أدب الرعب والعام

القلب قد أضناه عشق الجمال

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : ​​​​​​​ https://www.facebook.com/profile.php?id=100012779294789

القلب قد أضناه عشق الجمال
ثم رفع يديه ليلتقط التراب المقدس الذي بدأت تتحول ماريا إليه

متفردة بالجمال بينما يتجمع الباقون بالقبح ، قد كتب عليها الموت بينما قد ملكوا هم الخلود

***

قد امتد الجمال حتى بلغ الكمال ، قد حُجِب القمر قد فني الجمال في قريتها و لم يبقَ إلا هي ، حتى سماؤهم ملأتها السحب و غابت عنها الشمس و ما عادت تسطع ، فصار صيفهم صقيعاً كالشتاء و صار الشتاء أشد صقيعاً ، فما عادت وجوههم تعرف للدفء معنى ، حتى احتكاك أيديهم لم يعد يحدث حتى أقل حرارة

عم عليهم القبح و البلاء و زاد عليهم فناء الأطفال و قلة الرجال و كبر النساء و موت الكهلان و كثرة الضباب حول معمورتهم المقدر لها الزوال ، حتى لون دمائهم الأحمر الجميل صار أسوداً و لزجا كالقطمير بل أشد سواداً و لزوجة .. هكذا صار حالهم بعد أن ضُرِب بهم المثل بالجمال .

قيل يوماً قبل نصف قرن أن الجمال عم أهل القرية حتى بلغ الجماد ، و تفاخرت أكثرهم جمالاً بنضارة بشرتها و جمال قوامها ، و رأت نفسها تعلو على الشمس شأناً حتى تحدت الشمس قائلةً أنها وحدها كافية ، فما كانت القرية لتحتاج شمسان على حد قولها ، و هلل لها الجميع لم يظنوا أنها ستختفي يوماً ما و سيختفي معها جمال قريتها و مدينتها ، و صار رجالها كالذباب ، بل أكثر قذارة و دمامة ، و صارت ماري الجميلة مجرد أسطورة يتداولها الناس متحسرين على ماضي صار كالرمال تتقاذفه الرياح حتى يتلاشى تماماً .

صارت ماري أسطورة و ظنوا أن البؤس حل عليهم لرحيلها ، ظنوها مصدر جمالهم و سعادتهم و هنائهم ، لم يظنوا يوماً أنها من جلبت عليهم البؤس بتحديها الشمس ، فوقع عليهم البلاء جزاءً لهم لتكبرهم و وقع عليهم عقاب الشمس .. هذا ما قالته الكاهنات عبدة الشمس و القبح ، و قد صدقهن الناس لانعدام الأسباب و غموض الأحداث و قدمها ، و قلة معاصريها ، فقلما ترى شيخاً قد عاصرها و لم يتبقَ غير العجائز و كبار الكاهنات ممن عرفنها شخصياً و لم يذكرنها يوماً إلا بالسوء ، و الكهنة الرجال ممن عشقوها و يذكرونها دائماً بالحسن .

ما عاد في الدولة أطفال بعد إيجاد آخر الرضع مشنوقاً على إحدى الأشجار القريبة من البحيرة ، و لم يتبقَّ في قريتهم إلا دميمات الوجه و العجائز ، و ما عادت تسمع أو تفقه للحسناء معنى إلا قليل من الجميلات نجون ..

اتفق الرجال على تزويج من تبقى من صغار الفتيات المليحات ، كن في ربيع أعمارهن أو في الثلاثين أم صغيرات في الأعمار “تزوجوا من تبقى ما دمن يلدن” هذا ما اتفقوا عليه و فرضوا قانون إجبار العذارى على الزواج ، فلم يعد يوجد مجال للهرب و الزواج من الخارج ، فقد صارت قريتهم محاصرة بضباب مميت يقتل كل من يريد الخروج ، بعدما وقع عليهم غضب الشمس ، فاتفقوا على بدء الخطة في اليوم التالي ..

لم يمسو ليلةً واحدة حتى وجدوا أجساد من تبقى من النساء تطفو على سطح البحيرة منتحرات غرقاً و ورقة معلقة على إحدى الأشجار كتب عليها :

” لقد وسوس لنا لفعل هذا ، لقد رأينا كل شيء ، سنحبل و نلد ستفرح القرية و تقيم الاحتفالات التي افتقدتها المدينة لكننا سنلد مسوخاً مشوهة السحنة ، ستفزعون و تدعون أننا عاشرنا الشيطان لنلد ، و ما كنا لنعاشر شياطيناً فنحن نملك كثيراً منهم ، ستقتلون أطفالنا و نحن نأبى أن نلد مسوخاً و أنتم سترفضون مسوخنا ، نأبى أن نتركهم يعانون الكراهية فقتلنا أنفسنا لنبتعد عن هذا المصير ، فقتلنا أطفالنا قبل وجودهم “

قد صارت الولادة مستحيلة كما النجاة ، فجميع النساء عجائز و هل من عجوز تلد ؟ و هل من رجل ليتزوج ذات الستين و هو مايزال فتياً في العشرين ، فما كان ليهدر ربيع العمر بجانب عجوز أخرى في بيته .. فظلوا ينتظرون الموت و الزوال حتى ظهرت (هي) ..

كانت جميلة تختلف عن كل ما يحيط بها من قبح و دمار و قذارة ، لم يروها من قبل في قريتهم إن لم يعرفوا سبب غياب الشمس لقالوا أنهم لا حاجة لهم لشمسين ، فشمس على أرضهم تكفي ، تناسوا ما حل بهم من بلاء و عقاب ، تناسوا غياب الشمس ، تناسوا كل شيء في سبيل إرضاء معبودهم الجديد تلك التي كانت في نظرهم إلهة ..

جميلة في نظرهم تتفرد هي بالجمال بينما يجمعون هم على القبح ، عيون الرجال تبعتها تراقبها يتمنى الواحد منهم أن يمتلكها ، أن يستطيع مغازلتها ، فقد مضى من الوقت الكثير منذ استطاعوا مغازلة إحداهن ، فمن يتغزل في جمال العجائز !
أين تسكن؟ من أين جاءت؟ ما اسمها؟ كم عمرها ؟
لا يعرفون عنها إلا أنها فاقت القمر جمالاً ، القمر ؛ متى كانت آخر مرة رؤوا فيها قرصه الفضي الجميل ليقارنوه بها ؟ لا يفقهون عن القمر شيئاً إلا أنه مقياس لمقارنة الجمال ، ناسين أنه يعكس نور الشمس تلك التي عاقبتهم أشد العقاب ، لم يكن أحدهم ليجرؤ على سؤالها خوفاً من سخرية على هيئته أو لتجاهل يضعه تحت وطأة الإحراج التي ما كان ليتحملها أحدهم .. كلما استطاعوا فعله متابتعها بأعينهم حتى تجرأ كبيرهم ليسألها إنهاءها لهذا العبث الذي يترامى أمامه ، فقد تعرف طريقاً للخروج من تلك الخرائب التي كانت يوماً منازل تتفاخر بالجمال كما أهلها ..

سُئِلت فقالت هاربة من مجهول ، و ما وجدت ملجأ تأتي إليه من سخرية الأقدار أن تهرب من مجهولها إلى مجهولهم ، سُئِلت عن المجهول و كيف أتت فبكت ، بكت بحرقة ، بكت دموعاً صادقة كأن ذكر المجهول وحده يؤلمها ، كأنه سبب الدماء التي في قدميها ..ثم عادت إلى مضجعها محمرة العينين إثر دمعها ، يتبعها نفر من الرجال لحمايتها أو هكذا أدعو ، قائلين أنها آخر آمالهم للنجاة لكن للنساء آراء أخرى و شكوكهن تتطاير لتبدأ رائحة الشك تفوح و انشقاق في القرية يظهر .

حزب النساء اجتمع ، كبار عجائزهن يرين في وجود تلك مجهولة الاسم خطراً كأنها تذكرهن بما فعلته ماري و بما قد تجلبه من دمار فوق دمارهم الذي يعيشوه ، لكن خلف ستار خوفهن على وطنهن كانت تقبع الغيرة ، فداخلهن صرخات تدعو لقتلها حاسدةً لها .. أتمتلك هي الجمال بينما نجبر نحن على التعايش بالقبح و الكبر ؟! فلماذا منحت هي ما لم يعدن يمتلكنه ؟ بل و كيف لم يتبدد بعد اختلاطها بأجواء مدينتهم الفاسدة !

في الجانب الآخر كان حزب الرجال مرابطاً حول بيت جميلتهم و منفذهم للنجاة بدون أسلحة أو دروع ، فما حاجتهم للدروع و عدوهم عجائز ملكهن الكبر و أحاط بهن الوهن ، قد أحسو عصياناً من النساء وأحسوا برائحة الغيرة و رغبتهن في الخلاص من إلهة الجمال خاصتهم ، و خلف أستار الحظر و رغبتهم في النجاة كانت تقبع شهوتهم الدنيئة في انتظار الفرصة لاستمالتها و إرجاع أمجاد ماري الجميلة عاهرتهم الكبرى كما يسميها النساء و العجائز ممن عاصرنها ، و إلهة الجمال أفروديت كما أحب الشيوخ تسميتها ممن عاصروها كذلك ، و الشباب مغيب العينين معدوم البصيرة يتبع أهواء العجائز و أمانيهم المغطاة بالغبار مصدقاً ما يقال له من قصص تلاعبت بها الأقاويل و زاد عليها تلقيح الكهنة و الكاهنات لتحقيق أطماع و إضافةً لأتباع قد أعمتهم الشهوة و الغيرة كما الحزبين الآخران 

ظن حزب الكهنة أنها ماري قد بُعِثت لهم و هبطت من الفردوس بعد أن أرضت الشمس لإنهاء العقاب ، لكن حزب الكاهنات ممن اختلقن قصة الشمس مع ماري أصررن على العصيان و تلقيبها بالشيطانة مبعوثة من عند ليليث لإكمال العذاب و اختبار الإيمان .

و في وادٍ آخر ظل نفر من الشباب و بالأحرى آخر من تبقى من الشباب بعيداً عن الصراعات الحزبية التي يرونها أسخف من السخافة ، فما كانت لامرأة مهما فاق جمالها القمر كما يدعون لتغير في أمر القرية من شيء في نظرهم ، كانت جميلة و شيئاً يتمنون الحصول عليه لإمتاع شهوتهم ، بل و ربما استمالتها و الزواج منها و الإنجاب ليكون من يتزوجه محط الأنظار و منقذهم من مصير الزوال المعلوم .

تسللوا للوصول إلى منزلها لمشاهدة وجهها الجميل ، فقد ظن اغلبهم أن مصيرهم الزواج من القبيحات ممن تبقى من النساء اليافعات ، فآخر الجميلات متن غرقاً في حادثة الانتحار الشهيرة

انتظروا خروجها عند باب منزلها ما عدا واحداً ظل يراقبها من النافذة ، كانت تجلس أمام المرآة تتلاعب بخصيلات شعرها المتدلي على كتفها و على وجهها شبه ابتسامة ، و بدا وجهها على المرآة كأنها تهمس ببضع كلمات لأحدهم ثم قامت ترقص و تتغنى بكلمات أرعبت الشاب الذي لم يبدأ بالهرب حتى سمع صرخات الرجال :
“إنهن لا يمتن”

الكثير من العجائز يجرين و يهرولن إلى بيت الجميلة ماريا كما سموها تيمناً بماري ، اختبأ الشاب يراقب الكثير من العجائز و البشعات و الكاهنات خلفهن تعلو صرخات الرجال المحذرة و دعوات الكهنة الراجية ، كل هذا وسط ذهول الشاب مما رآه ، فكيف لمجموعة من العجائز و النساء هزيمة الرجال و إن كانوا قليلي العدد !!

“نحن نعرف أنك تستخدمين (مورفيس) أيتها اللعينة اخرجي لنا و واجهينا بدلاً من ألاعيبك الرخيصة ، نحن نعرف أنك ماري”

“امازلتن تتذكرن وجهي بعد كل هذه السنون ؟ خمسين عاماً كانت كافية لتنسين هيئتي لكن غيرتكن انستكن كل شيء بغرض الانتقام ، ألم يكفيكن طردي لتقمن بتشويه سيرتي حمداً لأمون أن بقى بعض العجائز ليحسنوا ذكري”

ثم خرجت تتراقص ، خلفها شبيه الملاك عاري الصدر يمتلك جناحان أبيضان ، ثم قالت ناظرة إلى الملاك :
“رحب بهم يا مورفيس ، هؤلاء صديقاتي و بناتهن الدميمات ، أخبرتك عنهن من قبل”

“أمازلت تملكين كبرياءً بأن تقومي بإغواء مورفيس بل و شكر آمون بعدما كنت سبباً في إغضابه”

“أتصدقن ما اختلقتن حقاً ! على كل حال لم يعد لي عمل هنا لقد انتقمت لنفسي و لأبي ، أتعرفون ماذا حدث لي بعد طردي ؟ لقد ظللت وحيدة في هذا الظلام بعد تعرضي للظلم منكن ، حتى انتقمت لي الشمس و جاءني مورفيس مخبراً إياي بأن آمون قد انتقم لي و استجاب لصلواتي وسط الظلام و أنار لي الدرب لأعود إليكن ، و يريدني لإكمال العقاب عليكن ، بل وعدني بالزواج عندما أرتقي إلى النعيم لم أكن أعلم أن أحد الملائكة قد يقع في عشقي ، بل و ينقل أمانيَّ إلى آمون مترجياً فوق سموي إلى النعيم عقابكن و الانتقام منكن ، فشكراً لك يا مورفيس “

“و ما ذنب النساء و القرية ما ذنب أطفالنا و أحفادنا ؟ لماذا قتلتهن ؟ “

“و ما ذنبي أنا لتطردنني إلى الظلام ؟ و ما ذنب أبي لتذبحوه أمامي ؟ تقتلون عائلتي و تشردون أطفالها و تتكلمن عن الذنب و الظلم و كل هذا لحماية رجالكن مني .. أخوفكم على رجالكم و غيرتكم يدفعكم إلى قتل عائلتي و طردي و ظلمي و تشويه سيرتي ؟ فشكراً لمن استجاب لصلواتي و أقام العدل عليكن بعدما نشرتم الظلم و الفساد ، كان هذا خير عقاب لكن”

قالت إحداهن باكية :
” لكن كيف حافظت على هيئتك حتى بعد مرور نصف قرن من الزمان منذ طردناك ؟ “

” ألم تلاحظن جمالي و نضارة بشرتي مقارنة بكبركن و عجزكن ؟ أعرف أنكم قمتن بالتضحية بشبابكن لأحد الشياطين مقابل الخلود لانتظاري ، فقمت بالعكس لكن مع مورفيس ، لعودة هيئتي كما كانت مقابل موتي بعد الانتهاء منكن”

ثم نظرت إلى الملاك الطافي خلفها و قالت :
” ألا يتطلب الاتفاق معك هذا يا مورفيس ؟ “

ثم أعادت النظر إلى النساء ثانية و قالت :

” عليكن شكر مورفيس فهو من دفع النساء للانتحار و أراهن الكوابيس و خلطها بالواقع ، و هو من دفع هذا الشاب المختبئ في الغابة إلى سماع كلمات أغنيتي ، فكيف لا يستيطع و هو إله الأحلام و أحد ملائكة السماء و ابن إله النوم “

ثم رفعت يديها إلى السماء و قالت ضاحكة أهذه هي النهاية يا مورفيس ؟ استرسلني إلى الفردوس و تعيدني تراباً ؟استسلمني إلى من يستحق جمالي ؟

ركع مورفيس على قدميه بخضوع قائلاً :

“ستعودين تراباً و ستبعثين لنا في السماء جميلة كما كنت و ستظلين هناك ، سيمكنني احتضانك و ملامستك ، قد حققت أحلامك كما تمنيت فلمَ لا تنالين فخر تحقيق حلم إله الأحلام و تعودين إلى حيث تنتمين يا من ولدت خطأ في الأرض يا ماري”

ثم رفع يديه ليلتقط التراب المقدس الذي بدأت تتحول ماريا إليه وسط بكاء الرجال و صراخ و لعنات النساء ، فستبقى النساء عجائز لا يحق لهن طلب الموت حتى ، و سيموت رجالهن واحداً واحداً ناقمين عليهن ، سعداءً للخلاص منهن ، يغنين تلك الأغنية اسعتداداً لملاقاة ماري في الفردوس الذي لن يدركنه باقي النساء ، في النهاية سيخلدن في الأرض بينما يفنى من حاولن حمايته ، و تمرح من كرهنها في السماء مع الملائكة .

النهاية <<

ملاحظة : 
مورفيس هو إله الأحلام في الميثولوجيا الإغريقية لكنني جعلته ملاكاً للأحلام ليتناسب مع سياق القصة .. معلومات اخرى على ويكيبيديا

* صدر لي من دار لمحة كتاب سبل الضياع ، سيكون متوفراً في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2018 في صالة اتنين ، أي معلومات أخرى تابعوا صفحة الدار
 

القلب قد أضناه عشق الجمال
 

تاريخ النشر : 2018-02-04

guest
53 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى