أشباح و ارواح

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح

بقلم : اياد العطار
للتواصل : [email protected]

هل يمكن لطبيب ان يعود من عالم الاموات ليداوي مرضى الاحياء؟!

قد يختلف الجميع حول طبيعة المرض الذي أصاب الشاب البرازيلي خوسيه بيدرو دي فريتاس , لكنهم يتفقون على أنه كان فيما مضى شخصا مرحا لا تفارق الضحكة شفتاه بالرغم من فقره وبؤسه , وفجأة , بين ليلة وضحاها , أنقلب حاله رأسا على عقب , أصبح متجهما حزينا طوال الوقت , يتحدث عن أطياف غامضة تدهم عقله , تؤرق ليله , تصدع رأسه بأوجاع ونوبات طويلة من الهستيريا والرعب ..

– “ما الذي تراه بالضبط” : تساءل الطبيب العجوز وهو يضع أصابعه على معصم خوسيه ليجس نبضه .

– “الأمر أشبه .. أشبه بومضات خاطفة تمرق في رأسي” : قال خوسيه متلعثما وهو يحاول إيجاد وصف مناسب , وأستدرك قائلا : “أرى أطياف أشخاص , ويكون هناك دوما نور ساطع يغشى بصري فلا أتبين سيمائهم وأشكالهم , لكني أسمعهم يتحدثون”.

– “وماذا يقولون؟”.

– “لا أدري .. يتكلمون لغة لا أفهمها” : أجاب خوسيه.

– “وهل تأتيك هذه الأطياف في منامك فقط؟”.

– “غالبا .. لكن أحيانا أراها في يقظتي أيضا ، ودائما ما يترافق ظهورها مع صداع شديد” : قال خوسيه بصوت متهدج ثم سرعان ما فقد رباطة جأشه فأنساب دمعه وأنشج قائلا : “لا أدري ما الذي حل بي , ثلاث سنوات وأنا على هذه الحال , فقدت كل رغبة بالحياة , لم أعد أتذوق الطعام , صرت أخشى المنام .. لقد تعبت , أرجوك ساعدني يا دكتور”.

– “لا بأس عليك يا بني” : قال الطبيب العجوز وهو يربت بلطف على كتف خوسيه ثم تابع قائلا : “لا أظنك تعاني مرضا عضويا , إنها حالة نفسية بالتأكيد , سأعطيك أقراصا عليك أن تأخذها بانتظام , وستتحسن حالتك بسرعة” ثم كتب شيئا على ورقة بيضاء ناولها لخوسيه وطلب منه الانصراف.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
خوسيه عانى من المرض طويلا

ولم يكن هذا أول طبيب يزوره خوسيه , ولا كانت تلك أول وصفة دواء يأخذها , وليست أيضا الأولى التي تفشل في علاج حالته , فلقد زار أطباء عديدين على مدى ثلاثة أعوام , لم ينفعوه بشيء , حتى بلغ اليأس منه كل مبلغ , وأخذ الإنهاك من جسده كل مأخذ , وظن أن لا علاج لحالته , ولا دواء لعلته , وأنها نهايته.

لكن أحيانا , حينما يبلغ اليأس مداه , ويصل العذاب أقصاه .. يأتي الفرج من حيث لا يحتسب الإنسان , وخوسيه كان على موعد مع حدث سيغير مجرى حياته بالكامل ويخرجه من دوامة اليأس والقنوط إلى الأبد.

في ليلة عاصفة وماطرة أواخر عام 1950 , أوى خوسيه إلى فراشه باكرا ، كان مرهقا ولديه صداع , وما أن غط في النوم حتى راوده حلم غريب .. شاهد نفسه واقفا في ممر طويل وأمامه مباشرة يوجد باب خشبي يشبه أبواب صالات العمليات , وتناهى إلى سمعه صوت أشخاص يتحدثون من وراء ذلك الباب , ومع أنه لم يفهم حرفا واحدا مما يقولونه , إلا أنه أدرك فورا بأنهم يتكلمون نفس اللغة الغامضة التي تتحدث بها أطيافه .

لم يدر خوسيه ماذا عليه أن يفعل , كان الممر طويلا جدا , كأنه بلا نهاية , وخاليا تماما من الأبواب والشبابيك والأثاث , ليس فيه حتى كرسي للجوس , لا شيء سوى ذلك الباب الخشبي الكبير , فلم يجد خوسيه بدا من فتحه , وما أن فعل ذلك حتى وجد نفسه على اعتاب صالة كبيرة , وهناك مجموعة من الرجال والنساء يقفون وسطها , الرجال يرتدون معاطف بيضاء طويلة , من الواضح أنهم أطباء , والنساء يلبسن أثوابا بيضاء ويعتمرن قبعات بيضاء صغيرة , كان جليا بأنهن ممرضات , وجميعهم ملتفون حول طاولة حديدية يرقد فوقها رجل صدره مشقوق وأحشائه ظاهرة للعيان , كأنه يخضع لعملية جراحية , لكنه بكامل وعيه ولا يبدو عليه أي ألم أو توتر. وهناك رجل طويل القامة , أصلع الرأس , نحيل البنية , عليه هيئة الوقار , يقف وسط الجمع وكل الأنظار مصوبة إليه , كان من الواضح بأنه أستاذهم , وبأنه هو الذي يجري العملية أما الآخرون فيساعدونه ويتعلمون منه.

والغريب أن أحدا لم يلتفت أو يعر خوسيه أي اهتمام عند دخوله الصالة , كأنه غير موجود . كان اهتمام الجميع منصبا فقط على ما يقوله ويفعله ذلك الرجل الأصلع الطويل. بدا الأمر وكأنه مشهد من فيلم سينمائي قديم معروض على شاشة سينما لا يجلس على مقاعدها سوى متفرج واحد .. خوسيه ! .. ثم فجأة توقف المشهد وجمد الجميع في أماكنهم , باستثناء الرجل الطويل الأصلع , إذ رفع رأسه ورمق خوسيه بنظرة ثاقبة ثم بدأ يتحدث إليه , ومع أن خوسيه لم يفقه حرفا واحدا من اللغة التي ينطق بها الرجل , إلا أنه كان قادرا على فهم جميع ما يقوله !! ..

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
قدم نفسه على انه الطبيب ادولف فريتز

الرجل قدم نفسه على أنه طبيب أسمه أدولف فريتز , ولد في مدينة ميونخ الألمانية منتصف القرن التاسع عشر , وحينما كان في الرابعة من عمره , وبسبب إصابة والده بمرض الربو , وبناء على نصيحة الأطباء , انتقلت عائلته إلى بولندا حيث الجو أنقى وأنظف , لكن حالة والده ساءت هناك فلفظ أنفاسه , ولم يطل الوقت حتى لحقت به زوجته , فظل الفتى وحيدا يتيما وأضطر للعمل في سن مبكرة لإعالة نفسه . وبرغم ظروفه الصعبة أستطاع بجهوده ومثابرته أن يكمل دراسته بتفوق ويدخل كلية الطب . وقبل شهر واحد من تخرجه , بينما كان خفرا في مناوبة تدريب ليلية بإحدى المستشفيات , دخل عليه في ساعة متأخرة ضابط كبير بالجيش يحمل بين ذراعيه طفلة صغيرة فاقدة للوعي , كانت الطفلة ابنة الضابط , وقد عمل فريتز كل ما بوسعه لإنقاذها , لكنها ماتت , فأتهمه الوالد المكلوم بأنه هو الذي تسبب بموتها , وزج به في السجن بتهم باطلة حيث خضع لتعذيب مطول وعاش ظروفا سيئة للغاية , لكن برغم تلك الظروف لم يكن يتوانى عن تقديم العون الطبي لزملائه السجناء متى ما أستطاع إلى ذلك سبيلا , وبمساعدة بعض هؤلاء السجناء الممتنين تمكن عام 1914 من الفرار من السجن , ذهب إلى استونيا حيث عمل طبيبا هناك لفترة قبل أن يجبروه على الالتحاق بالجيش لمعالجة الجرحى. وقبيل نهاية الحرب العالمية الأولى بأشهر معدودات , عام 1918 , وبينما كان يزحف وسط خندق محاولا الوصول إلى جندي جريح في الخطوط الأمامية , سقطت قذيفة بالقرب منه فقتلته بالحال .. لقد مات من دون أن ينجز مهمته , لم يستطع إنقاذ الجندي الجريح , فظلت روحه عالقة , وتوجب عليه الاستمرار في تقديم المساعدة الطبية لمن يحتاجها ، يعاونه في ذلك لفيف من الأطباء والممرضات الأشباح , لكن قدراته محدودة جدا لكونه شبح , ولهذا هو بحاجة إلى استعارة جسد شخص حي لكي يتمكن من مساعدة وعلاج مرضى الأحياء على أكمل وجه ..

“ومن يكون هذا الشخص الذي تود إستعارة جسده يا سيدي؟” : سأل خوسيه بنبرة متوجسة.

فأجابه الرجل بهدوء : “أنت يا خوسيه”.

وكانت تلك الإجابة كفيلة بجعل خوسيه ينتفض من نومه فزعا وهو يصرخ : “لا لست أنا .. لا لست أنا” .. وظل يرددها بهستيرية وهو يرتجف , ثم قفز عن سريره وفتح باب كوخه و راح يجري في الشارع الموحل كالمجنون , وزوجته من خلفه تلطم الخدود وتنادي الغوث الغوث , فخرج الجيران وراءه حتى أمسكوه وأعادوه عنوة إلى كوخه وهو في حال يرثى لها , يهذي ويهلوس ويبكي بلا توقف , وظن الجميع بأنه فقد عقله تماما هذه المرة.

في اليوم التالي أخذوه إلى كنيسة البلدة وطلبوا من كاهنها العجوز أن يجري عليه طقسا لطرد الأرواح الشريرة , لكن ذلك لم ينفعه بشيء , وظلت الكوابيس تقض مضجعه , مصحوبة دوما بذلك الصداع الرهيب ..

أخيرا , بعد عذاب طويل وصراع نفسي مرير , وبعد تكرار الكابوس أكثر من مرة , قرر خوسيه أن يختبر كلام الطبيب الشبح .. وذات يوم بينما هو عائد من عمله مهموما متفكرا , شاهد في طريقه صديقا قديما يسير على عكازين , وكان قد تعرض لحادث سبب له إعاقة دائمة , فمضى خوسيه نحوه وأمره بأن يرمي عكازيه فورا ويسير على رجليه فقط . الرجل نظر إلى خوسيه بارتياب وأستنكر طلبه , لكن خوسيه أصر , فجدد الرجل رفضه , وهنا مد خوسيه يده وأستل العكازين من الرجل وطوح بهما بعيدا وصرخ فيه قائلا : “أمشي .. هيا أمشي” . ولشدة دهشة الرجل فقد ظل واقفا ولم يسقط حينما أخذ خوسيه منه العكازين , وفعلا جرب أن يمشي , وأستطاع المشي بسهولة , ومن يومها زال عنه عوقه.

وفي حادثة أخرى لا تقل غرابة ، كان خوسيه وزوجته في زيارة لقريبة لهم مصابة بسرطان عنق الرحم ، ومرضها ميئوس منه ، كانت تحتضر ، وقد أجتمع أقاربها في منزلها ليلقوا نظرة وداع أخيرة عليها . وبينما الجميع جلوس بالقرب من سريرها بأنتظار مغادرة الروح لجسدها الواهن ، وقد خيم الحزن والوجوم على الوجوه ، إذ بخوسيه يقفز من مقعده فجأة ويركض نحو المطبخ ليعود بعد برهة وبيده سكين ، فيجلس عند قدمي المرأة المريضة ويكشف الغطاء عنها ثم يقوم بغرز السكين داخل جسدها ، ويحركه قليلا ، ثم يسحبه ، فتخرج معه كتلة مشوهة من اللحم والدم ..

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
اصبح معروفا بأسم “ذو السكين الصدئة”

كل هذا حدث بسرعة خاطفة وسط دهشة جميع الحاضرين الذين ظنوا بأنها نوبة أخرى من نوبات الجنون التي تعتري خوسيه من حين لآخر ، لكن الدهشة سرعان ما تحولت إلى ذهول ، فالمرأة التي كانت تحتضر قبل دقائق معدودات فتحت عينيها وطلبت طعاما ، قالت بأنها جائعة! .. وبعد ساعات قليلة كانت قد أستعادت حيويتها وقدرتها على المشي ، فأخذوها إلى المستشفى ، وبإجراء الفحوصات تبين بأن الورم قد زال بالكامل وبأنها شفيت تماما.

هذه الحوادث الخارقة أصبحت حديث الناس في بلدة خوسيه , وسرعان ما تقاطر العشرات من أبناءها على كوخه المتواضع طالبين منه أن يقوم بمعالجة أمراضهم . ولم يكن خوسيه يرد شخصا أبدا . وكان قبل أن يباشر العلاج تعتريه حالة غريبة , فيتخشب جسده , ويتصبب عرقه , ويتغير طرز كلامه , فيبدأ بالحديث بلكنة ألمانية , زاعما بأن الطبيب فريتز قد تقمص جسده. ويقال بأنه كان قادرا على تشخيص المرض بمجرد النظر إلى المريض , وأنه يقوم بإجراء عمليات جراحية كبرى لاستئصال أورام سرطانية وعلاج مشاكل القلب والمعدة والعيون الخ .. بيديه العاريتين فقط , دون معقم أو مخدر , مستعينا فقط بأدوات المائدة وسكين صدئة , حتى صار مشهورا بـ “ذو السكين الصدئة” , وكانت الجروح التي يشقها في جسد المريض لا تنزف سوى النزر اليسير ، ولا تتلوث و لا تلتهب , وسرعان ما تبرأ , والأهم من كل ذلك هو أن أيا ممن تعالجوا على يده لم يشكو ألما سواء أثناء أو بعد العملية.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
حظي بشعبية كبيرة وتهافت الناس عليه طلبا للشفاء

شعبية خوسيه المتزايدة في بلدته انعكست على عمله , إذ أنتخبه زملاءه ممثلا لهم في نقابات عمال المناجم , وهذا المنصب كان مدخلا للحادثة الأشهر في سيرة حياته. ففي عام 1951 , زار مدينة كونغونهانس نائب مخضرم في البرلمان البرازيلي يدعى كارلوس البرتو بتنكورت , كانت الزيارة في أطار حملة انتخابية ، تضمنت إلقاء خطب على الجماهير , والالتقاء بوجوه وأعيان المدينة , ومن ضمنهم طبعا قادة النقابات العمالية . ولأن بلدة خوسيه تقع في ضواحي مدينة كونغونهانس ، فقد حضر للقاء النائب كممثل لعمال المناجم , فأعجب النائب بشخصيته إيما أعجاب ، خصوصا بعدما لاحظ شعبيته الطاغية بين الناس , وطلب منه أن يرافقه في زيارته القادمة إلى مدينة بيلو هوريزونتي المجاورة , فوافق خوسيه على ذلك . وكان من الطبيعي أن ينزل في نفس الفندق الذي نزل فيه النائب بإعتباره ضيفا عليه .

اليوم الأول للزيارة كان طويلا وحافلا باللقاءات والاجتماعات , وقد عاد الجميع في ختامه إلى غرفهم في الفندق وهم في غاية التعب والإرهاق ، وسرعان ما غطوا في نوم عميق , لكن النائب لم يغمض له جفن , ظل يتقلب في سريره حتى ساعة متأخرة من الليل , يفكر مهموما في أمر جلل كان قد أخفاه عن الجميع , فالأطباء كانوا قد شخصوا إصابته بمرض سرطان الرئة ونصحوه بالسفر إلى الولايات المتحدة بأسرع وقت للعلاج في مستشفياتها المتطورة , مع أمل ضئيل بالشفاء . لكنه قرر تأجيل السفر إلى حين الانتهاء من حملته الانتخابية . وبينما هو يفكر مهموما في مآلات مرضه , وقد أستبد به القلق فسلب المنام من عينيه , إذ بشخص يفتح عليه باب حجرته ويشعل النور , ففزع النائب , وسرعان ما تبين له بأن هذا الدخيل لم يكن سوى خوسيه وقد تقمص هيئة عجيبة حاملا بيده شفرة حلاقة.

النائب أراد أن يقوم من فراشه ليطلب النجدة , لكنه أحس وكأنما هناك يد خفية قبضت على جسده وثبتته إلى السرير , وسرعان ما فقد وعيه.

في الصباح أستيقظ النائب على مشهد مرعب , فقميصه ممزق وعليه بقع دم متيبسة ، وهناك جرح صغير في صدره , فهب مهرولا إلى حجرة خوسيه ليسأله عما جرى ليلة البارحة , لكن خوسيه أنكر أن يكون قد دخل حجرة النائب , وقال بأنه لا يذكر شيء , ثم أخبر النائب عن قدراته العلاجية ، وكيف أنه يقوم بمعالجة الناس أحيانا بغير وعي منه. فلم يدر النائب ماذا يقول ، وما بين مصدق ومكذب توجه إلى أقرب مستشفى لإجراء فحوصات , وكانت المفاجأة الكبرى , إذ أخبره الأطباء بعد أن أخذوا صورا بالأشعة لصدره بأن الورم السرطاني قد زال بالكامل, وبأنه الآن سليم معافى وبكامل صحته.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
تصدرت الحادثة الصحف البرازيلية

هذه الواقعة الغريبة تصدرت صفحات الجرائد البرازيلية ، وجرت أخبارها على لسان الصغير قبل الكبير ، كيف لا وهي قد جاءت مشفوعة بشهادة نائب مرموق في البرلمان من المستبعد كذبه . وسرعان ما تقاطر آلاف المرضى من جميع أنحاء البلاد على خوسيه ، فقرر أن يترك عمله في المنجم ليتفرغ لعلاجهم ، وأفتتح لنفسه عيادة ، عبارة عن دكان صغير ، في مدينة كونغونهانس ، لاستقبال مرضاه ومعالجتهم بالمجان. ولم يكن يستغرق سوى دقائق معدودة مع كل مريض ، أيا ما كانت صعوبة مرضه .

وعلى مدار العشرين عاما اللاحقة تداول الناس قصصا وحكايات كثيرة عن خوارق خوسيه ، مما يطول ذكره ، ويعجز القلم عن حصره ، لذا سنكتفي بشهادات قليلة ، كتلك التي رواها طبيب أسنان أسمه كارلوس كروز ، كانت شقيقة زوجته ، وتدعى سونيا ، قد أصيبت بسرطان الكبد , وقد بذلوا جهودا جبارة في محاولة علاجها ، خاصة وأن والدها كان جراحا معروفا مخضرما ، لكن جميع الجهود باءت بالفشل ، فالمرض الخبيث أستفحل ، وأصبح وضعها ميئوسا منه.

وبالطبع ما كان لوالد الفتاة ، الجراح المشهور ، ولا للطبيب كارلوس ، أن يؤمنا بالخوراق ، كانا في الواقع يعتبران القصص التي يتناقلها الناس عن المعالجين الروحانيين مجرد خرافات وضحك على الذقون . لكن المرضى اليائسون ، أمثال سونيا ، كانوا يحاولون التعلق والتشبث بأي بصيص أمل ، لذلك توسلت الفتاة بوالدها أن يأخذها إلى عيادة خوسيه بعد أن سمعت ما يتناقله الناس عن خوارقه . وتحت إلحاحها الشديد ، وبما أن حالتها ميئوس منها ، وليس هناك شيء ليخسروه ، فقد وافق الأب في أخذها على مضض ، ورافقهم الطبيب كارلوس.

ويصف لنا الطبيب كارلوس كيف أنهم وقفوا في صف طويل من الناس أمام عيادة خوسيه المتواضعة ، وبعد عدة ساعات من الأنتظار وصل دورهم فدخلوا ليجدوا خوسيه جالسا على كرسي خشبي متهالك وأمامه منضدة صغيرة يوجد عليها بعض أدوات المائدة ، وورقة وقلم ، وكيس صغير من القطن ، أما السرير الذي من المفترض أن يتمدد عليه المريض فلم يكن سوى صفحات جرائد مفروشة على الأرض! .. المذهل في الأمر ، بحسب الطبيب كارلوس مرة أخرى ، هو أنهم قبل أن يتكلموا أو يقولوا أي شيء ، نظر خوسيه إلى الفتاة وقال لها : “أنت لديك سرطان في الكبد” . ثم طلب منها أن تتمدد فوق الجرائد على الأرض ، وأخذ سكين طعام من فوق المنضدة وفتح بواسطتها شقا صغيرا في بطن الفتاة ، كل هذا وهي في كامل وعيها غير مخدرة . وقد توقع الطبيب كارلوس أن يتسبب الجرح بنزف شديد ، لكن لشدة دهشته لم تخرج سوى بضعة قطرات من الدم ، ولم تظهر على محيا الفتاة أي مؤشرات على وجود ألم ، ثم شاهدوا خوسيه يأخذ مقصا ويدخله في الجرح ، ويرفع يده عن المقص ، فيبدأ المقص بالتحرك من تلقاء نفسه ، وسمعوا بوضوح صوت تقطيعه للانسجة داخل جسد الفتاة ، أستمر ذلك لحوالي دقيقة قبل أن يمسك خوسيه المقص مجددا ويخرجه من بطن الفتاة ، ثم يمد أصبعه داخل الجرح ويخرج كتلة دموية غامقة اللون ليرميها بعيدا ، وأخيرا وضع بعض القطن على الجرح وطلب من الفتاة أن تتنهض ، فقامت على الفور من دون أن تشعر بأي شيء ، بإستثناء دوار خفيف.

وفي الحال هرع والد الفتاة بأبنته إلى المستشفى ، وهو في غاية القلق مما صنعه خوسيه بجسدها ، وهناك قاموا بأخذ صور أشعة لها ، ليتبين بأن الورم السرطاني قد زال بالكامل ، وأن الفتاة شفيت تماما!.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
يجري العمليات بدون مخدر “بنج” ولا يستعمل سوى سكين صدئة

ولم يكن الطبيب كارلوس الوحيد من بين الأطباء الذين زاروا وشاهدوا العمليات التي يجريها خوسيه ، فهناك أطباء آخرون ، بعضهم من أوروبا والولايات المتحدة ، جاءوا ليتبينوا صحة القصص التي يتداولها الناس عن خوسيه. وبالنسبة لمعظم هؤلاء كان أكثر ما يميز خوسيه هو أنه ، وعلى العكس من أغلب المعالجين الروحانيين ، يسمح للجميع بأن يدخلوا ويراقبوا عن كثب العمليات التي يجريها لمرضاه ، بل يسمح أيضا بتصويرها بواسطة الكاميرات ، كما أن دكانه مضاء إضاءة جيدة بحيث يصعب ممارسة الخداع وخفة اليد . وهناك مقاطع فيديو نادرة ، قام بتصويرها فريق من الباحثين الامريكان ، موجودة على اليوتيوب تصور خوسيه خلال اجراءه لبعض عملياته الجراحية.

الجدير بالذكر ، هو أنه رغم شهرة وشعبية خوسيه الطاغية في البرازيل ، فقد تعرض للأعتقال مرتين بسبب ممارسته لمهنة الطب من دون رخصة قانونية . في المرة الاولى حكموا عليه بالسجن مدة خمسين شهرا ، ثم خفضوا الحكم الى النصف قبل أن يفرجوا عنه بعفو رئاسي ، ويقال بأن سبب العفو الرئاسي هو أن خوسيه عالج أبنة الرئيس من مرض خطير. أما المرة الثانية التي تعرض خوسيه فيها للاعتقال فكانت عام 1964 ، حيث أمضى في السجن سبعة أشهر كانوا خلالها يسمحون للمرضى بمراجعته في زنزانته.

وطبعا مثل معظم المعالجين الروحانيين فأن خوسيه كان يزعم بأن قواه هي هبة وهدية من الله ، وكان الجانب الديني يطغى على سلوكه وتعامله مع مرضاه . غير أن الكنيسة لم تكن على علاقة طيبة مع خوسيه ، ورفض القائمون عليها الأعتراف بقدراته على أنها هبة ربانية أو معجزة.

عام 1971 ، وصلت رحلة خوسيه ، المعروف في البرازيل بأسم “زا اريغو” ، إلى محطتها الأخيرة ، حيث كان على موعد مع حادث اصطدام سيارة مأساوي فقد على أثره حياته . والغريب أنه قبيل موته بفترة قصيرة اخبر المقربين منه بأن الطبيب فريتز ظهر له في المنام وأخبره بأنه سيموت عن قريب نتيجة تعرضه لحادث اصطدام. لكن موت خوسيه لم يطوي صفحة الطبيب فريتز ، إذ ظهر لاحقا أشخاص آخرون في البرازيل زعموا بأن روح الطبيب فريتز قد حلت في أجسادهم ، ومارسوا العلاج الروحاني بدورهم لسنوات طويلة ، منهم أوسكار وايلد وشقيقه ادفريادو ، اللذان لقيا حتفهما أيضا في حادث تصادم سيارة ، لتنتقل بعدها روح الطبيب فريتز إلى جسد اديسون كويروز ، الذي لقى حتفه مقتولا على يد شخص هاجمه بسكين . واليوم هناك عدد غير قليل من المعالجين الروحانيين في البرازيل يزعمون بأن روح الطبيب فريتز قد حلت في أجسادهم ، لعل أشهرهم المدعو روبنز فارياس ، و كليبر دا سيلفا.

العلاج الروحاني .. حقيقة أم وهم ؟

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
اسقليبيوس .. رب الشفاء لدى الاغريق

لو بحثت وفتشت عن معنى العلاج الروحاني لوجدت تباينا كبيرا في الآراء والتعريفات ، ما بين معالج وآخر ، ودين وآخر ، لكن الفكرة المشتركة تكمن في أن العارض الجسدي يكون نابعا بالأساس عن عارض روحي ، وبالتالي فأن شفاء الجسد يتطلب علاج الروح أولا. والعارض الروحي غالبا ما ينسب إلى تلبس الجان والشياطين والأشباح والسحر والحسد وغيرها من الأمور التي تتصل بعالم الغيب والروح.

طيب كيف يمكن معالجة العارض الروحي .. بحبة باندول أم بحقنة بنسلين ؟! .. لا طبعا ، بل باللجوء إلى الله ، فهو الشافي الذي علت قدرته فوق كل طب وعلم وتكنلوجيا. واللجوء إلى الله والتوسل بقدرته ليس أمرا مستحدثا أو وليد عصرنا الحاضر ، ولم يخترعه أولئك المعالجون الروحانيون الذين نراهم يتكاثرون بالجملة على شاشات التلفاز ، بل هو أمر ضارب في القدم ، فمنذ آلاف السنين آمن البشر بأن زيارة معبد إله ما , أو ضريح رجل صالح ما ، والتضرع بالدعاء ، وتقديم النذور ، ومباركة الكهنة ، وشرب الماء المقدس ، وترتيل الاناشيد الدينية .. كلها أمور يمكن أن تسكن الآلام وتشفي الأمراض. الأغريق مثلا ، أمنوا بأن زيارة معبد اسقليبيوس ، رب الشفاء ، يمكن أن تبرء الأمراض والجروح والأسقام ، فكان المرضى من جميع أنحاء اليونان يتوافدون على معبده طلبا للشفاء ، كانوا يعتقدون بأن مبيت ليلة واحدة على أرضية المعبد الحجرية حيث تسرح وتمرح الأفاعي المقدسة ، والحصول على مباركة الكهنة ، هي أمور يمكن أن تجلب لهم الراحة والشفاء.

ولم يختلف الأمر كثيرا في عصرنا الحاضر ، صحيح أن الأديان الوثنية أندثرت منذ زمن بعيد ، لكن الفكرة مازالت باقية كما هي ، أي اللجوء والتوسل إلى الله لمعالجة المرض ، وطبعا هذا الأمر يمكن أن يكون بين الأنسان وربه مباشرة ، بالتضرع والدعاء ، ويمكن أيضا أن يكون باللجوء إلى شخص ذو دراية وإلمام بشؤون الدين ونصوصه المقدسة والروحانيات عموما.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
المعالج الروحاني “الانجيلي” بيني هن يجري عرضا في الهند

وقد شهد مطلع القرن العشرين دفعة كبيرة في مجال العلاج الروحاني , خصوصا في الولايات المتحدة ، على يد بعض القساوسة الانجيليين ، إذ أصبحت جلسات العلاج تتم في حضور مئات وآلاف المتفرجين من المؤمنين والمشككين ، وصارت وسيلة فعالة لكسب الأتباع وزيادة المريدين وتحقيق الشهرة. وبظهور وسائل الاتصال الحديثة ، دخل التلفاز على الخط ، فصارت هناك قنوات متخصصة بالعلاج الروحاني ، وظهرت أساليب جديدة ترقى أحيانا إلى مصاف المهزلة ، إذ تحول بعض المعالجون الروحانيون إلى “سوبرمان” ، قادر على فعل كل شيء ولديه معرفة بكل شيء ، فهو تقي ورع متبحر في شؤون الدين ، وهو ساحر ملم بجميع أبواب وفنون الشعوذة ، وهو متنبأ عالم بما كان وسيكون ، وهو طبيب لديه من العشب ما يشفي كل مرض ..

أصبح المعالجون الروحانيون نجوما ، وشخصيات ذات شأن ، تتسابق القنوات للفوز بهم ، والتعاقد معهم ، رغم أن معظمهم أناس ذوي ثقافة بسيطة وتعليم متواضع. بإختصار تحول الأمر إلى تجارة ، وسيلة للكسب السريع ، وصار الأحتيال والكذب والتدليس ديدن وناموس معظم هؤلاء “التجار” الروحانيون ، فراحوا يتفنون في أختراع طرق جديدة لشفط جيوب المرضى وأستغلال آلامهم ومعاناتهم ، وإحدى هذه الطرق هي موضوع مقالنا ، أي ما يعرف بـ “الجراحة الروحية” ، والتي يمكن تعريفها بإختصار على أنها جراحة يجريها شخص غير متخصص بالطب ، بإستخدام ادوات بسيطة وغير طبية ، مثال على ذلك الجراحات التي كان بطل قصتنا السيد “خوسيه دي فريتاس” يجريها للناس ، لكنه لم يكن الرائد أو المخترع لهذا النوع من الجراحات ، بل سبقه إلى ذلك المعالجون الروحانيون الفلبينيون.

جذور الجراحة الروحية في الفلبين تعود إلى عصور قديمة ، وكانت قائمة أساسا على خفة اليد ، فالكاهن أو طبيب القرية كان يتظاهر بإخراج شيء من جسد المريض , كقطعة زجاج أو ورقة مطوية ، زاعما بأنها دخلت إلى جسده عن طريق السحر . في واقع الأمر الزجاجة أو الورقة لم تكن أصلا في جسم المريض ، بل كانت مخفية بين طيات ثياب الكاهن ، وبإستخدام خفة اليد ، كالساحر الذي نراه في عروض السيرك ، قام بإخراجها وأقنع المريض بأنها كانت موجودة داخل جسده ، وأنها كانت سبب مرضه وبلاءه. هذا النوع من الاحتيال تطور بالتدريج إلى ما بات يعرف بالجراحة الروحية ، وأصبح القائمون على هذا النوع من العلاج على قدر كبير من الحرفية بحيث تنطلي خدعهم حتى على أولئك المشككون من ذوي الثقافة والعلم. وكيف لا يحدث ذلك ، والمتفرج يرى بأم عينيه أصابع المعالج تنغرز في جسد المريض ، ويرى دما يتدفق ، وقطعا من النسيج واللحم المدمى تخرج من الجسد لترمى في أناء معدني وسط دهشة وذهول المتفرجين ، ثم يرى المعالج وهو يأخذ صليبا معدنيا يضعه فوق الجرح طالبا من الله أن يوقف النزيف ويبرء الجرح ، ليقوم بعدها بمسح الدم فيظهر الجلد سليما لم يمس!.

شهرة هؤلاء الجراحون بلغت حدا بحيث أصبح الناس من مختلف أنحاء العالم يتدفقون على الفلبين للعلاج. كان هناك 10 آلاف شخص يسافرون شهريا من الولايات المتحدة فقط إلى الفلبين في عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم لإجراء الجراحات الروحية. لكن هذا الزخم الكبير بدأ يفتر ويخبو شيئا فشيئا بحلول عقد السبعينات مع ظهور أحصائات ودراسات تؤكد أن معظم أولئك الذين اجروا جراحات روحية في الفلبين لم يشفوا على المدى الطويل ، بل ساءت حالتهم ، والكثير منهم ماتوا ، وأظهر تشريح جثثهم أن الأورام السرطانية التي زعم الجراحون الروحانيون إستئصالها من أجسادهم مازالت في مكانها.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
جراح روحي فلبيني يجري عملية لامرأة

إذن فالأمر برمته مجرد خداع ، وتم أثبات ذلك ، وكان أول من كشف الأمر وفضحه هم سحرة الاستعراض ، أعني أولئك السحرة الذين يقدمون عروضا قائمة على خفة اليد ، فهؤلاء بخبرتهم عرفوا أن الأمر لا يختلف كثيرا عن الخدع والحيل التي يمارسونها هم أنفسهم على خشبة المسرح ، فالجراح الروحي في حقيقة الأمر لا يفعل أي شيء سوى أن يضغط بيده على جلد المريض بقوة مع تكوير أصابعه إلى الداخل بحيث تبدو وكأنها أختفت وانغرزت في جسد المريض ، ثم يقوم بالضغط على كيس صغير مملوء بالدم كان قد أخفاه بعناية بين أصابعه ، فيتدفق الدم على الجلد معطيا أنطباعا أن ثمة جرح فعلا في الجسد ، ومساعدا في التمويه على أصابع الجراح ، الخطوة التالية تكون بإخراج قطع من النسيج أو اللحم كان قد هيئها الجراح مسبقا وأخفاها بين طيات ثيابه أو في قطع القطن التي يمسح بها على جسد المريض ، زاعما بأنها اورام أو غدد خبيثة أستئصلها من جسد المريض ، وأخيرا يمسح الدم فيظهر الجلد سليما لم يمس .. وهو بالفعل لم يمس!.

وقد أثبت الفحص المختبري لبعض العينات التي زعم الجراحون الروحانيون إخراجها من أجساد المرضى أنها في الحقيقة أنسجة حيوانية ، مأخوذة من أحشاء الدجاج تحديدا ، أما الدم فتبين أنه دم خنزير.

لكن إذا كان الأمر برمته خداع ، فكيف يتمكن المعالج الروحاني من إقناع المريض بأنه شفي ؟ ولماذا يشعر البعض ممن أجروا هذه الجراحات بأنهم شفوا حقا أو أن أعراض المرض قد زالت عنهم؟.

الجواب يكمن في الإيحاء والعامل النفسي ، وأظن معظمنا جرب قوة هذا العامل حين يتعلق الأمر بالمرض ، فأحيانا نشعر أننا بحالة سيئة ، ونعاني مرضا خطيرا ، ونبدأ بتخيل أعراض وآلام مما يدفعنا للذهاب إلى الطبيب ، فيرسلنا لإجراء تحليلات وفحوصات، ليتبين بالنهاية بأننا في أتم صحة ولا نعاني من أي مرض . وفي الحال نلاحظ زوال الآلام والأعراض والشعور بتحسن فوري . هذا هو أثر العامل النفسي.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
معالج روحاني “مسلم” في اندونيسيا

لكن ماذا عن الأشخاص الذين هم فعلا مرضى وتحسنوا بعد ذهابهم للمعالج الروحاني ؟

في الأعم الأغلب يكون تحسنا مؤقتا ، ويرجع إلى العامل النفسي أيضا . ويعتمد على الإيحاء والأقناع ، فأنت لو أخبرت الشخص المريض بأنه شفي ، وأقنعته بذلك ، فهو لابد وأن يشعر ببعض التحسن , ولو بشكل مؤقت ، أو تراه يقنع نفسه بأنه تحسن بعض الشيء ، وبأنه في طريقه للشفاء ، رغم بقاء أعراض المرض على حالها . وخلال فترة التحسن “الوهمي” الذي قد لا تتعدى مدته ساعات أو أيام ، يكون المريض قد عمل دعاية مجانية رائعة للمعالج الروحاني زاعما لكل من يراه بأن فلان “المعالج الروحاني” قد شفاه من مرضه ، لكن لا يطول الوقت حتى يعود المرض وترجع الآلام بأشد مما كانت عليه ، فيعود المريض للمعالج الروحي ليشكو انتكاس حالته ، ويكون المعالج من الذكاء بحيث يجد دوما طريقة ما ليرمي بالذنب في عودة المرض على المريض نفسه ، كأن يتهمه بأنه لم يلتزم بالتوجيهات ، أو أنه أقترف خطيئة ما تسببت بعودة المرض إليه ، وطبعا ستكون هذه فرصة ذهبية لكي “يحلب” المريض مجددا.

طيب بناء على ما تقدم ، هل يمكن القول أن البرازيلي خوسيه دجال ومحتال ؟ .. وماذا عن شهادات الشهود ، والأفلام والصور الملتقطة له أثناء معالجته الناس.

في الحقيقة أنا في كلامي السابق لم أقل مطلقا بأن جميع المعالجين الروحانيين دجالين ، شخصيا لا أجد ضيرا في أن يقرأ معالج روحي نصوصا دينية على رأس مريض إذا كان في ذلك تخفيف ، نفسيا على الأقل ، لمعاناة وكرب المريض ، مع التأكيد على عدم التقليل من شأن الطب الفعلي ، وهو ما يفعله للأسف أغلب المعالجون الروحانيون ، حيث تراهم يستهزؤون بالطب ، زاعمين بأن الأطباء لا يفهمون شيء ، وأنهم سبب بلاء المريض ، وبهذا يصرفون المريض عن معالجة نفسه بطريقة صحيحة ، فتسوء حالته وربما يستعصي مرضه لاحقا على العلاج. كما أني لا أنكر ولا أجحد بالأمور الروحانية مطلقا ، كيف أفعل ذلك وأنا صاحب موقع يثرثر طوال الوقت عن الجن والأشباح والبيوت المسكونة! .. وأدرك جيدا أن هذا العالم مليء فعلا بالعجائب والغرائب التي قد لا تهضمها عقول بعض “المتمنطقين” من أمثالي .. وعليه فربما يكون هناك معالجون روحانيون ، لديهم فعلا ، قدرات خارقة في علاج المرض وشفاءه ، وقد يكون السيد خوسيه واحدا منهم ، الله أعلم . لكن من باب الأمانة ، يجب أن نذكر بأنه لم ينجو من الأنتقاد والتجريح ، حيث أعتبره البعض مجرد نسخة برازيلية من الجراحين الروحانيين الفلبينيين. وبالرغم من وجود مقاطع فيديو تظهره وهو يجري عمليات جراحية بواسطة السكين ، إلا أن المنتقدون يقولون بأن هذه الأفلام لا تظهر سوى عمليات جراحية بسيطة يمكن لأي مضمد متمرس إجرائها ، كما أنها لا تظهر تطور حالة المريض بعد العملية ، هل حقا شفي ؟ هل فعلا لم يتلوث جرحه ولم تحدث عنده مضاعفات ؟.

من الأمور الأخرى التي جرى أنتقاد خوسيه عليها هي مسألة المال ، صحيح أنه كان يعالج مرضاه مجانا ، لكنه لم يكن يوافق على صرف الوصفات الطبية الكثيرة التي كان يكتبها إلا من صيدلية يديرها أبن أخيه . وكان واضحا بأن أمور خوسيه المادية والمعاشية قد تحسنت كثيرا أواخر حياته ، وهو الذي كان فقيرا معدما بالكاد يجد قوت يومه.

أما اسوأ الأنتقادات الموجهة إليه فهي بكونه قد فتح الباب لأشخاص آخرين ظهروا من بعده ليستفادوا من حكاية الطبيب فريتز ، لعل أشهر هؤلاء في وقتنا المعاصر المدعو روبنز فارياس ، الذي رفعه البعض إلى مصاف القديسين ، وروجوا عنه عجائب وخوارق كثيرة.

العلاج الروحاني وحكاية الطبيب الشبح
روبنز فارياس .. زعم بأن روح الطبيب فريتز ظهرت له وتقمصته

فارياس زعم بأن شبح الطبيب فريتز زاره أول مرة في منامه عام 1984 ، وأنه ترك وظيفته كمهندس ليتفرغ لممارسة الجراحة الروحية عام 1990 . ومنذ ذلك الحين توافد عليه ملايين الناس ، من مختلف أرجاء العالم ، بعضهم من المشاهير وشخصيات المجتمع.

لكن رحلة فارياس مع الجراحة الروحية لم تخلو من فضائح ومطبات ، فزوجته السابقة أشتكت عليه لدى الشرطة قائلة بأنه محتال ، فداهمت الشرطة منزله وعيادته ، وألقت القبض على بعض حراسه بتهمة حمل أسلحة غير مجازة ، وبالتحقيق معهم ، أعترف بعضهم بأن العمليات الجراحية التي يجريها فارياس ليست آمنة تماما كما يتم الترويج لذلك ، وأن ثلاثة من مرضاه ماتوا خلال إجراء الجراحة ، وأن فارياس دفع رشوة لإحدى الممستشفيات من أجل استلام الجثث والتغطية على الموضوع.

الشرطة عثرت أيضا على صناديق كثيرة في منزل فارياس فيها أدوية طبيبة وأمصال تخدير ، الظاهر أنه يستعملها على مرضاه من دون علمهم ، لكي لا يشعروا بالألم أثناء الجراحة ، ولا تحدث عندهم التهابات ومضاعفات ، وعليه فأن قصة الجراحة بدون ألم ، وعدم تلوث الجروح ، قد لا تعدو عن كونها مجرد أسطورة وكذب محض.

فضيحة أخرى فجرها شقيق فارياس عندما صرح بأن شقيقه يقوم بحقن مرضاه بسائل يزعم أنه يعالج أصعب الأمراض ، لكنه في واقع الأمر لا يحقنهم بشيء ، بل يقوم بغرز الأبرة وتفريغ محتواها في قطعة قماش طبي “شاش” يلفه على يده.

التحقيقات في قضية فارياس كشفت أيضا مدى ثراءه ، إذ تبين أن لديه حساب مصرفي بمليون دولار ، ولديه يخت ، وأسطول سيارات ، ومنازل وقصور ، إضافة إلى ممتلكات في ميامي بالولايات المتحدة.

فضيحة فارياس ألقت بظلالها على حكاية الطبيب فريتز برمتها ، فبعض الناس أخذوا يتسائلون بعجب : لماذا اختار الطبيب فريتز ، الألماني الجنسية ، والذي مات في شرق أوروبا قبل قرن من الزمان ، أن يأتي إلى البرازيل ليعالج الناس ، لماذا تكلف عناء هذه الرحلة الطويلة إلى بلد لا يتكلم لغته اصلا .. ألا يوجد مرضى في المانيا لكي يعالجهم ؟! ..

ختاما ..

لماذا يلجأ الناس إلى العلاج الروحاني ؟ لماذا يقفون في طابور طويل بإنتظار أن يكشف عليهم شخص ليس لديه شهادة علمية أكاديمية ولم يدرس الطب ، وعلى الأرجح لا يعرف كيف يعمل الجسم البشري؟ . قد يقول قائل أن الجهل هو السبب ، لكن ليس شرطا أن كل من لجأ لمعالج روحاني يكون جاهل ، أظن ألأمر متعلق أكثر بثنائية اليأس والرجاء ، فأغلب أولئك الذين يلجئون للخيار الروحاني يكون اليأس قد طفح بهم تجاه الخيار الطبي ، أما بسبب أصابتهم بامراض مزمنة أو عضال ، أو لفشل الطب في تشخيص حالتهم ، وبالتالي فقدان الثقة بالأطباء ، خصوصا وأن هناك نسبة غير قليلة من الأطباء قد تحولوا أنفسهم إلى “معالجين روحيين فلبينيين”! ، فأصبح المال همهم الوحيد ، ولم يعد المريض يعني بالنسبة لهم سوى رقم ينتظر عند الباب لشفط جيوبه ومن ثم إرساله إلى المنزل مع كيس كبير مليء بأدوية تضر ولا تنفع ، وأنا أتكلم هنا عن تجربة شخصية . اليأس من الأطباء قد يدفع المرء للتعلق بأي رجاء ، وقد يكون هذا الرجاء أحيانا معالجا روحيا ، لم لا ، فهو على الأقل سبيعك “أملا كاذبا” ، وسيحقنك بـ “وهم رائع” بسعر مناسب ، ومن دون أعراض جانبية.

ملاحظة : كلامي أعلاه لا أقصد به كل الأطباء ولا كل المعالجين الروحانيين.

المصادر :

Zé Arigó – Wikipedia

Jose Arigo – Psychic Surgeon and Healer

Dr. Fritz

He is Brazils favourite faith healer, but did he spirit away £1million?

Psychic surgery – Wikipedia

تاريخ النشر : 2018-02-05

guest
72 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى