والمنافقة في كل لحظة فوق هده الأرض الذابلة , سقطوا و في أعينيهم رأيت أحلاماً ,رغم سنهم الكاهل رمقت أمالاً و حباً و عاشقات تمنوا تقبيلهن و اللعب وسط دفء أحضانهن ومبادلتهن لمشاعر العشرة الأزلية قبيل ركوب البحر وأمواجه هذا الصباح , قبيل الخوض في كابوس المواجهة المباشرة مع العنقاء..

طالت لحظات سماعي لطلقات النيران من هنا و هناك , أحدها قادم من خلفي والآخر لعدو يصوبها نحوي و أنا واقف كما يقف الزمن وقت فنائه وسط عصوره يتأملها ويندم على هذه الحرب و يفرح لهذا الحفل , يمسح الدموع و يبارك في الابتسامات , وما هي إلا ثوان حتى احتل الصمت المكان ولم تبقَ سوى أصوات أجساد تسقط و الأخرى تصرخ و الأخرى تسبح في المياه و تغوص نحو أعماقها , خذلت جنودني و بحارتي و أصدقائي و انطلت علينا خدعة السلام تلك فخسرنا كل شيء ، وهل كنا ننتظر أن نفوز ؟ حينما سرقنا ونهبنا و ظلمنا الأبرياء ؟ موانئ و مدن و سفن و بلدان ونساء ورجال وأطفال خضعوا مستسلمين لشرورنا , راجين العفو والمغفرة من قبحنا .. فمن نكون بدورنا كي نحيا دون عقاب …

أحسست بألم حاد في رجلي اليمنى ,أرغمني على السقوط كما سقط السابقون , أرغمني على الصراخ بأعلى الأصوات مناجياً المحيط و الأمواج كما صرخ السابقون , أرغمني على النظر إلى الأسفل لأجد رصاصة رحمة اخترقت رجلي وأكملت طريقها لربما إلى صدر أو كتف أحدهم … لن أخفي أنني بكيت , فرغم سنين عمري و خبرتي الطويلة لم أتلقَّ رصاصة بذاك الحجم من الغدر و الكراهية و عدم الرحمة .

انتهى مشهد العناء ذاك و رجعت الأمواج إلى رقصها و طيور النورس إلى أهازيج فرحها و ترحيبها بالأرواح الجديدة ، فأرسلت فرداً من سربها سقط بجانب وجهي الذي كان مرمياً فوق سفينة العدو يتأمل مدافع العنقاء تدمر آخر تحفة صمدت لسنوات طويلة معي لكنها لم تنجوا من جزائها كما لم ينجوا أحد غيري ذاك الصباح … فأسطورة العنقاء مبنية على تدمير و تخريب كل ما اقتحم سبيلها وصدها عن طريقها ..

ما حز في قلبي أننا ما فعلنا شييئاً من هذا و ذاك بل ما شئنا سوى إنهاء مسيرة مليئة بالخطايا والذنوب القذرة و تعويضها بنشر الصلاح و الخير لمجتمعنا الصغير من أسرة و عائلة و زوجة و أبناء , رحلت عنا الحياة حينما تشبثنا بها وأردنا حقاً عيشها ولو للحظات قليلة , و هكذا هو الحب دائماً يظل يطلب استلام أرواحنا , ولما نرضخ له و تطلبه أرواحنا لا يستلمها فلا يريحنا طالباً و لا مطلوباً , آخذاً أو معطياً …

فقدت وعيي , وفقدت معه بحارتي الشجعان , وسفينتي التي كانت أهم كنز لي في الحياة , نظرت لها و هي تنخر كما نخرت دروعنا و شقت رصاصات العدو أجسامنا و سقطت كباقي الرجال في المحيط الشاسع لكل الأرواح و غاصت بدون عودة نحو ظلام الأعماق الذي يريحها أخيراً من صراعها مع الأمواج و عنف البحر .

إذن راح كل من عرفته إلى عالم الطمأنينة و الراحة و الهدوء , و بقيت لتعاسة حظي ساقطاً و مرميا فوق خشب العنقاء مغمي علي من هول ما حدث من حولي و من فظاعة ما ارتكبه من كان في مقام الابن بالنسبة لي … أما الآن فهو ألدُّ أعدائي في المحيط و اليابسة و الأرض و السماء و العدم و الوجود .. حاولت البقاء صامداً ولو في أحلامي و غيبوبتي و الحفاظ على رباطة جأشي فلا أعلم مصيري و لا أريد معرفته ، فقد بات واضحاً أنه لا يبشر بخير أبداً …

كانت الشمس تميل إلى وقت الغروب و تداعب أمواج و مياه البحر الساكنة في هدوء خلاب تنشر من خلاله سحرها بأجنحتها الذهبية التي تغازل موجودات البحر و كائناته , فتخرج الأسماك الجميلة المتنوعة فرحة من جحورها و أعماق مساكنها لتلتقط حنان الشمس ووداعها فقد لا ترجع بهجتها مع حلول فجر الغد وقد يكون هذا الغروب آخر ظهور لروحها الراقية ، فالبحر الشرس كفيل بدفنها و بعث غيوم تحجبها , إلا أن الشمس العطوفة لم تأبه يوماً بالبحر و تقلباته فكانت تزور قاطنيه كل يوم , فتراهم كخيوط وجود و حياة انسيابية و عشوائية تقتتل فيما بينما , لتصمد و تحظى بفرصة مداعبة أجنحة الأم الذهبية ليوم آخر , تلك طبيعة الأنانية التي جعلت الكل يركض وراء الثراء و الغنى و الفحش مع أن الوجود و الأرض السمحاء تجود بخيرات تكفي التربة و من عليها , إلا أن الذئاب لا تستدير يوماً ورائها شافقة على بؤس شعوبها و لا تقول أبداً في نفوسها ” أساكتفي يوماً من الاحتكار و السلب وأشارك و لو مرة لذة العطاء ؟ ”

ذهبت بعيداً في رحلة وقودها الدموع و الأحزان جلت فيها بقاع الأرض و نجوم السماء , تذكرت فيها القراصنة الأصدقاء , و الأعداء النبلاء , ملكات البلاط و أميرات القصور , بائعات الهوى و راقصات الوجدان , فلم أرَ يوماً أجمل من ابتسامة حبي البريء و أبنائي الصغار لما أدخل منزلي بعد رحلة شهور حاملاً شوكولاتا و قليل من سمك السلمون و مزهرية أزهار وورد أهديها لأخلص نساء الكون …

ثلاثة أبناء , طفلين مشاكسين يبلغان من السن الرابعة عشر و فتاة في التاسعة خجولة بقدر عطفها و حنانها ووسع فؤادها الصغير , فلمن سأتركهم إن مت كالباقي فوق “سفينة العنقاء ؟ ” لدي أصدقاء مخلصين بحارة صدوقين و رجال أكفاء يعول عليهم في السراء و الضراء … لكنهم لن يعوضوا شيئاً ، فما زوجتي و أبنائي بعائلة تهتم بالماديات , فلو كانوا كذاك لظلت سيدتي تعمل في ذلك الملهى الليلي الراقي في ” تولوز ” تربح منه جود و تبذير ملايين الزبناء من الأمراء و طبقة النبلاء … لكنها تخلت عن كل ذاك و استقرت مع قرصان و تاجر بشع و متواضع الدخل في “سيردنيا ” .

سألتني يوماً بعد أن أنجبت طفلينا التوأمين ” ألبر” و “جام ” , كنت ممسكاً بيدها في تلك الليلة العاصفة و الباردة , تسرب فيها المطر إلى مدفأتنا البالية فلم نجد غير أجسامنا لتدفئ إبنينا , قالت وهي تداعب عيني بتلك الضحكة الخالصة :
– ” كيف تتزوج فتاة ملاهي و تجعل منها سيدة بل أميرة البيت وتحولها إلى أخلص النساء حباً لك ؟ ”

أجبتها :
–  ” إن ارواح البشر ليست مسؤولة عن خطاياهم و إن أصل الشرور هو الحاجة و الفقر و الاحتياج , و إن السيدة العفيفة و المخلصة و الطيبة موجودة داخل كنف كل نساء الأرض ، فهناك من تجدها مبكراً و هناك للأسف من لا تعثر عليها إلا بعد فوات الأوان ”

ضحكت و قبلتني في حنان أضحك التوأمين و زاد البيت دفئاً و عشقاً مما كان عليه .

ماض جميل و سعيد لا ينسى بالطبع ، لكنه ظل يحزنني و يرمي بي في بحر لا محدود من الكآبة و الندم لاستحالة استرجاعه وعيشه مرة أخرى من وضعي هذا وحالتي المثيرة للشفقة فوق سفينة “العنقاء ” .

فها أنا مستضعف وواهن أستدير ذات اليمين ثم ذات الشمال , مياه مالحة تتسرب إلى حلقي و تخنق حنجرتي و تزعج أسناني , جسمي عاجز عن الحراك , مستقيم كاستقامة الضباط أمام رؤسائهم , دماغي متحجر و رأسي عاجز نحو الأسفل في استسلام تام , جسمي مخدر فلا أحس برجلاي و لا كتفاي أو أي جزء منه , برودة بحرية تلتطم بوجهي و تبلل شعري , تصفعه عشرات المرات , عيوني تفتح و سرعان ما تعود في انغلاق سريع إلى غيبوبتها ، و مع كل صفعة باردة تجبر على الانفتاح و استعادة الإدراك , ترفع وعيها بما يحدث من حولها بصعوبة بالغة فتلمق بتقطع أجساد بحارة , بنادق و خشب أرضية أسود , سلة سمك هنا و أخرى هناك ,شبكة صيد حمراء بجانب ثوب أبيض على شكل علم مقطع و مرمي بطرف السفينة .

تكرر عيناي المحاولة هذه المرة في أن تفهم الأفق و ما يحدث عليه , وجدت الشمس اختفت كلياً و حلت مكانها سماء زرقاء داكنة تميل قاتمة إلى السواد , و قمر مستدير قادم من بعيد ينتظر اكتمال الليل كي يخرج للوجود فينشر ضوءه منيراً عالم الأرض السفلي …

و مع كل صفعة مياه في وجهي استعيد وعي تدريجياً ، فألمح أحدهم واقفاً أمامي يلهو بدلو فيحمله للوراء و يفرغ مياهه نحوي ثم يقترب و يمسك وجهي الخاضع بيديه الوسختين و يصرخ في
– ” أف … ق , أ..فق ”
لا أسمعه جيداً لكني سرعان ما استوعبت و مع كثرة الصفعات المائية أنه يريد مني الاستيقاظ , استجاب ذهني بطريقة عجيبة له , فأفقت و أخيراً بعد ساعات من نوبة الإغماء تلك , وجدت نفسي مقيد بحبال متينة على السارية الأساسية لسفينة العنقاء الأسطورية , و ذاك البحار البشع و النتن يصرخ لأصحابه :

– ” لقد استفاق , لقد استفاق ”

أصابني فزع طفيف لم يدم طويلاً ، فبدات أصرخ :
– ” أنزلوني أيها الأنذال , الآن , أريد التكلم مع لويس ”

و استجابةً لمطلبي أحاط عشرات البحارة بساريتي و بدؤوا يصرخون و يهللون وكأنهم حيوانات همجية أو قرود برية فرحت باصطيادها لوجبة العشاء , كانت تلك أهازيج استدعاء ” شيطان البحر الجديد ” أو بالأحرى ” لويس الصغير ” كما أسميته لسنوات طويلة , مر كل شيء بطريقة سريعة و بعد وقت قصير صمت الكل وعم هدوء وترقب غامض أرجاء البحر و المركبة , و من قمرة متوسطة الحجم في مؤخرة السفينة خرج شخص ما , يضع قبعة سوداء كلاسيكية ومعطفاً أنيقاً وحذاءً جلدياً أزرق يتبعه كلب صغير يلهو ويعدو بين رجليه و يداعبه ، تقدم نحوي لأكتشف أنه لويس قائد العنقاء .

تفرق البحارة إلى شطرين ووقفوا رافعين أياديهم اليسرى نحو الأمام وردووا كلمات لاتينية لم أفهمها يوماً … كان ذلك هو الترحيب بالقرصان و الزعيم وإعلان الوفاء الخالص له , لم آبه ولم أخف منه و لا من طاقمه الهمجي ، فكنت أعلم أن الاحتفاظ بي حياً ليس مجرد صدفة عابرة ، فهناك نية شريرة من وراء هذا كله ووراء ذاك الهجوم المباغت , والإبادة الشاملة لرجالي بدون حتى التوصل لاتفاق إطلاق نار بيننا ,فما فعله كانت جريمة و إخلالاً بأعراف المعارك و الحرب بين القراصنة .

أقبل علي لويس فأصبح قريباً مني أكثر فأكثر , تأمل وجهي كأنه يرى لؤلؤة غابرة أو كنزاً بحث عنه لسنوات طويلة فوجده بعد عناء و مشقة أنفس و تضحية بأرواح رجال كثر , رفع يده اليمنى مشيراً للبحارة بأن يهتموا بالأشرعة واتجاه الرياح و أن يوجهوا السفينة بالاتجاه الصحيح و أن ينتبهوا للأعطاب التي قد تصيب القبو فتسرب المياه منه و أن يعدّوا مأدبة العشاء لشخصين , و أن ينصرف كل واحد لعمله وواجباته ليختلي بي و يحدثني في راحة تامة .

ظننته أصبح ساذجاً بعد سنوات القرصنة والهمجية الطويلة تلك ، لكنه مايزال ذكياً و ذا نباهة و مكر شديد , فلم يكن يشاء أن يسمع بحارته شيئاً عن ماضينا المشترك و صداقتنا الغابرة و مغامراتنا السابقة فذلك سيفطنهم أن ما قائدهم الجديد سوى كتلة من الغدر و حثالة متجردة من الشرف و تقدير روح التضحية التي كانوا يبذلونها في سبيله …

– ” أهلاً بك في العنقاء الأسطورية يا عزيزي دان , كيف حالك هنا ؟ هل أعجبك جو القراصنة الجديد و الجميل ؟ أذكرك بأيام شبابك أيها العجوز ؟

أجبته :
-” لم يذكرني سوى بهمجية و ظلم ما كنت و كنا نقترفه في حق الأبرياء “

أجاب بضحكة عالية وابتسامة شامتة :
– ” أأصبحت إنساناً نبيلاً و ذو قيم راقية الآن أيها القرصان العجوز ؟, ما العيب فيما نفعل ؟ ما العيب في القرصنة و السرقة و النهب ؟ أو ليس هذا ما ربيتني عليه ؟ “

أجبته بنبرة حزينة و مترددة في الموافقة على ما يدعي أنني ربيته عليه :
– ” لا أعلم , فما ربيتك عليه كان السرقة من الانذال لا من الأبرياء , ربيتك النهب لمساعدة الأمهات و العائلات العاجزة , ربيتك على الوح0 متاجرة في التحف و القطع الغالية التي تجدها في مغامراتك ”
تريثت قليلاً تم أضفت بنبرة حادة و نظرة ثاقبة في عينيه :
– ” ربيتك أيها الكسول لتتخلى عن أنانيتك و حقدك و تساعد طفلاً صغيراً يبيع السجائر في الموانئ و يمسح ويلمع أحذية المارة”

هنا قاطعني لويس بصفعة في وجهي لم تؤلمني أبداً كما آلمني ما أصبح عليه من تعجرف و نكران جميل و روح مليئة بالانتقام , أسكتني تم صرخ ماسكاً رأسي و شعري من الوراء بيده اليمنى فقال :

– اخرس و إياك ثم إياك أن تتكلم يوماً عن طفولتي , فأنت لا تعرف شيئاً عنها , وأنت لم تكن هناك حينما رميت في الشارع آكل من أكياس الزبالة وأجمع القذارة و البقشيش من أرصفة الشوارع و جيوب السكارى و المتشردين في ليالى علمتني كيف أن الحياة لم تكن يوماً رحيمة بأناسها ”

بُهِتُّ وصُدِمت لتعاسة تلك النفسية الدفينة والغائرة خلف صورة ودور القبطان و القرصان الشجاع والصلب الذي كان يمثله طوال الوقت و تأكدت حينها أن النفوس و الأرواح مهما طورت مستوياتها و لعبت السمو في مسحريات تبث تلقائياً على شاشات حاضرها, و ظنت أنها بذلك خلصت و عبرت الأنهار الموحشة و قطعت الجبال و المرتفعات الوعرة بسلام فستظل للأسف سجينة أحكام الماضي البعيد , وكلما ابتعدت وهربت تبعثها بنفس السرعة ذكرياتها و يزداد غور معاناتها , فتتحول بذلك إلى وحوش قاتلة تختفي وراء أقنعة و ابتسامات و أدوار ثمتل فيها أدوار النجاح والكمال كما كان يمثل “الصغير لويس ” الذي ورغم العدد الكبير من السنوات التي فصلتنا إلا أن في عينيه التي غزتهما دموع الحسرة و الندم و و الحزن لايزال ذاك الطفل الشجاع و المتشرد الصغير الذي يضرب البحارة حينما يرفضون إعطاءه أجره , ويتشبت بكل ما أوتي من قوة بأول أمل ينقذه و يعطيه جرعة حياة مستقرة .

وبنفس العيون الباكية والمترجية تراجع بضع خطوات نظر فيها إلي بخزي وأنا المقيد باستسلام بسارية سفينته و أتمم قائلاً :
– ” لن ينفعنا تذكر الماضي في شيء , ما حدث قد حدث , وعندما هربت من سفينتك رفقة حبيبتك و خليلتك “اندريا ” علمت أخيراً معنى الحياة و استطعت برفقتها كسب أمجادي و حريتي و حروبي ومعاركي , و في الجزر الغابرة و المحيطات النائية التي لا يصلها سوى الأشباح و أرواح أعظم البحارة قاتلة بدون شفقة ولا عفو حتى وجدت ” العنقاء الأسطورية ” راسية تنتظرني و نتنظر من يعيدها إلى الحياة

فسخرتها لعظمة تصميمها و أسلحتها المدمرة وجودة ملاحتها وسرعة أشرعتها الخارقة في القبض على القراصنة الأوباش و المطلوبين للعدالة لأنها لن تكشف من طرفهم ، فواضح أنها سفينة لصوص مثلهم خصوصاً وبعد فخ السلام و الهدنة , ثم إنها لا تترك أحياء كي يرووا قصصاً عن حقيقة ما أصبحت عليه , فهمت الآن سبب الهجوم المباغت ؟ والإبادة الشاملة لبحارتك ؟ , لايزال سوى رأس أو اثنين هاربين من قبضة حكام العالم , فأصبحت جائزة الإمساك بهما غالية جداً …

يا لسخرية القدر ظللت لسنوات تبحث عن الكنوز في أقصى البحار و أشد الجزر والأماكن خطراً و الآن أثمن كنز في الوجود هو عبارة عن رأسك الغبي … لو كنت مكانك لافتخرت بنفسي أيها العجوز ,أخيراً سأنتقم من سنين العبودية التي عشتها في سفينتك , غداً سنتوجه لشواطئ البرازيل فهنالك من ينتظر وصولك على أحر من الجمر , ستكون حفلة صغيرة في حضرة الامبراطور ” بيدرو الأول ” يا عزيزي , فقد تبدل أخلاقك و فلسفاتك الحقيرة وقيمك الدنيئة لكنك لن تبدل الماضي …

آما الآن فلنأكل العشاء و نحتسي الشراب ونحتفل فداءً للأيام الخوالي و تكريما لمغامراتك و لمسيرتك الطويلة في البحار فقد شارفت أيامها على الانقضاء .

» يتبـــع «

 

تاريخ النشر : 2017-09-07

guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى