تجارب ومواقف غريبة

الشبح الناقم

بقلم : نور مزيد – تونس

سنة 1996 كنت أنظر إلى زميل لي في باحة الجامعة و كان يبدو غيرَ طبيعيّ منذ مدّة. فجأة تغيّرت ملامحه قليلا و صارت مخيفة. سألته دون تفكير إن كان قد تعاطى شيئا ما فاِستغرب ثمّ عاد وجهه إلى طبيعته. تركته و عدت إلى المنزل فزعة من هول المنظر. إثر ذلك قام أحدهم بتهشيم وجهه و لم نعد نراه كثيرا. صار الجوّ مشحونا و لم يعد يمرّ يوم دون وقوع حادثة حتّى أنّني فكّرت في تغيير الجامعة لكنّي و لحسن الحظّ فضّلت المواجهة.

بعد سنتين تقريبا خلال اتربص في أحد المكاتب الهندسيّة كنت أتحدّث مع زميل و أخذت أدقّق في وجهه ثمّ نظرت في عينيه مطوّلا و أنا أفكّر، فقد لاحظنا جميعا أنّ شكله يتغيّر كلّما عاد من بلده و خاصّة شعره فقد كان تارة أحمرا و أخرى أشقرا و تارة كان بدينا و تارة هزيلا حتّ أنّني شككت أنّ أخوه التّوأم الّذي حدّثني عنه ذات مرّة حلّ مكانه، حينها بدا لي كأنّ وجهه اسودّ لِثوان. تجاهلت ذلك و عَزَوْتُه للإضاءة و مع ذلك فضّلت الابتعاد و بعد أشهر قليلة تعرّض لمشاكل جعلته يرحل دون رجعة.

تعقّدت الأحداث و تعكّرت صحّتي قليلا و كاد القطار يدهسني ثمّ كدت أغرق في البحر ذات مرّة فقرّرت أخْذ قِسط من الرّاحة و بعد سنتين من الهدوء عُدت للتربّص في مكتب آخر و تكرّر الأمر مع أحد الزّملاء. كان يتحدّث معي ذات يوم بأسلوب يوحي أنّه يعرف الكثير عنّي حتّى ظننتُه يتعامل مع المُشعوذين. نظرت إليه بفضول و فجأة تغيّر صوته بينما أصبح وجهه مرعِبا لبرهة من الزّمن. نسيت الأمر لِفَرط انشغالي و بعد أن تركتُ المكتب عرفت أنّه تعرّض لحادث سير.

أزعجني الخبر و أخذت أفكّر في كلّ ما حصل بجِدّية فقد كان يقود سيّارته بمهارة. تذكّرت أنّني قبل ترك العمل بأيّام كنت أسير تحت المطر مساء حين اقتربت منّي امرأة و غطّتني بمطريّتها فشكرتها. بعد لحظات طلبَت منّي المرور من طريق جانبيّ و هو مَمرّ أَسلُكه أحيانا لرِبح الوقت، استغربت ليس لأنّه كان ضيّقا و مظلما و مقفرا إنّما لأنّها كانت تعرف طريق عودتي للمنزل. استدرت إليها مندهشة و كانت المفاجأة.

وجهها هو نفسه الّذي لمحت حين تغيّر شكل زملائي الثّلاثة و لكن هذه المرّة رأيته بوضوح. كان منفّرا و يوحي بالبلاهة، في فمها عاهة ذكّرتني بشابّ أعرفه منذ الطّفولة يسكن في منطقتنا و يدرس معي في الجامعة. تركتُ المرأة الغريبة و هربتُ من شدّة الصّدمة ثمّ انشغلت في العمل لأنسى الأمر. في الواقع لست واثقة إن كانت امرأة أمْ رَجلا متنكِّرا. كان كائنا طبيعيّا هيئتُه بشريّة و صوته حقيقيّ. لم أتخيّل يوما أنّه قد يكون شبحا فأنا لا أصدّق الخرافات و حتّى لو تخيّلت ذلك فلا أعرف إن كان متلبّسا أم متشكّلا و إن كان هناك من رآه غَيري.

في تلك الفترة اشتدّت ظروفي و مخاوفي فتركت الدّراسة و أخذت أتسلّى بمطالعة الكتب و الصّحف. كانت متنوّعة تتطرّق إلى مجالات مختلفه منها النّفسيّة و الرّوحية و الدّينيّة و الطّبّيّة و التّاريخيّة و الفلسفيّة و الإجراميّة. دفعتني إلى مزيد البحث و التّفكير حتّى أدركت أنّ ما رأيته كان شبحا فعلا. تأكّدت حينها أنّه من يقف وراء العديد من التّناقضات و المصادفات المريبة الّتي حيّرتني فقد كانت تشي بالخداع و التّلاعب و لم يكن لها أيّ هدف أو معنى. كيف لا و هو يملك قدرة التّخفّي و التّلبّس و يستطيع التّجسّس علينا و التّحكّم بنا و قد ظننت في البداية أنّه لا يملك غير الوَسوَسة.

لم أفهم سبب وجوده بيننا و الهدف من تطفُّله و عبثه بحياتنا لكنّي عرفت لاحقا أنّه كان يحوم حول قريبه ذلك الفتى الذي يسكن منطقتي و يستغلّ أصدقاءه. كان يتجسّس عليهم و يسعى جاهدا ليوقعهم في الخطإ ثمّ يبتزّهم عبر أشخاص آخرين و كأنّه يتلذّذ بإهانتهم و إذلالهم.
أفكاره و تصرّفاته تتّسم بالغموض و الزّيف و العبث و تؤكّد أنّه مجرم مختلّ أو جاهل. كان يدفع النّاس للعنف و الاكتئاب و الجنون بِمقالِبه و يحاول استغلال الدّين لتبرير بعض جرائمه الّتي يرتكبها بإسم العدالة. لا شكّ أنّ شكله المضحِك هو سِرّ حِقده و نِقمته علينا و أنّه عانى من السّخرية و الرَّفض. مثله إمّا أن يتعذّب و ينتحر أو ينحرف و يُقتل في مجتمع يلفظ الغريب و يستغلّ الضّعيف.

عرفت أيضا أنّه أخذ يلاحقني حين شكّ أنّني رأيت وجهه في الجامعة عندما تلبّس أحدهم و كان ينوي إخافتي و إسكاتي و هو لا يعلم أنّه سيفضح نفسه. و مع أنّه جعلني أشكّ في الجميع و أعتزِلهم بعد أن أدركت مدى جهلنا بحقيقة الكون و ضعفنا أمام سائر المخلوقات إلّا أنّني لا أنكر أنّه فتح عينيّ على عالَم آخر، عالم الأموات و الأشباح و ساعدني على فهم الكثير من الأمور الغريبة كالصّوت الّذي تُصدره خِزانتي ليلا و البقع الحمراء على الحائط و اختفاء بعض الأغراض من المطبخ و كثرة الكوابيس. أمور تبدو بسيطة في الظّاهر لكنّها تثير الشّك و الخوف، تشعل الفتنة و تُدمّر الأعصاب. مرعب أن تكون ضحيّة مجرم مجنون لا يتورّع عن التّزوير و السّرقة و الخطف و الاغتصاب و القتل ثمّ تكتشف أنّه شبح بل أكثر. هي أرواح تحوم حولنا و تفضّل الاتّصال بنا في المنام.

كتمتُ الأمر في نفسي و شككت فيه و نسيته لأنّني لا أملك دليلا واحدا على ما رأيت و سمعت و بعد سنوات عثرت صدفة في صورة قديمة على شبحِ فتاة أعاد لذهني كلّ الذّكريات. كانت ملامحها تجمع بين الحزن و الخوف و ثيابها غريبة جدّا. قمت بتكبير الصّورة بأحدث التّقنيات و فوجئت بأنّ رأسها ينزف دما. قد تكون روحا هائمة تُريد القَصَاص أو تبحث عن الإهتمام لكنّها أكّدت ظنوني و جعلتني أكتشف وجود عالَم سِريّ مُرعِب كنت أظنّه في طفولتي خياليّا و مُمتعا و كنت كلّما حدّثني عنه أحدهم بجِدّيّة أسخر منه.
يبدو أنّ الجميع سمعوا أو رأوا أشياء غريبة في حياتهم، منهم من كذّب نفسه و منهم من صمتَ حتّى لا يُتّهم بالجنون. و لا يخفى على أحدٍ أنّ أجدادنا كانوا يؤمنون بوجود ذلك العالم و يهابونه و أنّ هناك من يتعامل معه إلى يومنا هذا.
أمّا أنا و قد تأكّدت من وجود ذلك الكائن العابث و من تورّطه في أزماتنا و من أهدافه الدّنيئة قرّرت المواجهة، ليس ثأرا بل دفاعا عن نفسي و حماية لأهلي منه و من أمثاله. كان يخدعنا و يستغلّنا بدافع الغيرة و الطّمع و ما أن يفتضح أمره حتّى يلجأ إلى التّشويه الماديّ و المعنويّ و يتسلّى بعذابنا. حاولت مرارا تفهّم أفعاله و تبريرها بوحدته و حزنه أو غبائه و جهله لكن حين أتذكّر كمّ المؤامرات و دقّة التّخطيط و عدد الضّحايا و حجم الأذى أعجز عن الغفران.

guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك