أدب الرعب والعام

سائق عربة الكونتيسة ذات الرداء الأزرق – ج1

بقلم : فاطمة مرار – القطيف

سائق عربة الكونتيسة ذات الرداء الأزرق - ج1
سأقتل حلمك في المهد يا إيملي الملطخة بالألوان ..

كالعادة من كل صباح يشاهد الناس عربة الكونتيسة ذات الرداء الأزرق تجوب الشوارع فيتهامسون حولها فبعضهم يقول : يا ليت لنا ما أوتيت الكونتيسة ، ما أجملها ! ما أغناها ، و بعضهم يتساءل ما لها لا ترتدي غير الأزرق هل هو اعتزازها بدمائها الزرقاء أو لأنه لون ثياب مريم العذراء ؟؟
ما عليكم ، في الحقيقة هي امرأة تحب اللون الأزرق و هم أناس فارغون .
لكن لاحقاً بدأ الفضوليون يتكلمون عن سائقها إيميل فمن هو ؟

لنعد سنوات إلى الوراء حيث مات السيد إيميل أثناء الحرب تاركا زوجته الحبيبة و بناته الثلاث و طفله ذو السنوات التسع في هذا العالم القاسي ، حيث لم يمضِ و قت طويل على وفاته حتى استولى أخوه إيملاي على ثروة العائلة حارماً أسرة إيميل من الإرث متذرعاً بأن زوجة أخيه من العامة و لم يعترف بأولاد أخيه حتى ، و أشاع عن المسكينة ما أشاع ، و اغتال ماري البنت الوسطى لإيميل بالرصاص ، و حاول قتل ماريون الابنة الصغرى صدماً بالعربة فنجت لكن أصيبت بالشلل ، مما أخاف الأم الحنون فهربت إلى الريف مع أطفالها الناجين مفضلة سلامتهم على الثروة و المكانة ..

و هناك استأجرت كوخاً قديماً يناسب وضعهم المالي الجديد ، و لكونها كانت من العامة سابقاً و خادمة للسيد إيميل قبل أن تكون زوجته ، لم تمانع في أي عمل يمكنها من إعالة أطفالها فتارة تعمل في الحقول و تارة في السوق بمساعدة ابنتها ماريان ، بينما استطاع إيميل الابن الحصول على عمل في رعاية خيول الثري الوحيد بالقرية بأجر زهيد صابراً على التعب و قسوة رئيسه رغم أنه الصبي ذو النسب و الثروة سابقاً ، كان أكثر ما يعزيه ذلك الوقت هو الطبيعة الخلابة حيث يحلو له التأمل و التسبيح و ترديد الشعر .

بقوا عشر سنين يقاومون الفقر ، وخلال تلك الفترة تزوجت ماريان و سافرت لبريطانيا فانقطعت أخبارها عن الأسرة ؛ لعدم وجود مكتب بريد في القرية ، أما إيميل فقد أشيع عنه ممارسة السحر إذ شاهده البعض و هو يتمتم بكلمات غريبة و في نفس اليوم مات ابن رئيسه في نفس المكان و في اليوم التالي مات حصان سيده المفضل في نفس المكان و بعدها مرض الرئيس فأخبره بعض زواره عن قصة إيميل الساحر و لو سألوا إيميل قبل ذلك لعرفوا أنه يردد الشعر فقط لكنهم لم يسألوه فطُرد من عمله و ساءت سمعته حتى لم يعد أحد يسلم عليه أو يرد عليه التحية و قاطعت النساء أمه ، و في إحدى الليالي ماتت زوجة الرئيس فانتفض أهل القرية و اتجهوا نحو منزل الساحر حاملين المشاعل والسكاكين لكن لم يجدوا الأسرة فأحرقوا البيت .

أما إيميل فقد هرب مع أمه وأخته إلى المدينة قبل شروق شمس ذلك اليوم المشؤوم ؛ فلم يعد بإمكانهم العيش بين أولئك الجهلة أكثر من ذلك ، فنجو بفضل الله .

الحياة في المدينة :

في المدينة عاشوا فترة تحت الجسر و قد شابت الأم قبل أوانها و مرضت بالسل ، بينما عمل إيميل حمالاً في السوق مقابل القليل الذي يحفظ ماء الوجه لكنه لا يجلب الطبيب .
في أحد الأيام بينما كانت الأم تشتري الخبز شاهدت في الطريق الكونتيسة ذات الرداء الأزرق تمر بعربتها فتأكدت من اسمها أولاً و في المساء طلبت من إيميل العمل لدى تلك الكونتيسة ، فرد عليها : هل أنت متأكدة أنها خالتك التي تنكرت لكم ؟
فأجابت : نعم ، و هي بالتالي خالتك أيضاً ، ستعطيك عملاً جيداً رغم ما بيننا من قطيعة .
فقال إيميل بيأس : حسناً لكن بهذا المظهر لا أعتقد أنها ستقابلني حتى .
فردت : قل للبواب أن يخبر الكونتيسة روزماري بأنك قادم من طرف سالي ابنة ماريان و جوزيف و زوجة إيميل عندها سترى قوة الواسطة .

في اليوم التالي تردد إيميل في الذهاب لكنه ذهب أخيراً و دخل بعد أن قال كلمة السر ، بينما انتظرته أمه خارجاً تحسباً لأي طارئ .
و في الداخل قابلته الكونتيسة ببرود و قد أخفت غضبها ، سألته : ما علاقتك بسالي ابنة ماريان .
أخبرها : إنها أمي . فسألته بعض الأسئلة الخاصة عن سالي فأجاب ، عندها لم تشك بأنه ابن سالي ، فقالت له : طيب و ما المقابل ؟
اندهش إيميل : ماذا تقصدين ؟
في الحقيقة كانت تعتقد الكونتيسة أن سالي و ابنها جاؤوا لابتزازها بماضيها فما لا يعرفه أحد بأنها في الأساس من أسرة فقيرة تعمل بناتها خادمات لكسب لقمة العيش ، و على كل حال فسالي و أولادها متدينون يخافون الله ، يفضلون القليل الحلال على الكثير الحرام و هم قد جربوا من قبل سم إسقاط السمعة و التشهير وتم أكلهم بالغيبة و البهتان ، كل ما هناك أن سالي توقعت من خالتها الكثير .

قالت : أقصد ماذا تريد ؟
فرد إيميل : خالتي أحتاج إلى عمل أعيل به أسرتي ، صحيح أني لم أستطع إكمال دراستي لكني مجد و قد عملت في إحدى مزارع الخيول سابقاً و حمالاً في السوق .
شحب وجه الكونتيسة و قالت في نفسها (الآن انتهى أمري) مثلما نقول في اللهجة العامية (رحنا فيها وطي) فالتفتت إليه قائلة : حسناً أعطني أسبوعاً أدبر لك فيه عملاً ، خذ هذا المبلغ الآن لسالي ابنة أختي و حذار أن يعلم أحد بصلة القرابة بيننا فهمت .
رد إيميل : فهمت (لقد فهم حقاً قصدها لكنه لا ينوي شراً)

أخبر إيميل أمه بكل شيء و قال أخيراً : هيا إلى الطبيب .
لكن أمه قالت : أنا بخير ، أريد منك أن تبحث لنا عن بيت صغير فقد تعبنا من حياة التشرد ، ثم نظرت لابنتها النائمة : كلما غادرت الجسر تتسارع دقات قلبي خوفاً على ماريون المشلولة ، ثم من غير المستحسن أن يكون موظف لدى الكونتيسة ذات الرداء الأزرق مشرداً مع أسرته .
وافقها إيميل لكنه قال في نفسه (ذات يوم سأجعلكما تعيشان حياةً لائقة بإذن الله) .

بعد أسبوع قابل إيميل الكونتيسة مستعملاً كلمة السر نفسها ، هناك أخبرته الكونتيسة أن سائق عربتها تقاعد و ستضعه مكانه و يمكنه العمل منذ هذه اللحظة فوافق إيميل لأنه سابقاً كان يسوق عربة خيل إنما تحمل البرسيم أو القش ، فارتدى زي السائق القديم الذي كان أطول من مقاسه قليلاً و قاد عربة الكونتيسة في الشوارع لكنه لم يفهم ذلك اليوم (لما تجوب الكونتيسة الشوارع دون هدف معين ؟ و لماذا تمر على ذلك القصر عدة مرات ؟)

عندما عاد للمنزل لم يحتج أن يقول لأمه ماذا يعمل لدى الخالة الحنون ؛ لأن أمه رأته و هي الوحيدة التي انتبهت إلى أن الثياب التي ارتداها طويلة ، كان الصمت لغتهما تلك الليلة حتى نام إيميل و ماريون بينما جلست الأم تعدل مقاس الملابس و هي تبكي (سامحاني أنا أسوأ أم ، لم أستطع توفير حياة أفضل لكما ، سامحني زوجي الحبيب لقد بذلت جهدي لكن لا أستطيع ، أرجو أن تكون ماريان على الأقل بخير) فبدأت تدعو لأولادها و هي تسعل بشدة .

استمر إيميل في العمل سائقاً لدى الكونتيسة و أسرتها دون أن يلفت انتباه أحد إلا اثنتين هما :
آن ماري ابنة الكونتيسة فتاة جميلة في السادسة عشر سمراء ذات شعر بني و قوام ممشوق تحب ارتداء الأزرق لأنه يذكرها بالسماء فتشعر بالحرية ، في البداية عاملت إيميل باحترام كعادتها مع الجميع دون علمها بصلة قرابتهما ، فبادلها الاحترام ، بعدها صارت تعيره الكتب سراً ؛ لما أبداه من ميل للقراءة و التعلم ، ثم أحبته لأخلاقه و شخصيته فأيقنت أنه فارس أحلامها لكنها لم تبح حياءً و مراعاةً لمشاعر أمها و أملاً في أن يتقدم هو .

و الأخرى هي إيملي الحسناء الشقراء (في السادسة عشر) ينادونها (إيمي) تحبباً و هي ابنة الكونتيسة (إيملي بيل) صاحبة القصر الذي تمر عنده الكونتيسة (روزماري) مراراً في اليوم ، انتبهت أول مرة له في إحدى زيارات الكونتيسة روزماري لوالدتها إيميلي بيل حيث كانت ترسم إيملي في الحديقة ، ذلك اليوم شاهدته يقرأ كتاباً ، و عندما خرجت الكونتيسة أخفى الكتاب بسرعة ، هذا المشهد تكرر كثيراً و لم تكن تفهم مغزاه حتى سمعت الكونتيسة روزماري تقول لوالدتها (لا أرى أن التعليم يناسب الفقراء و الخدم) في ذلك اليوم تعاطفت مع إيميل .

يجري خلفها و لم ينتبه لمن يجري خلفه :

بعدها تطورت العلاقة بين آن ماري المحبة و إيملي المتعاطفة رغم تردي العلاقة بين الوالدتين في الخفاء ، و جمعتهما رحلات تسوق و حفلات ، و كان من يوصلهما هو إيميل .

لكن لاحقاً أخذت العلاقة منحى خطير ، فقد أحب إيميل إيملي و استثمر فرص توصيل الفتاتين بالتعبير عن أفكاره و ميوله تارة بالحوار معهما و تارة أخرى بقراءة كتاب أمامهما في محاولة للتلميح بحبه ، و في تلك الفترة أيضاً حاولت آن ماري التلميح لإيميل بحبها حيث كانت تقرأ البؤساء (الجزء المتعلق بكوزيت و ماريوس) بصوت عال كأنها تقرأ لإيميلي ، لكن إيميل رأى نفسه ماريوس و إيملي كوزيت ، أما إيملي فقد كانت كالأصم في الزفة ، في الأخير يئس و قرر إيميل مصارحتها بحبه و التقدم لخطبتها في حال كانت تبادله الحب لكن للأمانة كان عليه أن يريها وضعه أولاً في أقرب فرصة .

ذات يوم في إحدى رحلات تسوق الفتاتين تمزق كم معطف آن ماري لسبب ما مما جعلها في وضع حرج فقالت : ستغضب أمي عندما ترى المعطف ماذا أفعل ؟
ردت إيميلي : تعالي إلى بيتنا ستخيطه لك الآنسة أورورا ، و لن أخبر أحداً .
فرد إيميل : أورورا الثرثارة ! لا اسمعي سآخذ المعطف إلى محل الخياطة سيصلحونه لك ، أما أنت آنستي فتفضلي بالانتظار في بيتنا مع الآنسة إيملي لأنه لا يصح أن يراك أحد هكذا ، قد أتأخر قليلاً بسبب جولة الكونتيسة روز ماري لكني سأعود .

وافقت آن ماري و شكرت إيميل بخجل و تراءى لها في خيالها فارساً نبيلاً يرتدي الأزرق ، أوصلهما إيميل لبيته و انطلق إلى محل الخياطة و قد حدث ما توقعه حيث شاهدت الفتاتان المنزل القديم و تعرفا على والدة إيميل و أخته ماريون و لا يعلم أحد بما تحدثن حتى إلا الله ، لكن مالم يتوقعه أن أمه سالي أحبت آن ماري لأخلاقها وأدبها فقالت في نفسها :
(إنها كما وصفها إيميل آه يا رب لو أحصل لابني على عروس جميلة و رائعة كآن ماري لكنت أسعد أم) و قد بادلتها آن ماري نفس الشعور فقالت في نفسها (إنها إمرأة لطيفة الغريب أنها تشبه أمي كثيراً لكنها أكبر) طبعاً لأن المرض و المصائب جعلت سالي تبدو أكبر من خالتها .
بينما ارتاحت ماريون أكثر لإيملي التي بادلتها الشعور ، فأرتها رسومها و حدثتها قليلاً عن طفولة إيميل و قالت لها : أتعرفين أشعر أن إيميل يميل إليك فما رأيك به ؟ (هذا جزء من خطة إيميل) فسكتت إيملي ، في تلك اللحظة سمعن صوت الجياد فودعن السيدة سالي وابنتها ، و قد سحبت إيملي يد صديقتها من العجلة ناسية أنها بدون معطف .

في الخارج تفاجئتا برجلين ملثمين بدل إيميل و قد حاولا الاعتداء على الفتاتين الجميلتين الغنيتين مستغلين خلو المكان ، في تلك اللحظة الحرجة وصل إيميل البطل فدافع عنهما ببسالة الفرسان ، و مع كل لكمة وجهها للرجلين زاد خفقان قلبين ، بقي كذلك حتى هرب الملثمان ، فشكرته الفتاتان لكنهما بقيتا صامتتين في العربة و قد تأكدت آن ماري من حبها لكن لم تبح ، بينما اكتشفت إيملي أنها أحبته خاصة عندما قارنته بمن أتى لخطبتها (إدوارد) الشاب الطائش ، و على عكس الأولى قررت إخباره لكن كيف ؟

في اليوم التالي أهدت إيملي إيميل كتعبير عن شكرها لوحة (العصافير) نرى في اللوحة عصفوراً يقاتل غرابين بينما و قفت عصفورتان إحداهما زرقاء (ترمز لآن ماري) و عصفورة متعددة الألوان (إيميلي الفنانة) و هي تحمل وردة حمراء ، و لتأكيد المغزى كتبت بخط صغير تحت التوقيع (هل تقبل) ، فهم إيميل المغزى فكتب لها (أقبل شكراً على الهدية آنسة إيميلي) .

للأسف فهمت آن ماري المغزى أيضاً و قرأت ما كتب إيميل ، فشعرت بطعنة في قلبها من قبل شخصين أحبتهما ، يومها أغلقت على نفسها باب غرفتها و بكت كما تشاء ثم أخيراً قالت : سأقتل حلمك في المهد يا إيملي الملطخة بالألوان ..

الرسالة السامة :

في الصباح الباكر أمرت (أنور البستاني) أن يحمل رسالة مستعجلة إلى الكونتيسة إيملي بيل ، و في نفس اليوم أرسلت إيميل ليسأل عن أحوال إيملي ، فقابلته الكونتيسة لأن زوجها كان مسافراً سألته : ماذا تريد ؟
قال : جئت أسأل عن أحوال الآنسة إيملي من قبل …
فاحمر وجه الكونتيسة : صحيح ما جاء في الرسالة إذاً ، أخبرني من أنت و ماذا تريد من ابنتي ؟
فرد باستغراب : لا أعرف عن أي رسالة تتكلمين لكنني إيميل جلكسي سائق عربة الكونتيسة روز ماري أم الأنسة آن ماري صديقة ابنتك التي لا أنوي بها شراً ، كنت أود طلب يدها فقط .

أغمي على الكونتيسة لدى سماعها هذا الكلام ، فهرعت ابنتها و الخادمات لنجدتها فمازلن يصببن عليها الماء حتى استيقظت عندها نظرت لإيميل بكره قائلة : لا تحلم بابنتي إيميل جلكسي .

يومها طُرد إيميل من قصر الكونتيسة إيملي بيل بينما حُبست إيملي في غرفتها ، و انتشر خبر الحبيبين بين الناس بسبب ثرثرة الخدم ، وبدأت آن ماري تشعر بتأنيب الضمير من رسالتها التي أشعلت المشكلة (إيميل قادم انتبهي لابنتك الملطخة بالألوان كونتيسة . توقيع : فاعل خير) ، بينما منعت الكونتيسة روز ماري ابنتها من ركوب العربة وحدها مع إيميل ؛ خوفا عليها من أزمة عاطفية كإيملي ، و لم تطرد إيميل ، و لاحقاً زعم بعضهم أنهم لمحوا شيطاناً أسود يقف كل ليلة بالقرب من قصر الكونتيسة يلوح بيده و كان شبح مخيف يلوح له من داخل القصر !

يتبع ..
 

تاريخ النشر : 2017-12-10

فاطمة مرار

السعودية
guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى