كشكولمكتبة كابوس

المسرحية الأيقونية.. رحلة إلى الغد

لم يعرف قلم الكاتب المصري الراحل توفيق الحكيم سوى الإبداع في كل ما كتبه من أعمال أدبية تنوعت بين المسرحيات، الروايات وحتى القصص المسرحية. وقد اشتهرت مسرحياته والتي كان لها حصة الأسد في إنتاجاته بأنها صعبة التمثيل على خشبة المسرح، ذلك أنها صنفت بأنها مسرحيات ذهنية، أي أن مكانها هو ذهن القارئ والمؤلف. فالأحداث تراتبت مشكلة عوالم ثقافية وإبداعية يصعب أن يتم عرضها تمثيلياً، خاصة أن الكثير من تلك الأعمال دارت في فُلك الأساطير.
إحدى المسرحيات التي خطها قلم توفيق الحكيم هي “رحلة إلى الغد”. وكانت إضافة ممتازة لعالم الأدب الذي لا يعترف بالحدود. وكانت عينة بديعة فتحت الآفاق بزاوية تأملية للحياة والقضايا الشعورية.

تناقش هذه المسرحية العبقرية قضية المستقبل والماضي والتعلق به عن من خلال أربعة فصول. كل فصل يحتوي بطبيعة الحال على مجموعة من الأحداث المتناسقة.

فيأتي الفصل الأول ليخبرنا عن الشخصية الرئيسية وقصته وكيف أنه موجود في هذه الحالة، ثم يأتي الفصل الثاني معلناً بداية المغامرة ثم يتلوه الفصل الثالث ويبدأ التعمق في الحبكة وربط الأحداث، الزمان والمكان مع بعضهم مما يخلق رسائل مبطنة وظاهرة، رمزيات وإسقاطات وإضافات للقصة العامة.

في الفصل الأول..

كان هنالك طبيب مسجون.. لم يتم تسميته سوى ب”السجين” مكتئباً حزيناً ضاقت به الدنيا بعد أن خانته امرأة أوهمته بأن زوجها الذي يعالجه هو في الحقيقة مجرم بحقها فقد آذاها وأجبرها على البغاء، فما كان من الطبيب إلّا أن يقتله فرفعت عليه النسوة من بعد ذلك قضية أردته في هذا الحال وجعلته يستقر في مقر العقاب.. والأخيرة كانت قد تآمرت مع المحامي ضد السجين المسكين والذي بدأ بالحديث مع طبيبٍ أراد فحصه قبل تنفيذ حكم الإعدام..

حديثٌ كشف الشخصية العنيدة والأعصاب المعقدة للسجين الذي دافع عن نفسه وشاورَ وناورَ الدكتور بكل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بقضيته.

فجأة، ومن اللا مكان ومما لم يكن في الحسبان.. ظهر مسؤول كبير بعرض كبير.. هذا العرض كان موجهاً للسجين مكوناً حبلَ إنقاذ على هيئة ما يمكن أن يسمى “مِنحة”. فقد عرض المسؤول أن يخرج السجين من سجنه ويفارقه للأبد، وأن لا ينفذ ضده القصاص.
هذا الكرم مشروط بأمر واحد.. هو أن ينطلق المحبوس في رحلة فضائية علمية فرصة النجاة فيها هي واحد في المائة فقط.

ولعل هذا الواحد في المائة هو ما أغرى الأخير الذي ما كان ليفضل الموت المحتم اللا مفر منه على بصيصٍ من الأمل.

هذا كان الفصل الأول باختصار، التهيؤ للمغامرة وعرض شريحة من هوية البطل.

في الفصل الثاني، يجد البطل نفسه في حجرة الصاروخ مرمياً على الأرض بعد أن استيقظ من نومه، فيلتفت حوله متعجباً! ما هذا ما غادر السجن عليه! وبعد فترة وجيزة يقابل زميلاً له في الغرفة.. بيدَ أنه ما درى أنه زميل إلّا بعد أن تجاذبوا أطراف الحديث وعرّف الأول عن نفسه للثاني قبل أن يعلن الثاني زمالته الجنائية للأول..

فيغوص الأثنان لاحقاً في غمار الحجرة مستعصيينها..
ومن خلال هذا الفصل، عُرضت تأملات عدة من قبل السجين الأول لرتابة وبساطة وضعه.. هو بالطبع ليس وضعاً بسيطاً، لكن موقفه في الفضاء ومحيطه أثار في نفسه فلسفةً وجودية عبّر عنها بالقول والفعل.

في بدايات النهاية، ينقطع الاتصال عن الإثنين. وفي النهاية، يبدأ التلميح لاصطدامهم بكوكب.. هذا التلميح سرعان ما بدأ بالبزوغ في الفصل الثالث.

وفي الفصل الثالث، تبدأ الأحداث على كوكب غامض ومجهول. فما لبث الزميلان، السجين الأول والثاني، أن ركضا على سطحه باحثين عن أي طرف خيط يقودهم لمعرفة الكيان الغامض الذي اصطدما به (وبالتأكيد، تم وصف حالة الإصطدام والمعاناة الطبية)..

فاكتشف الإثنان أن هنالك جذباً غريباً على أرضه! شيئاً وهمياً يتمثل أمامهم في صور خيالية لكن حقيقية! أي شيء يفكران به يظهر أمامه بصورة شبه متلفزة!

رحلة إلى الغد

السجين الأول لم يفوت الفرصة وبدأ بالتفكير في تلك المرأة التي أبدى مشاعر متناقضة تجاه صورتها.. فانتهت مشاعره بإبداء البرود وعدم الإكتراث. وعلى النقيض، فكر نظيره وسرح في خيلاء المستقبل.

ولم يخل كلام السجين الثاني من ازدراء الماضي ككل.. فهو له غير عاشق، ونظرته له تفوق السلبية سلباً.

واختلف معه الأول وأكد على أهمية الماضي. وعلى كل حال، فإن فحوى المسرحية ليس هنا، فالصراع بين الماضي والمستقبل كان على هيئة نقاشات فقط، ولم يشكل جميع المشاكل.. فها هنا لا مكان ليقطن فيه أي من السجينين! ولا عمل لفعله!

بل ما فائدة الجلوس دونما عمل؟ أهو حقاً له رونقه؟

هذه القضايا عُرضت على شكل حوارات بين الإثنين على ظهر ذلك الكوكب المجهول. باستخدام الكهرباء التي اكتشفاها على الكوكب، استطاعا إصلاح الصاروخ بأجهزته المحطمة. وإنطلقوا عائدين للأرض بأمل وإشراق.

في الفصل الرابع والأخير.. تغير كل شيء.. مسكن عجيب وجد السجين الأول نفسه فيه، جدران مضاءة وشكل مستقبلي لا يمكن وصفه بالدقة..

أول من برزت في هذا الفصل هي “الشقراء” صفة ما إسم، بل لم يُعرف اسمها أبداَ.. تكتسي ثياباً غريبة وتقف أمام جهاز أقرب ما يكون لأجهزة التسجيل وهي مشغولة بإعداده.. كانت في ذات المكان الذي تواجد فيه السجين الأول وتحدثت معه عن كل شيء، شرحت له ما يجب أن يُشرح.. كما عبر الآخر عن مشاعره وإدراكاته التي طرأت على مكنونه وهو فوق ذاك الكوكب.

الشقراء، بطبيعة الحال، وبحكم عملها كسياسية مستقبلية متطلعة للمستقبل باغضة لكل ما هو قديم، طلبت منه شرح كل ما واجهه في رحلته أو بالأحرى مغامرته في الفضاء الخارجي في تقرير مفصل.
قبل أن يشرع أي منهما في عمله، يدور بين الإثنان نقاش عن الأرض وأحوالها.. فيتبين لاحقاً من حديث السيدة أن الأرض التي غادرها السجين مرَّ عليها ثلاثمائة عام! وأن كل شيء تغير وتقدم.

ومع تقدم السيرورة، يتم تصوير العالم الجديد بكل رفاهياته وتقدمه الفاخر، فقد انتهى الفقر وانتهت المشاكل وطالت الأعمار وبات كل شيء متاحاً غيرَ محدود!

لا بل حتى الإنجاب أصبح بشروط، فمن يريد أن يخلف ذرية لا بد أولاً أن يخضع لامتحانٍ يؤكد الذكاء الفائق الذي من المفترض أن ينعكس على النسل. وكان هناك إسقاط بارز، مفاده أن السكان باتوا يضيعون وقتهم أو شيء من هذا القبيل على كرة المجرات!

لم تكن الشقراء هي المرشحة السياسية الوحيدة، فمع تقدم الأحداث، تأتي أيضاً السمراء ومعها السجين الثاني!

وتدور الأحداث مخلفة نقاشات حادة بين الشقراء والسمراء.. نقاشات مثّلت وجهات نظر مختلفة فيما يخص التطلع للبناء العام.. فها هي الشقراء تقرر أن يستمر النظام التطوري دون الإهتمام بالتقاليد.. لتعارضها نظيرتها بحدة وتعلن تمسكها بالماضي ودعمها الشديد لتدمير ما خلقه العالم وما تريد تلك إدارته..

إعلان هذه الرغبة لوحده كان سبباً كافياً للمقاضاة القانونية، لكنها لم تُفلح. فلحفظ النظام والأمان في العصر المُشَيَّد، لا بد من الاعتقال وملء السجون، لكن السجين نجى، على عكس السمراء.

في تحول مفاجئ للأحداث، يرتعب السجين الأول من كائن غريب، هو إنسان روبوتي حدثته عنه الشقراء، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، آلة حية تفتقر لأدنى مظاهر الإنسانية!

وهي بالطبع مجرد رمزية ظاهرية لا دور لها في الحبكة، فبعد كل شيء، نحن نتحدث عن مسرحية وليس رواية.

لم يدم الأمر، فبسبب امرأة لم يكن يريد أن تذهب للمنفى بمفردها، انضم السجين الأول لها، السمراء، وقبلها في المشهد الختامي.


المصدر
Foulabook
guest
5 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك