أدب الرعب والعام

فراشة سماء الحرية

بقلم : حوريه الحديدي – مصر

وقفت الفتاة تراقبهم بعيون دامعة

في إحدى نوافذ مبنى سكني وقفت سيدة ثلاثينية تحمل طفلاً يبدو ابن الخامسة أو السادسة بين ذراعيها، تداعبه و تسليه و بين الفينة و الأخرى تنظر ورائها و تحدث أحداً بابتسامة عريضة.

جاء رجل ضخم وسيم من خلف السيدة و أحاطها و الطفل بذراعيه ، و قبّل رأس كليهما ثم أمالت السيدة رأسها على صدره في حب.

بعد فترة ذهب الرجل و معه الصغير و بقيت السيدة تبتسم برضا و سعادة و قد رفعت رأسها إلى السماء تنظر إلى نجومها الجميلة التي تداعب ظلمة الليل فتمحي بعضها ، ثم لمحتها كجسد ضئيل يقف على سطح المبني المقابل .

وقفت تتأمل الجسد الضئيل المظلم حتى أضاءه القمر ، فكانت فتاة بشعر قصير داكن و عيون متوهجة تنظر إليها بدون تعابير ، و قد بدت لها الفتاة مألوفة للغاية ، فأمعنت النظر إليها حتى تبين لها مَن هي الفتاة ، فهرعت إلى الداخل و أغلقت النافذة… إنها ابنتها.

وقفت الفتاة تراقبهم بعيون دامعة، و قد أدركت لأول مرة في حياتها أنها الوحيدة التي لم تتخطى ما حدث حين كانت صغيرة، و أنها الوحيدة التي أبقت على وعدها حيث رأت خاتما زواجهما و طفلهما الصغير ، رأت كيف لم ينتهي العالم بالنسبة لأمها كما حدث معها حين تفرقتا .

***

كان يقف خلفها يسند ظهره إلى أحد الأعمدة المعدنية المنتشرة على سطح المبنى و قد فكر ملياً أن يذهب إليها فيري ما الذي يؤخرها ، و لكن إن فعل فممكن أن يراه البشر و مع هيئته فلن يكون الأمر جيداً بالنسبة له ، فقد استُبدِل الدوران وسط عينيه بشعلتين زرقاوتين ناريتين و خصلات شعره كانت زرقاء كذلك محاطة بشعلة نيران زرقاء أيضاً و قد بدا شعره و كأنه يسبح في النيران ، وربما قد ألفت الفتاة رؤيته و أصبحت تجد في ملامحه جمالاً عظيماً و لكن ما ذنب الأخرين أن يفزعوا لرؤيته ؟ و ما ذنبه إن خُلِق جميلاً و مفزعاً في أنٍ واحد !

بينما كان واقفاً سمعها تشهق و تبكي بصوتٍ عالٍ فنسي كل ما شغل رأسه سابقاً و هرع إلي صغيرته يتفقدها و قد شعرت به آتٍ فجففت دمعها سريعاً و استدارت إليه :
– "ما الذي قربك من الحافة إليوت ؟ هيا عد إلى الخلف فقد يراك البشر" 
– "و هل يُعقَل أن أهتم لهم و اترك أختي الصغري حزينة؟"

عانقها أخاها بشدة لبضعة ثواني ثم ابتعد و جفف لها دموعها.

– "الآن ما الذي حدث؟" سألها
–  "لا أستطيع الحديث الآن لا أتحمل أن أبقی هنا للحظة أخرى فلنذهب للمنزل"

كان صوتها جامداً خالياً من المشاعر و بنفس الوقت ظهرت به نبرة انكسار لثانية فحسب ، حتى أن إليوت بالكاد لاحظها و إن كان غيره سمعها لمَا لاحظها .

اقتادها إلی منتصف السطح و وقف قبالتها يتمعن النظر إلى عينيها، كانتا زرقاوتين و لكنه لم يرَ درجة الأزرق هذه من قبل ، كانت جامدة باردة كأن صاحبها لا روح فيه و لكنها في الوقت ذاته كانت جميلة بشكل مبهر .

ظهر من خلف ظهرها جناح كبير ريشه مختلف الألوان كما ظهر جناح من خلف ظهره و لكن خاصته كان له نفس لون عينيه و شعره و يتخلله بعض الريش الأحمر.

انطلقا في السماء مرتفعين إلی حيث لن يميزهما البشر، كان الطقس رائعاً و الهواء منعش و كالعادة أنهی التحليق حزنها و همها فأرجعت رأسها إلی الخلف و أغمضت عينيها بينما تنمو علی شفتيها ابتسامة صغيرة ، ثم فتحت عينيها فإذا بهما عسليتان تنبضان بالحياة و الألفة و الدفء.

***

وصلا إلی القصر و دخلا من نافذة حجرة نور متوقعين أن تكون ايفيري في انتظارهما ، و لكنهما لم يجداها فخرجا يبحثان عنها عبر ساحات القصر الكبيرة الممتلئة بالفتية و الفتيات من مختلف الأعمار و الأشكال ، فبالرغم من كونهم إخوة لنفس الأب إلا أن مظاهرهم و حتی قواهم اختلفت بشكل واضح و ربما فقط التوائم كـ إليوت و إيفيري من لديهم نفس المظهر.

دلهم الجميع إلی قاعة اللعب فدخلاها و ربما تكون هذه القاعة أكثر القاعات براءة ، فالأطفال بداخلها لا يكنون أي حقد أو بغض تجاه أحدهم الأخر و كل ما يشغلهم هو اللعب ، و هذه القاعة لها مكانة خاصة في قلب نور ، فهنا تعرفت علی التوأمين ، و هنا حيث شعرت أنها بآمان داخل القصر لأول مرة و حيث ضحكت و لهت مع أخواتها ، و حيث أدركت حقيقة العالم من حولها و حقيقتها هي ذاتها ، و لكنها و في تلك العمر الحديثة لم تدرك أن هذه الحقيقة ستدمرها و تحول بينها و بين ما أرادت…البشرية .

كانت ايفيري تجلس و بجانبها خالد أخوهم ذو الشعر الأحمر و أمامهما فتاة صغيرة في الرابعة ، عيناها الزرقاوتان مشقوقتان بالطول ، و عندما لمحتهما يدخلان الساحة نظرت إلى إليوت ثم إيفيري بضعة مرات قبل أن تتحدث :
– "كيف أنت مثلها؟"
– "نحن شقيقان و توأمان يا ميلا" تحدث إليوت بلطف فهمهمت بفهم ثم عادت تسأل من جديد بارتباك :
– "لكن كيف أنت مثلها ؟!" ضحك أربعتهم و هي تنظر إليهم بعدم فهم.

– "كيف تتوقع منها أن تعي كلمة أشقاء ؟! و هي ترى أن لها العديد من الإخوة في الغرفة هنا و لا يتشابه أحدهم مع الآخر في شيء" .. تحدثت إيفيري بأسي و تابعها خالد :
– "و لن يُسمح لها بالخروج من هنا فترى الإخوة المتشابهين قبل أن تتم العاشرة…إنها قوانين أبي الغريبة" 

التفتت الصغيرة تلهو مع باقي الأطفال و خرج أربعتهم من الغرفة متجهين إلى غرفة نور حين أتي فتى و أخبر خالد أن السيد يريده.

كان هذا حاله دائماً فإن لم يكن مع السيد يكون في معمله الخاص حيث يصنع العقاقير ، وقلما جلس معهم و ربما لا يجلس إلا معهم .

دخل التوأمان و نور إلى غرفتها و جلسوا على فراشها حين انفجرت إيفيري :
– "أين ذهبتما كل هذا الوقت ؟ لقد بحثت عنكما في كل مكان و لم أجدكما…لا تخبراني أنكم غادرتما المنزل رغم مناقشتنا قبلاً" .. كانت تتحدث بغضب و بهمس خوفاً من أن يسمعها شخص ما خارج الغرفة
–  "هل علم أحدهم؟" سألت نور بهمس أيضاً فردت إيفيري يغضب :
"Non, mais est-il important ? Papa…"

قاطعتها نور سريعاً تحاول تغيير الموضوع و ربما تفادياً لِما ستقوله أختها :
– "العربية إيفيري لسنا بباريس ثم هل ما تقولين صحيح ؟لا أظن راجعي قواعد الفرنسية أختي" 

هدأت إيفيري و تنهدت ثم قالت :
– "تشبهين أبي فكلاكما يعشق العربية فأنت لا تتحدثين غيرها رغم أنك الأمهر في اللغات و هو فرض علينا جميعاً التحدث بها رغم اختلاف أعراقنا".

-"لم أرَ من قبل شخصاً يجهل عدد إخوته فمستحيل علينا أن نحصي كل هؤلاء و حتی إن فعلنا فكل يوم يزداد عددنا" تحدث إليوت بسخرية ليصمت ثلاثتهم لبضع ثوانٍ ثم تتحدث إيفيري بهدوء :
– "أين ذهبتما؟" 
– "إلی أمي.. أردت أن أراها و أخبرها أنني لم أنسَ كيف أخذني من بين أحضانها عنوة ذلك اليوم و أيضاً لم أنسَ وعدنا بلم شملنا مرة أخری" 

كانت ابتسامة قد نمت علی شفتيّ نور و لكنها بالتدريج اختفت حيث غمرها الحزن و استولي ألم قاسي علی قلبها. تنهدت ثم أكملت :
– "لقد اشتقت إليها كثيراً" 
جففت يد إليوت دمعة علي وجنتها قد تسللت دون أن تلاحظ ثم تماسك صوتها و تبدلت عينيها من العسلي إلی نفس درجة الأزرق التي ظهرت سابقاً ثم أردفت 
– "و لكنها نست كل شيء و استبدلتني بإبن صغير غير فضائي و استبدلت حياتنا معاً قديماً بزوج و طفل فهنيئاً لها… فهي أذكي مني و أكثر حكمة ، كان علي أن أدرك أنها مجرد كلمات و ستُنسى مع الزمن".

احتضنتها إيفيري بقوة و تمسكت بها نور و كأنها تتمسك بالحياة ، فرغم تماسكها و رغبتها أن تنسى أمها إلا أن الألم كان أقوى من أن تتحمله ، فكانت شهقاتها عالية مسموعة في أرجاء الحجرة الواسعة.

كانت تبكي بشدة حتى انفطر قلب إليوت على شقاء أخته فأخذ يهدهدها و يهدئ من روعها حتى هدأت قليلاً ، و حينها نظر إلى عينيها فكانتا أرجوانيتي اللون ، فدائماً ما أثار فضوله تغير لون عيني أخته..

لم تكن نور فتاة ضعيفة و لم تكن تترك أياً كان يري شقائها إلا التوأمين ، فهم كانوا أشبه بثلاثة توائم لا يخفي أحدهم شيئاً عن الآخرين…غالباً.

– "أرأيتِ؟ لم يغير ذهابك إلی هناك إلا مقدار حزنك و احتمال معرفة أبي" تحدثت إيفيري بنبرة الأخت الكبری التي تحمي أختها الصغري.

– "و لكن كيف سيعرف؟ فطالما لن يخبره أحد لن يعرف" تحدث إليوت بدفاع
–  "لا أدري و لكنه دائماً ما يفعل" أردفت إيفيري و هي تفرك يدها في توتر و عصبية 
– "صحيح,إيفيري محقة و لكن هل للأمر علاقة بكوننا فضائيين، أعني هل لدينا القدرة علی معرفة كل ما نريد دون أن ندري؟" تحدثت نور و صمتت لثوانٍ ثم عادت لصلب الموضوع
–  "حتی و إن علم فيجب أن يتبرأ إليوت من الأمر و أبي لن يخاطر بأن يؤذيني أبداً ، فأنا أفضل مقاتليه فلم أقاتل أحداً أو شيئاً أتي به من كوكبنا و لم أهزمه ، و أيضاً أنا أفضل مراوغيه و أذكاهم و أيضاً أخبثهم فهل برأيكم سيتخلی عن كل هذا و يؤذيني و هو بيده أن يتجاهل الأمر و أيضاً لن يؤذي إليوت فهو يعلم كم أحبه و أنني لن أسمح له بأذيته أبداً".

لم تكد نور تنهي جملتها حتي انفتح الباب علی مصراعيه و ظهر أباهم و علي وجهه علامات الغضب و السخط و تحدث باقتضاب شديد 
– "ثلاثتكم إلی المكتب حالاً " 
استدار عائداً إلی مكتبه و هم يهرولون وراءه و يتحدثون بهمس غير مدركين أنه يسمع كل ما يُقال.

***

– "ألم أخبركم ؟! لقد جلبتم لنا مشكلة من الفراغ " تحدثت إيفيري بتأنيب لتعقب نور :
– "و لكن كيف و اللعنة عرف؟ لقد ك.. " 
ليقاطعها إليوت :
– "ربما الأمر ليس كما نعتقد، ربما لم يعلم" فتتحدث إيفيري بغضب :
"إذا فلتشرح لي سبب غضبه الشديد؟" و لكن قبل أن يرد إليوت كانوا قد وصلوا إلی المكتب .

فتح أبوهم بابه و دخل و هم وراءه و كان خالد يجلس علی أحد المقاعد في الغرفة :
– "خالد من فضلك غادر" تحدث الأب بصرامة
–  "و لكن سيدي.. " كان يتحدث بهدوء عله يهدئ من غضب أبيه فلا ينتهي الحال بإخوته موتى ، و لكن الأب صرخ بحدة :
–  "قلت غادرنا" 
فخرج خالد من الغرفة تاركاً التوأمين و نور و الأب الغاضب الذي أمر ثلاثتهم بالجلوس و قد أطاعوا ثم ضغط بعض الأزرار علي جهاز لوحي و جهاز تلفاز مُثَبت على الحائط ، ثم قام بتشغيل جهاز التلفاز و أشار إليهم بالمشاهدة.

كانت صدمة حلت على ثلاثتهم فأخرستهم و جمدت الدماء بعروقهم ، فقد ظهر في المقطع الذي أظهره الأب على التلفاز نور و هي واقفة أعلى ذلك المبني ثم انضم إليها إليوت و شهق أحدهم بقوة داخل المقطع يبدو أن المصور قد صُدِم من رؤيته ثم انتهى المقطع .

– أريد تفسيراً لهذا الهراء" تحدث الأب دون أي مشاعر في صوته
نظر ثلاثتهم إلى بعضهم البعض بضعة مرات قبل أن تتحدث نور :

– "أنا المخطئة سيدي لقد اعتراني الفضول بشأنها فذهبت و أجبرت إليوت على المجيء معي"

– "حقاً ؟ أجبرته ! لا أرى يداه مكبلة..لا يبدو لي الأمر إجباراً"

– "تعلم سيدي أن التكبيل النفسي أقوى من الجسدي ، و أيضاً إليوت كان مدين لي بمعروف و كان يسدد دينه فحسب"

-"حسناً…سأعقد معكم اتفاقاً من خلال إيفيري..سأمهلكم ساعة ثم تخبرني إيفيري ما حدث تفصيلاً فإما أن تشهد أن إليوت رافقكِ فيُعاقب كليكما و حينها ستتأذيان و لكن كلاكما سينجو…أو أن تشهد أن إليوت لم يرافق نور و حينها سأنسى ظهوره في المقطع و ستنال نور العقاب كله و حين إذ ربما تنجو بأعجوبة أو تكون مجرد ضحية أخرى من أطفالي"

كانت كلماته كالصفعة لهم جميعاً و قد تركهم و خرج من مكتبه.

***

جلس ثلاثتهم على مقاعدهم في صمت حتى انقضى نصف الوقت ثم تحدثت إيفيري :
– "ماذا سنفعل؟ الوقت يمر ، علينا إيجاد حل لننجو من هذا المأزق" 
فرد عليها إليوت :
– "لا يوجد أي مآزق فإما أن تخبريه انني ذهبت معها و نعاقَب و كلانا ينجو ، أو أنجو أنا و تموت هي ، فما الذي تفكرين به و اللعنة؟" تحدث إليوت بعصبية.

كانت نور تنظر إليهما يتناقشان و هي تقضم أطراف أظافرها في توتر ثم تحدثت رداً على إليوت :
–  "الأمر ليس بهذه السهولة ، فالعقاب لن يكون بضع صفعات و ركلات و حرمان من الطعام بضعة أيام كما كان الأمر في السابق ، فعقابه هذه المرة سيترك أثراً نفسياً و جسدياً قاسياً فنظرته تفضح هذا" 
أمسكت نور بيد إيفيري و أردفت :
– "عليكِ أن تختاري إليوت، عليك أن تساعديه و لا تآبهي بي فالموت خير صديق لي فهو الوحيد الذي سيريحني من شقائي"

قاطعها إليوت بغضب :
– "ما الذي تقوله هذه ؟ هل فقدتِ عقلكِ أم ماذا ؟ لا تستمعي لها إيفيري إنها تهذي".

ثارت نور ضد إليوت مما أغضبه أكثر و أصبح كل منهما يحاول أن ينقذ الأخر من الموت بيأس و لكن دون فائدة فرأسيهما أصلب من الصلب نفسه ، و قد علا صوتهما حتى قاطعتهما إيفيري :
– "على كليكما التوقف حالاً فهذا الشجار لن يوصلنا إلى أي نتيجة".

– "صحيح لذلك أنصتي إلي و لا تأبهي به..بدون تكبر أنا أقوى من كليكما لذا سأتحمل أياً كان ما سيفعله ، ثم إنها ليست المرة الأولى التي أثير فيها غضبه حتى الجنون ،لذا فلن يغالي في عقابه أكثر من ذي قبل ، و قد قال أنني ربما لن أنجو لإثارة خوفكم ، أما إليوت فالله وحده يعلم ما سيحل به علي يده.. ثم حتي و إن مُت فلن يذهب موتي هباءً ، فعلى أقل تقدير سيكون كلاكما بخير".

أمضت نور باقي الوقت تقنع إيفيري بعدم الوشاية بإليوت حتى دخل الأب فجأة و كان قد هدأ تماماً كما لو أنه نسي ما حدث ، أما ثلاثتهم فوقفت إيفيري تتعرق لا تعرف ماذا تفعل أتنقذ توأمها و تضحي بأختها أم تشي به لأجل ضمان نجاة أختها ، و نور تنظر إليها في توسل ألّا تشي بإليوت ، و إليوت قد احتقن وجهه بالدماء و برزت عروق عنقه من شدة الغضب ، ثم أمر الأب ثلاثتهم بالجلوس بعدما وقفوا حين دخل احتراماً له كما عودهم .

– "هيا أخبريني إيفيري عما حدث" تحدث بابتسامة هادئة غير مبالٍ بما تمر به صغيرته الآن و التي أردفت :
– "سيدي أنا لا أستطيع فعل هذا" كان صوتها ضعيفاً صغيراً 
– "و لِم هذا ؟ و لكن حسناً سأساعدكِ..كل ما أريد هو إجابة بنعم أم لا، هل رافق إليوت نور؟"
– "لا"
أمر الأب كلا من إيفيري و إليوت بالإنتظار في الخارج فلم يكن منهما سوى الخضوع.

***

نظر الأب إلى نور و قد تبدلت ملامح وجهه جامعة بين الغضب و السخرية 
– "جئت بكِ إلى منزلي و علمتكِ التحكم في قواكِ وقتما شئتي ، بعدما كنتِ ستعيشين خائفة أن يكتشف أحدهم سرك ، و أتيت لكِ بإخوتك فلم تكوني أبداً وحيدة ، جعلت من تلك الطفلة الباكية شابة ناضجة قوية لا يستهين بها مخلوق على وجه المجرة ، حتى البشر يكرمونك بينهم ، و أفضل شباب كوكبنا العظيم تقدموا لخطبتك و كل ما عليكِ فعله قبول أحدهم فتتحقق جميع أمانينا" 

قاطعته نور قبل أن يسترسل في حديثه بنبرة تملؤها سخرية لاذعة :
– "أجل بغض النظر عن أشكالهم المرعبة إلا أنهم أغنياء و ذووا نفوذ لذا لا بأس بالزواج منهم صحيح؟".

أكمل الأب حديثه غير مُعقِب على ما قالت كأن ابنته لم تتحدث أبداً :
– "أكرمتك حين سامحتك على محاولة هروبك الساذجة تلك و فضلتك على أبنائي جميعاً ، و بعد كل هذا لا تطيعيني…مجدداً أوتعلمين ؟ كان بإمكاني مسامحتكِ و مسامحة إليوت لولا أن إيفيري فضلته عليكِ و ضحت بكِ من أجله" 
كانت نور ستدافع عن اختها و عن موقف ثلاثتهم و لكنه أشار إليها بيده بالانتظار و أكمل حديثه :
– "فأن تكوني طائشة يمكن معالجة ذلك أما كونكِ غبية ساذجة لا تجيد إختيار حاشيتها فلا يمكن الاعتماد عليكِ مستقبلاً كقائدة ، فكان يجب أن تشهد لصالحك حتى لو ضد رغبتك لذا فلا خلاص لكم سوى الموت…لا يمكنني التصديق أن ابنتي أنا قد تكون بهذا الفشل".

غضبها منعها من التركيز في سماع ما قال و كل ما همها حينها هو أن تخرج ما بداخلها من مرارة و كره تجاهه لأول مرة غير مدركة لأثر ذلك علي مجري الأمور :
– "ابنتك ؟ بل قل سجينتك أو جنديتك المرتزقة التي لم تتكبد في سبيل إحضارها أي مجهود حتى اننا نناديك بسيدي و ليس بأبي و للحقيقة أبداً لم أهتم بتدريباتك اللعينة و إنما أردت أن أشعر بالأمان و الدفء و الحب…كان يجب عليك تركي مع أمي".

شعرت نور بما تفوهت به فور ما انتهت، و شعرت بثورة بركان قلبها يهدأ قليلاً و لكن بعدما أحرقها فقد انفجرت في وقت غير ملائم إطلاقاً.

كانت نظرة الأب إلى ابنته باردة جافة و قد جذبها من ذراعها إلى الخارج حيث كان التوأمان و خالد ، و أمر خالد أن يضع ثلاثتهم في السجن أسفل الأرض.

***

كانت الجدران رطبة باردة و فقط مشاعل صغيرة تمنع الظلام من التهام المكان بأكمله ، و استطاعوا سماع بعض الصرخات الضعيفة من داخل الزنزانات و قد اقتاد خالد كل منهم إلى زنزانة و بنظرة شفقة تركهم و ذهب ، كان سلبياً جداً حيال ما يحدث كعادته رغم اهتمامه بشأنهم.

بعد ما بدا كبضع ساعات دخل رجلان ضخمان لهما مظهر مرعب فكانت بشرتهما كأنها مصنوعة من الأحجار المتشققة و بينها يسيل ما يبدو كسيل من النيران المتدفقة في جسدهم كتدفق المياه في النهر ، و إقتادوا نور إلى خارج السجن .. إلى القصر مرة أخرى ، و بين رعبها مما سيحدث لها و ما سيحدث لأخويها لم تركز في الطريق و وجدت نفسها أمام قسمٍ من القصر قد حرّم السيد اجتياز أبوابه و لكنها فوجئت بكل سكان القصر تقريباً محتشدين فيه.

بعدما أشاحت بنظرها عن الحشد رأت بناء معدني ضخم كالقِدر مُلحَق بمبني صغير و قد انقبض قلبها لدي رؤيته ، فقد كان لديها خلفية عن أدوات التعذيب و علمت كيف بالضبط سيُستخدم و لولا علمها بأنها ستخضع له لا محالة لبدأت بضرب من يمسكانها فقد كان القِدر أكثر إرعاباً منهما.

دخلت إلى المبني الصغير لتجد والدها يقف بابتسامة واسعة أمامها :
– "أخائفة؟" تحدث بسخرية و شماتة عظيمان لترد عليه برأس شامخة فلطالما كانت ممثلة جيدة :
– "من الموت؟ أبداً لقد جعلتني أشتهيه منذ أخذتني من أمي" كان الكره واضحاً في صوتها و ربما كان الشيء الوحيد الصادق حيالها آنذاك.

ضحك أبوها بشدة :
– "و لكن يا صغيرة سرعة ضربات قلبك تفضح أمركِ" اقتربت يده تبعد خصلة من شعرها قد ألصقها العرق على وجهها فابتعدت سريعاً كأن ثعباناً من مد يده إلى وجهها :
–  "أجل فقلبي يعترض على أنك تسمي نفسك أباً"

اشتد ضحك الأب حتي أن عيناه ذرفت بعض الدموع.

أذن لأولاده بإكمال مهمتهم فاتجهوا إلى باب حديدي و أدخلاها إلى الجانب الأخر منه ثم أقفلوا الباب و على وجوههم نظرات سعيدة لما سيحل بها و تلك النظرات ضاعفت ألمها ، فبالرغم من عدد أخواتها الهائل إلا أن الجميع عرفها لقوتها و ربما بعضهم غار منها و حقد على ما وصلت إليه من نجاح غير مدركين ما تعانيه.

سمعتهم في الخارج يعدون تنازلياً من العشرة إلى الواحد بحماس كما يفعل البشر في بعض احتفالاتهم ، ثم بدأت تشعر بالحرارة من حولها…لقد أشعلوا النيران تحت القِدر و قد بدأ العد التتازلي لانتهاء حياتها.

كانت جالسة بداخل القِدر لِصِغر مساحته حيث أن معدنه كان سميكاً ،و كانت الحرارة تشتد من حولها و هي تقاوم أن تصرخ من الألم حيث كانت تسمع أبيها يضحك و يتحدث إلى أحد أبنائه ، فاقتربت إلى الجهة الصادر منها صوته و بدأت تصرخ :
– "إياك أن تؤذي من أحب و إلا لعدت من قاع الجحيم من أجلك ، أقسم أني سأجعلك تندم إن تعرضت بأذى لمن أحب".

جاءها صوته غير واضح كأنه على بعد أميال ، و لكنها أرجعت هذا للدوار الذي أصابها من شدة الحرارة :
– "فلتستمعي و تعرفي بنفسك إن كانوا يتأذوا فعلاً أم لا".

كانت تصرخ و لكن يدها أعلى فمها كتمت صرخاتها إلى حدٍ ما فأطرافها الملامسة للمعدن تحترق و الألم بالغ و لكنها تعلمت تحمُل الألم من جراء تعذيب أبوها المستمر لها و هو ما يسميه بالعقاب.

صرخة واحدة شقت الهدوء من حولها ،كانت صرخة مرعبة مقدار الألم فيها أرعبها و كون هذا صوت إليوت هز كيانها جعلها تصرخ بإسمه مراراً و لا تعلم أهذا بسبب احتراق جسدها أم احتراق روحها و كان صراخه يشتد و صرخاتها تشتد معه و لأول مرة في حياتها توسلت لأبيها أن يتركه و يصفح عما بدر منه و لكن هذا فقط زاد من ضحكاته.

***

على الجانب الأخر من القصر و تحديداً في الزنازين كان أليوت في غرفة واسعة في نهاية الممر و يداه مثبتتان على الحائط بمسامير ضخمة ، و لكن لم يكن هذا ما جعل صراخه يملأ المكان ، و ليس حتي العقاقير الكريهة التي أجبروه على شربها و جعلت جناحاه يظهران من خلف ظهره ، و إنما لأن إثنين كاللذان أخذا نور يقفان وراءه بسكاكين ضخمة يحاولان نزع أجنحته.

كانت إيفيري جالسة في زنزانتها و يداها مقيدتان في الحائط و قد تلطخ وجهها بدموع غزيرة و قد انبح صوتها من التوسلات و الصراخ عليهم بتركه ، و ما زاد الأمر سوءاً هو صراخ نور الذي بدأ منذ دقيقة تقريباً.

دخل خالد إلى الساحة التي بها زنازينهم و بدا عليه الإنزعاج و كان وجهه شاحباً و بمجرد رؤيته لما يحدث لإليوت تكونت غصة في حلقه و اقشعر بدنه و لكنه قاوم رغبته في الركض خارجاً و اتجه إلي إيفيري 
– "ما الذي يجري؟" سأل بصوت ضعيف كأنه خائف من الإجابة
–  "ألا ترى بأم عينك ما يحدث؟ سوف يقتلعون جناحي أخي و يزوجوني لغريب من كوكبنا الأم رغماً عني و الله وحده يعلم بما يحل لنور" كان حديثها غير واضح لكثرة شهقاتها و لكنه فهم ما تقول بأية حال.

– "ألم أحذركم من عصيانه ؟! لقد ضاق ذرعاً بما تفعلون"

– "أهذا كل ما ستقول ؟ أنك حذرتنا ؟ ستظل سلبياً إلى الأبد ؟ ستتركه يفعل بنا هذا ؟ ألا تسمع صرخاتهم ؟ هذه صرخات نور…الوحيدة التي تقبلتك و أحبتك ، لقد تقبلت و احبت الذراع اليمين للسيد… فقط ستتركها تتعذب هكذا ! إفعل شيئاً أو اذهب من هنا و لا ترينا وجهك مجدداً… على الأرجح لن نراه علي أية حال فلن نكون أحياء و ستظل جباناً سلبياً إلى الأبد" كانت كلماتها أكثر تماسكاً مما قبل.

استدار خالد و تبع صوت صراخ نور الذي انقطع في منتصف الطريق فخاف أن يكون أوان إنقاذها قد فات ، لكنه استمر في ركضه داخل ممرات القصر حتى وصل إلى الساحة التي بها القِدر ، و قد شعر بطعنة في قلبه، و كل ما شغل تفكيره أن أباه قد جاوز الحد…إنه يصهر جسدها حية.

دخل إلى المبنى الصغير و أطفأ النيران أسفل القِدر و أخرجها من داخله ، و انهمرت دموعه لِما رأى ، فذراعاها و ساقاها كانا محروقين تماماً و قد فقدت وعيها ، فحمد ربه أنها لا تعاني من ألام هذه الحروق.

حملها و مشى بها في أرجاء القصر إلى معمله ، و كلما قابله أحد و سأله عن سبب إخراجها أخبره أنها أوامر السيد ، و لم يشك أحداً فيما يقول فهو ذراعه الأيمن و هي من يدربها منذ صغرها لتخلفه في القيادة.

وضعها على منضدة المرضى في معمله و بدأ بخلط بعض العقاقير ، و قد بدا له أنها تفيق فهي تحرك رأسها يميناً و يساراً و تئن ، فأسرع في تحضير حقنة خلط بها بعض المواد المسكنة و المعالجة للحروق و التي لم يكن يتحملها بشر من قوتها و غرسها في ساقها ، فتقوس ظهرها من الألم و أرتفعت حدة صوت أناتها.

مرت بضع دقائق قبل أن تستعيد وعيها كاملاً و قد غطى العرق وجهها و شُفيت حروقها ، و لكن تركت ندوباً قبيحة في بعض الأماكن .
فتحت عينيها و هي تحاول التركيز لتقع عينيها على خالد الواقف بجانب سريرها بنظرة قلقة و مرتعبة فقط كما كان في السابق، فماعدا التوأمين هو من كان يوقظها من الكوابيس التي كانت تلاحقها سابقاً و الوحيد الذي يذكرها بمنزلها و طفولتها…

طلبت منه أن يذهب و يوقف ما يحدث لإليوت و أخبرته أنها ستلحق به ، و بالرغم من أنها متعبة و هو يعي ذلك إلا أنه شبه عرف ما تريد أن تفعل و قد بغض ذلك الأمر و لكنه حتمي إن كانوا سينقذون الآخرين.

ذهب إلى زنزانة أخيه و قد توقف من كانا يعذبانه بعدما أخبرهم خالد أن هذه أوامر السيد فهدأ نحيب إيفيري.

أما في الجزء العلوي من القصر فقد ذهبت نور إلى المطبخ و لم تكن الطاهية موجودة كالعادة و لكن قهوة أبيها كانت على المنضدة كما تكون في نفس التوقيت من كل يوم ، فأخرجت نور قنينة صغيرة و وضعت محتوياتها بالقهوة و أسرعت بالخروج قبل عودة الطاهية و ذهبت إلي غرفة أبيها و اختبأت بجانبها حتى رأت الطاهية تخرج من غرفته ثم سمعت صوت شيء ينكسر فدخلت و قد ارتسمت على وجهها ابتسامة ساخرة.

***

كان جالساً على مقعده الجلدي دون حراك و قد غرقّت القهوة بنطاله و أفسدت حذائه 
– "لطالما كان خالد بارعاً في صنع العقاقير حتي أنه توصل إلى عقاقير تشل حركة الآخرين تماماً كالذي وُضع بقهوتك… و بصراحة قررت أن أكون مثلك فأنت تتخلص ممن حولك و هم في أوج ضعفهم و بعدما تستنفذ طاقتهم و قوتهم و كما ترى فجسدي مجهد من إثر القدر المعدني و أيضاً لدي بعض القتالات التي سأخوضها اليوم لذا لن استنفد أي من طاقتي عليك في قتال ربما أخسره في هذا الوضع" 
كانت نور تتحدث و قد فتحت خزانة كبيرة ممتلئة بالأسلحة ، فالتقطت خنجراً ذهبياً محفوراً عليه نجم أسود و قهقهت بسخرية و هي تتجه نحو أبيها و جثت أمامه على ركبتيها و قد لمعت عينيه من الصدمة و هو لا يعرف مخرجاً مما هو فيه.

أشارت إلى قلبها :
– "أترى هذا ؟ إنه قلب ينبض و لكن أين ستعرفه و ليس لك مثله؟ فدعني أعرفك عليه إنه من يثبت أني بشرية و لي أحاسيس و عواطف و يثبت أني أستطيع أن أحب غيري كإليوت و إيفيري و خالد و لن أتخلي عنهم…سيدي !!! أردت أن تحظى بجنديك المثالي و أخطأت بالتزاوج من البشر بطبيعتهم التي لم تراعها في التعامل معنا و هذا ما أودى بحياتك… إنني كرهتك".

ثم أخرجت الخنجر من وراء ظهرها :
– "خنجر من هذا يا تُرى ؟ إنه خنجر ماركوس أتذكره ؟ إنه ابنك الذي قتلته بدمٍ بارد بخنجره و يا للقدر ، ستموت بنفس الخنجر"

أدخلت الخنجر إلى عنقه حتي تلوثت يدها بدمائه ، ثم وضعته في حزام أسلحتها و قبل أن تخرج من الغرفة أخذت بعض الأسلحة الأخرى .

غادرت إلى الزنزانات و دخلت الساحة التي بها التوأمين و قاتلت الحارسين حتي أفقدتهما الوعي بمساعدة خالد ، ثم أخرجا التوأمين من محبسهما ، و بينما يساعد خالد و إيفيري إليوت على الحركة كانت نور تتأكد من إخلاء الطريق لهما و الحقيقة الجميع كان مشغول بأمر مقتل السيد فلم يلاحظوا ما يحدث .

وصلوا جميعاً إلى معمل خالد و أعد لإليوت بعض العقاقير التي جعلت جروحه تلتئم سريعاً.

***

لاحقاً علم الجميع أن نور هي من قتلت أبيهم و تأكدوا عن طريق كاميرات المراقبة من أنها القائد الجديد ، و ربما في البداية كرهها إخوانها و حقدوا على نجاحها و لكن بعدما أعلنت عن القوانين الجديدة الواجب اتباعها أحبها الجميع حيث أرتفع صوتها في منتصف الساحة.

– "ليس عليكم الاختباء بعد الآن ، بل عليكم التحليق عالياً في سماء الحرية دون خوف ، و أيضاً يمكنكم الظهور للبشر طالما انتم في هيئتكم البشرية ، و التقنيات الحديثة ستساعد من لا يملكون هيئات بشرية على فعل ذلك ، و إن تم اختراق هذه القواعد لأسباب اضطرارية مقنعة فلا بأس و لكن إن أذيتم بشرياً فهذه ستكون نهايتكم" 

أرتفع صوت الحشد الغفير فرحين بينما جاء التوأمين و خالد و وقفوا بجانب نور.

– "لقد أدى كسر القوانين إلى قتلنا لأبينا ، فهل سنكسر القوانين التي أوجبها علينا أيضاً ؟ " تحدث خالد فهو لم يسامح نفسه أبداً على مقتل أبيه بالرغم من علمه أنه كان الفعل الصحيح آنذاك.

– "بل كسر القوانين الغير مناسبة في الوقت المناسب جعلنا قادة هذه العشيرة" تحدثت نور بابتسامة سعيدة على وجهها .

 

تاريخ النشر : 2017-10-16

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى