أدب الرعب والعام

يومٌ آخر …

بقلم : ميران أبو شقرا – سوريا _ دمشق

يومٌ آخر ...
سأقف على حافةِ الجسر و سأرمي نفسي بهدوء

في تلك اللَّيلة نزلت إلى الشَّارع و أنا أخطط لقتل نفسي, كان كل شيءٍ واضحاً بالنّسية لي, و الخطة جاهزة, سأقف على حافةِ الجسر و سأرمي نفسي بهدوء, سأختفي من دون إحداث أي جلبةٍ تماماً كما عشت حياةً كاملة خلف الأبواب المغلقة في صمتٍ مطبق ..

كنت أُسرعُ الخطا في طريقي إلى حتفي و أنا أكرر على نفسي كل المتاعب التي مررت بها لأشجع نفسي على الانتحار فعلاً و لأمنع تسرب أي لحظةِ ضعفٍ أو تشبثٍ بالحياة..

تذكرتُ ليلةَ زواجِ أبي من جارتنا ذات الشفاه الممتلئةِ و الأنياب البارزة كشخصياتِ أفلام مصاصي الدِّماء, أذكر كيف حولت حياتي إلى جحيم و كيف كانت تثبتُ لي مع كل يوم أنَّ ما قيل لنا عن زوجات الأباء في حكاياتِ الطّفولة لم يكن إلّا غيضٌ من فيض لؤمهنَّ و سوء أخلاقهن.. تذكرتُ ليلةَ توفيت أختي و هي تنجب طفلها الأول و الوحيد , تذكرتُ نظرتها الباهتةَ تجاهي قبل دخولها غرفة العمليات و تذكرتُ نظرتي اليائسة لحظةَ خروج الطَّبيب مطأطئاً رأسه ليقول أنَّها فارقت الحياة و طفلها في حالةٍ حرجة, تذكرت وفاته _ طفل أُختي الوحيد_ بعد وفاتها بأيام, تذكرتُ كم آلمني موته رغم أنَّه مرَّ على هذه الحياة مرور الكرام حتَّى أنّه غادرها بلا اسم.
تذكرتُ أول قصةِ حبٍ عشتها, قصةُ حبي الأولى و الوحيدة .. كانت مع أستاذي في الجامعة و قد استغلتها زوجةُ أبي أفضل استغلال لتتخلص مني فقد سعت بكل الطّرق ليتم الزّواج بأسرع ما يمكن.

وصلتُ الجسر و قد كانتِ الطُّرقات شبه خاليةٍ إلا من الثَّمالى و المشردين و فتياتِ السوء و بعض الأصدقاء العائدين من سهرةٍ ما أو أولئك المتجهين إلى سهرةٍ… كنتُ بينهم وحدي, وقفتُ أنظرُ باتجاه النَّهر و أنا أفكر بكل ما حدث و يحدث, وقفتُ أتذكر ذلك اليوم الذي جاء فيه أستاذي إلي ليخطبني ……… :
_ أنا أحبكِ, و أعلم أنَّكِ تبادليني هذا الحب بحبٍ كبير, أعني لمَ لا لنقترب أكثر لمَ لا ….
_ نتزوج ؟
_ نعم
_ و لكنَّي لا أريد لهذا الحب أن ينتهي, أريد أن أحبكَ إلى الأبد
_ لن ينتهي, صدقيني سأحبكِ و ستحبينني بشكلٍ أفضل و سننجب طفلةً جميلة تشبهكِ ستذكركِ كل يوم بأنَّ حبنا لا ينتهي

تذكرتُ أنّي اكتفيت يومها بالابتسام, لم أجب بنعم و لم أكن أنوي قول لا ، و مع ذلك فأنا لم أقل شيئاً أبداً, ظلَّ سؤاله معلقاً بين ابتسامتي و مخاوفي لما يزيد عن الأربع شهور إلى أن قابلته هنا حيث أقف الآن, كان قد فقد والدته منذ فترةٍ قصيرة, بدا وجهه متعباً و شعرتُ بأنَّ في عينيه ألمٌ لا يستطيع التَّعبير عنه بالكلمات, عانقته بقوة, قرَّبته منّي كثيراً و بدا لي أني أسمع صوتَ قلبه يتكسر, كانَ حزيناً لدرجةِ أنَّه انهار باكياً كطفل بين يدي, وقفنا صامتين لدقائق ثمَّ أمسكتُ بيديه و قلت :

_ هل تقبلُ الزَّواج بي؟
_ حقاً؟
_ نعم, أريد أن نتزوج
_ ولكن لماذا الآن؟
_ ربما لأنَّك بحاجتي, و ربما لأنَّي أعلم ما معنى أن تغدو يتيماً
_ ألا تخافين على حبنا من الزواج ؟
_ أعرفُ الآن أنَّي أخاف فقط أن أخسرك .. فلنتزوج, و لننجب طفلةً أو اثنتين, المهم أن نبقى معاً

و هكذا فقد تزوجنا, مرَّ العام الأول سريعاً, كنَّا في غايةِ السّعادة, حاولتُ كثيراً أن أمنع نفسي من الخوف من الموت أثناء الولادة و لكني خفتُ في النَّهاية و هكذا فقد أعلنتُ له ذات ليلة :
_ لا أريد أطفالاً
_ لماذا؟
_ لا أريد أن أموتُ و أنا في عز شبابي كما حدث لأختي, أريد أن أعيش طويلاً , لا أريد أن أهب حياتي لأحد
_ حسناً, دعينا ننسى هذا الآن و لنتناقش فيه لاحقاً

و لكنَّ هذا الـ لاحقاً لم يأتِ أبداً, لم أسمح له حتّى بتذكيري برغبته الأولى و المُلِّحة بأن ننجب طفلاً, دخلنا العام الثَّاني من زواجنا و نحنُ بخيرٍ من الألم و المشاكل و الأحزان, إلى أن توفيت زوجةُ أبي و حلَّ أبي ضيفاً علينا, وجوده معنا كان محرجاً للجميع خاصةً و أنَّه لا يصحو من سكرته كثيراً, كان يثملُ طوال الوقت و يتفوه بأكثر الكلمات بذاءةً ، والأسوأ أنَّه في الفترةِ الأخيرة بدأ يفقد شيئاً من ذاكرته ..

سألني ذات يوم عن اسمي و عن صلة القُربى التي تجمعني به, و لكنَّ كل ذلك كان ليمر بسلام لولا أنّه اقتحم غرفة نومنا ذات ليلة و صرخ بي أنَّني قتلتُ زوجته, اقترب مني و حاول خنقي وهو يردد ” لقد قتلتها بالسم, كنتِ تكرهينها “, ما دفع بزوجي إلى اتخاذ قرارٍ حاسم بإيداعِ أبي مصحةً للتخلص من الإدمان على الكحول, منذ تلك الليلة لم نعد نتكلم, _ زوجي و أنا _ صرنا غرباء بشدة و صار الحديث الوحيد المتداول بيننا :” صباح الخير, عمتَ مساءً, تصبحين على خير “..

وقفتُ أتذكر مخاوفي الأولى من هذا الزَّواج, كنتُ على حقٍ إذاً ها قد انتهى الحب و لم يعد بيننا ما يمكن إنقاذه, لم ننجب طفلةً من هذا الحب الكبير و الآن نسكنُ منزلاً واحداً و لكننا بعيدين جداً عن بعضنا …

وقفتُ على الحافة و أنا أتهيأ للقفز, و ما إن انحنى جسمي قليلاً إلى الأمام حتَّى استيقظتُ على صوت صراخ ابنتي في الغرفة المجاورة, أشعلتُ المصباح في غرفتي فاستيقظ زوجي, نهضتُ لأطمئن على ابنتي فتبعي إلى غرفتها, جلسنا إلى جانبها إلى أن غفت و خرجنا إلى شرفة منزلنا نستنشق بعض الهواء, نظر إليَّ مبتسماً و قال :
_ ماذا قررتِ بشأنِ بطلةِ روايتكِ الجديدة ؟
_ قررتُ أن أمنحها يوماً آخر بعد, أعتقد أنَّها باتت الآن تعرف ماذا يجب أن تفعل لتنجو …..

_ تمت _

 

تاريخ النشر : 2017-10-02

guest
35 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى