أدب الرعب والعام

المنارة

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

المنارة
صوت غريب يصدر من تلك المنارة

 أنا أقسم ، أقسم بكل ما هو قابل للقسم به ، أقسم أن هناك صوت غريب يصدر من تلك المنارة ، إنها الثانية صباحاً و قد استيقظت لتوي ، أنا لست هيستيرياً و لم أقترب يوماً من أن أكون ، الأمر هو أنه حينما أستيقظ أكثر من مرتين على صوت آت من المنارة ، حينما تعمل المنارة في الثانية صباحاً وحدها ، حينها أرى شيئا ما يقف هناك في غرفة الإضاءة ، كل ذلك لا يعني سوی أن هناك شبح ، و هذا الشبح يتفنن في إتقان عمله ، إخافتي ! لكن أنا رجل عملي لا أصدق أي شيء غير قابل للتصديق لا لشيء سوی لأنه غير قابل للتصديق ، حتى و لو رأيت دلائل على العكس ، قال أبي ذات مرة : الشيء لا يكون شيئاً ما لم نراه بأم أعيننا ، و لا أنكر أنه كان الرجل حكيماً ، رحمه الله.

و لهذا تجدونني أجدف بقاربي في الساعة الثانية و النيف كي أصل للمنارة ! عقلي في مثل هذه المواقف هو كتلة كبيرة من العته و الغباء، لأنني أعلم من الأفلام و ما يحدث بها، يتشجع البطل الأحمق و يبحث بفضول وراء الأحداث الغريبة التي تقتله في نهاية الفيلم غالباً ، و قد كنت أعرف هذا و أحذر منه ، من أن أكون مثل البطل الأحمق ، لكن عقلي كان يقول أن هذا ليس إلا فيلم وأنني تافه للنظر للأمر من هذه الزاوية ، و لهذا هو غبي ! الحياة ليست إلا عبارة عن فيلم.

في النهاية سأدرك درسي جيداً و سأعرف العبرة المستفادة ، لا تسكن أبداً في جزيرة مقابلة للجزيرة التي توجد عليها المنارة ، أو لا تستيقظ من نومك وتقرر فجأة الذهاب إلی المنارة فقط لأنها أُنيرت من تلقائها و لأن هناك خيال في غرفة المصباح ، شيء كهذا ، و سأعرف هذا الدرس و هذه العبرة بينما أنا أسقط من المنارة بعد أن يدفعني مهرب الأسلحة من هناك حينما يدرك أنني صرت أعرف سره الآن ، و سينتهي بي الأمر ميتاً على الصخور ..

جالت هذه الأفكار في ذهني و أنا أصعد السلم العتيق للمنارة ، الملاحظة الأولى ! توجد آثار أقدام على التراب ، أعني مكان مثل هذا لا تطأه الأقدام كثيراً ، منارة قديمة على جزيرة صغيرة لا يسكنها أحد ، و لهذا كانت الأتربة تستولي على كل ركن من أركانه ، هذه كانت علامة جيدة و سيئة لأن الاحتمالات المتبقية لإضاءة المنارة بدون ترك آثار أقدام على التراب غير سارة على الإطلاق ! ثم ما بال الضوء ، لماذا يهتز لهب الشمعة أكثر من اللازم رغم أنه لا توجد ثغرات للهواء هنا ؟!

كل شيء هنا يقول لي أهرب أيها الأحمق ، ابتعد أيها المغفل ، لكنني يوماً ما وجدت أحمقاً يهرب أو مغفلاً يبتعد ، بالطبع لم أجد شيئاً أو شخصاً لمعنى أكثر دقة ، لكن هناك من أضاء المنارة و من هذه تعود على عاقل ، أخبرونا بهذا في المدرسة ، توجهت نحو الشرفة و نظرت نحو الأفق ، الآن أعلم أن الظلام حالك و أعلم أن المسافة كبيرة ، لكنني أعمى إن لم أدرك أن هذا الضوء في الأفق هو ضوء منزلي

 على ما أذكر لا توجد منازل أخرى علی هذه الناحية من الجزيرة ، و ماذا عن ذلك الخيال الذي يمر من أمام الضوء ، المنزل بعيد لكن حتماً هناك شخص يضيء نور منزلي و يجلس فيه ، نعم لقد أطفئت جميع الإضاءات جيداً قبل أن أخرج بقاربي ، هذا إن كان يعني شيئاً فيعني أن هناك من يعبث بي ، عبث من النوع الذي يغضبني! و مرة أخرى وجدت نفسي أجدف لطريقي نحو المنزل ، ذلك الجهد هنا لم يكن من ضمن شروط عملي ، حارس المنارة العادي لا يستيقظ  ليلاً كي يبحث عن الشخص الذي يضيء المنارة بدون علمه ..

تركت القارب علي الشاطئ بين الصخور بدون حتی أن اربطه بشيء ما و قفزت منه علی أقرب صخرة ، كدت أن أقع لكنني تمالكت نفسي و عدت أهرول للمنزل ، سأسبب بعض الضرر الحقيقي لهذا الوغد إن وجدته.

لم أجده ! المنزل كما تركته تماما ، لا أضواء ولا أبواب مفتوحة ولا آثار لأي شيء ، خرجت من المنزل كي ألتقط أنفاسي بعد كل هذا المجهود الذي بذلته ، و هنا رأيته ،الضوء ، ضوء المنارة مجدداً ! ، لقد أُنير من جديد ، و أقسم أن هناك شخصا يقف في الشرفة في نفس المكان الذي كنت أقف فيه ، الضوء يسقط عليه جيداً و ….

هل أنا أتخيل أم أن ذلك الشخص يُلوح لي بيده ؟! هل أنا أتخيل أم أن ذلك الشخص يتسلق سور الشرفة ؟! هل قفز لتوه؟ !!

أظن أن كل شيء واضح هنا ، إن الأشباح تحب أن تعيد آخر شيء فعلته قبل أن تموت ، أما الآن فعلي أن أنام ، لست من النوع التافه الذي تقلقه نشاطات يومية لشبح ما ، أي نوع من الرجال سأكون ان فعلت ؟! بالطبع أحببت هذا التفسير جداً ، بدا لي منطقياً بالرغم من كونه غير منطقي ، لربما وجدت بعض الطمأنينة في هذا التفسير.

في صباح اليوم التالي وجدت شخصين يقفان أمام بيتي يسألانني عن جثة الشاب الذي وجدت تحت المنارة القديمة ! أخبروني في وسط دهشتي أن الشاب قد مات بسبب أنه قفز من المنارة ، سقط علی الصخور و أنتهى الأمر، الشبح لم يكن شبحاً بعد كل شيء ، كل هذا جميل لكن كيف وجدوا جثته بهذه السرعة؟!

فيما بعد عرفت أن الرجل الذي مع الضابط هو شاهد رأی قارب في وسط المياه في وقت مقارب للثانية ليلاً ، كان الشاهد يتجول ليلاً علی الشاطئ حينما لاحظ علی ضوء القمر أن هناك شيئاً يتحرك في وسط المياه ، حينما دقق أكثر وجد أنه قارب و أنه يتجه نحو جزيرة المنارة ، ظن أن وجود قارب في وقت مثل هذا هو شيء مريب كفاية ليجعله يخبر السلطات ، أرسلت السلطات شخصاً بعد شروق الشمس مباشرةً كي يتحقق من الأمر و حينها وجد الجثة ، و مع قليل من البحث علموا عن حارس المنارة الذي يسكن في مكان ليس ببعيد عن المنارة ، بالطبع الشاهد الأحمق لا يعلم أنني هو الشخص الذي كان يجدف ليلاً و لا يعلم أنني سأكذب عليهم فيما يخص ما حدث.

– أنا ؟!!  أنا كنت نائماً كالقتيل في تلك الليلة ولا أعلم عما تتحدثون ، مع احترامي يا سيدي إن مهمتي هي تشغيل المنارة كل الأيام ماعدا ذلك اليوم الذي تتحدثون عنه ، عدا ذلك لا أعرف ما الذي تتحدثون عنه ، بدا لي خطاب جيد حين راجعته في عقلي و أنا أقف أمام الضابط ، أرجو أن يعذرني من لديه الحق في ذلك فالقصة التي من طرفي ليست بالقصة التي تُحكى إلا من طرف شخص مجنون ، ربما هذا و ربما أنا أبالغ ، لكن ما أعرفه هو أنني لن أخبرهم بشيء مما رأيته ، أعتقد أن الأسئلة التي لم يسألوها هي ماذا كان هذا الشاهد يفعل علی الشاطئ في مثل هذا الوقت المتأخر؟!

بداخل منزلي جلس الضابط هو والشاهد ، سألني الضابط عن ما حدث ليلة البارحة ؟ ، حكيت ما تدربت عليه ، بعدها بدأ الشاهد بالكلام و حكی الرجل ما حدث معه بداية منذ خروجه الساعة الثانية و انتهاءً بإخباره الشرطة ، حينما سألته عن سبب خروجه في مثل هذا الوقت من الليل ؟ قال : أنه قد خرج لكي يشتم هواء نقياً علی الشاطئ حينما رأی ما رآه ، تساءلت في بالي حينها عن مدی قابلية الضابط بالاقتناع بقصته و سببه إذا ثبتت أن هذه جريمة قتل ، لكن الحق ، كل الدلائل تشير إلی أن هذا انتحار، لا آثار لمقاومة أو ضرب على الفتى كما أخبرني الضابط ، مما يعني أنه أذا حالفني الحظ فسيفترضون أن القارب الذي رآه الشاهد ليلاً هو قارب الفتى و أنه كان في طريقه إلى المنارة كي ينتحر هناك ، كنت محظوظاً !

أخبرني الضابط أن أبتعد عن المنارة حتی يتسنی لهم فحص مسرح الحادث بأريحية ، أمرني أن أبتعد أسبوعاً ، وافقت علی مضض بسبب طول المدة ، حينما خرجت أنا و الشاهد من منزلي كان الضابط قد رحل بعد أن بدا لنا أنه تقريبا قد صدق أن ما حدث لهو انتحار بسيط لا يستحق كل هذا العناء ، فقط أمرنا أن نتجهز إذ ربما يستدعوننا مجدداً ، حينما رحل وقفنا نتحدث قليلاً أنا و الشاهد، أحاديث من نوع – أعتقد أننا أصبحنا في زمن يوجد فيه حراس للمنارات – و – أعتقد أنه نفس الزمن الذي يجعل بعض الأشخاص يخرجون الساعة الثانية ليلاً فقط كي يشتموا بعض الهواء- مع قليل من الحديث اكتشفت أن الرجل قد حدث معه نفس ما حدث معي ..

يقول : أنه كان نائما قبل أن يسمع صوت ما يناديه باسمه ، استيقظ الرجل ليجد أن هناك من أضاء المنارة ، المثير للسخرية أن الرجل قد صعد للمنارة هو الآخر لكنه لم يجد شيئاً ، قصة مثيرة هنا ، إذن هو ذهب هناك مثلي ولم يجد شيء مثلي وعاد مثلي و رأی الفتى ينتحر مثلي ولم يخبر الشرطة بما حدث خوفاً من عدم تصديقه مثلي ، وقتها بدا لي أن هناك العديد من الأشياء الغير منطقية فيما حدث ، مثلاً إذا كان الرجل قد ذهب للمنارة مثلي فلماذا لم أره؟!

ربما المنطق سيقول أنه ذهب بعدي أو قبلي ، و لكن ذهب وقت إضاءة المنارة مثلي تماما ، و هذا معناه أننا كنا يجب أن نتقابل ، لم أعر للأمر الكثير من الاهتمام ، ستعرف الشرطة كل شيء قريباً ، بعد أسبوع كتبوا في الجرائد عن أكبر عملية تهريب للمخدرات في التاريخ الحديث ، كتبوا أنهم قد خبّئوا الكمية كلها في مكان ما ، و حينما انتهى تفتيش خفر السواحل أخذوا المخدرات و رحلوا ، و الآن ينتشر المخدر في الأسواق و يبحثون عن المدخل الذي أتى منه المخدر نفسه ، وجدت أمام بابي في ذلك اليوم ورقة صغيرة:

” نشكرك علی حسن تعاونك سيد كذا ، لقد تركنا لك هدية صغيرة في المنارة “.

و في المنارة وجدت الهدية ، كيلو تقريباً من المخدر الأبيض ، كمية إذا بعتها سأصبح ثرياً ، و إذا استخدمتها فسأنتشي حتی الموت ، لكن ما الذي حدث حقاً ؟! لقد تخيلت الأمر في عقلي :

في ليلة السبت كانت السفينة المحملة بالمخدرات تبحر علی غير هوادة ، يجدون في الأفق شيئاً يبدو كمنارة و يبدو أنها مغلقة ، يوم السبت لا تعمل المنارة ، يقول قائدهم بنظرة خبيثة بعد أن ارتسمت الخطة في عقله :

–  يا رجال ، لقد وجدنا المكان المنشود.

يسأله أحدهم عن حارس المنارة فيقول :

–  سنجذبه إلينا.

و هكذا يبعث أحدهم للمنارة كي ينيرها و يصدر بعض الأصوات الغريبة ثم يهرب و يختبأ في مكان ما ، علی إثر هذا يستيقظ الحارس الذي هو أنا و يذهب للمنارة في قاربه الصغير، يعرفون مكان بيت الحارس و يرسلون شخصاً إلی هناك كي يؤكد لهم أنه حارس المنارة ، بالتأكيد سيجد أشياء تدل علی أنني حارس المنارة في بيتي، و في الوقت الذي ينتهي فيه من عمله و يهرب أكون أنا في الطريق بعدما لم أجد شيئا في المنارة ، بعد ذلك سيكون من السهل تزييف قفزة شخص من تلك المسافة بين منزلي و المنارة، ربما ربطوه بحبل أو ما شابه ، يقفز الفتى و حينها أری أنا ما حدث بدهشة ، بعدها كان بقائي في بيتي ضرورياً لأجل إكمال الخطة ، لا أعرف كيف تمكنوا من معرفة أنني سأبقى في بيتي ! لكنهم نجحوا فيما أرادوه.

يتبقى فقط أن يزورني الزعيم متنكراً هو و الشاهد المزيف كي يخبروني ألا أذهب إلی المنارة ريثما ينتهون مما يفعلونه ، الاختباء!.

أعتقد أنني لم أسأل عن شارة الضابط الذي زارني ، و لم اسأل من أين رأی الشاهد ضوء المنارة ؟ لم أسال لماذا يزورني الضابط شخصياً كي يسألني عن الجريمة ، و لم أسأل لماذا يأخذون أسبوع بأكمله كي يعاينوا مسرح الحادث؟

إذن لماذا لم يقتلوني أو ما شابه؟

حسناً ، اختفاء حارس المنارة مريب بما فيه الكفاية كي يبحثوا عنه في المنارة و حينها سيكتشفون الأمر.

فيما بعد سيجلسون ليلاً مع بعضهم البعض يتسامرون و يحكون ضاحكين عن ذلك الأحمق الذي ساعدهم في تهريب الممنوعات ، و حينها سأكون أنا أحكي لأصدقائي عن حادثة الانتحار التي حدثت أمام عيني.

النهاية ….

تاريخ النشر : 2017-11-20

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
27 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى