أدب الرعب والعام

دموع الياسمين

كان الفجر على وشك البزوغ، دون أن تظهر الشمس بوضوح وإجلال، رغم ذلك السكون القُدّسي، كان لون السماء الضارب إلى الوردي يشي باقتراب موعد استيقاظ ملكة النور والحياة.

مجرد صباح خريفي هادئ، لا سحب في الأفق ولا رياح عاصفة، بل مجرد نسمات ناعمة رقيقة تداعب الوجوه بحنو وعطف، كتلك اللمسات الخاطفة السريعة التي تغدقها امرأة عاقر على طفل يتيم صغير.

لا هي تشبع أمومتها، ولا تسكت تعطشه لحنان امرأة.

في هذا العالم الواسع، في دولة منسية ومدينة كئيبة، في حي لا أحد يعرف بوجوده ولا يكترث لما يجري فيه، في مكان بسيط قد يحدث فيه كل شيء في كل وقت، مكان بعيد عن الأنظار والأضواء، في تلك البقعة النائية، وعلى شرفة منزل قديم مهترئ كئيب لا يختلف عن بشاعة الرتابة من حوله، جلستْ فتاة في مقتبل الشباب عمراً في عمق الحزن والألم شعوراً، جلست تلك الصبية متدثرة بأثواب بيضاء حريرية لا تتوافق مع الظلام من حولها.

أكان الظلام بداخلها هي؟ أم أنها تعبت من كثرة الخوف والتشاؤم؟

رمت فوق كتفيها شالاً أخضر تترامى أطرافها فوق حجرها، تشدّهُ إلى جسدها الغضّ كلما همست الرياح بنسمة ضاحكة.

على تلك الشرفة الحزينة، كانت البنت ذات العيون السماوية النّقية الطاهرة والشعر الكستنائي الطويل المظفر، تجلس إلى مقعد خشبي ذي مساند عريضة أمامها منضدة مستديرة منخفضة فوقها فنجان قهوة ساخن ينبعث الدفء منه، يحوم البخار حوله مشكلاً سُحباً صغيرة تلاحقها عيني الشابة المهمومة، لكنها سرعان ما تصعد لأعلى حتى تتلاشى دون أن تترك أثراً البتة.

روحها كذلك، كل فكرة تحاول أن تتشبث بها لتنسى وجعها قلبها تتبخر تاركة إياها في المعركة ذاتها.

تحاول أن تشغل نفسها بأي شيء، أي شيء كان على هذه الأرض، تفكر بالوجود، تحاول إيجاد حلول لمشاكل جارتها مع ابنها العاق، تنتقل إلى أن تتخيل موتها! لكن دون جدوى، كل شيء يصب في الخانة ذاتها، كل شيء يختفي ليبقى وحده في رأسها يكاد يصيبها بالجنون والهذيان.

تتنهد وقد ضاقت روحها بوجعها، تلتفت إلى فنجان قهوتها الخزفي والذي نقش عليه رسومات أزهار وورود بلون ذهبي رزين، لا تملك رغبة بشرب شيء، تنظر إلى دفترها الأخضر المجاور للفنجان سريع الكسر، دفترٌ يقارب حجم الكف التصق به قلم حبر أزرق.

لم تكن لتجلس جلسة كهذه دون دفترها المميز، حتى لو لم تكن لتكتب عليه شيئاً البتة. تعرف أنها إذا كتبت شيئاً فلن يكون سوى غزلاً أو حباً.. ولا  ترغب أن تغرق في بحر الخطيئة أكثر مما فعلت. مجرد وجود صفحاته يطمئنها، يريحها ويجعلها تشعر بأن الامور كلها ستحل.

كانت الكآبة قد نالت منها، لتجعل خديها المتوردين شاحبين باهتين، ووجنتيها البارزتين عادة غائرتين بخجل طفيف، بينما كانت رموشها الداكنة الطويلة متلاصقة من كثرة البكاء والنحيب، أما جسدها الرشيق الذي في العادة يوحي بالشباب الأبدي فبدا منكمشاً على نفسه منغلقاً إثر ما ألم بصاحبته من وجع.

ولكن، أليس بالحزن وجه آخر للجمال؟ وجه ملائكي تراجيدي؟ وجه يجسد معاني الحلاوة الحقيقية، تلك المرتبطة بالدموع والرقّة والشهقات الخافتة.

ذلك النوع من الجمال الذي لا يظهر إلا بعذاب صاحبه.

كذلك كانت ياسمين، مجرد مخلوقة معذبة متألمة، فلم يكن هناك شيء على وجه هذه الأرض قد يضاهي جمالها الأفروديتي هذا، أشبه بقدسية الآلهة من البشر، أشبه بقرص شمس مشع من إنسان.

لكن ما فائدة أن تكون حلو المظهر لطيف المعشر بعدما تشوهت روحك من كثرة الجروح والندوب؟! أشبه بزهرة ياسمين بيضاء متفتحة خائفة من أن يقطفها المارة فينهون حياتها القصيرة!

 أغمضت عينيها بهدوء خالص رغم ما اعتمر قلبها من اضطراب وخوف، أيعقل أن تتخلى عنه؟! أوليس رجل حياتها؟ الرجل الذي جعلها تؤمن وتصدق وجود السعادة والحب، الرجل الذي حولها من مجرد زهرة ياسمين يستنشق الجميع عبيرها الفواح إلى فراشة ملونة زاهية تزور كل وردة تصادفها إلى فراشة تحرك جناحيها بشغف للمعرفة والطيران، مخلوقة صغيرة تعبد الحياة والسرور والأزهار.

رجل كان ظهوره في حياتها محض صدفة، هدية من القدر تعويضاً عن خساراتها القديمة الفادحة، رجل جاء على شكل دمعة فرح وحب، رجل حضوره رقيق كالنسيم العليل في الصيف، يعصف بنا دون سابق إنذار، يخفف من وطأة الحر ولهيب الشمس، كان كذلك. 

فلو لم يطر شالها الأبيض تلك اللحظة ليسقط على الأرض أمامها قُرب شجرة – لا تعرف ماهيتها لكنها كانت كبيرة خضراء تظلل مساحة واسعة – لو لم ينحني ليجلبها لها، لو لم يبتسم بتلك الطريقة الجذابة اللطيفة، لو لم تظهر الغمازة على خده الأيسر، لو لم تلمع عيناه القاتمتين، لو لم يشع وجهه الحنطي سعادة، لو لم تمطر السماء في ذلك النهار القاتم من شباط، لو لم يدعوها لفنجان قهوة في مقهى قريب بحجة المطر الغزير، لو لم تقبل عرضه، لو لم يتغزل بالشامة الموجودة أسفل عينها اليمنى بحياء وخجل، لو لم يخرج صوت فيروز من المذياع القديم الموضوع على الزاوية تقول بنبرتها الملائكية الحانية:

بديت القصة تحت الشتي ..

بأول شتي حبو بعضن ..

لو لم ترفع نظرها نحوه تلك اللحظة التي كانت مصيرية لكليهما، إذ لم تتلاقَ عينيهما حينها فقط، بل تمازحت روحيهما سوياً لتصبح مجرد قوى عظيمة هائلة معروفة بـ (الحُبّ)..

ألم يكن معجزتها الإلهية؟ ألم يكن سرها الصغير؟ ألم يكن مفاجأتها الحلوة العذبة؟

كيف أصبح فجأة السم الذي تجبر على تجرعه؟ كيف أصبح سيفاً يعانق عنقها؟

أتتركه وتذهب؟

لا تعرف، وكانت الأفكار والوساوس تنهش عقلها وقلبها وروحها وتستهلك كل طاقتها. تشعر أن هذه الهالة الأثيرية من الحب تتلاشى، هذا الرباط المقدس يكاد يُحلّ .. لكنها ترفض، ترفض أن تستسلم أمام الشك.

إنه فرصتها الوحيدة للنجاة، للنجاة من واقعها الحقير الوضيع. معه عرفت للحياة معنى آخر، برفقته اكتشفت ترياق السعادة الأبدية، هو الوحيد الذي يلقي بظلال النور على حياتها الرتيبة الكئيبة.

ظهر وسط أشد أيامها ظلاماً، حين كانت على شفير الهاوية من فرط الخوف والحزن والهم، ظهر كفارس شجاع لينتشلها من قاع الموت.

لكن.. إن استمرت معه، ستتمردغ بالطين حقاً، قد أصبح هو ظلام حياتها. كذب عليها، جعلها وضيعة في نظر نفسها، ولا تعرف إن كانت قادرة على مسامحته حقاً.

إنها لا تحبه، بل تعشقه، تهيم بتفاصيله وتضيع وسط كلماته الساحرة وأحاديثه الملامسة للروح والقلب، تذوب في حنانه وإنسانيته، ولا تشعر أنها إنسانة حيّة تتنفس إلا حين تكون جواره.

شيء فيه آسر ومميز لا يوجد عند غيره من الرجال.

لكنها لا تعرفه.

بعد اكتشافها الحقيقة باتت ضائعة مشتتة وقد تيّم الحب قلبها، باتت تطيل السهر حتى تشرق الشمس وهي ما تزال على شرفتها فنجان القهوة أمامها باردة كالثلج، فلا تدرك أن الليل فاتها إلا حين تشغل جارتها العجوز المذياع ليصدع صوت فيروز معلناً قدوم الصباح بشكل رسمي.

في رأسها، ومن العدم، انبثق لحن كمان رجلها الحزين القاتم حين عزف لها “أهواك بلا أمل”

أتنبأ بمستقبلهما سوياً؟

كان يملك الحقيقة من البداية، لا ريب أنه يعرف إلى أين ستصل الأمور فيهما..

تمتمت شفتاها بخفوت شاردة النظر:

أهواك..

أهواك..

أهواك بلا أمل.

وعيونك، وعيونك تبسم لي.

وورودك تغريني بشهيات القبل.

ارتعش جسدها فأعادت لفَّ الشال حول نفسها من جديد. لو تختفي من هذا الوجود، هي أو تلك المرأة الأخرى.

حبيب روحها وصديق قلبها متزوج!

إنها لا تجرؤ على الإقرار بهذه الحقيقة البشعة.

ترفض أن تكون امرأة لعينة تفسد علاقة مخلوقة بائسة مع زوجها، لكنه لم يخبرها! ومن أين لها أن تعرف؟!

عرفته شاباً ثلاثينياً، صحفيا مجدّا يعزف في أوقات فراغه على الكمان، يحبُّ الشعر والأدب والمسرح والطبيعة والياسمين، لم تعرفه بدور الزوج العصبي والأب النزق.

لم تعرفه!

هذه العبارة تفقدها صوابها.

سنتان وهي تلتقي به، يذهبان لكل أمسية شعرية، يحضران كل مسرحية، يناقشان كل كتاب ويتبادلان رسائل الغرام والعشق، بات يعرفها أكثر من نفسها وخالت نفسها كذلك.

لكنها لا تعرفه!

هذا الأمر يقلقها.

إنه أب لطفل في السادسة، مجرد ولد صغير لا تود أن تدمر حياته. لا ترغب بأن تصبح امرأة ساقطة! معتوهة مرتبطة برجل متزوج، تجعل امرأة تبكي حرقةً، لا تود أن تشعل الضغينة في قلب طفل تجاه أبيه.

إنها ترفض ذلك. ترفض أن تكون سبب دمار عائلة. لكنه لا يحب زوجته! كم مرة قال لكِ ذلك؟

خاطبت نفسها بذعر.

نفت إمكانية إكمال علاقتهما، هي تخافه الآن، رجل قادر على خيانة زوجته المسكينة ألن يكون قادراً على خيانتها هي؟

بسذاجتها هذه لا ريب.

تلقائياً داهمها طيف زوجة خالها (نهال)، تلك المرأة العشرينية الجميلة المثقفة، صبيةً كانت في مقتبل العمر، مفعمة بالحياة والأمل، تحيا من أجل زوجها وعملها كمدرسة جغرافيا، كل شيء يسير كما يجب، الأمور كلها تحت السيطرة.

يأتي (فادي) ظهراً، تكون قد حضرت الغداء، يتناولانه سوياً ثم يأخذ قيلولة قصيرة، إلى أن يستيقظ عصراً لتعد زوجته الشاي فيجلس على الشرفة يشربه بصمت.

فجأة، تغير كل شيء، تمرد فادي، لم يعد يرجع إلى البيت إلا في أوقات متأخرة متجاهلاً أسئلة نهال وتوسلاتها، نظراتها الحزينة لم تحرك في قلبه ساكناً.

خسرت نهال الكثير من الوزن، الكثير من شعرها وصحتها، باتت امرأة أخرى شاحبة اللون شاردة العينين، امرأة لا تمت لتلك التي كانتها قبل أشهر عدة.

الأهم، كان خسارتها لنفسها.

ورغم كل شيء، صبّرت نفسها بأنه سيعود كما كان، فادي الرجل التقليدي العادي الذي يعود عند الثانية ظهراً مع جريدة تحت إبطه، فادي الذي دوماً ما يظن أن الأكل ينقصه ملح، فادي الذي لا يشرب الشاي إلا ثقيلاً.

مجرد نزوة عابرة وتنتهي، كل الرجال هكذا، جميعهم يملون ويرغبون التجديد، سيتوب بالنهاية.. أليس هذا ما كانت تقوله حماتها لها حين تشتكي؟ أليس هذا ما سمعته ياسمين مئة مرة خلسة من فم والدتها وخالاتها وجدتها يصبرون الكنة المسكينة؟

سيتوب، يوماً ما.. لكن متى؟

إلى متى تنتظر نهال؟

لكنها كانت مخلوقة صبورة بائسة، ليس بيدها حيلة، أنتظرت وأنتظرت، حاولت كثيراً، غيرت لون شعرها، بدأت تتفنن بوضع مستحضرات التجميل وفق نصيحة حماتها، لكن لا شيء.

أصبحت تعد أصنافاً جديدة من الطعام، مميزة وشهية، لكن لا شيء.. يدخل فادي المطبخ يأكل لقمتين دون أن يقول شيئاً ثم يخرج.

رغم كل شيء، كانت تأمل أن يعود لرشده.

نزوة عابرة، سيتوب.. سيتوب..

لكنه لم يتب.

انهارت أحلامها كلها حين صارحها برغبته في الطلاق منها والزواج من حبيبة قلبه الصغيرة تلك.

كم تعذبت نهال يا ترى؟ كيف تلقت الخبر؟ هل ضربت نفسها وصاحت باكية؟ أم ضربته هو؟ أم أنها نامت واثقة بأن هذا مجرد كابوس مزعج؟

ما الذي فعلته؟ هذه المرة الأولى التي تهتم ياسمين لمعرفة حقيقة تلك الليلة المريرة على زوجة خالها الشابة.

لكن لماذا؟ أمن أجل أن تتصور ردة فعل تلك المرأة الاخرى؟ لكي تواسي نفسها؟

هي تعرف ما جرى بعدها، انتحرت نهال متناولة علبة دواء لمرضى السكري، قتلت نفسها، ليس من أجل خالها، هي واثقة من ذلك، كان من أجل كرامتها التي أهينت بما فيه الكفاية من جميع الناس من حولها، كانت قد فعلت ذلك لأنها تعبت من أن تُلام بينما لم تفعل شيئاً، رفضت نظرات الشفقة والحسرة، رفضت أن تكون تلك المحطة العابرة في حياة رجل..

لكنها دوماً كانت كذلك! منذ البداية كانت نهال مخلوقة مهمشة، من أين حصلت على تلك الشجاعة لتنهي حياتها؟

أيعقل أن الخوف يجعلنا نتصرف بتهور؟

طبعاً..

أتقتل نفسها إذاً؟ أتذهب لتلك المغدورة وتخبرها بكل شيء؟ أهي ملامة أصلاً؟ لم تكن تعرف، لكنها الآن تعرف، ولم تقطع علاقتها به.

تتمنى لو تكون من تعرضت للخيانة، لا ترغب أن تكون المرأة الثانية. أصبحت تخاف من نفسها ومن القدر، لم تعد قادرة على التعرف على نفسها، كل صباح حين تنظر إلى نفسها في المرآة تشمئز وتقرف.

تستحق القتل، تستحق الحرق، فعلتها لا تغتفر. هي تدمر حياة طفل صغير لا ذنب له، تدخل الحزن إلى بيت هادئ. كلما فكّرت في وجه ذلك الصغير تختنق قهراً، كانت صورته سبب معرفتها للحقيقة.

إذ في تلك الليلة المشؤومة حين كانا في مقهى شاهد على جميع اجتماعاتهما العاطفية، اضطر ليذهب إلى الحمام، في تلك الأثناء أخذت محفظته بفضول أنثوي بحت، أرادت أن أتعرف إن كان يحمل لها رسالة أم لا، نيتها بريئة وصالحة تماماً، لكنها صُعقت حين وجدت صورة طفل مخفية بين الأوراق النقدية، تناولتها باستنكار وكأن قلبها تنبأ بالمصيبة التي حلت عليها شعرت بالكون مجرد كذبة.

لم تكن تعرف بعد من يكون هذا الصبي، لكن حدسها، شيءٌ ما بداخلها كان يعرف.

تأملت الصورة بوجل، لا يتجاوز الخامسة من العمر، له وجه مدور كالبدر ناصع البياض، عيناه قاتمتان وشفتاه صغيرتان ترسمان ضحكة بريئة تسمح بظهور أسنانه والتي إحداها ناقصة، شعره أسود مجعد يغطي جزءاً من جبهته، وتظهر غمازة صغيرة على خده الأيسر.

كان فيه شيء يشبه الرجل الذي تنتظره، الرجل الذي كانت مستعدة لأن تقدم حياتها قرباناً من أجله.

حين قدم وشاهدها تمسك الصورة، لم يتردد ولو للحظة بمصارحتها حول كل شيء، كأنه ينتظر هذا الموقف ليريح نفسه من عذاب الضمير، لم تستطع سوى أن تحمل حقيبة يدها وتهرع خارج المقهى تاركة إياه خلفها مع نداءاته وتوسلاته.

كم هي غبية! كان عليها ألا تتورط، ألا تقحم نفسها بقصص العشق والغرام.

لكن لماذا تلقي الحق بأكمله على نفسها؟! وأليس هو الآخر مذنباً؟ أليس من كذب عليها وأخفى عنها حقيقة زواجه؟ من أين لها أن تعرف!

كان هنالك إشارات كثيرة لم تلتفت لها، لقد أعمى الحب بصيرتها، جعلها عمياء عرجاء صماء تمشي في درب التهلكة رامية نفسها إلى الموت.

أغمضت عينيها وفكّرت بالهرب، بالانتحار، بالمواجهة، بالانهيار، لم تعد قادرة على التحمل البتة، أضعف من أن تقاوم من أجل قضية حب خاسرة.. قضية إن ربحتها فستكون خسرت كل شيء، وإن خسرتها فستكون قد قتلت قلبها إلى الأبد.

حين فتحت عينيها، لم تشعر بنفسها سوى تنشد دون وعي أو إدراك، وكأنَّ قوى أخرى تلبست جسدها وغنت عنها برقّة خالصة:

وخلصت القصة بتاني شتي ..

تحت الشتي تركو بعضن ..

صمتت مشدوهة، خائفة..

لماذا الآن تذكر هذا المقطع من الأغنية؟

كيف لم تفكر بالتكملة من قبل؟! ليتها لو فعلت، لكانت وفرت على نفسها عذاب عمرها بأكمله.

في أعماق روحها، كان هنالك صوت طفل صغير يناجيها، طفل يدعوها إلى سعادة وراحة أبدية.

إقرأ أيضا: صندوق الحب


_ كيف حدث ذلك؟

سألت العجوز بينما تخرج من محفظتها ثمن ما ابتاعته من خضراوات.

تلفت البائع الشاب حوله بوجل ثم اقترب من المرأة ليقول هامساً كمن يفشي أسرار بلده لعدو:

_ لا أحد يعرف، يقولون أنَّ والدها عثر على جثتها مضرجة بالدماء في الحمام، على الأرجح أنها قد قطعت شرايينها، لكن لا أحد يعرف لماذا.

اومأت العجوز بإشفاق ونظرة خالية من أي شعور ارتسمت على محياها.

اقترب الشاب أكثر ليتابع حديثه المأساوي، لكنه كان مستمتعاً، لقد روى الحكاية حوالي العشرين مرة منذ الأسبوع الماضي، ورغم إحساسه بالذنب، كان يسكت ضميره بإقناعه ألا أحد لا يحب سماح القصص ونقلها.

_ أهلها ينكرون انتحارها، لكن جارتهم تؤكد ذلك، رأت الدماء بعينيها تقطر من أثواب البنت البيضاء.

أطلقت العجوز زفرة طويلة وأخذت أكياسها لتسير مبتعدة عن محل الشاب الثرثار، وعزمت في نفسها أن تزور قبر ياسمين حالاً. لقد أسفت لوفاة الصبية البشوش بهذا السن الصغير، ما أدراه بما يعتمر قلبها من هموم ومشاكل، لكن إلى أي حد قد وصلت حتى تنتحر بهذه الطريقة الموجعة؟

طوال الطريق إلى المقبرة، لم تلحظ أحداً، الحارة بأكملها تتناقل الشائعات حول وفاة ياسمين، سواء عن حقيقة انتحارها أو عن سببه، لكنها لم تكترث لكل ما يقال، كانت تتمنى الرحمة لروحها فقط لا شيء سوى ذلك.

حين وصلت، مشت مباشرة إلى القبر الذي يحتضن جسدها الشاب الذي ذاق الويلات على يد صاحبته، وهناك، حين وصلت، لمحت ظل رجل يكسي الأسود جسده.

توقفت في مكانها تراقبه عن كثب، يحمل حقيبة تحوي أداة موسيقية ميزتها بسهولة إذ كان كماناً، وبيد أخرى شالاً أبيض حريري.

لم يشعر بها حين اقتربت منه حتى أصبحت ملاصقة له، التفت إليها دون أن يتفوه بكلمة، عيناه حمراوان من فرط البكاء وقد تركت الدموع آثارها على وجهه، يمسك بيده ورقة صفراء مجعدة رطبة ناولها إياها صامتاً.

قبل أن يمشي هبط على ركبتيه وطبع قبلة رقيقة على رخام القبر الحجري البارد. ثم سار وعيناه معلقتان على الشاهدة الموجودة على القبر، مخلفاً وراءه العجوز المصعوقة التي فتحت الرسالة بشيء من الخوف وقشعريرة قد سرت في جسدها، من رأسها حتى أخمص قدميها:

” أرقدي بسلام يا ياسمينتي البيضاء القاسية، يا من ستتركين ندوباً وجراحاً تنزف في قلبي ما حييت. أسامحك على غيابك الصاعق، على جعل نهاية حكايتنا مأساوية بهذه الطريقة المؤلمة والموجعة. لكن، هل تستطيعين أن تغفري لي كذبي وذنوبي؟ صدقيني، سأعزف لكِ طوال حياتي التي أتمنى أن تكون قصيرة لألقاك بأسرع وقت “

سامحيني ياسمين.. سامحيني.

عصفت رياح خفيفة داعبت الورقة لتسقط من يدها على القبر. وكأن صاحبتها أرادت أخذ رسالتها الأخيرة.

النهاية..

اية

سوريا
guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك