أدب الرعب والعام

أسرة مثالية

« غريب .. متى جاء هؤلاء القوم؟!»

هذا هو السؤال الذي شغل والدتي و هي تراقب بيت آل ميلر أغنى سكان بلدتنا و الذين يملكون قصرا ساحرا على الطراز الفيكتوري .

اعتادت هذه الأسرة المثالية على قضاء إجازة الصيف كله خارج البلاد لسنوات ، فمن غير الطبيعي أن يكونوا عادوا الآن بعد أسبوعين فقط .

قلت لها : « ربما باعوا بيتهم ؟»

« لا مستحيل .. إنهم يملكون هذا القصر بالوراثة لعدة أجيال .. لا يمكن بيعه بين يوم و ليلة ! ».

لم يكن الأمر ليشكل كل هذه الأهمية لولا أن أمي عالقة في هذه البلدة الصغيرة و لا شغل له إلا التجسس على أحوال الجيران كعادة سكان الضواحي و النساء عموما . لن تهدأ حتى تعرف كل شيء عن هؤلاء الجدد ، و بما أننا في إجازة من المدرسة وعدتها بأن أستطلع أمرهم صباحا .

لم تمض إلا أيام قلائل حتى أصبح ابن تلك الأسرة (روبرت) صديقا لي . شاب في مثل عمري ظريف ومؤدب .. و بعد مدة وجيزة دعاني لقضاء سهرة في بيتهم .. بعد أن يسافر والديه ، لم أرفض طبعا لانسجامي معه و امتلاكه ترسانة من الأفلام وألعاب الفيديو . هذا الخبر حتما سيسعد والدتي كثيرا ، من المؤكد أنها بعد السهرة ستجري معي تحقيقا معمقا لمعرفة كل تفصيلة تخص الأسرة و البيت و.. و …


في الموعد المحدد مساء أقف في حديقة القصر الواسعة المحاطة بأشجار غاية في الضخامة وتوزعت أمام المدخل نباتات و أزهار لا أعرف كنهها و مما زاد المكان بهاء هو البدر الذي أنار كل شيء ، منظر مهيب حقا . لم يطل وقوفي أمام الباب حتى فتح لي مضيفي و رحب بي .. بدأت سهرتنا سريعا ألعاب و فيلم رعب يحكي عن المذؤوبين ، ثم دردشة حول مواضيع عشوائية .. و سرعان ما بدأ الملل و جو التململ المعروف يخيم علينا ، هممت بالرجوع للبيت .. عندها اقترح روبرت أن يحكي كل منا قصة رعب حدثت له أو سمعها على سبيل التسلية .. و بدأنا بقصتي .

القصة الأولى : رعب على الطريق

يقود شاحنته في طريق طويل لا نهاية له .. عمل ممل؟ ربما ٫٫ لكنه اعتاد الأمر ببطء ثم أصبح مع توالي الشهور مستمتع بعزلته الإجبارية . يراقب ساعته ، لم تبق إلا دقيقة على بداية برنامجه الإذاعي المفضل و دوى صوت المذيع المتحمس أكثر من اللازم :
ـ
« مساء الخير أعزائي المستمعين معكم المذيع (…) في برنامج ” ساعة الرعب ” إذا مررتم بتجربة مخيفة أو أحداثا غامضة وأحببتم مشاركتها اتصلوا بنا على الرقم (…) ، في انتظار قصصكم التي ستحرك عجلة الرعب .. ! معنا اتصال .. ألو من معي ؟»

صوت فتاة شابة :

« مساء الخير .. أنا ليزا من مدينة (…) »

(المذيع ) : « ما القصة ؟»

« أدرس في جامعة (…) و هي بعيدة عن البيت مما يضطرني إلى العودة بصفة غير منتظمة غالبا في الإجازات .. مع العلم أني أعيش مع أمي فقط . في أحد الأيام عدت لقضاء نهاية الأسبوع ، أول ما فعلته هو وضع هاتفي على الشاحن فقد انطفأ في الطريق . كان الوقت ليلا ناديت على أمي فلم تجبني لا بد إنها نائمة . أخذت حماما و نزلت إلى المطبخ لآكل شيئا ما .

لاحظت أن أمي جالسة أمام التلفاز ــ تعطيني بظهرها ــ ألقيت عليها التحية فلم ترد . لا بد أنها ما تزال غاضبة من آخر نقاش بيننا كنت أعد الطعام و أشعر أنها تخترقني بنظرات غير عادية و لما أنظر إليها تدير رأسها بسرعة .. أحسست بتوجس و حرقة في بطني هناك شيء غير عادي ، لكني كنت شابة و سرعان ما تناسيت الأمر .

المهم آويت إلى فراشي حتى أتى صوت أمي من الأسفل قويا على غير طبيعته ليزا ٫٫ليزا ! »

(المذيع ) : « هل تسردين علينا قصة حياتك .. وقت المشاركة محدود !»

(ليزا ) : « اصبر يا أخي .. خرجت لأرد عليها لكن الصوت اختفى .. أحسست بشعيرات تنتصب على رأسي ثم عاد الصوت أقوى ، لم أدر ما أفعل . ثم سمعت صوت خطواتها صادعة إلي ، وقع قدميها على البلاط قوي أكثر من اللازم ٫ شعرت بأني في قمة الرعب وصوتها يدوي .. ليزا .. ليزا ، عندها أمسكتني أمي الحقيقية وأغلقت فمي و قالت لا تردي عليها حتى أنا أسمعها لكن أصمتي.

ضمتني إليها و أنا أرتجف كورقة ، وأخذتني إلى غرفتها لأنام في حضنها . في الصباح الموالي لم أجد أمي في البيت ، بحثت طويلا ، تذكرت هاتفي أشعلته و وجدت عشرات الاتصال الواردة منها ، ثم جاءت الصدمة على شكل ملاحظة معلقة على الثلاجة من أمي تقول فيها :

“حاولت الاتصال بك كثيرا لكن هاتفك كان مغلقا المهم سأذهب لقضاء الليلة عند خالتك لأنها مريضة وسأرجع غدا مساء”

علق المذيع بشيء ما على القصة الغريبة ثم جاء اتصال آخر ..

(المتصل ) : « مرحبا اسمي شخص ما قادم من الفضاء الخارجي »

(المذيع ) :« أرجوك يا سيد .. تحدث بجدية »

(المتصل) : «و هل الدجل الذي تقدمونه أمر جدي أيها المخابيل »

ثم انقطع الاتصال.

بينما يصغي إلى البرنامج استرعى انتباهه شخص ما يقف على مسافة بعيدة نسبيا و يشير بيديه .. اقترب أكثر ثم ضيق عينيه ، فتاة في مقتبل العمر .. هذا ما يعرف بالأتوستوب ـ ثقافة أمريكية دخيلة علينا ـ تعجب و توجس من جرأتها و هي تصعد لتجلس بجانبه .. لكن شهامته حتمت عليه فعل هذا . متى كان الناس يتركون الفتيات البريئات وحدهن على قارعة الطريق .. لا يدري ، قاطعته بنبرة واثقة :

ــ شكرا لك .. كنت خائفة جدا .. خاصة و الشمس على وشك أن تغيب .

أشار لها برأسه ردا على مجاملتها ، لم يكن ثرثارا ، أحس بطرف عينيه أنها تتأمله و على وشك أن تسأله شيئا ما و خوفا من الحوار الذي قد ينشأ بينهما أسرع بتشغيل الراديو .


يبدو أن المذيع المتحمس ما زال هنا .. دوى صوته عبر الأثير قائلا :

« ما زلنا في انتظار مكالماتكم .. قصصكم هي الوقود الذي يشعل عجلة الرعب »

بدأت الاتصالات تنهال على البرنامج السخيف ، بعضهم كان يستهزئ و يلقي نكاتا و بعضهم لديه تجربة شنيعة أو هلوسة و ربما كذب .. لا يهم ، أغلب التجارب كانت اجترارا لما ترسخ في الأذهان من أفلام الرعب ..

كليشهات مبتذلة عن مصاصي الدماء و الأطباق الطائرة و …

أشارت له رفيقته أن يتوقف و ترجلت من المركبة . الطريق إلى بيتها بدا موحشا ، مظلما ، و كئيبا أكثر من اللازم لو شئنا الدقة لقلنا مرعبا قليلا خاصة مع أصوات العواء القادمة من اللامكان .. لكنها تسير بكل ثقة، صرخ صوت داخل رأسه :

« اذهب … اذهب أيها الأحمق »

لكن شهامته تغلب عليه مرة أخرى و نزل لكي يحرسها من بعيد في حالة خطر ما .. تعثر في حجر و هو يسرع محاولا اللحاق بها ثم صاح :

« اللعنة .. إنها تمشي بسرعة »

أكمل سيره و لاحظها و هي تدخل أحد البيوت ، اقترب فبدا البيت مهجورا أو شيئا كهذا .. قرر طرق الباب .. لن يخسر شيئا . سيطمئن انها وصلت بخير ، فتحت له عجوز متشككة و سألته بنوع من الفضاضة :

« ما خطبك يا هذا »

قال بأدب جم :

« العفو يا خالة ، هل الشابة التي دخلت الآن حفيدتك؟ »

« لا أظن ذلك .. كان لي واحدة فيما مضى ، أما الآن فأعيش وحيدة . لماذا تسأل أصلا ؟ »

رد بإنزعاج واضــح :

« هـل هـذا أحـد الـمـقالب الرخيصة التي تعرض على الفضائيات ؟ »

دارت الدنيا به .. و سرت رعشة خفيفة في جسده ، شيئا ما ليس على ما يرام .قال لها :

« هل لي بكوب من الماء ؟ »

استدارت عائدة للداخل بسرعة لا تناسب سنها .. انسحر ثوبها فلاحظ أن قديمها دقيقتان أكثر من اللازم . جال بعينيه في المكان مستغلا غيابها ، استرعى انتباهه صورة معلقة على الجدار ، اقترب منها .. لا يمكن أن تكون هي ، انها نفسها الشابة التي أوصلها هنا منذ قليل ، ماذا تخفي هذه العجوز الماكرة ، لا يريد أن يعلم أكثر من اللازم . فمصير الخص الذي يعلم أكثر من اللازم واحد في كل القصص و الأفلام التي مرت به .

عادت حاملة كوب الماء .. ارتشف جرعة منه ، امم طعمه غريب .. انكمش وجهه تقززا ، أشار للصورة مستفهما . تغيرت ملامحها قليلا و قالت:

« هذه حفيدتي .. كانت تدرس في الجامعة و على وشك التخرج .. لكن منطقتنا نائية و تقل فيها المواصلات فكانت أحيانا تشير للمركبات على الطريق .. حتى .. »

بدأ يلاحظ تحولا يطرأ عليها .. هل كانت بهذا الشحوب ؟ هل كانت عيناها بهذا اللمعان من قبل ؟ ارتعدت أوصاله و تراجع للخلف ببطء ، أراد الصراخ لكن حلقه جف .. أكملت حديثها و هي تتقدم نحوه:

« ذات يوم توقف لها ذئب بشري ، استغل ضعفها وقام باغتصابها و قتلها بوحشية .. »

بدأ البيت يهتز بعنف لحديثها و بدأ يسمع صوت ارتطام الاثاث ببعضه و تحطمه ثم انطفأت الاضواء .. لم يتحمل أكثر من هذا و ركض بكل قوته الى الخارج .. تحول فجأة البيت الى خرابة .. بدأ يجري و ينظر خلفه ثم يسقط و يكمل .. لم يشعر بهكذا رعب منذ خلق .

استوقفه شخص ما سائلا اياه عن ما به ؟

حاول أن يتكلم لكن لسانه منعقد و جسده يهتز خرجت منه كلمات مبعثرة لا يعلم كنهها:

« ذلك البيت … مـر… مرعــ….مــرعب … »

ربت الغريب على كتفه قائلا : « اهدأ .. أرجوك .. أنا شريف البلدة و البيت الذي تشير اليه مهجور منذ سنين »

سكت قليلا ثم استطرد :

« كانت تقطن به عجوزا مقعدة مع حفيدتها الوحيدة .. قتلت البنت في ظروف غامضة يطول شرحها ، فلم تتحمل الجدة الأمر و أحرقت البيت و هي فيه »

زاد رعب صاحبنا أكثر و أكثر و تمدد على الأرض .. لكنه لم ينهض أبدا.


” أنهيت قصتي و نظرت إلى روبرت فأبدى استحسانه .. لكنه قال بأنها قصة خيالية وهو معه قصة حقيقية ستذهلني على حد تعبيره.”

القصة الثانية : المذؤوبين

قال روبرت دون مقدمات :

« سأخبرك بقصة ملعونة »

قلت : « لا يهم إن كانت جميلة »

« جميلة لكني أحذرك من البداية ستغير حياتك للأبد .. يمكنك المغادرة الآن »

ضحكت من حس الفكاهة لديه :

« لا يمكنك إخافتي بهذه السهولة .. احكي قصتك »

حسنا القصة تدور حول أسرة مثالية تعيش منذ القدم، أسرة غريبة جدا .. لا تأكل إلا مرة كل بضعة أشهر ، تبدأ الطقوس بالبحث مليا عن مكان مناسب .. يجب أن تكون بلدة منعزلة أو ضاحية منسية .. ثم يجب البحث عن بيت معزول في أطرافها و لا يهم إن كان خاليا أو رحل سكانه في إجازة .. و بعدها تأتي الضحية .. يجب أن يكون شابا .. يستدرجونه في ليلة يكون القمر فيها بدرا ليكتمل تحولهم ..

قاطعته بسرعة :

« قصتك خيالية »

فرد بثقة :

« لا أبدا .. دعني أكمل، البعض يسميهم المذؤوبين خاصة في الثقافة الغربية .. لا يهم .. يستدرج الضحية إلى البيت ظنا منه أنه سيقضي سهرة ممتعة»

بينما يروي روبرت قصته بدأت تغيرا هامة تطرأ على ملامحه ، احمرار عينيه ، و استطالة أذنيه ، نمى له نابان بسرعة و تضخم فكه .. جلده بدأ يُكسى بالشعر .. حاولت الفرار إلى الباب .. لكن سمعت حركة خلفه .. لا أصدق هذا ، يبدو أننا لسنا وحدنا فهناك قوم خلف الباب .. كدت اسقط أرضا من الصدمة ، صرخت كثيرا لكن صراخي لم يزدهم إلا حمساة و تحفزا و بدأوا يصدرون أصواتا غريبة تشبه العواء و يضربون الأرض بأقدامهم .

جلست بهدوء في الزاوية ، نظر لي روبرت وقال بصوت شبه بشري:

« اعذرني يا صديقي ، ليس بيدي حيلة »

ثم فتح لهم الباب ليدخلوا جميعا في نفس الوقت يصيحون ويتدافعون ، بدأت الوليمة الشهية ومعها أصوات التقطيع والمضغ والتشجؤ …

تمت

مصطفى 2018

- الجزائر - للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
6 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك