أدب الرعب والعام

راحيل

اسمها راحيل، فتاةٌ ليست ككل الفتيات، بشعرها الأسود الطويل، ووجها الأبيض المنير، وعيناها الدعجاوان، وثغرها الباسم على الدوام. هكذا كنت أراها، بعيني طفلٍ لم يكمل العاشرة بعد، وكانت هي تبلغ العشرين..

لم أكن أعي في ذلك السن المعنى الحقيقي للحب، لكن أجل، أحببتها، حبُّ الطفولة الممزوج بالبراءة والطهر. كانت شقيقة صديقي اسماعيل..

كنت واسماعيل نتشارك مقاعد الدّراسة ومذاكرة الدروس وأيضًا اللهو في الشارع والنزهات في أيام العطل. فقد كنا جيرانًا في نفس الحي، وتربط بين والدينا علاقةٌ وثيقةٌ. وبحكم كلِّ ذلك كنت أرى راحيل بكثرة..

كنت أتعمّد أن أجهّز نفسي للذهاب إلى المدرسة قبل اسماعيل حتى أمرَّ عليه وتفتح ليَ الباب على الأغلب راحيل، فتثني على نشاطي وتحثُّ شقيقها على الاستعجال. كلمات الثناء تلك تشعرني بأني ولدٌ مميز، فأمضي للمدرسة مملوءًا بالثقة والنشاط. وفي العيد أنتظر منها قبلةً تطبعها على خدّي وحلوى تملأ بها جيوبي، فأشكرها وعطرٌ يعبق برائحة زهر البرتقال يلفح وجهي مصدره هي، فقد كان ذلك العطر يميّزها، ومازلت كلما شممت زهر البرتقال تنبثق في ذاكرتي صورتها، رغم تقدّم السنين ومرور الزمن..

“أمس جاء إلينا رجلٌ يرغب بالزواج من أختي راحيل”، هذا ما قاله اسماعيل وهو يقضم تفاحةً أخرجها من حقيبته واتجه خارجًا من الصف. كنت أهم أنا الآخر بإخراج شطيرة الجبن من حقيبتي لكن ما سمعته جعلني أتجمّد بمكاني ولا أرغب بالأكل أو بالخروج إلى الفسحة، بل لم أركّز في شرح المعلمة للدروس في بقيّة الحصص!

لماذا أنا غاضب؟ لماذا أشعر بأنّ الأشياء الجميلة ستختفي من حياتي؟! لمَ هذا الإحباط؟! مشاعرٌ لم أكن أسميها بمسميّاتها كما الآن لكنها اجتاحتني وسيطرت على كياني، وقبل حتى أن أرى الرجل المتقدّم لراحيل كرهته.

خطبة راحيل غدت أمرًا واقعًا وكنا نحن أول المدعوين، للمرة الأولى لم تبدِ راحيل اهتمامًا خاصًّا بي كعادتها، والسبب هو انشغالها مع خاطبها، ذلك الرجل ذو الشاربين المفتولين والشعر المصفف اللامع والأنف المعقوف، لا أدري ما الذي أعجبها فيه! لاحظت أن اسماعيل لم يكن سعيدًا بهذه المناسبة وعندما سألته عن السبب أجابني بأنّ شقيقته ستغادر بعد حفل الزفاف مع زوجها إلى كندا حيث يقيم هناك. كلامه شكّل صدمةً بالنسبة لي، فراحيل لن تتزوّج وتترك منزل أهلها وحسب، بل ستغادر البلاد ولن أراها. هذا دفعني إلى القيام بتصرفاتٍ طفولية أضحك من نفسي كلما تذكّرتها؛ أحدها عندما كنا نلعب بالكرة في الشارع ورأيت العريس البغيض قادمٌ يحمل باقة زهرٍ ويمشي شامخ الرأس، انتظرته حتى اقترب وركلت الكرة نحوه بكل قوتي، ولكي يتفاداها أمال نفسه فزلّت قدمه وسقط أرضًا. هرعنا إليه وقد مثّلت دور الطفل البريء واعتذرت منه عن هذا الخطأ الفادح، نهض ينفض ثيابه وأكمل طريقه غاضبًا. وذات يوم كنت عند اسماعيل في حديقة منزلهم وكانت راحيل تسقي زهور الحديقة. وإذا به يدخل واثق الخطى مبتسم الثغر، خطفت خرطوم الماء من راحيل مدّعيًا العطش وعندما اقترب منا رششته بالماء فابتلّ بنطاله. أسرعت بالاعتذار وقفلت عائدًا إلى منزلي..

تزوّجت راحيل ثم سافرت مع زوجها إلى كندا. فراغٌ كبير شعرت به بعد رحيلها، اسماعيل لم تكن حاله أفضل مني لكنه عبّر عن حزنه بكل أريحيّة فهو شقيقها، أما أنا فقد لذت بالصمت، وكنت أبكي ليلًا في غرفتي. رأتني أمي ذات مرة وأنا في سريري أذرف الدموع فطوّقتني بذراعيها وهمست بكلّ حنان: “لا بأس يا حبيبي كلنا نحبها وكلنا سنشتاق لها”، صُدِمت بما سمعت، فكيف عرفت سبب حزني وبكائي مع أني لم أبح لها بما يعتمل في صدري؟! أم هكذا هنّ الأمهات يعرفن كل شيء دون الحاجة لنشرح لهنّ أي شيء! قلت لها وأنا أرتجف بحضنها: “لكني أتألم بشدّة”، قالت: “غدًا ستكبر وتنسى..” وبالفعل مع مرور الأيام أصبح غياب راحيل أمرًا عاديًّا خصوصًا أن أمي في تلك الفترة كانت قريبةً جدًّا مني ولم تتركني لوحدي..

خمسٌ وعشرون سنة مرت على هذه الأحداث، كبرت فيها وعرفت المعنى الحقيقي للحب عندما التقيت بالفتاة التي أصبحت زوجتي وأمًّا لأطفالي، أما راحيل ستبقى ذكرى لطيفة من أيام الطفولة والشقاوة، وربما تعلّقي بها آنذاك يعود لعدم امتلاكي شقيقات، فأمي لم تنجب إلا الذكور، وكم هو كئيبٌ المنزل الذي لا يحتوي على بنات.. افترقنا أنا واسماعيل ولم أعد أعرف عنه شيئًا، فقد هاجرت عائلته كلّها ولحقت براحيل إلى كندا بعد عامين من زواجها، أما نحن فبقينا في نفس الحي. والآن، كلما جئت لزيارة والدَي، أقف عند باب منزل اسماعيل أتشمّم رائحة الماضي وعبق الذكريات، ثم أبتسم وأمضي في طريقي.

نوار

سوريا / للتواصل : [email protected]
guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك