أدب الرعب والعام

حانة الشفق البائس

بقلم : أيلول – الكرة الأرضية

دخلت الحانة و كانت فارغة من الناس

لا أذكر متى حدث ذلك على وجه الدقة ولا أذكر أين حدث أيضاً ؟ لكنني متأكدة أنه حدث، أذكر كل التفاصيل، كأنه حدث البارحة، كنت وقتها أسير بلا وعي , لم أكن أدري الي أين أمضي ، كان المارة يحدقون بي كما لو أنني هاربة من إحدى الروايات وجئت أُمثل أمامهم أحد مشاهد التراجيديا، لم أكُن في مزاج يسمح لي بالتبرير لأحد، كُنت أرى كل شيء متشابه , الوجوه .. اللوحات الإعلانية .. ثرثرة المارة .. أنوار الشوارع .. وحتى الشوارع ذاتها , كلها كانت كَمشهد سريع سَبَقَ أن رأيته في زمنٍ ما , لكنني لا أذكُر متى ولا أين ؟!
لم أكُن أبكي وقتها , لكن لو أمسك أحدهُم زُجاجة وشطر صدري لَغَرِقَ العالم في بحرٍ من الدموع , وفي حال كان القدر رحيماً , كان يمكن أن تسيل الوحشية التي بداخلي لتغرق الكون .

******

كان صدى كلماته مازال يتردد بداخلي , بعد أن هجرتُ مَوطِني وكل الذين أعرفهم , وجئتُ إليه لِنَكون وطناً واحداً و روحاً واحدة , التقَينا عند ذات الجسر المُطِل على الساحة العمومية , حدقَ في عينَيّ لِدقائق , أشعل سيجارته ـ وبِلَهجَة الواثق ـ
_ قال : أنا لا أُنكِر أنني أُحِبُكِ , لكن هذا يا فتاتي الصغيرة لا يعني أن نبقى سوياً للأبد.
_ ………… !
و أردف بِلهجة ساخرة وحادة : بِرَبِكِ , هل تصدقين تلك الحكايات الغبية ؟
_ ………… !
_ حسناً , لا تجيبي , سَأُجيبُكِ أنا بِما يَليق بِفتاة حالِمَة وساذجة مثلُكِ , لا يا عزيزتي , لا وجود لتلك الحكايات اللعينة , نَعم , جدَتُكِ كاذبة , و أُمُكِ كاذبة أيضاَ , أما صديقاتُكِ .., حسناَ لا أنوي أن أشتِمهُن اليوم , اسمعيني جيداَ إيفا , لا شيء أبَدي , خاصةَ مع إمرأة مُتَطَلِبة مثلكِ , الرجل الذي تبحثين تُريدينه ربما تجدينه بِإحدى الروايات السخيفة , ما تبحثين عنه غير موجود , ليس عندي و أؤكِد لكِ أنه غير موجود عند أي رجُلٍ آخر .
_ ………..!
_ أرجوكِ إيفا , لا تبدئي بالبُكاء كالأطفال , انظري إلي ,أنا الآن أترُككِ , وسأعيش مُغامرات أخرى مع نساء أُخرَيات , حيثُ إن وجدتِني يوماً بالصدفة مع امرأة أخرى , لا تلومينني , و إياكِ أن تقومي بشيء غَبي , هل فهمتِ ؟

في هذه اللحظة بالذات كُنتُ قد اكتفيت من سماع التُرهات , كان من الواضح فعلاَ أنهُ قرر كل شيء , يقذف حياتي الآن بوداعٍ لعين كهذا , لا يكفي أنني أحببته برغم كل شيء , لا يكفي أنهُ قَذر مخمور بأغلب الأوقات , ولا يكفي أنهُ زير نساء , ولا يكفي أن روحهُ مشوهة وممسوخة , ومع كل هذا أحببته ! هكذا وبكل بساطة , يريد أن يُفلت يَديهِ ويَمضي , كَأن شيئاَ لم يَكُن , التوسل , طلب فرصة أخرى , الاستعطاف , الرفض , هذه كُلها خيارات ليست لي , لستُ أنا من تتسول المحبة من قذرِ كهذا , هُناك بعض المواقف التي تُحتم عليكَ أن تنسلخ من ذاتك , أن تكون شيئاَ لا يُشبهك , أن تنفجر كَـأوقح مخلوق على وجه الكرة الأرضية , وهذا الموقف بالذات كان من هذه المواقف .

كان دوي الصفعة مازال يتردد , أخذ يُحدق بي كما لو أنها المرة الأولى التي يراني فيها , غير مُدرِك للبُركان الذي تفجر بداخلي , بركان الانسانية , في أهيج حالاتها . . .
_ أنت أيها الرعديد الفاسق , تجعلني أهيم عشقاً بِك والآن تتركني , لا أريدُ أن أسألكَ ( لماذا ) حتى , لا تستحق شيئاَ أقل من الشتائم , وتسألني إن كنتُ فهمت ؟! يا لك من وقح فعلا , نعم فهمت , فهمت , لا نهايات سعيدة , ليس بالنسبة لي فقط , بل لكَ أيضاَ ..
_ أرجوكِ أخفضي صوتَكِ , المارة يحدقون بِنا , يكفي فضائح هُنا .
_ فضائح ؟ وحدهُ وجودك هو الفضيحة , إذهب الآن الى الجحيم , أنت وقلبك الأسود .

ومضى وهو يُقهَقِه كَشيطانٍ ساخر ..

******

كان هذا المشهد يدور في رأسي كَإسطوانة عالقة , يأبى الزمن إتلافها , أيُ عُمرِ بهيج ذلك الذي يكفي لنسيان هذا المشهد ؟ في أي الفُصول سأنسى ذلك الفصل المقيت ؟ مَن يَبيعُني نسياناَ ؟ نعم , هذا ما أريده الآن , أريد أن أنسى , و وُحدُها الحانات تتكفل بذلك , يوجد سُخرية حقيقية مني هُنا , قال أن أُمي كاذبة , لكنها ليست كذلك , لطالما سردت لي قصصاَ غابرة , أذكر أنني سألتها بسذاجة ـ كما كل الأطفال ـ إن كان الخير ينتصر على الشر دائماً ؟ كَكُل الروايات , قالت لي شيئاّ غريبا لم أفهمه وقتها , لكنني الآن استطعتُ أن أفهمه , قالت : لا , ليس دائماً , مأساتنا مع الشخص الشرير أنهُ يستطيع إيقاظ الشر المدفون في أعماقنا , وحينها نُصبح أشد شراَ , وكأن أرواحنا تشرب طِباعَهُ السيئة .

لكن الآن أيٍ من هذه التفسيرات لا يُهِم حقاَ , ما أريدُه فعلاً , أن أنسى كل شيء , أنسى هويتي, كينونتي, قِصَتي , و إسمي حتى , آنسة مُهذبة لا تذهب للحانات , أعرف ذلك جيداً , لكن اليوم سيكون استثناءاً قذراً .

******

على الرغم من وجودي هُنا في هذه المدينة اللعينة مدة طويلة , لكنني لِأول مرة أتنبه لِوجود حانة كهذه , حانة " الشفق البائس " تبدو مُناسبة للبائسين أمثالي , شيء ما يهمس لي بعدم الدخول لها , أنا لستُ فتاة من هذا النوع , وهذا عمل لا يُشبهني , لكن هُناكَ سِحر غريب يَجذبني لها , حسناً , نصف زجاجة فقط , لن تضرني كثيراً .. وَ … , أستسلم لِغواية الطقس ..

دفعتُ الباب بِقدمي ـ كُنتُ قد وصلتُ فعلاً لهذا الابتذال ـ ودخلتُ الحانة , غريبة كَإسمها حقاً , وفارغة من الناس , لكنها مليئة بالأرواح , لوحات جدارية وَ تُحف وتماثيل غريبة , والتي يبدو أن جميعها تعود للقرن التاسع عشر , كانت الموسيقى الأرجنتينية تنتشر في المكان بهدوء , الأضواء خافتة أيضاً , مكان مثالي للنحيب , جلستُ على أحد المقاعد الخشبية , ثم ظهرت فتاة ترتدي ملابس تُشبه ـ إلى حدٍ كبير ـ ملابس ساحرات القرن التاسع عشر , تقدمت نحوي بهدوء ثُم أضافت بعد أن ابتسمت : 
– ما الذي توده آنسة جميلة مثلكِ ؟
ابتسمت لهذا الإطراء المُفاجئ وقُلتُ لها بأسى واضح :
– أريد أن أنسى , أُريدُ شراباً يجعل قلبي ينام .

لم تَقُل شيء , إبتسمت ذات الإبتسامة ودلفت للداخل , وبعد دقائق قليلة ظهرت من جديد , بِضحكتها و بِطَلَتِها الملائكية , وضعت أمامي كوبَيّن من القهوة الفرنسية , عقدتُ حاجبَيّ ونظرت لها ووجدتها تُنظُر لي بِعطف وتفَهُم , لم أستطع أن أعتَرِض , أمسَكتُ الفِنجان وتذوقتُ أول رشفة , في حين جلست هي تُراقِبُني وتناولت الفنجان الآخر , وأضافت بعد دقائِق من الصمت :
_ مَن يَستطع الشِفاء لا يَطلُب نسياناً .

كانت جُملتها في تلك اللحظة كَأنها رَصاصة صُوِبَت نحوي , وانجر بُركان الأسى الذي بداخلي , وجلستُ أبكي أمامها كُطِفلٍ يشكي لِأُمه ما حَلّ بهِ من مُديرة الفصل المجنونة , أخذتُ أُخبِرُها عن ما حَلّ بي بسبب الحُب , قصصتُ عليها قِصَتي اليتيمة , وأضفتُ بشيء من السُخرية والأسى : 
– أتعلمين شيئاً ؟ أنا كالذي باع وطنه لِيَعيش في المَنفى !
_ إذاً كما توَقعت , حالتُكِ هذه بسبب رَجُل , آه الرِجال أوغاداً حتى عِندما يكونون أوفياء .
_ إذا أنتِ أيضا لديكِ قِصة , أرغب بسماعها حقاً , طبعاً إذا أردتِ ذلك .
_ آه يا إيفا , انتظرتُ ألف عام لِأُخبرُكِ هذا , انتظرتُكِ أنتِ بالذات , أنتِ هي المنشودة .
_ لكن كيف تعلمين بإسمي ؟ ولماذا تنتظريني ؟
_ اسمعيني ولا تُقاطعينني , أعلم كل شيء عنكِ يا إيفا , وأمكِ لم تَكُن كاذبة كما أخبركِ ذلك الوغد , القصص التي أخبرَتكِ بها وأنتِ بدوركِ آمنتِ بها , كلها حقيقية , و أنا هُنا لِأثبت لكِ ذلك .

_ مَن أنتِ بحق السماء ؟

إبتسمت ابتسامة لا تشيءُ بِخَير وقالت بصوتٍ يبدو وكأنهُ بعيد جداً ـ برغم قُربها ـ :
–  أنا أفروديت , المُنتقمة للعاشقات البائسات أمثالكِ , ولا يضيرُني أن أخبرُكِ بعدد الرجال الأوغاد اللذين قتلتهم على مدى ألف عام , الطبيعة اصطفتكِ أنتِ لِتُكملي ما بدأناهُ مُنذ الأزل يا إيفا , العالم يحتاجُنا , ومُنذ هذه الليلة عليكِ أن تبدأي عمَلَكِ بِغِواية الرجال وقيادتهم لقبو الحانة وقتلهم .

كانت عيناها تلمعان ببريقِ غريب , وصوتها , و وجهها , والنشوة التي تشعر بها وهي تتحدث عن كل هذا , جعلني أعشقها فعلاَ , و أُبارك عملها أيضاً , و أوافق على أن أحل محلها أيضاً . . .
وتابعت لتجعلني أقتنع بالفكرة ـ رغم أنني كُنتُ مُقتنعة بالفعل ـ
_ الأبدية يا إيفا , ستصبحين خالدة إن وافقتي , كُل ما عليكِ هو قتلك ِ لذلك المدعو بِـ " وارسوز " وشُرب قطرة واحدة من دمائه , عندها ستصبحين أفروديت أخرى , وستصبحين خالدة أيضاً , وهذه الحانة ستصبح لكِ أيضاً .
بعد صمتٍ دام لدقائق نطقتُ وأخيراً بما تُريدُه :
_ نعم , موافقة , وسأفعل كل ما يتطلب الأمر .

بعيداً عن ميزات هذا العمل الحقير , كان أول شيء أُريدُه هو الانتقام , سيكون إنتقاماً مُذهلاً , على شاكلة , اذهب للجحيم أيُها الفاسق . .
_ بِماذا تشردين ؟ لا وقتَ لدينا , يجب أن تُنفذي الشرط قبل أن ينتصف الليل .
_ ماذا ؟ لا وقت لدينا ؟ إذا أين سأجده الآن ؟ يا إلهي , كل شيء ينهدم الآن .
_ لكن سيكون لدينا الكثير من الوقت لِإنتقامكِ طالما " وارسوز " مُقَيد الآن في القبو , وتفصلنا دقيقة لنكون بقربه , هل ظننتِ أنني لن أفكر في جلبه وتقييده ؟ وغمزت بعينها و أردفت : هذا لا يفوتني يا صغيرتي .

إنها ما تنفك تدهشٌني وحسب , أريد فعلاً أن أكونها !

******

_ هل هو مخمور كعادته ؟ يا إلهي لا أصدق كيف أحببتُ هذا القذر ! أين كان عقلي فعلاً ؟
_ لا بأس عزيزتي , قدركِ الآن ينتظرُكِ , أما هو . .
_ فالجحيم ينتظره .
أمسكت زجاجة النبيذ ذاتها التي كان يشرب منها , كسرتها , أمسكت شظية واحدة , ولم تأخذ وقتا كثيراً حتى استقرت بِقلبه !
_ هيا إيفا ماذا تنتظرين ؟ تذوقي قطرة واحدة واستقبلي قدركِ بحفاوة .

لمستُ بِأطراف أصابعي الدماء الحارة وتذوقتها , وشعرتُ بتيار النشوة يحتفل بعروقي , شعرتُ بقوة خارقة , وقلبي أصبح بارداً كَالثلج , وقاطعني صوتها ..
_ أحسنتِ إيفا , وتذكري جيداً , بعد ألف عام ستورثين هذا العمل لفتاة أُخرى , وحتى ذلك الوقت استمتعي كما يحلو لكِ , وداعاً إيفا .

قالت جملتها الأخيرة وبدأت تتحلل , تتحول لِـكَومَةٍ من الرماد , ثم اختفت للأبد .

وأنا الآن أفروديت , بذات القوة والبهاء , وبذات الذكاء والدهاء , بكامل جبروتها وقسوتها , عنفوانها ومجدها , و سيدة حانة " الشفق البائس " .

******

رفع المحقق " جيمس " رأسه , بعد أن هوى بالدفتر على مكتبِه , وقال بصوتٍ ساخر :
_ هل تُريدُني أن أصدق هكذا تُرهات ؟ أساطير غابرة ! وربات مُنتقمات ! وحانة غريبة ! لابُدَ أن هذا الدفتر يعود لِكاتب ذو خيالٍ عال ٍ , أو لِإحدى المشردات المجنونات , ذكرني أين وجدتم هذا الدفتر اللعين ؟
_ بجانب الجسر المُطِل على الساحة العمومية سيدي .
_ ولماذا جلبتَهُ لي ؟ مَن ذلك الغبي الذي ربط بين هذا الدفتر وقضايا اختفاء الرجال من البلدة ؟
_ إنه التفسير الوحيد سيدي , والمحقق الذي قبلك إعطاني الدفتر ثم غادر البلدة , وبصراحة لقد قال كلاماً غريباً . .
_ لا تتردد , أخبرني ماذا قال هذا الجبان ؟
_ لقد قال أن هُناك قوة أكبر مننا جميعاً , و أن هذا لن ينتهي أبداً , وليس من الجيد العبث مع الطبيعة أو الوقوف ضدها , وبصراحة سيدي , جميع المحققين الذين أتوا قبلك ليحققوا بهذه القضية , غادروا البلدة خائفين , ولم يتركوا شيئاً ذا قيمة أو تفسير , بِاستثناء هذا الدفتر .
_ حسناً , إذا أين هذه الحانة ؟ هل وجدتموها ؟
_ لا سيدي , لا وجود لحانة كهذة بالبلدة .
_ إذا لا وجود للحقيقة بهذا الدفتر .
_ بصراحة سيدي , لا أعتقد أن مكاني يؤهلني لسرد النصائح , لكنني عملت هُنا مع كل المحققين , وأنت لم ترَ نظرات الفزع بعيونهم , كانوا يعلمون ما السر , لكنهم فضلوا الهرب بعيداً , و أنا كنتُ أفكر أنه عليكَ أن تتخلى عن هذه القضية و . .
_ اصمت أيها الغبي , هل تظن أنني جبان , لن أفعل ذلك أبداً , هيا اخرج وأريد أدلة مادية , وليس كلاماً فارغاً .
_ أعتذر سيدي , سأخرج حالاً .

******

_ سيدي , هُناك سيدة تود مُقابلتك .
_ قُلت سيدة , حسناً أدخلها فوراً .

_ أهلاً سيدتي , ماذا يُمكن أن أقدم لسيدة جميلة مثلك ؟
_ الكثير يا جيمس , يُمكنك مثلاً أن تزور حانتي الليلة , و أنا بِدوري يُمكنني تقديم الكثير لك .
قالت السيدة جملتها بأسلوب مُتقن لا يُجاب عليه بالرفض , وهو شيء لم يَغِب عن المحقق الذي سال لُعابه .
_ بالتأكيد سيدتي , يُمكِنُني المجيء .
_و أنا سأنتظرك .

نهضت السيدة من مقعدها لِتُغادر , وصلت عن الباب وقبل أن تُغادر , التفتت للمحقق ـ الذي بدأ بلمس شاربيه ـ وقالت له :
_ ألن تشعر بالسوء يا جيمس و أنت تخون زوجتك ؟
_ ما هذا السؤال يا سيدتي ؟ ليلة واحدة ما الضرر منها , وكل الرجال ـ بطريقة أو بِأُخرى ـ يخونون زوجاتهم , أم تتراجعين عن موعدنا ؟
_ هههههـ , لا لن أتراجع , بالعكس , الآن زادت رغبتي في إبقاء الموعد , أعدك يا جيمس أنها ستكون ليلة لا تُنسى .

ــ تمت ــ
 

تاريخ النشر : 2018-02-08

guest
89 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى