قتلة و مجرمون

سعيد هنائي: القاتل العنكبوت

كانت موزيغان تقف في ساحة الشهيد فهميدة بانتظار سيارة لتوصلها إلى بيتها. كانت تنظر هنا وهناك، ليس إلى الشارع وحسب؛ بل إلى جميع من يمرون به. فقد سمعت الأخبار المحلية بالفعل عن القاتل الذي يتربص بالنساء ليلاً.

ثم فجأة سمعت صوت دراجة نارية. توقفت أمامها ووجدت نفسها تقف أمام رجل في أواخر الثلاثينات من العمر. حاولت أن تتجاهله وتنظر بعيداً، ولكنه وجه لها الكلام قائلا: “هل تنتظرين أحداً؟ يبدو لي أنكِ لا تمتلكين المال، هل أنا محق؟ إن لدي قسيمة شراء أرز وزيت في المنزل لا أستخدمها، ما رأيك في أن تجلسي خلفي على الدراجة، وتأتين معي إلى المنزل لتأخذيها؟”

كانت موزيغان بحاجة ماسة إلى المال؛ ولكنها شعرت بالخوف مما تسمعه عن وجود قاتل يستهدف النساء، فرفضت. فانطلق راكب الدراجة النارية في طريقه. وفي ذلك الوقت كان حارس الحديقة التي في الساحة يستمع إلى حديثهما، فوجه كلامه إلى موزيغان بعد رحيل السائق قائلا: “إنني أعرفه، إنه شخص جيد! لا بد أنه كان ينوي إعطاءك قسيمة أرز!”

بعد بضعة أيام أخرى، بينما تقف في المكان نفسه جاءها نفس سائق الدراجة النارية، وعرض عليها قسيمة الأرز مجدداً في مقابل أن تذهب معه إلى البيت. هنا تذكرت كلام الحارس بأنه شخص موثوق به، فوافقت وصعدت معه.

وعندما اقتربا من بيته، طلب منها أن تغطي وجهها بالحجاب حتى لا يطلق أحد الشائعات؛ فوافقت!

‏وفي باحة منزله وقفت هناك تتأمل شجرة توت عملاقة بارعة الجمال، حتى سحبها من ذراعيها إلى الداخل، وصعد بها إلى الغرفة التي كانت بالطابق العلوي. ثم طلب منه أن تفرش حجاب رأسها على الأرض، وأن تضع فيها كل ملابسها وحقيبتها وكل ما معها؛ حتى إذا أتى أحد تجمعهم كلهم معًا، ولا يقع شيء في الغرفة! فعلت ذلك ثم فجأة وجدت السائق يقف خلفها، ويلف الوشاح حول رقبتها ليخنقها، عندها استدارت فورا وضربته بقوة، ‏فسقط على الأرض وهو يتألم.

blank
سعيد هنائي

بدأت تصرخ مما جعله يخاف ويفتح لها الباب كي تخرج. أخذت أشياءها وراحت تركض خارج المنزل في رعب، وهي تنظر خلفها في فزع حتى عادت إلى المنزل.

‏أغلقت الباب وهي لا تصدق أنها كانت على وشك الموت، مع هذا لم تستطع إخبار الشرطة بذلك خوفاً من العقاب الذي سوف تتلقاه.

‏سعيد هنائي

ولد سعيد هنائي في مدينة مشهد بإيران في السادسة عشرة من أبريل عام 1962 لعائلة متوسطة الحال. لديه 6 أشقاء، والدته كانت تعمل كخياطة، وقد ربته على عدم الاختلاط بالفتيات أو حتى الاقتراب من مكان وجودهن. وفي سن السادسة عشرة من عمره أصيب بنزيف حاد في الأنف، وبعد ذلك أصبح مريضًا لفترة طويلة، الأمر الذي دفع والدته إلى اصطحابه إلى الطبيب، وقد قال لهم إنه يعاني جنونا دوريا، ويجب عليه أخذ أقراص الليثيوم دائما.

وعندما أصبح شابا شارك كسائق عربة إسعاف في نقل الجثث من العراق إلى طهران في الحرب العراقية الإيرانية، وحين رجع إلى مدينته استمر في العمل في مهنته القديمة كعامل بناء، وتزوج وأنجب ثلاثة أطفال. وفي تلك الفترة بدأ يفتعل المشاجرات بكثرة، وبات عدوانياً، وأخذت مشاكله النفسية بالظهور في باكورة شبابه. دخل إلى مشفى الأمراض العقلية مرتين، وفي كل مرة يمكث لفترة قصيرة ثم سرعان ما يولي هارباً. وبرغم أنه كان مسجلا في ملفات المستشفى بأنه شخص معاد للمجتمع، ويشكل خطراً، إلى أنهم غضوا الطرف عنه، ولم يلتزم هو بدوره بالعلاج الموصوف له، فتفاقمت حالته سوءاً.



blank
كان لسعيد هنائي باع طويل مع الأمراض العقلية والمصحات

موجة القتل

في أحد الأيام وجد زوجته قد دخلت بيتهما لاهثة، وعلى وجهها آثار خدوش. سألها عن سببه، فردت بأنها كانت تركب سيارة أجرة، وقد ظل السائق يحدق فيها من خلال المرآة لبعض الوقت، ثم أوقف السيارة، وعرض عليها عرضا غير لائق، ظنا منه أنها إحدى العاهرات. ولما رفضت حاول أن يعتدي عليها؛ مما اضطرها إلى التعارك معه، ورمت به من خارج سيارته. وركضت عائدة للبيت.

حين سمع سعيد بالقصة، انتابه غضب عارم، وأخذ زوجته إلى مقر سيارات الأجرة بغية الانتقام. إلا أنهما لم يعثرا على السائق. مما اضطره إلى الذهاب بها إلى القسم لتقديم بلاغ. ولكن زوجته لم تستطع تذكر ملامح وجه الرجل جيداً. أما بالنسبة إلى رجال الشرطة، وفي ظل الجريمة المتفشية؛ فقد تعاملوا مع شكواه بشيء من الإهمال مما أجج سخطه.

قد تظن أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكن لسوء الحظ فهذا ما لم يحدث.

أخذ سعيد يقلب الموضوع داخل رأسه بعناية كي يجد طريقة للانتقام. بداية، فكر في قتل سائقي سيارات الأجرة، لكن كيف وهم كثيرون بالإضافة لكونهم أقوياء، ولن يغلبهم وحده، بل وسيعرض نفسه للخطر المحدق؟ لذلك فكر في شيء آخر وهو استهداف النسوة من البغايا؛ لأنه يظن أنه لولا وجودهن، لما راح الظن بالسائق أن امرأته إحداهن، وما كانت لتتعرض لهذا الاعتداء بالمقام الأول!

ووقع اختياره على الضحية الأولى، والتي كانت تدعى “أفسانة كريم بور” التقطها سعيد من الطريق، وذهب بها إلى بيته، في غياب زوجته وأطفاله.

قضى معها بعض الوقت، وبينما كانت تهم بالرحيل، استوقفتها لبرهة ما طرزته زوجته من أزهار خزفية، فباغتها من الخلف بضربة على الظهر، وسقطت أرضاً على وجهها.

وضع ركبته اليسرى على خصرها، وضغط على حلقها بقدر ما يستطيع من قوة، ثم أدارها ولف وشاحها حول رقبتها حتى سكنت أنفاسها وجحظت عيناها.

أخذ الجثة إلى الحديقة الخلفية لمنزله، ووضعها على الأرض، وبدأ بالحفر، ولكنه في أثناء الحفر تراجع عن خطته في دفنها في حديقة بيته، وقرر أن يلف جثتها داخل سجادة قديمة، ويأخذها خارج المدينة على دراجته النارية، وأن يرميها بعيدا.

منذ ذلك اليوم بات قتل المومسات اللاتي يصطادهن من شوارع مدينة مشهد الإيرانية هواية سعيد هنائي مفضلة، إلى جانب سرقة ما يجده معهن بعد إقامة علاقة جسدية.

في العاشر من أغسطس، وبعد ثلاثة أيام فقط، عُثر على جثة امرأة أخرى تحت شجيرات الطماطم بالقرب من بين عرب في مشهد. وبمرور الوقت امتلأت ضواحي مشهد بجثث البغايا.

كان سعيد يتابع باهتمام ما تنشره الصحف عن جرائمه بعد أن لقبته بالقاتل العنكبوت” لا سيما أن بعض الصحف كانت تكتب أن بعض هؤلاء النسوة لديهن سوابق جنائية في البغاء، الأمر الذي جعل الناس أقل تعاطفا من جانب، ومن جانب آخر أرضى غرور سعيد، وجعله يضفي طابعا أخلاقيا على ما يقترف من جرائم!

ووصلت به الصفاقة، إلى حد أنه كان يذهب ليساعد الشرطة كفاعل خير في حمل جثث النساء الذين قتلهم بدم بارد كنوع من التهكم!

blank
باعتقاد الانتقام والتطهير حوالي 16 ضحية من المومسات

وفي يوم من الأيام، وبعد أن دفن ضحيته الحادية عشرة، متجولا في شوارع مدينة مشهد، انهمر رذاذ المطر، وغمر وجهه. وبرغم أن المطر عادة ما يكون بشرى خيراً، خصوصا أنه كان قد مر وقتاً طويلاً منذ سقوطها، مما أدخل البلاد في فترات جفاف وقحط. فإن المطر الذي ضرب وجهه يومها كان يحمل له هو بالذات إشارة تبارك إجرامه، وتثني على غايته الأخلاقية الأسمى في شوارع نظيفة بلا بغاية. وبعد هذا اليوم من الراحة أضاف خمس ضحايا أخريات.

‏سقوط العنكبوت

‏كانت الشرطة تلقي القبض على عدد كبير من النساء اللواتي يتسكعن بعد منتصف الليل، وموزيغان التي التقيناها في بداية المقال كانت إحداهن، كانت تذرع شوارع المدينة ثملة حين رآها أحد رجال الشرطة، وقبض عليها. وهناك في القسم تذمرت بحسرة من استقواء الشرطة على نسوة مسكينات، بينما يتركون المجرم الحقيقي حرا طليقا، يقتل الواحدة منهن تلو الأخرى.


ولما استفسر منها الضابط عما تقصده بكلامها، حكت له ما جرى لها في بيت سائق الدراجة النارية إياه. فورا أخذها رجال الشرطة في محاولة منهم للتعرف على البيت، لكنها لم تستطع ذلك، فهي لا تذكر شيئا، اللهم شجرة التوت العملاقة المنتصبة في الباحة الأمامية لبيت المجرم.

‏أخذوها بعدها للساحة لعلها تتعرف على الحارس الذي حدثها ذلك اليوم، لكن لم يجدوا له أثرا هو الآخر، لكن الصدفة قادتهم إلى قريب له كان يزوره باستمرار في أثناء فترة حراسته، وسرعان ما تعرف على الأوصاف التي قالتها له موزيغان، وقال إن هذا السائق يدعى سعيد هنائي.

blank
في النهاية وجد السلاسل بين يديه

‏ذهب عدد كبير من رجال الشرطة إلى بيت سعيد، واختبأوا مسلحين في انتظاره. ظنا منهم أنه جزء من عصابة إجرامية ما، ولكم كانت دهشتهم عندها حين قبضوا عليه، واكتشفوا أن جل ما في الأمر أن مرتكبها شخص واحد فقط يملك شهية عارمة للقتل!

‏اكتشفت سائر أرجاء البلاد هوية سعيد هنائي، وراحت أقلام الصحافة تسيل في تمجيده وإضفاء طابع البطولة القومية على شخصه الذي أخذ على عاتقه مهمة تنظيف المدينة من دنس الرذائل. وتواطأت الشرطة بدورها مع الصحافة بأن أخفت جزءاً مهماً من التحقيقات آنذاك، وهو أن بطلهم المخلص كان قبل أن يفتك بضحاياه يمارس معهن الزنا، ولا يتورع عن مد يده إلى ما في حوزتهم من حلي ذهبية ومال، وإهداء بعض منها لزوجته كذلك.

وقد قطعت الشرطة وعدا لعائلة سعيد بأن تبقي ذلك الجانب طي الكتمان. حتى إن أقرباءه جمعوا مال الدية لعائلات الضحايا، وباعوا بيع بيت سعيد لاستكمال باقي المبلغ، وقد تدخل بعض ذوي النفوذ لتوكيل محام بارع للدفاع عنه.

blank
هنائي في المحكمة

‏ وافق جميع أهالي هؤلاء النساء باستثناء أسرة واحدة هي التي رفضت المال والتنازل عن حق ابنتهم، برغم ما كانوا يتعرضون لها من نظرات اشمئزاز من أغلبية الناس المؤيدين للقاتل الذي كان يخوض حرباً لا هوادة فيها ضد الفحشاء والرذيلة.

‏ أما ابنه البالغ من العمر 14 عامًا دافع عنه في المحكمة، قائلاً إن والده كان “ينظف الجمهورية من مفسدي الأرض، وسيحل محله كثيرون إذا قُتل. وادعى أن 20 شخصاً طلبوا منه مواصلة عمل والده، لكنه قال لهم” دعونا ننتظر ونرى”

وقد تفاخر سعيد بنفسه في المحكمة، وقال كل من قابلني يعرف أنني كنت شخصًا متدينًا. وفي شهر رمضان المبارك، كنت أكمل صيامي، وأقوم صلاتي، وقد رأى ذلك الجميع، ولم أشرب الخمر مطلقًا.

‏وفي نهاية جلسة الاستماع‏ قالت زوجة هنائي للصحافيين: “سعيد كان دائما يقول إن المرأة التي تذهب طوعاً إلى بيت رجل لا تعرفه لا تستحق إلا الموت. إن سعيد لم يقتل الناس، بل حارب الفساد، يشعر الإنسان بالخجل والعار بجريمة قتل؛ لكن سعيد ليس كذلك، ولم يكن زوجي يعلم أن عمله غير قانوني. ولم أر منه سلوكًا سيئًا أبدًا. وحتى الآن، ليس لدي أي خوف من أنه قتل أحدا. أنا أفكر فقط في حريته.”

‏أما عن سعيد، فقد قال إنه يشعر بالفخر؛ لأنه قتل ستة عشر صرصورا، وكان دائماً ثابت الجنان غير مبال بالتهم الموجهة إليه؛ لأنه كان متأكداً من أنه سينجو برقبته من حبل المشنقة. وقد شجعه الناس على أن يشعر أنه بطلهم المخلص، لقد كان مغمورا بحب الناس وهتافات المؤيدين له.

‏الآية تنقلب على سعيد هنائي

‏في خضم ما يحدث سواء داخل المحكمة أو خارجها قررت الشرطة لسبب مجهول حتى اليوم أن تنقلب على سعيد فجأة وبدون سابق إنذار، وتعلن عن دخوله إلى مشفى الأمراض النفسية مرتين وتصنيفه أنه شخص خطير، ونشر تقرير الطب الشرعي أنه مارس الزنا مع الضحايا قبل قتلهن بفترة قصيرة وأيضا سرقة ما كن يحملن.

‏في البداية رفض أن يعترف بالتهم الموجهة إليه، ولكن مع الوقت اعترف أنه سرق حاجياتهم بعد قتلهم، ولكنه أصر حتى النهاية على إنكار الزنا.. ‏وحصل في النهاية على حكم بالقصاص، والجلد قبل الإعدام!

blank
لقد قتلت 16 صرصاراً ، ببساطة زعم سعيد انه كان يقدم معروفاً

‏ أما عن عائلات الضحايا، فلم تتمكن اثنتا عشرة منهن حتى من دفع تكاليف الجنازة، وقد قال والد إحدى الضحايا: “تزوجت ابنتي عندما كان عمرها 10 سنوات. وعندما بلغت العشرين من عمرها، اتخذ زوجها زوجة أخرى، على الرغم من إنجابه لستة أطفال. ومنذ ذلك الحين، أدى إهمال زوجها وعدم إنفاقه على الأطفال إلى دفعها إلى الشوارع. “كان على ابنتي أن تفعل كل ما في وسعها لكسب المال.”

وقد صرح سعيد هنائي قائلا: “لقد قتلت 16 امرأة منذ 7 أغسطس من العام الماضي أنا لست نادماً على أفعالي بأي شكل من الأشكال، ولو لم يُقْبَض علي، كنت أخطط لزيادة عدد جرائم القتل إلى 150. لقد أردت أن أخبر الجميع أن الدعارة والاختلاط ليس لهما نهاية سعيدة”.

وأثناء انتظار تنفيذ حكم الإعدام، كان لا يزال يعتقد أنه سيُنْقذ، ولكن تم إعدامه وشنقه في صباح يوم 28 أبريل سنة 2001 عن عمر يناهز الأربعين عاماً.

قصة السفاح سعيد ألهمت العديدين، مما جعلها موضوع عدة أفلام منها الفيلم الوثائقي الذي أنتج عام 2002 “وجاء العنكبوت” من إخراج الإيراني مازيار بهاري ويتضمن مقابلة مع سعيد هنائي. وفي عام 2020، أُنتج فيلم بعنوان Killer Spider وبعدها بعامين صدر فيلم آخر عن حياته، وهو”العنكبوت المقدس “، وقد دخل في قسم المنافسة الرئيسية في مهرجان كان السينمائي لنفس العام . 

المصدر
Wikipediabbc
guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى