أدب الرعب والعام

رعب العنقاء – الجزء الثالث

بقلم : كووبر حكيم – المغرب
للتواصل : [email protected]

وعدت نفسي ألا أخرج خائفاً و مذعوراً بعد اليوم

أمضيت فترات مطولة أفكر في طريقة وصف ذاك الصباح الموحشة دقائقه والغريبة أحداثه إلى أن قررت أن أحكي فقط ، فتلك اللحظات المثيرة تتجاوز حدود الوصف , فقد بدا القتال اليدوي العنيف بهجوم جسدي من "غاتا" علي , فرفعني عالياً و رماني أرضاً مرات عديدة ، بينما كنت أهرب منه و أتجنبه تماماً ، كانت خطتي إتعابه ثم القضاء عليه بضربة مباشرة خلف الرأس أو على الوجه , فالقاعدة معروفة للكل "كلما كنت طويل و ضخماً أكثر من اللازم سقطت بشكل أسرع من اللازم " 

ركزت على انتظار ضربات قليلة محكمة تفي الغرض المرجو وتسقط هذا الوحش الافريقي , حاولت استفزاز "غاتا" لبذل جهد أكثر في ضربي على البطن والرأس بطريقة الملاكمين الروس عوض قتال الشوارع الذي لا طاقة لي عليه , فبات واضحاً أنه لا يجيد شيئاً سوى التكسير و الرفع والتحطيم وتلك نقط ضعف كافية لأنتصر و أخلص نفسي من هذا الكابوس .

صرخ الجمهور البحري بشدة وبعد كل ضربة أتلقاها .. لكن لا عليك لا عزيزي فأنت البطل هنا , إنه مجرد عبد ضعيف لقد ضربتك و أسقطتك الحياة بأقسى من ضربات هذه الأميرة السوداء أمامك ونهضت رغم كل شيء هيا واصل .. هكذا كنت أحمس نفسي في عدم تهور وصبر شديد أقترب به أكثر فأكثر من وجهه الخشن و الضخم , ضربة قوية تحت الإبط كسرت عظامي الهشة فتمايلت قليلاً ، هتف الجميع وظن أنها نهايتي لكن تريثوا أيها الأنذال فـ "سيردينا " لا تسقط بسهولة كما أنني لم فقد توازني بعد …. 

احتدم العراك و مع كل ضربة موجهة نحوي أصرخ مازحاً " لويس انظر للعجوز , أتذكر ما علمتك إياه من فنون الملاكمة , انظر ، أهذا وحشك أظنه بدا يستسلم " , كنت أرقص لا أقاتل ، أتفادى أن يمسك بي و في نفس الوقت أبحث عن ضالتي في وجهه الذي أصبح شاشة عرضت فيها كل مآسي حياتي وكل العذاب النفسي والجسدي الذي تخطيته ، لكنه ظل يتبعني في أحلامي .

اليوم سأواجه مخاوفي خسرت أم ربحت وعدت نفسي ألا أخرج خائفاً و مذعوراً بعد اليوم , التفت سريعاً إلى البحر و السماء والشمس والحيتان والطيور التي جاءت تشجعني ، سمعت كائنات البحر و أعماقه تقول لي : " لا نظنه يوماً آخر  جميلاً لموتك أيها القرصان "

ارتفعت معنوياتي , وبدا الوحش " غاتا " يأكله التعب و ينهك الإرهاق عضلاته المفتولة , توافر بالرجل كل شيء بل وأكثر من اللازم و للأسف خانته عضلة واحدة " العقل " خانه الدهاء والتفكير والتركيز والعزم والمكر تماماً , فحركة ساذجة وغبية تلك حينما أنزل إحدى يديه عن وجهه وتقدم صارخاً نحوي في إرادة كاملة منه أن يمسك عنقي و يخنقني ، خاطر بكل شيء و استهان بالعجوز أمامه فأنزل كل دفاعاته و هاجم كلياً …

و في تلك اللحظة بالضبط تراءى لي ما علمته لولدي التوأمين من لكمات إيطالية بارعة ، بسم وغدر وحظ روسي قائل : يد يسرى للأعلى تشتت بها تركيز الخصم, ولكمة يمنى في الهدف مباشرةً " تراءت لي قطرات الدماء التي أردفتها في السجن البرازلي حينما كنت أكلم الحائط الأيسر أو بالأحرى وسادتي الدافئة حتى أصبحت مشققة من شدة غضب قبضتي .. تعليمات بسيطة لكن دقيقة أرسلت بها الوحش " غاتا" لإلى عداد المغيبين عن الوعي ووقفت منذهلاً أشاهد كوابيسي وهي تتحطم أمامي كل مخاوفي ، و عذابي السالف تبدد لحظة سقوط مساعد "شيطان البحر " بين قدمي العجوزتين و الهزيلتين , يا للعجب ولسخرية القدر مرة أخرى يا قرائي الأعزاء…

فحينما تستلسم للحياة وتخضع بلامبالاة لها تعطيك من جودها , جورج محق .. القمار عادة و عبادة رائعة .

هتف الكل بأسمي وكأنهم أصدقائي ، أتوا لتشجيعي و مشاهدة مباراة في بطولة العالم للملاكمة … و لأول مرة منذ سنين انقضت مع شبابي الراحل , أحسست أنني فائز وأستحق فوزي حصلت فعلاً على احترام الكل و حملت على أكتاف البحارة , وأنا أصيح 
– " أظنَّ فعلاً العبد الأفريقي أنه سيهزم أسياده "الأروبيين " ؟

وضحكت بأعلى صوتي وكأنني في تصريح صحافي قائل بلغة انجليزية :
– " غوود ماتش -غوود ماتش " وأكملت " كانت مباراة جيدة , سأعتزل فقد أصبحت هرماً يا لويس , أتسمعني يا بني ؟ جدك سيغتزل الملاكمة بعد هذا اللقب فوق حلبة العنقاء "…

لحظات الفرح و السرور لا تدوم دائماً طويلاً ، وسرعان ما يعود الضباب و تعود الغيوم لتقتم و تظلم نفوس السعداء , وما تلك الغيوم وما ذاك الضباب سوى صوت "شيطان البحر" صرخ عالياً في وجه بحارته الذين كانوا بصدد تهنئتي ومصافحتي والضحك و السخرية و الشماتة من جسم "غاتا" المرمي كسمك القرش الميت أرضاً , مشهد رائع بالنسبة لبطل عجوز مثلي بينما خسارة موجعة لربان وقائد شديد و حازم مثله , بنبرة تستشيط غضباً قال وهو واقف في باب مقصورته في مؤخرة السفينة :

– " ابتعدوا عن العجوز دان ، و إن رايت أحداً يكلمه مرة أخرى سأقتله دون رأفة أو شفقة ورحمة مفهوم ؟ 

أجاب كل البحارة بمن فيهم أنا ساخراً منه : 
– " نعم كابتن "

تم أتمم :
– " ارموا "غاتا " الضعيف في البحر لتلتهمه الأسماك وتغرقه الأمواج ، فلا مكان أبداً للخاسرين والجبناء على هذه السفينة , فنحن نواجه قراصنة أشداء ولا مكان للضعفاء والمنهزمين والأغبياء في صفوفنا , أما العجوز فأعيدوه إلى القبو ، وجزاءً لفوزه على أمهر بحارتي أعدوا له مؤنة ثلاثة أيام من الأكل والشرب ، لأننا بعدها سنكون عدنا إلى البرازيل لتسليمه للسلطات .. وأما الآن فتفرقوا كل في مهامه ، فالشمس اقتربت من الغروب و تقلب سرعة الرياح وغضب الأمواج لن يرحم تهاوننا , هيا الآن " 

قاطعته صارخاً بصوتٍ عالٍ ومضجر وغير متقبل لما يقول :
– لويس ماذا عن الاتفاق ؟ هل تنكث وعدك لي مرة أخرى ؟ الآن أنا من يجب أن يختار مصيري لا أنت أيها الماكر "

فأجابني بنبرة مستفزة 
– "يكفيك أني سأعطيك طعاماً جيداً و أضمن سلامتك ثلاث أيام على سفينتي ، ثم أننا لسنا قرصانة ولا تنطبق علينا أعرافهم ، هيا إلى القبو يا دان , وهنيئاً لك .. كانت ضربة جيدة من عجوز مثلك "

نزلت كلماته كطعنات سكين حاد تخترق صدري المنهك وأنفاسي المتقطعة ، فقد ظننت أن الاتفاق سيعمل به و أنني سأخلص أخيراً من هذا الكابوس ، لكن القدر يدور سريعاً و لا يترك لنا فرصة في الاختيار , اعترف" لويس " بي وبانجازي لكنه أظهر نفس الغدر والخيانة مرة أخرى , فلسيت أول مرة لا يهتم بمصيري ويسرق لذة الفوز والفرح مني , اسمعوا و انتصتوا لقصة صراعه المبدئي معي ..

أيامها كان مساعدي المفضل , أطلعه على كل مخططاتي التجارية وجوانب حياتي المخفية والظاهرة , أكلمه بصدق وأبوح له بأسراري وأسرار مغامراتي و حبي الذي تلخص في تلك السنين في خليلتي "آندريا " جنوبية الأصول لم أكن متزوجاً حينها ، وكنت على استعداد للخوض في مغامرة الحب و أفخاخ الغرام حيث مرت على آخر مغامراتي سنين طويلة أنستني دفئ تلك المشاعر السردمية ولم تزدني سوى اشتقياقاً غائراً لها…

الآنسة الشقراء ذات الأرداف المثيرة ، والقلب الطيب و الرحيم والعطوف ، والملامح الخلابة .. كنت قد قابلتها في رحلة وعرة وصعبة و متجمدة تجاه روسيا ، كنا ننقل بحرياً مواد و خشب التدفئة من موانئ "سيردينيا " إلى هناك , ويومها وعلى بعد أميال قليلة من ميناء "إقليم الطاي " ظهر لنا من بين الضباب الكثير قارب صغير يعاني من ثقب يسرب له المياه فيثقل حركته و يغرقه بشكل سريع , رمينا طوف نجاة ونزل أمهر بحارتنا لاكتشاق ما يحدث بالضبط ليجدوا سيدتين إحداهما طاعنة في السن والأخرى شابة رقيقة وأنيقة الهندام , أنقذناهما بعد أن فقدا لصعوبة المناخ اتجاه رحلتهما نحو إقاليم الشمال هرباً من الحرب القبائلية التي كانت تغزو موطنهما .

لم تصمد أم "آندريا " وقتاً طويلة في تلك الظروف فماتت متأثرة بحمى سببها جرح غائر في ساقها , حزنت آندريا كثيراً ولم تجد غيري كي تبوح له بأحزانها وتخرج أسرار حكاية معاناتها في موطنها , ولما انتهينا من تسليم الحمولة في الوقت المطلوب طلبت مني أن ترجع معي إلى موطني فلم يعد لها شيء مهم أو شخص يحتضنها في ديارها , تخلى عنها أبوها في الصغر ورمى بأمها إلى الشارع وهي حامل بها في شهرها الخامس , عاشت حياة فقيرة و متعبة وشاقة إلى أن تعرفت بي في لقاء الصدفة العجيبة .

عادت معي إلى الديار فأعجبت بعملي و تقربت مني أكثر فأكثر , حتى أحببنا بعضنا البعض وازداد حبنا ونمى مع الوقت وروعة مشاركة مختلف التجارب , أعجب بذكائها و خفة روحها المرحة معظم أصدقائي و سموها "سيدة السفينة" وجدت لها عملاً كمسؤولة عن المطبخ فعاملها كل البحارة باحترام كأنها زوجة لي رغم سنوات عمرها القليلة مقارنة بي … 

وفي أحد الأيام الصيفية وبينما أنا عائد في ابتهاج و فرح إلى منزلي الذي أصبح منزلنا في غير وقتي المعتاد وجدتها في غرفة نومي تضاجع أحد بحارتي .. و للأسف كان "لويس " .

لربما أعجبت بشبابه ووجدت فيه حبيباً يفهمها ويبادلها نفس أفكاره و رغبات سنها الشاب … لا يهم فالبنسبة لي كلاهما ليس سوى خائن وسخ لا يستحق التضحية والعناء , كانت الشائعات تروج حول علاقتهما من قبل إلا أنني لم أهتم لها أبداً ولم أصغِ لها بقدر ما اهتممت أنها بفقدان من كان في مقام الابن الشاب بالنسبة لي , فلو جاءا ليعلماني بارتباطهما وحبهما لبعضيهما لما عاتبتهما لكن خيانتهما لي وفي منزلي وفوق سريري , فعل قذر و حقير لا أستطيع المسامحة عليه .

أخرجتهما من المنزل وطردتهما من العمل ، تزوجت بعدها بعام تقريباً ونجحت في تأسيس محيط صدوق و عائلة جميلة وبسيطة من جديد, ومنذ ذلك الحين لم أرها و لم أرَ "لويس" إلا حينما رست سفينته بجانب سفينتي بعد سنين طويلة وفراق ليس بالقصير , ليعتذر مني عن أفعاله الساذجة أخيراً بأجمل الطرق وأرقاها … أعدم بحارتي أصدقاءه السابقين أمام عيناي و خدعني بشارة الاستسلام و انتقم من قلب سامحه وعفا عنه وكسر فؤاداً سهر الليالي يفكر فيه وفي مصيره في العراء في وطن غير وطنه الأصلي ومع أفعى و عنكبوت سامة مثل " آندريا " .

لكنه أخطأ كثيراً برميي في القبو مع حيوانات برية ومعاملتي باحتقار و استعباد و همجية وقسوة , وإرجاعي  لاى السجن الذي يعرف تمام العرفان بما قاسيت فيه ، لابد وأن لكل هذه الأفعال عقاباً شديداً لا بد…

سويعات ليست بالقليلة وأنا مرمي كسيف أكله الصدأ و خانته حدة و حزم الشباب ، لم يؤنسني خلالها سوى دفئ المصباح القنديلي الذي سهر مطولاً يسمع أغانيَّ و يمسح دموعي و يضمد جرح فؤادي و يبحث معي عن حلول لحالي …

لم أستطع النوم ولم يستطع تركي , لم أستطع إنهاء عذابي وشكوكي ونفسيتي الخائفة من العودة إلى ذاك القفص المهيب , ولم يستطع إخماد فتيله و إحراق زيته ولا تجفيف مائه بل ظل يشعل ويزيد إشعال ناره يرقصها أحلى الأنغام أمامي لعلي أتناسى همومي و نيراني … حبيبي أيها القنديل المشتعل عن ماذا سأحكي لك ؟ و عن ماذا سأروي لك ؟ وبجانبي قرود و طيور وخنازير برية فهل ترى أنني أحسن وأرقى شأناً منها كي أروي لك عن حالي ونتناسى حالها ؟ 

ما عذابي غير عذابها ، و ما سجني النتن غير سجنها ، وما وجودي الدنيء و بكائي الغير منقطع غير بكائها ، و ما حسرتي و ندمي غير حسرتها وندمها , ما رجائي غير رجائها … ساجدين أمامك لا نطلب سوى توهجك لتتوهج مشاعرنا ، لا نطلب سوى دفئك لتدفئ به قلوبنا , لا نطلب سوى رحمتك الصفراء لترحم بها نفوسنا , أيها القنديل المغوار , حُمِّلنا رغماً عنا و لسنوات مديدة ما ليس لنا طاقة عليه , غُرِّبنا عن أزواجنا وأحبائنا , عشنا الوحدة والغزلة وجعلنا منها وطناً لذواتنا , فلكم سنظل وحيدين ؟ ولكم سنظل منعزلين ؟ ولكم سنظل مغربين في أوطان الغربة ؟ 

اشفع لنا واشهد بنضالنا أمام شمس ومساء الغد الزرقاء ، لعلنا لن نشهدها ولن نصل أحياء لاستقبالها , الموت في كل مكان شاغر حولنا , يلامس أيدينا ويقبل شفاهنا , يمسك من الوراء برؤوسنا ويعض على أعناقنا ويمتص بنهم آخر آمالنا امتصاص الكوابيس الخفاشية لدماء وراحة النيام , تخلينا عن كل من أحبائنا و ها نحن نتخلى عنك و نعلن استسلامنا فهنيئا لأعدائنا , فزنا بالطبع في عديدة من المعارك لكننا فشلنا في اجتياز الحرب , فدوِّن كلماتنا بأحرف عذاب ودماء سوداء , وتذكَّر عباراتنا و سطورنا بذاكرة ممسوحة و لامبالية لأننا لا نستحق الذكر ولا التذكر ولا الالتفات رحمةً بنا …فما فعلنا سوى الشرور وما نشرنا سوى العذاب والعناء ، وها نحن نجازى بخير الطرق على ذنوبنا فهنيئا لنا وطوبى لأعدائنا …

انغمست مجدداً في فلسفات الخلاص و الجزاء الأكيد ونسيت أن القدر لا يصنع إلا بسيوف الأقوياء , والتاريخ لا يكتب إلا بأقلام المنتصرين … بقيت على حالي أتحدث للفتيل المنطفئ والحيوانات النائمة لثلاثة أيام معدودة لم أرَ فيها ضوء الشمس ولم ألمس فيها ركوض وتسابق الرياح ، أكلت وشربت ما ترك لي من طرف "لويس " و بحارته , لم يزعجني شيء غير تلك الذكريات البائسة و المريرة التي كانت تزعج باطني وترهق تفكيري كلما مرت , حتى فتح باب القبو و ظهر وجه "شيطان البحر " المبتسم و الفرح قائلاً لي :

– " مربحا بك في شواطئ ريو مرة أخرى أيها الكنز الثمين " 

ولأول مرة وبعد أسابيع و أيام طويلة من التجوال والملاحة البحرية المرهقة رست السفينة ووقفت عند باب جحيمي , وأول من نزل عنها كان هذا العبد الضعيف المخاطب لكم , وكأن البرازيل وسكانها وريو وقاطنيها وحاكميها ونبلائها وفقرائها وملوكها ارتحلوا جميعاً إلى الميناء لمشاهدة " القرصان الرهيب دان " الذي لم يسمعوا عن قبحه وشره و عظمته إلا في قصص الأجداد , فظنوا أن الأرواح الشريرة تسكنه أو أن عفاريت الجن و مرداء الإنس من السحرة يقودون سفينته ويوجهون بحارته .

وهكذا هي الخرافة دائماً تلقى ترحيباً وحباً في عقول الضعفاء , ولكن الحقيقة كانت مغايرة تماماً ، فلم أكن مسكوناً و بحارتي بأرواح شريرة ولا عفاريت أو جن ولا سحرة إنما كنا أذكياء ومحتالين فنسرق وننهب ونباغت العدو دون أن يفهم أحد سر و طريقة اتقاننا القيام بذلك ..

على كل حال نزلت الميناء مكبلاً بالأصداف الثقيلة وثوب أسود شفاف ورقيق غطى رأسي بالكامل , محروس بعشرات قوات الأمن وملايين الوجوه البرازيلية تقذف الطماطم الفاسدة و الأحذية البالية و حبال المشقنة على وجهي ، علق إحداها على رقبتي ولن أصف لكم سعادة المواطن الذي رماها نحوي , فلا بد أنه سهر الليالي يصنع الحبل ويشده جيداً كي يكون حبل إعدامي , و من هذا المنبر أحييه فقد كان حبله فعلاً يستحق عنقي … 

تم اقتيادي إلى نفس الكابوس الذي كنت فيه قبل سنوات عديدة من الآن سُمّي في وسط السجناء بـ " مارشالس" تيمناً بسجن الجحيم الانجليزي " مارشالسي" السيئ السمعة جداً , لم يكن يضاهيه عنفاً أو قسوة لكن مجرد سلب الحرية ثم الحياة من أحدهم كان عقاباً مؤلماً حتى على نفوس أعظم المجرمين والسفاحين ، فما بالك بقرصان سابق اعتزل الميدان و كوَّن أسرة بسيطة وحياة عادية وندم أشد الندم على ماضيه بالكامل ؟… 

في نفس اليوم وفي إحدى قاعات السجن وبحضور عشرات الناس من العامة والنبلاء الذين ادعوا أنني نهبت وقراصنتي في الماضي ثرواتهم وهجمت على بلداتهم و قتلت معظم عائلاتهم , لست أدري لربما كان ذلك صحيحاً ، فقد قمت بالعديد من الهجمات والأفعال السيئة و السرقات لربما كانوا فعلاً ضحاياي …

لم يستغرق الأمر طويلاً للحكم علي بالإعدام شنقاً وهذه المرة بأسرع وقت ممكن كي لا أتمكن من الهرب مرة أخرى ، وتحت حراسة أشد من المشددة طرحت في زنزانتي البائسة حبيبتي السابقة …

أحسست أنهم أرادوا إنهاء مسألتي بأسرع وقت ممكن ، و لولا فضل القس"أنيلكا " عليَّ حيث اكسبني مزيداً من الوقت بحجة وجوب التسامح والخلو في آخر لحظات حياتي مع الله …. أتذكر أنه جاء لزيارتي في زنزانتي بعد إلقاء الحكم مباشرة كي أقوم بآخر مناسك البوح و الاعتدار من العلي القدير , أقنعني أن الله سيسامحني إن تقبلت مصيري ودعيته باللطف بي ، فاجبته مازحاً :
– " وأنت أيها القس هل ستسامحني ؟ " 
فاجاب الرجل الطيب بكل صدق : 
-" قطعاً لا ، لقد عثت فساداً في الأرض ولو جئتك ووقفت في طريقك لما رحمتني أيضاً كالباقين" 
ابتسمت و أجبته :
– " إذن كيف تعلم الله سيغفر لي ؟ إن كنت ممثله وخليفته وصورته على الأرض ولا تقدر على ذلك ؟ " 
فأجابني محاولاً إظهار الحكمة الثابثة على أحكامها تجاه الغير : 
– " الله أرحم مني ومنك ومن العالمين , مطلق العفو والعطف ، ادعوه و سيستجيب لك " 

ثم نهض عن كرسيه ووضع يده فوق رأسي وباركني في وداعٍ أخير , ناولني مساعده ثياباً بيضاء وراحوا في سبيلهم … علمت حينئذ أن فجر الغد وأنفاسه هي آخر أنفاس لي , و آخر فجر أشهد ميلاده على هده الأرض السمحاء .

لم أقدر على النوم تلك الليلة ولا إيجاد الهدوء ولا راحة الضمير , وجدت أن الحائط امتلأ ملاحظات كثيرة من بعدي , سجناء عديدين مروا من هذا السبيل ودونوا عليه آخر رسالاتهم و أمنياتهم , فرحت ولو بشكل سطحي حين قرأت أن بعضهم ادعى وصوله فعلاً لدرجة "السوبر-سجين" ووصف روعة شعوره وكيف أنه يتمنى الموت والخلاص الأخير من هذه الدنيا البخيسة و الحقيرة , ولسخرية القدر مرة أخرى المعلم الذي اخترع الدرس وألقاه على تلامذته لم يعد يؤمن بقوانينه ولا بأطروحاته و لا بفائدة متحوياته , طورت تلك الفلسفة في وقت كنت في أشد الحاجة والاحتياج لها ، فقد تمنيت حقاً الموت والخلاص ولكن ذلك لا يجعلها صائبة و حقيقية ..

 

أدركت ذلك حظة خروجي وهروبي من السجن حيث استطعت الرؤية بأبعاد عديدة و كثيرة و متميزة وأكبر مما كنت أرى من زنزانتي , وجينما عدت للقفص مفتوح الأفق وجدت في فلسفتي ترهات و سفسطائية لا غير ، وأتى الوقت لأمحيها وأغير تماماً من تعاليمها المضلّة , فلا خلاص في الموت بين أيدي العدو و لا شرف في ترك عائلة تعيل نفسها بنفسها وزوجة تائهة بين كلام وأحكام الناس وقوت الأبناء ، و لا خير في إنهاء حياتك باستسلام لقوة الغير … 

حاولت تصحيح الملاحظات وتدوين ما رأته نفسي صائباً تلك الليلة التي اختفى فيها القمر و تخلفت الغيوم عن موعدها و احتل العريس ملك الظلام سقف سمائي المفتوح وغنى لي بألحان الأحزان وكلمات الأزل عن رغبته في استقبالي كنجم مع باقي نجوم سمائه …

– "افتح – افتح … دان اتسمعني افتح النافدة" 

متكئ على وسادتي اليسرى المشققة أحسب أضواء الكون ومصابيحه واسمي كل باسم يليق به, وافكر في ابنائي واتحسر على فقدان عائلتي , سمعت احدهم وراء الباب يكلمني بصوت خافت لا يكاد يكون مسموعاً ,صوت مألوف لكن صاحبه مستبعد من قائمة الأحياء في هذه الظروف وهذا الوقت , اتجهت مسرعاً لأفتح النافذة فلم أجد احداً .. "آه إنها الهلوسات ثانيةً , سحقاً متى أُعدَم وينتهي أمري "

– " دان أنا أسمعك ، أنا هنا خذ هذا المفتاح وافتح القفل من الداخل " ..

كان ذلك صوتاً أشد من المألوف لي , يا إلهي ما هذا الذي يحدث هنا , سقط مفتاح من النافدة وأنا لا أكاد أصدق ما يحدث , رفعته بسرعة وفتحت باب الزنزانة بهدوء لأجد البدين صاحب الكرش المنتفخة " جورج " واقفاً حياً يرزق أمامي , صفعت نفسي عشرات المرات , لا شك أنني أحلم لا شك في ذلك , استفق هيا هيا استفق " .. كلمت نفسي مراراً و تكراراً في مشهد خرافي لا يحدث في الأفلام ولا في أزليات قصص الأطفال الصغار , لقد تركت الوغد العزيز علي فوق سفينتي مرمياً و ميتاً كباقي الرجال , ما الذي يفعله الآن هنا ؟ أهذا شبحه جاء ليأخدني إلى عالم الأموات ؟ تساؤلات عديدة تهت وسطها وأنا أحدق في ملامح وجهه المستدير وأعيد تقليب نظري في هيئته .

لم يسحبني بكل قوة من أعماق وظلمات وشكوك وريبة الصدمة التي أصابتني , إلا صفعة من يد ناعمة وحنونة ورقيقة أعرفها ، يد شخص وكيان لا مثيل له كان واقفاً بجانبه … التفتُّ ولحظتها أدركت أن الحب لا يتركنا يوماً و حتى إن ابتعدنا عنه وهربنا لمسافات شاسعة و بلدانٍ و أراضٍ غابرة و سجون قاسية وزنزانات باردة و موحشة تظل مشاعر قلبه تتذكرنا و تحبنا وتفعل المستحيل للوصول إلينا , إنها سيدتي و أميرتي المحترمة " مونيك " لم تستطع كبح اشتياق روحها لملكها و أميرها العجوز , وارتمت بين أحضاني مانحة قلبي الكاهل المكسر الذي التأم جرحه لحظة رؤيتها و امتلأ حباً وعطفاً و خلوداً لم أشعربه من قبل … 

جاء الاثنان لينقذاني وأخرجا بكلمات ودموع طاهرة ليلتها نفس الجملة الشهيرة وهما واقفان ويدهما اليمنى على جبينهما في تحية قراصنة : 

– " لا نظن أن الغد يوم جميل لإعدامك أيها القرصان دان "

سحقا كم أحبهما , جورج صديق لا يعوض و " مونيكا " زوجة لا مثيل لها سافرت البحار وعبرت القارات كي تحظى بأمل إنقاذ ورؤية زوجها ووالد أبنائها… 
لم أسأل أكثر ولم ألتفت يومها للوراء ، ركضنا فرحين وممسكين بأيدي بعضنا كالأطفال الصغار لحظة خروجهم من سجن قاعة الدرس الممل , وجدنا قارباً متوسط الحجم ينتظرنا في الميناء القريب من السجن ، ركبنا فيه بكل سرعة فقد اتفق "جورج " وزوجتي مع صاحبه على تهريبنا مقابل أجر محترم .

نجحت خطتهم وأمضينا أيام ليست بالقليلة في عودتنا إلى "سيردينيا " ، أخبرني فيها جورج في ليلة ممطرة خلدت فيها "مونيكا " باكراً للنوم , و بينما كنا نتناول كأس نبيذ ونضحك و نحتفل مداعبين الرياح السابحة في الفضاء و متأملين في الأمواج الرطبة , أخبرني بقصة الإنقاذ البطولية كاملة , فحينما فتح جيش "لويس" الرصاص في وجهنا , ارتمى جورج" في المياه منتظراً انتهاء القصف المدفعي وتدمير السفينة الكلي , فأمسك بلوح خشب متين ساعده على العودة في الاتجاه الذي قدمنا منه , ليلتقي بسفن العديد من أصدقائنا التجار ,حكى لهم ما حدث وساعدوه في العودة لـ "سيردينيا" ..

ظل تائها وسط شكوك مقتلي أو بقائي على قيد الحياة , فلم يتردد في إعلام زوجتي وعائلتي حينما سمع عن أنباء سفينة أمسكت بقرصان مطلوب للعدالة وعادت به صوب البرازيل ,أدرك الكل في الحال أن عليه الإسراع لإنقادي قبل تنفيذ الحكم , وبما أن ريو شكلت موطن "جورج " الأصلي فلم يجد صعوبة في التخفي وزوجتي ودخول السجن وإنقادي ، فهو يعلم جيداً بكواليس قوات الأمن والحراسة هناك .

استغل فترة راحة الحراس وتبديل مناوباتهم ليعيدني إلى الحياة من جديد ، وكانت المرة الثانية التي يمنحني فيها الأمل ورغبة الاستمرار و الحياة .. فصح القول أنه وبعد زوجتي كان ملاكي الحامي وصديقي المضحي من أجلي , فسلام و حب صدوق لك يا "جورج " من يوم ولدت و يوم تزوجت و يوم أحببت و يوم قابلتك .. فكلها أيام تشهد على عظمة و صفاء روحك ذات البطن المنتفخ …

مضت الأيام سريعاً ، وعدت أنا و" جورج " ومونيكا " إلى الديار , قبلت و حضنت أبنائي الثلاتة من جديد وبادلتهم حباً لا يقاس ، فليس كل مرة تتاح لنا فرصة أخرى لنعيش ونحيا أحراراً وبين من نحب , ومر الزمن و الدهر و السنوات , غذينا فيها الأرواح من جديد و التأمت الجروح و شفيت آلام الصدور   وعادت الأنهار و مياهها إلى مجاريها ..

والبارحة وبينما أنا جالس في مكتبي أدرس حجم نفقات المركب التجاري والصيدي الجديد والاستثمار القادم , دخل جورج مبتسماً كالعادة وملقياً التحية علي , جلس بدون اسئئذان ولا حاجة له بذلك , جلبت لنا ابنتي الشابة " جولييت " كأسين من الشاي الأخضر و ألقت السلام على العم جورج الذي لم يزد بطنه وحجمه إلا انتفاخاً مما كان عليه … 

قال لي بنبرة مازحة :
– " أهلاً أيها القرصان العجوز كيف حالك هذا اليوم ؟"

أجبته سعيداً برؤيته :
– " مرحباً أيها البدين , أرى أنك لا تكبر ولا تشيخ بل بطنك فقط من يزيد و يمتلئ ، قل لي ماذا تطعمه وأي تدريبات تدربه كي يحافظ على لياقته ؟ "

ضحك كعادته رافعاً كتاباً ومهدداً بضربي إن استمريت في السخرية و الضحك منه , تم قال : 
– " دان أتيت في مسألة جادة "

أزلت نظاراتي وأبعدت دفتر النفقات عني معطياً إياه كل الانتباه المطلوب وأجبت : 
– " أنا أسمعك ماذا هناك ؟ خسرت مجدداً كل أموالك في القمار ولست قادراً على تسديد نفقات البيت ؟ "

أجاب سريعاً :
– " لا لا ليس هذا أبداً "
فأجبته :
– إذن ما هو هذا الأمر المهم ؟ "

فقال بنبرة جدية وحاسمة وغريبة :
-" أتذكر أنك قلت لي أن لا أحد يعلم أن لويس" وسفينته" العنقاء " صائدي مكافآت تحت غطاء قراصنة ؟ فلا أحد عاش ليروي الحقيقة الكاملة عنهم ؟
أجبته بعفوية : 
– " نعم بالطبع هو بذاته أخبرني بسره حينما كنت سجيناً عنده "
أجابني سريعاً و بمكر مذهل :
– " لقد نجوت منه , إذن لما لا تروي قصته وحقيقته عند أصدقائك من زعماء القراصنة …و تعلمهم بخطورة ما أصبح عليه , فهو يشكل دون شك عدواً لدوداً مجهول الهوية لهم ، وستكون الجائزة كبيرة مقابل رأسه البشع ، و قد تفك و تكفي وتحل مشكلاتنا المادية وخصوصاً نفقات القارب الجديد "

لم أصدق حيلة ودهاء ما هو بصدد قوله لي ، فصرخت في وجهه :
– "أيها الغبي أتتكلم دون أن تفكر ؟ بأي سفينة سنقطع البحار الصعبة و المحيطات الواسعة و الوعرة وصولاً لمدينة القراصنة كي نخبرهم بالحقيقة ؟ "

أجابني بسرعة و كلمات مختصرة لامعة :
–  " لنقل أني فزت في القمار أمس و..و. تدبرت أمر السفينة ,كما أنني اشتقت ركوب المحيط و سماع كلماتك الغاضبة و الشاتمة كل صباح "

لم أنتظر حتى يتمم كلامه ، عرفت صدق نيته ثم أنني لم أنسَ شرور ودناءة و عذاب ما فعل بي "لويس " لذلك….

وجهوا وأطلقوا العنان للأشرعة أيها البحارة , نظموا وشدوا واحموا الساري وتمسكوا به جيداً , فلا حياة لنا سوى فوق قطعة الخشب هذه …"

ناظراً إلى جورج حانياً رقبتي احتراماً وتجليلاً وتقديراً له وهو يصرخ في محيا الوجوه الشجاعة أولئك البحارة الشباب
فسيواجهون هذه المرة الحاسمة بكفة متعادلة وأسلحة وعدة متكافئة ، ونية لا تشدوا في الأفق سوى الانتقام من رعب العنقاء …

انتـــــهت ««
 

تاريخ النشر : 2017-09-10

guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى