منوعات

الضمير المكلوم

بقلم : قصي النعيمي – سلطنة عُمان

الضمير المكلوم
ساد صمت الذهول الكل من فعل نابليون

خلق الله آدم ليكون نواة النشأة و شرارة البداية ، فطره على حب الاجتماع و جبله على المشاركة و الاستماع ، ثم ظهرت من ذريته القبائل و المجتمعات و نشأت بأيديهم المدن و الحضارات . فعاش الإنسان بين أحضان قومه و عائلته و تنعم تحت فيافي وطنه و قريته ، فاستقى من تلكم المنابع حبه و انتجب من تلكم المغارس عشقه حتى نظم حبه شعرا و صقل عشقه نثرا ، و لكن الحياة تعلمنا أن المألوف ليس سنتها و أن الدوام ليس مسلكها ، فكم أبدت لنا عن حكايات قاسية رسخت في الأفكار، و صور مرعبة ما فارقت الأنظار ، و من تلكم الفرائد انتقيت لكم قصتي :

سطع نجم جديد في فلك أوروبا المعتمة و أشرقت بداية أخرى من بين تلال فرنسا الفسيحة . أنطلقت الجحافل مع صرخات الجنود الطموحة ، نعم ، لقد كان النجم نابليون ، و كانت الوجهة هي النمسا ، فهناك امتدت خيوط شمسه البراقة و لمست أيادي أمانيه سماء المجد الخفاقة . و في عام 1809 حطت رجلي نابليون من على جواده على مشارف النمسا . و استعد لفتحه المجيد و نصره الجديد ، و لكن الأقدار ليست سبيلا ممهدا محفوفا بالورود ، فهاهي الجيوش النمساوية تمخر الجبال و التلال نحو ساحة النزال ، و كان ما لم يتوقعه القائد الطموح ، لتنتصر جيوش النمساويين و تدحر الغازي الفرنسي و ترده القهقرى .

و لكنه نابليون الذي قال يوما : ” لا شيء مستحيل تحت الشمس ” ، أدرك بفكره أن انتصاره على هؤلاء الأشداء لن يكون بالسلاح بل بالخداع ، و أن بلادهم التي تعج بالدهاليز التضاريسية ستعوقه نحو مراده المنشود ، و هنا تغيرت المعايير و انقلبت المقادير ، فأمر ضباطه و خاصته بالبحث عن رجل مناسب ليكون عينه الخفية و يده السرية ، فكان ما أمر به ، و انطلقوا يبحثون في كل شبر و ركن حتى وقعت أعينهم على ذلك النمساوي العاثر .كان رجلا قد امتهن التهريب مصدرا لقوته ، يهرب البضائع بين الحدود و يتجنب تحت ستار الليل بطش الجنود ، لقد علم ضباط نابليون أنه الرجل المناسب لأداء ما يريده قائدهم ، خبير بفجاج هذه الربوع العصية ، عالم بأسرارها الخفية ، و فوق ذلك كان فقيرا ، لربما بضع قطع من النقود تجعله عبدا مؤمورا.

و هذا ما حصل بالضبط ، عرض عليه مبلغ من المال مقابل أن يجمع أي معلومات عسكرية تفيد الفرنسيين و توقع بجحافل النمساويين ، رغم معرفة هذا الرجل بهوية هذا الجيش و مراد نابليون و إدراكه لخطورة ما يفعله و جسيم ما يرتكبه ، إلا أنه لم يكتفي بهذا كله ليسمع همس ضميره المكلوم فاغتصب حق وطنه و أهله و كل ما تمثله إنسانيته و انتمائه من دون جريرة فقبل العرض و استعد ليلعب دور الخائن ، و طبعا لم يكن نابليون ليقبل بمعلومات عادية ، و هذا ما استوعبه هذا الخائن ، فسعى ليرضي معبوده الجديد بأخبار ستكون مقتلا بالنسبة للنمسا .

بحث هذا الخائن عن أي معلومات يمكن لها أن تتمم رضا نابليون و احلامه ، و هنا تذكر معقلا قديما قد احتضنته شماريخ البراري الخضراء و حجبته قممها الشماء ، هناك حيث اعتاد الجيش النمساوي الإحتماء ، فكانت لهم القلب و دفأ الإيواء . تقدم إلى نابليون بخبر هذا المعقل و وافاه بمجمل ما رآه هناك و سمعه ، و بالطبع فلقد كانت هذه الأخفار كفيلة بتحريك الجيش الفرنسي و الأنطلاق لرد المكيال بمكياليين ، فكانت معركة مارخ فيلد و كان النصر الذي ابتغاه منذ البداية و حان ميعاد المكافأة و الأداء .

سار الخائن بخطوات ثابتة تملأها النرجسية العمياء و اللهفة الخرقاء ، و بين الحشود و الجنود وقف هناك يفرك يديه اشتياقا لصرير النقود ، رمى نابليون بتلك الصرة المثقلة إلى الأرض فانكب المشتاق على حبيبه أمام الحاضرين ، و ما ان تأكد من نيله الجائزة حتى انصرف إلى الحاكم الجديد و قال : ” سيدي العظيم يشرفني ان أصافح قائدا عظيما مثلك ” ، هنا حق للمتفكرين الذهول فلن يستقبل القلب هذا الكلام بالقبول ، ربما قال قائل اجبرته مرارة الفقر على فعله أو نسي حظا مما أنعم عليه وطنه و لكنه هنا ألغى كل التعليلات و تجوازها إلى ما يستدعي الإشمئزاز و العجب ، فهنا رد نابليون مبادرا:”اما انا فلا يشرفني ان أصافح خائنا لوطنه مثلك.” ، ساد صمت الذهول الكل من فعل نابليون و استغربوا اكثر عندما بصق عليه فانصرف الخائن مدحورا نحو الخارج ، لتتبعه كلمات لازالت ملخصا لحال الخائن و الخيانة ..

” مثل الخائن لوطنه كمثل السارق من مال ابيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحه و لا اللصوص تشكره لهذا ابصق عليه “.

تاريخ النشر : 2015-04-21

قصي النعيمي

سلطنة عُمان
guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى