أدب الرعب والعام

طفلة تحكي

12/4/2014

شعرت بالتردد طويلا، لكن كان علي أن أفعل ذلك في النهاية؛ إذ يقال أن أفضل طريقة للخروج هي خوض الأشياء.

أمسكت المذكرة التي اشتريتها صباح اليوم، فتحت الصفحة الأولى وتناولت قلمي الأسود المحبوب. قال لي شخص ما قديما أن كتابة اليوميات هي وسيلة علمية لا تساعدك فقط لفهم ذاتك؛ إنما للتخلص من قيود الماضي أيضا، لذا بعد أن عانيت طويلا وأنا غارقة في عار هذه الذكرى، كان لا بد لي من البوح بها، وليس هنالك من أذن قد تستمع إلي دون شفقة سوى أذن ورقة عذراء.

حسنا، إنني لست متمرسة قط في كتابة اليوميات، لذا لا أعرف من أين أبدأ. بالطبع لن أبدأ بجملة من قبيل: «استيقظت في السابعة صباحا، وتناولت فطور الشوفان المفضل لي» لا يبدو هذا أبدا نوع الجمل التي أريد سردها لأنتهك بها براءة هذه الورقة، علاوة على ذلك إنها مبتذلة جدا، من قد يهتم بفطور الشوفان الذي تناولته؟

دعوني فقط أبدأ بشيء لطيف، لأن ما سيأتي لاحقا كاف لكي يمسح كل ما جاء قبله.

إقرأ أيضا : سيمفونية ليلة الانتحار

في صغري، كنت أعيش في قرية جميلة جدا، أشجارها كثيرة، خضراء يانعة، وعيونها صافية، عذبة. وطيورها مغردة على الدوام. كانت المكان الذي أردت دوما أن أعيش فيه وإلى الأبد. في هذه القرية المسالمة عُرفت بكوني الفتاة الشقية لوالديَ، تتبعني كل بنات الجيران -ممن هن في سني أو أقل- إلى أي مكان أذهب إليه، حتى أنني كنت ألقب بألقاب عديدة من قبيل: أم البنات! غالبا إذا ما استفقدت أم طفلتها كان لابد للأخريات أن يذكرن إسمي على ألسنتهن كأول خيار في نقطة البحث؛ وكان هذا الخيار أبداً يصيب.

دوما كنت أسحب الفتيات الصغيرات خلفي، نقفز هنا وهناك ونمثل أدوارا وهمية، نجعل من كيس بلاستيكي حقيبة فاخرة تضاهي الماركات العالمية، ومن غطاء عبوة التوابل صحنا للطعام. نتبادل القبلات ونجلس بأناقة ملكات العصور الوسطى. غالبا لأجل الحصول على كل ماسبق نبحث هنا وهناك عن كل قنينة تم رميها لنجعل منها آنية في مطبخنا الخيالي، أو كرسيا فاخرا في غرفة الجلوس التي لم يرها سوانا؛ وهذا ما جعل الكل يبغضني، فدائما كنت أنا رأس المخطط وأنا من تدفع الفتيات ليعبثن بالقمامة والبحث في أعشاش الأفاعي.

لم يعلم أحد قط أنني أحببت الفتيات مثلما أحببنني، كنت أتبعهن مثلما يتبعنني. لم توجد رأس للمخططات، ولم يكن هنالك فتاة شريرة تدفع الصغيرات للعبث بأعشاش الأفاعي بحثا عن عبوات فارغة للعب؛ كانت هناك فقط فتاة صغيرة تريد أن تلعب. بل إني كنت الأكثر غباء وسذاجة من بينهن وكانت كل الفتيات الأخريات ناضجات، قادرات على رد الكلام وجلد الناس بألسنتهن. لكن لم يفهم أحد ذلك.

ذات يوم مشمس؛ ذهبت والدتي لغسل الثياب في وادي القرية، كان وادي ضخم تزأر مياهه كزئير الأسد وتتدافع بقوة كأنها جبال تنهار، لكن الآن اختفت المياه ولم يتبق سوى طحالب خضراء تقفز فوقها الضفادع.

إقرأ أيضا : تحت ظلال النسيان

يومئذ بقيت أنا في منزل زوجة عمي لألعب مع الفتيات ولم أرافق أمي. وبينما كنت أركض هنا وهناك إذ نادتني إحدى الفتيات كي نذهب وراء المنزل للعب. هناك وجدت صديقاتي الأخريات مع ابن عمي، يجلس فوق قنينة غاز فارغة في انتظاري.

كانت لدي عادة غريبة وأنا صغيرة، إذ كان كل رجل بالغ يبدو لي شهما وحنونا. لا أعرف لماذا! لكني ظننت ذلك في كل رجل رأيته، ودوما ما اتضح لي العكس. لقد ولّ زمن الشهامة والرجال، الآن لم يتبق سوى الذئاب؛ وقد كان هو أول ذئب قابلته ثم سريعا تحولت حياتي لغابة ملأى بالمفترسين.

جلس هناك بثبات، ساقاه منفرجتان وينظر لي بابتسامة لم يستطع عقل طفلة مثلي أن يقرأ خوافيها. طلب منا أن نلعب لعبة بسيطة جدا؛ سيدعني ألمس عضوا حساسا في جسمه، ثم علي بدوري أن أسمح له بفعل المثل…في جسمي.

ترددت؛ بالفعل كنت طفلة غبية لكن حتى الأغبياء لديهم فطرة وحدس خلق فيهم لينبئهم وقت الخطر. نظر لي نظرة مطمئنة وقال أنه لا شيء مخيف. ستقوم كل الفتيات الأخريات -وقد كن أخواته من الأب- بفعل نفس ما أفعله، فقط جزءه الخاص. أعتقد أن عقله القذر لم يصل لدرجة يستبيح بها لنفسه أخواته؛ لكن لا بأس بابنة عمه الخرقاء.

فعلن؛ وفعلت وقد كنت كالغبية إذ انسقت وراء ذلك. واستمرت اللعبة حتى انتهى دوره وجاء دوري. ساقني نحو زريبة الماعز التي كانت بالقرب منا، ومد يده دونما خجل ليستبيح جسدي البريء لنفسه. متى استيقظت؟ وكيف؟ لست أعرف كل ما أذكره هو اقترابه منه ويداه… يداه القذرتان، أود قطعهما.

باب الزريبة الذي كان ثقيلا على طفلة مثلي فتح مثلما فتحت الأبواب ليوسف. والسرعة التي ركضت بها لأعود لأمي كأنما الأرض طويت لي. وصلت إليها، أبكي، أنهج وأتمتم بكلمات لا يتذكرها عقلي.

كانت تلك من المرات النادرة التي تستمتع فيها أمي لي، فأنا دائما كنت أقع في المشاكل مع الآخرين لأني «أم البنات». لكن هذه المرة قد تركت أمي ما في يدها. هرعت لي محتضنة ومسحت على وجهي برداء ثوبها المبتل. كان صوتها مهتزا أكثر من صوتي وهي تسأل بإصرار «من؟ من؟».

إقرأ أيضا : انشقاق القمر

عندما نطقت اسمه، اسودت الدنيا في عيون أمي، جرتني وراءها بعزيمة أم تحترق كبدها وتركت الغسيل مكانه، لم تهتم بجمعه… أي غسيل يهم الآن؟

عقل طفلة مثلي لمن الصعب أن يستوعب ما حصل جيدا بعدها، كل ما أذكره أن أمي اقتحمت مجلس النساء- في بيت عمي- صارخة ، تجرني خلفها وتقطر ثيابها ماءً، بينما رأسها معصوب بقطعة بيضاء.

المثير للسخرية أن زوجة عمي وهي تحاول تهدئة أمي الهائجة نظرت لي وقالت «كان عليك أن تقصديني أولا».

لحظتئذ فعلا شعرت أنه لربما كان علي أن آيها أولا فهي كانت الأقرب إلي؛ فقط خطوتين. لكن هل كانت زوجة عمي؛ رغم لطافتها، رغم حبي لها الشديد. لتكون بمنصب أمي؟ هل كانت زوجة عمي لتمسح وجهي وتحتضنني، هل كانت زوجة عمي لتضاهي منزلة أمٍّ في قلب طفلة مرعوبة كادت براءتها تنتهك؟ هل كان حضن زوجة عمي ليطمئنني كما حضن أمي؟ كلا، أعرف يقينا أنه مهما تكرر الزمن والأحداث نفسها، فإني سأركض دوما لأمي ولو كانت تغسل غسيلها في نهر النيل.

لكن ليس هذا ما يهمني الآن، هذه القصة القديمة لا شيء يخفيني فيها أكثر من «ماذا لو؟» ماذا لو نال مني؟ ماذا لو كان الباب الثقيل أقوى من أن يفتح لي؟ ماذا لو وألف ماذا لو.

أعرف يقينا الآن، أن كل روح في هذه الدنيا محاطة دوما بالذئاب. لكن لولا ستر الله لما بقيت روح واحدة منا. نحن لاشيء لو ستر الله.أنا؛ تلك الطفلة البائسة لولا حفظ الله لها لما فتح الباب، لولا حفظ الله لها لما طويت الأرض. لولا حفظ الله لها لما دق ناقوس الخطر. لولا حفظ الله لما كنت هنا، أسرد قصتي في مذكرة سوداء.

نحن لا نساوي شيئا في هذه الدنيا لولا حفظ الله وستره.

انتهت، بفضل الله

ملاحظة : كانت القصة محاولة لكتابة قصة قصيرة جدا، لست واثقة من أنها مثالية. لكني حاولت على كل حال…وهي مقتبسة من قصة واقعية. تجنبت ذكر كل الأحداث حفاظا على خصوصية صاحبة القصة لذا آمل ألا يكون ذلك تسبب في نقص بها.

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

رنا رشاد

المغرب
guest
3 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك