نساء مخيفات

بيولا عنان شريف: قاتلةُ عصر الجاز

تجاهلت بيولا عنان الدوار الذي تشعر به و الجو الحار الخانق لمدينة شيكاغو، بل وحتى الشاب التي كانت تهيم به حبا وهو غارق في دماءه. استمرت بوضع إبرة الفونوغراف وتشغيل أغنية الجاز المفضلة لها ولكولستيدت مرارا وتكرارا وهي ترقص بهستيرية كما لو أنها فقدت عقلها. استمر الأمر أربع ساعات تقريبا لا تسمع فيهم بيولا سوى بضعة أسطر لأغنية لا تزيد عن دقيقتين ونصف من أغنية Hula lo ..

“يسمونني هولالو، أنا هذا النوع من الفتيات الذي لا يمكن أن يكون حقيقة

بيولا عنان شريف

ولدت بيولا عنان في 18 نوفمبر عام 1899.. كانت شابة جميلة ذات عيون زرقاء واسعة وشعر أحمر داكن. وأينما ذهبت كانت الأنظار تتجه إليها. لذلك قرر والداها تزويجها في أقرب فرصة، وقد وجدا ضالتهما في بيري ستيفنز وهو عامل في مجال الطباعة، وكانت بيولا في الخامسة عشر من عمرها.

بيولا عنان شريف
بيولا .. كانت فتاة جميلة جدا

أنجبت بيولا طفلاً لبيري، ولكنها لم تكن تريد تلك الحياة، بل أرادت أن تستمتع بوقتها وأن تعيش شبابها. لذلك بدأت بتكوين الأصدقاء والخروج في النزهات، فقد شعرت بالملل من كونها ربة منزل.

في أحد الأيام كانت تتجول بسيارة مسرعة على الطريق مع شاب في حالة سكر، حتى انتهى الأمر باصطدامهما بعمود الهاتف. وهنا عرف زوجها بتسللها خارج المنزل وتجولها مع شاب غريب فقام بتطليقها وحصل على حضانة ابنهما الرضيع.

حاول والدا بيولا إعادتها إلى زوجها، ولكنها تشاجرت معهما ورحلت عن المنزل إلى بلدية لويزفيل. وهناك التقت بألبرت عنان وهو ميكانيكي سيارات يكبرها بعشر سنوات. كان يحبها كثيرا، لذلك استجمع رباطة جأشه وعرض الزواج عليها. وافقت بيولا عليه لكن بشرط أن يأخذها ويذهبا للعيش في شيكاغو، وذلك بسبب أن عائلة ألبرت كانت سيئة السمعة.

فشقيقه كان قاطع طريق وعضو في عصابة مختصة في سرقة السيارات وعمليات السطو المسلح على الطريق السريع. باختصار كان لدى بيولا كل الحق في أن تطلب منه المغادرة، وقد بدا هذا الطلب لا شيء مقارنة بحب فتاة جميلة وصغيرة مثل بيولا له. لذلك أخذها ورحل إلى شيكاغو.

هناك وجد ألبرت وظيفة في مرآب سيارات في مقابل أجرة ستين دولار أسبوعياً، وقد كان دائما يعمل لساعات إضافية لتسديد ثمن الأثاث الذي اشترته بيولا لتأثيث بيتهما. وبينما كان يكافح لتأمين أساسيات المعيشة وتسديد الأقساط المتراكمة عليه، كانت زوجته بيولا تشعر بالملل في المنزل، لذلك عرضت عليه أن تذهب وتعمل في وظيفة بدوام جزئي، وقد رحب زوجها بالأمر بشدة، فقد أثقلت الديون كاهله، وزوجته الحنون تشعر به وتريد مساعدته. وقد فكر في كل أولئك النسوة اللطيفات اللواتي خرجن للعمل لدعم أزواجهن.

أما بيولا فقد كانت تسرح بخيالها وتفكر في معاطف الفراء التي ستشتريها لارتدائها تحت فستان من الحرير الرائع، وحذاء من ضمن آخر صيحات الموضة لذلك العام.. ناهيك عن العطور ومستحضرات التجميل والكثير الكثير من الأشياء الرائعة.

وهكذا ذهبت إلى العمل وهي تعلق أحلامها على مرتب آخر الشهر.

اللقاء المشؤوم

بينما كانت تعمل في قسم الحسابات الخاص بمتجر غسيل الملابس التقت بهاري كولستيدت وهو سائق شاحنة الملابس التي يتم نقلها للتنظيف.

لكن قبل أن ننتقل لما حدث لاحقاً أريد أن أعرفكم بهاري كولستيدت أولا.

هو رجل محتال يحاول دائما أن يوقع النساء في حبه، ثم يبدأ بابتزازهن عاطفياً ليقمن بالإنفاق عليه. وحين تنتهي نقودهن يقول لهن وداعا وإلى الأبد. وبالطبع هذا ليس كل شيء، فقد كان معروفاً عنه سرعة الغضب والشجار الدائم، وكان ذو سوابق إذ سُجن سابقا بتهمة الاغتصاب.

باختصار كان شخصا إن وجدته يقف في الشارع تغير اتجاهك وتمشي إلى الشارع الآخر.

كانت بيولا قد وقعت في حب هاري عندما رأته لأول مرة، واستمر هذا الحب حتى بعد أن عرفت عنه أشياء أكثر. كانا يلتقيان في شقة بيولا أثناء غياب زوجها في العمل. كان هاري مهتمًا بما تنفقه بيولا عليه، لكنه لم يكن يحبها حقًا. بدأ يظهر انزعاجًا من وجودها معه، خصوصًا أن مصاريفها عليه لم تكن كبيرة.

في يوم من الأيام، قرر الثنائي أن يلتقي مجددًا. دخل كل منهما إلى هذا اللقاء وفي قلبه مشاعر مختلفة تجاه الآخر. قامت بيولا بإعطاء هاري 6 دولارات طلبها منها لشراء مشروب الجِن وراحا يشربان داخل شقتها. وفي خلال ساعة واحدة فقط، بدأت المشكلات تظهر. طفح كيل بيولا من تصرفات هاري السخيفة والتململ المستمر منها.

وهكذا شعرت أنه يستعد للرحيل، يريد تركها. لاحظت أنها حزينة لذلك وقلبها يؤلمها، فقررت ألا تسكت على الأمر. استمرت في السخرية منه لأنه مسجون سابق، ولكن هاري بدلا من افتعال شجار معها أخبرها أنه سئم منها وأخذ معطفه استعدادًا للمغادرة. كانت تلك اللحظة التي سوف تغير حياتهما إلى الأبد.

كان الحقد والمرارة يتسللان إلى قلبها، فذهبت وأخذت مسدس زوجها وأطلقت النار على ظهره. ثم ألقت بالمسدس وركضت لتمسك به، بينما هو ينزلق ويسقط على السرير. كان يتمتم قائلاً: :لقد أطلقتِ النار عليَّ!” وهي تنظر إليه، اختنقت الكلمات داخل حلقها، وحاولت أن تخبره أن هذا ليس صحيحًا.

في تلك اللحظة، انطفأ الضوء واختفى من عينيه. لمست يديه ووجهه، شعرت بالدفء. ثم لاحظت بقع الدماء تنتشر، وشعرت بنبضه يضعف. صار جسده كله دمويًا، فتركته ونهضت لوضع أسطوانة أغنية الجاز المفضلة لديهما. ظلَّت ترقص بهستيريا لمدة أربع ساعات، حتى قرَّرت أخيرًا الاتصال بزوجها وأخبرته أنها قتلت رجلاً دخل شقتهما وحاول الاعتداء عليها. عندما وصل زوجها استدعى الإسعاف والشرطة. قال الطبيب أن نبض هاري قد توقف منذ نصف ساعة وبقي يحتضر منذ أربع ساعات غارقًا في دمائه.

عند أخذ الشرطة بيولا عنان إلى المخفر واستجوابها، قالت أن السيد كولستيدت حاول الاعتداء عليها.. وظلت متماسكة بالقصة حتى زال تأثير الخمر عنها فاعترفت قائلة: ” قتلته لأنَّه كان ينوي تركي” ثم هزّت رأسها بطريقة حالمة وأضافت: آمل أن يُسمح لي برؤيته على الرغم من أن هذا سيجعلني أشعر بالسوء”

عندما تم استجواب زوجها ألبرت قال “لقد كنت أحمق، لقد عملت بجد كل يوم لمدة أربعة عشر ساعة يومياً وادخرت كل سنت من أموالي حتى أدفع أقساط أثاث منزلنا في الوقت المحدد، ولم يتبق غير مائة دولار فقط لتسديد ثمنها، اعتقدت أن بيولا سعيدة، ولكني لم أكن أعرف شيئاً “ثم خفض رأسه في أسى.

blank
اشتهرت قضية بيولا في الصحافة وأسالت الكثير من الحبر

محاكمة بيولا عنان

بعد أن قامت هيئة المحلفين باتهام بيولا بالقتل من الدرجة الأولى، انتهت الجلسة وخرجت هي من القاعة. كانت دموعها تنهمر، وهي تمسح أنفها بحرص. أخذت بعض المال من زوجها، وعادت إلى زنزانتها في السجن. هناك، أُجريت مقابلة معها من قِبل الصحافة. ظلت تشتكي من عدم قدرتها على تناول الكريمة في السجن.. وأن الراديو لا يذيع سوى الترانيم الدينية، دون موسيقى أو أغانٍ أو برامج. كانت قلقة من أن والدها قد يتخلى عنها، وأنه لن يدفع أي نقود لتوظيف محامٍ بارع يتولى الدفاع عنها.

بيولا عنان مع محاميها وزوجها
بيولا في المحكمة مع زوجها ألبرت على اليمين ومحاميها على اليسار.. عام 1924

وفي هذه الأثناء أجرى شقيق هاري كولستيدت وزوج أخته حديثا مع الصحافة، وقالا أن هاري كان رجلا خطيرا جدا عندما يتعلق الأمر بالنساء، وقد حاولوا إصلاحه لكنهم فشلوا. ويبدو أن هاري كولستيدت هذا لم يحبه أحد غير بيولا التي أطلقت النار عليه في النهاية. أما والد بيولا فقد رفض التبرع بأي مبلغ لأجلها وقال “هذه ليست المرة الأولى التي تفتعل فيها المشكلات، لذلك لا أعتقد أنني وزوجتي يجب أن نموت في ملجأ بسبب حماقاتها. ولا أظن أنهم سوف يشنقوها فهي جميلة جدا”

وأثناء التحقيق مع بيولا عنان أغمي عليها خمس مرات، أما صديقة والدتها فقد صرحت للصحافة قائلة: “أن بيولا في السجن مع واحد وثلاثين مجرمة من نساء العالم السفلي، إن بيولا زهرة بين الأعشاب الضارة”

هو تصريح أعترض عليه بصفتي كاتبة المقال، لأن أغلب النساء اللواتي كن ينتظرن المحاكمة كن مثل بيولا. قتلن شركاءهن أو أزواجهن. الاختلاف الوحيد أن بيولا كانت جميلة.

أما سيئ الحظ ألبرت عنان زوجها، فقد سحب كل مدخراته واستدان وعمل ساعات إضافية لجمع أكبر مبلغ من النقود لإنقاذ زوجته وتعيين محام لائق لها، وقد كان ويليام ستيوارت من أشهر المحامين المدافعين عن المجرمين وقتها.

blank
المحامي ويليام سكوت ستيوارت

وعلى الرغم من التهكم والسخرية التي تعرض لها داخل المحكمة إلا أن حبه لزوجته بيولا كان ثابتا كالصخر.

في الزنزانة كانت بيولا تبكي بشكل جذاب بينما الصحفيون يلتقطون لها الصور، وتلقي باللوم على والديها لأنهما زوجاها باكراً -وهي محقة في ذلك- وقد تلقت الكثير من رسائل المعجبين والزهور والحلوى وعشاء من مطعم فاخر تم تسليمه لها في السجن. هذا غير عروض الزواج التي كانت تتلقاها، وقد قال لها المحامي الخاص بها أنه من النادر أن يتم شنق امرأة في هذه الولاية. قبل المحاكمة قالت بيولا أنها حامل كي تثير التعاطف بالرغم أن ذلك غير صحيح.

عند اختيار هيئة المحلفين اعتذر الكثير منهم لأنهم كانوا غير متأكدين من مدى تأثير امرأة جميلة عليهم. أما الذين قبلوا القضية فقد أقسموا أن المظهر الأنيق والشخصية الجذابة لا يمثلان شيئا بالنسبة لهم مقارنة بالحقائق الثابتة للقضية -وقد كانوا يكذبون طبعا-

عندما صعدت بيولا على منصة الشهود سألها محاميها بلطف شديد:

_بيولا، هل أطلقتِ النار على هاري كولستيدت؟

_ أجل

_لماذا!؟

_لأنه كان سيطلق النار علي أيضا.

والآن دعونا ننتقل إلى القصة الثالثة التي روتها بيولا عنان للمحكمة، وهي غيرت قصتها مرتين قبل ذلك..

قالت بيولا:

“لقد أتى إلى بيتي مخمورا، فتوسلت إليه أن يذهب، لكنه رفض الرحيل وقال أنه سيرحل فقط إذا شربت معه قليلاً. وقد فعلت ذلك كي أجعله يغادر ولكنه استمر برفض الرحيل. فتوسلت إليه وأخبرته أن زوجي في طريقه الى البيت وقد يطلق علينا النار نحن الاثنين ولكنه قال”إلى الجحيم مع زوجك “ثم أصر على مشروب آخر.. وقام بتشغيل أسطوانة الفونوغراف، ثم جذبني من يدي وقال تعالي معي إلى غرفة النوم، فرفضت وتوسلت إليه أن يرحل، ولكنه قال إنني أشبه امرأة أخرى خدعته بتلك الطريقة وذهب إلى السجن بسببها.

بعدها صاح أين المسدس؟ وبدأ ينظر حوله ثم راح ينظر ناحية غرفة النوم فركضت كي أحصل على المسدس أولا، وقد حاول أن ينتزعه من يدي ويهددني بالقتل، فدفعته بيدي اليسرى وأطلقت النار عليه”

لقد كان وصف بيولا – التي اعترفت سابقا أنها كانت على علاقة بكالستيدت – لإطلاق النار ضعيفا ، إذ كيف يمكن أن تتشاجر مع شخص وجها لوجه و ينتهي بك المطاف بإطلاق النار على ظهره؟

لكن المحلفين استمعوا الى القصة كما لو أنها رواية رعب صغيرة، لم يهتموا بمنطقية الأحداث بقدر ما اهتموا بالأحداث المثيرة. وبعد ساعتين من مضغ العلكة وشرب الماء وسماع قصتها عن الوحش المخمور حُكم عليها بالبراءة. فراحت تشكر كل محلف على حدا، أما ألبرت عنان فوضع رأسه بين يديه وأجهش بالبكاء من فرط سعادته.

بعد أقل من يومين على حكم البراءة ذهبت بيولا المحبة للأضواء إلى جريدة محلية لتخبرهم أنها طلقت زوجها لأنه ممل جدا، ولا يريد أن يخرج ولا يعرف حتى كيف يرقص وهي تريد أن تستمتع بالحياة.

اما ألبرت التعس فقد قال:

“لا أستطيع أن أستوعب أن بيولا تخلت عني، فقد قطعنا عهودا مقدسة عند زواجنا بأننا سنعيش حتى يفرقنا الموت. لا تسألني من منا حصل على الجزء الأسوأ من صفقة الزواج تلك.. لأنني سأحب بيولا حبا لا يمكن تدميره. فهي لا تختلف عن أي امرأة أخرى. إنها ضعيفة وتحتاج للحماية وسوف تعود لي. لقد عملت دائما بجد، ربما كان ذلك هو ما جعلني أهمل بيولا فتركتني”

رغم أمل ألبرت في عودتها، تزوجت بيولا عنان من ملاكم سابق يدعى إدوارد هارليب، ثم بعد سنة انفصلت عنه وتمت خطبتها ل.أ.ماركوس.

بيولا عنان مع بيلفا غارتنر
بيولا مع بيلفا غارتنر التي اتهمت عام 1924 بقتل عشيقها

أصيبت بيولا عنان بداء السل، ودخلت مستشفى الهواء النقي في شيكاغو. وماتت في عام 1928، وليس كما كتب على شاهدة قبرها بأنها توفيت في 1927. وقد تصالحت مع والدها قبل وفاتها وحضر جنازتها زوجها الأول بيري ستيفنز وابنها. وزوجها الثاني ألبرت عنان وزوجها الثالث وخطيبها ماركوس.

قبر بيولا عنان شريف
ماتت في سن صغيرة

قصة بيولا عنان ألهمت الكثيرين، خاصة أن فضائح الحب والقتل في ذلك العصر كانت ذات شعبية كبيرة. فاقتبس عنها عدة أعمال أولها مسرحية شيكاغو التي عرضت عام 1926 واستمر عرضها لسنوات طويلة. ثم مسرحية موسيقية في برودواي عام 1975 وقد كانت من أروع وأبرز الأعمال في تاريخ المسرح الموسيقي، وأخيرا فيلم سينمائي عام 2002 فاز بستة جوائز أوسكار منها جائزة أفضل فيلم.

blank
الغلاف الدعائي لمسرحية شيكاغو
المصدر
ChicagohistoryChicagologyWikipedia
guest
33 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك