أدب الرعب والعام

غياب فادي

“وهنا يا أعزائي الأرضيين يكمن منزلنا المستقبلي! دويلةٌ لا أحزابَ لها ولا حروب! مصادر غذاء وماء لا حصر لها، لا تفرقة بل سيطرة موحدة”.

جلجلت ملئ الفضاء كلماته الطنانة وهو يغرس في أرض الكوكب الأحمر علماً لدولةٍ من بنات خياله.. دولةٌ طمح في جعلها موطناً للمليارات من نظائره. إنتهى من وضع العلم ثم التفتَ خلفه وتأمل متباهياً صنيعه من العمران قبل أن يُطالع الكاميرا التي أمامه ويستكمل تصوير الفيلم الوثائقي وهو ينتقي من ألماس المريخ وجواهره مبتسماً مترنماً..

كان حلماً! قالها مدركاً متأسفاً فورَ نهوضه الذي شاء أن لا يبتلى به. كم تمنى أن يبقى في غياهب ذلك الوهم محققاً طموحاً ونفوذاً تطلّع له من عديد السنين.

مالَ بجسمهِ السريرَ يمنةً ويسرةً وهو يتذمر في نفسه، غير أن دقاً عنيفاً للبابِ أعاده لوضعه الهادئ قبيل أن تفتتح أنثى الروبوت المشهد وتدخل متفاجئةً مستفسرة:
– ما مصدر هذه الجلبة؟ ولما أنت يقظٌ في ساعةٍ كهذه؟
– وهمٌ جميلٌ انفصلتُ عنه (يبدأ بالبكاء)
– (متأففة في نفسها) لا بد من أنه حلمٌ أثّر به حد البكاء (تطالعه بشفقة) إذاً.. حدثني أكثر عن الموضوع.
– (بحماسة) كنت في الفضاء الخارجي! (يتلعثم) وكنت وكنت… أصور مشاهداً وثائقية وأبثها للعموم فضلاً عن جمعي لثمينِ ونفيسِ الألماس والمجوهرات بِذات الأكياس التي كنت أطعم بها الدّواب قديماً… كل هذا بعد أن بنيتُ دولةً من حديد.
– أضغاث أحلام لا حاجة لك بها.. لا تنسى أنك مالكُ مُلكٌ لم يستطع أحد قط تملّكه. رِ ما وصلتَ له من إنجاز؛ شركة في كل دولة أنهيتها في خمس سنين لا أكثر، إختراعاتك وصلت حدّاً فائقاً من النجاح، قضيتَ على العِلل والفقر وغيرها في آن واحد، حُزتَ كل جائزة ولقب وفوق هذا كله بقيتَ أنت الناجي الوحيد من غزونا للأرض!

ما زاده هذا الكلام إلّا حسرةَ أنه ما استطاع أن يزيد عليها شيئاً، ثم أردف بشيء من القنوط:

“كانت تلك أمانيُّ الطفولة، أما بعمر الثلاثين، وبمرور فترة طويلة عن آخر حدث هام لي، فإن شوقاً يدفعني من الأعماق للنبش من جديد! آه لو كان حلم المنام حقيقة للأنام..”

صمت الإثنان ودارت بينهما حلقة من سكوت فضي ما ذهبي سرعان ما اقتطعتهُ “رَوْ” بصوتها الآلي:

“أبنيها لك! إن كان هذا ما يسعدك ويعيد لمكنونك الطاقة والفرح فإني بهِ مُباشِرَة”

-أحقٌّ هذا؟
-بلا أدنى تردد! كل ما يسعدك أيها البشري المُختار.. يا زوجي المُختار.. فإني أكرس كامل طاقتي وخوارزميّتي في سبيل تحقيقه. كن مطمئنّاً أن لا شيء مستحيل بالنسبة لِرَوْ!
إنك تعرف كم أنا بك مُهيمَةٌ عشقاً..

– أدرك ذلك شديد الإدراك، إنكِّ أنتِ من إرتدّ عن قتلي كما أمَرَكي الزعيم وآثرتي معارضته وإخفائي عنهم، كما أن الخُطى تغيرت وأحطتني بدرجة من الأمان ما كنت أتصور أنها ممكنة، بل إن تحويلكي أحلامي إلى حقيقة ما استعصى عليكي.. فقد ارتأيتي المشاريع وقدرتيها حق تقدير..

(تقاطعه باسمة في دلال): وهل امرؤ مثلك يليق عليه غير التقدير والدعم؟ على كل حال فإني راحلةٌ لأجهز لك سفينة فضائية تنقلك إلى ما شئت من الأماكن المتواجدة في ذلك الفراغ الأسود.

فادي: (في حماس) إنطلقي أيتها العزيزة، فما أعز منكي سوى تلك السفينة!

(تغادر الروبوت الغرفة وهي تتهكم): مزاحك معروف! فما أعرفُ منكَ سوى نبرتُك!

راح الإثنانِ كلٌّ في حال سبيله، وبقي فادينا جالساً متطلعاً للفضاء من نافذته سارحاً في خيالٍ ممزوج بمشاعر متفاوتة، ولو أن تلك النظرة لم تدُم فشعاع الشمس كاد يفقأ عينيه!

على حين غرة، فوجئ بطائرٍ حطّم الزجاج وجعل شظاياه تتناثر في كل البقاع، ولولا أنه لم يشكل درعاً بِذراعيه لاخترقت كاملَ جسده الضخم.

دماءٌ غطّت منكبيه لم تمنعه من إلقاء نظرة على مسبّبها..
طائرٌ حي من خلايا ما براغي، إزدراه ثم انقض عليه كالمُفترِس وما هي إلّا ثواني حتّى أحكم قبضتيه عليه ثم أتبعَ فعلَهُ بإخفاء الطائر بالخزانة الجانبية.

“أخيراً، شيءٌ حي!” هكذا عبّر عن سعادته بالعثور على نظيرٍ له يخبره بأنه ليس وحيداً وسط الفولاذيين والحديديين.

تُبِعَ ذلك بعودة رَوْ معلنةً إنتهاء المهمة.

إرتسمت على ملامحه بادرات التعجب.. فكيف للدقائق القليلة أن يُنجزَ بها شيء من هذا القبيل؟ إن دل ذلك على شيء، فإن دلالته هي الإتقان الفائق.. وما غير الإتقان الفائق يُتَوَقَّعُ من إنسانٍ آلي؟

“لا تسألني كيف أنجزت عملي بهذه السرعة، إنطلق الآن وخُض غمار الرِّحال”

“حسنٌ هذا، خير البر عاجله، أو على رأي المثل الذي ابتكرته توّاً، رحالُ الأعالي وَلا بقاءٌ مع أماني!”

وهكذا، غادر فاديٌ الأرض، تاركاً خلفه آلة طبع عليها قبلات الوداع قبل أن يهم بالرحيل.

ما ماثلَت صدمةٌ قط تلك التي واجهها عندما رأى الناس على سطح المريخ تتناغم وتتراقص في احتفال! فَفَورَ وصوله، نظر باستغراب إلى البشر الذين اعتقد بِنِهايتهم، فإذا بهم سبقوه ولاقوا مُناه!

إقترب الرجل والصدمة تخفُّ من مكنونه مع كل خطوة يخطوها.

“أنتم هنا؟”.. “كيف لهذا المكان وصلتم؟” سأل بِحُرقة.

رد أحد الجماهير: هذا السؤال يجب توجيهه لك، لكننا على كل حال موجودون هنا بِحُكم تجربة علمية جديدة كان رائد الأعمال (مشيراً بيده نحوه) قد أسسها.

إستطرد رائد الأعمال الكلام: لا بد من غزو الفضاء والكواكب! إنه شغف! إنه ضرورة! إنه واجب ثقافي! .. لذلك، دأبت على استثمار جميع أموالي في تمويل الرحلة الضخمة التي أدت إلى ما نحن عليه الآن..

إعصار من الحيرة ضرب ذهن فادي الذي ما درى ما يصنع وقتها، فما كان منه إلّا أن أفصح عن منامه وعن تلك الآلات التي حولت الأرض إلى كابوس حقيقي.

“هذا فظيعٌ مريع!” قالها رائد الأعمال وهو يحرك قبضتيه في مختلفِ الجهات أثناء تراجعه، ثم إعتدل وقال للبشرية بحزم:
يا بشر، أثناء رحيلنا، نسينا هذا الشخص المحترم، والذي على ما يبدو شهد غزواً للأرض! وعاش بين الآلات!

كاد الكوكب يشهد “هزة مريخية” من فرط الحركة الهستيرية وردود الفعل على ما سُمِع.. غير أن الهدوء كان لا مفر منه، وحينها، سأل سائل:
أولَم تشتهي الآلات الفضائية الأرض إلّا بعد أن غادرناها؟! يا لها من صدفة!

حسٌّ سليم، قال فادي. ثم تابع، “غالب الظن أن الروبوتات قد استغلت ذهابكم للرحلة وخلوة الأرض، فافترسوها بالجيوش!

عاد الهمز واللمز من جديد لكن سرعان ما اقتُطِعَ بحديثٍ من الرائد:
أنصتوا جيداً. فادي، الرجل الذي نسيناه في الأرض، والذي يستحق منّا كل الأسف والإعتذار، عرض علي حلماً في المنام، ولم يبخل علي بقصصه من أسفل الأماكن، وقد أخبرني بأنه زارَ ظنّاً بأن الكوكب فارغ، وأنه ينوي بناء دولة جديدة، وهو كل ما نحتاج..

قاطعه قطيع الإنس بتصفيق أحر من الفلفل وما لبث أن إستكمل:
لكن أنترك الأرض؟ أننسى المعروف؟ أونترك تلك الأشياء تعيث في منزلنا السابق فساداً؟ كلّا! وألف كلّا! ثمّة خطة للقضاء عليها فرداً فرداً!

خرجت نِسوة من بين الحضور مشجعة للخيار الثاني، وتبعتها عديدُ النظائر من الرجال والشيوخ والأطفال وهم يهتفون بصوتٍ مزلزل “فلنحمي الأرض وننتصر على الأشرار!”

وقف فادي أمامهم بِفخرٍ مُطبِق، وأخرج من حقيبته معطفاً صوفياً وعرضه على الرائد الذي، بصنعة رجال الأعمال، تفحصه جيداً مبدياً كمّاً كبيراً من الإعجاب وهو يهمس “معطف لعلاج علّة السرطان تم تحويله بنفس النمط إلى آلة لِردع الوحوش؟ كان صغيراً ثم أمسى كبيراً بفضلك؟” والآخر يجيبه “نعم، صنعته أول مرة كي يقتل الخلايا السرطانية بعد جذبها من منطقة الظهر إلى العمود الفقري حيث ستمتزج الخلايا المريضة مع الصحية فتخرج الأولى وتبقى الثانية. دعني أشرح لك وللجمهور كيف يعمل”

(يُري الناس معطفه ثم يبدأ بالشرح):
طفيليات! كم هي حقيرة الطفيليات! ما ينفع لها من جزاء سوى طردها بعد أن احتلّت!
هذا المعطف سيغطي الأرض كاملة، وسيجذب بقوة مغناطيسية جبارة كل الآليين هناك وينفيهم إلى المجهول أو يعيدهم إلى حيث ينتمون!

بعد تهليل وتحميل على الأكتاف، بدأت الخطة، وما شُهِد التقاعس من طرف أي أحد. وانتهى التجهيز والتطريز بعد ساعات من العمل الدؤوب.

لم ينسى فادي زوجته الآلية، تلك التي بعثته نحو ناصية جديدة جعله يرى العالم من زاوية جديدة.. فخلال هذا الساعات، كتب لها الرسالة التالية ورماها من الأعالي:

“عزيزتي رَو،

إن لم تحترق هذه الرسالة جرّاء النيازك، وإن لم تسقط في إحدى البراكين، وإن لم تلتهمها إحدى الفيلة، فإني أطمئنكي عن ذاتي وعن ملياراتٍ حولي.. لقد كذبتي علَي عندما أعلمتني بخبر الإبادة الجماعية، وأني أنا الناجي الوحيد دون غيري، فبجانبي جميع الأعراق والأجناس خرجت في رحلة غفوتُ عنها. لكني أسامحكي.

نحن البشر لدينا عواطف وشرف وغيرة، فأبينا المذلة وترك الآليين يفسدون دون رقيب أو عتيد. فكانت نتيجة ذلك أني أوجدت لهم علاجاً على نفس مبدأ السرطان وهو أقرب تشبيه لهم باستثنائكي يا لؤلؤةً بزغ ضيُّها.

قريباً، سيتدلى معطفٌ صوفي مزود بأحدث التقنيات من السماء، إقفزي ناحية الجَيب واختبئي هناك، فإنه منجى لكي.

بإخلاص، من تعرفينه جيداً.

“لا! أنت لا تفهم! تلك الإمبراطورية ستدمر وتنهب!”
قالت رَو لِوالدها الذي أحاطها بالجنود.

“وما غير ذلك غاية؟” ردَّ والدها الملك المتعطش للقب الإمبراطور.

تجمدت الآلية لثوانٍ ثم صرّحت بغضب:
“لن أتزوج ابن الإمبراطورة فتصبح أنت زوجاً لها وتحكمان الكون من منبر الأرض!”

تدلّى كُمُّ ضخامته تكسي شعوباً وقبائل فوق الملك، إبنته والجُند.
تفاجئوا كلّهم إلّا تلك التي أُنذِرَت وأُبشِرَت. أخرجت بندقيتها وبطلقات الرشاش أجهزت على الجُنود قبل أن تثب وثبة شديدة العُلُو وتتمسك بالجيب وتتسلل داخله.
أمّا الملك فجذبه المغناطيس وأغلق عليه المعطف.. ولكن! هل يُنصب الملوكُ ملوكاً دونما سبب؟ قطعاً لا! فبقوة وبأس شديديْن، مزّق الملك المعطف وابتسم شرّاً ثم انقض على الجيب.

كان المعطف قد تخطى بالفعل أفُقَ الفضاء. وبعينه التي بارزت مثيلةَ الشاهين والعُقاب، لاحظ فادي الصّراع بين معشوقته ووالدها الجشع. وبغريزة فائقة واندفاع لا يعرف الحدود، تكوّر وأسقط نفسه على الجَيب! فَعادت حسناء الفولاذ إلى مأواها بينما انزلق الملك إلى المجهول وهو يرى بعينيه الحاسوبيتين شعبه يتناثر في كل رُكن. منذ متى تخبى الآمال؟ تمسّك بالجرّار وأبى الإنهيار! إلّا الإنهيار حتمي، فهو مصير كل ظالم!

وجّه فادي ذلك الطائر الذي اخترق زجاج غرفته صوْبَ الشرير الذي تعرض لنقرات وخدشات أجبرته على إفلات المقبوض، فكان مصيره كمصير رعاياه.

كالسفينة، إرتسى المعطف أرضاً، وخرجت رَوْ ورمقت الناس بنظرات خدّاعات.

تصفير احتفالي عمّ الأرجاء! رقصاتٌ ملأت المكان!

جاوَر فادي زوجته وأمسك يدها ورفعها معلناً معرّفاً: “هذه شريكة حياتي رَ…” وقبل أن يُكمِلَ اسمها، غرزت وطعنت المرغوب بها، من الخلف، من شاء نطق اسمِها. وتركته طريحَ الأرض، ملتفّاً بالدماء وسط ذعر ورعب وتجمد من طرف الجميع.

ثم قالت بشر وكيد، إسمي “أندروميتا 45” وليس طيفاً من أطياف سذاجة مسمياتكم.. ولن يبقى منكم حيٌّ إلّا من تقرره برمجتي.. (تخرج الرشاش وتبدأ بالقتل الجماعي حتّى تركت واحداً).

“ومن قررت برمجتي بقائه هو المبرمج! معلنةً غير مهدّدة، هو صانعي! كيف لهؤلاء الحمقى تصديق أن هنالك فضائيّاً آليّاً؟!”

خرج المبرمج من بين حشد الجُثَث ثم تبسم وصرّح:
هذا صحيح! ضقت ذرعاً بمشاكل الأرض فقررت صناعتكي وبناء جيش من نوعكِ يشفي غليلي منها!

يضحك الإثنان.. لكن الضحكات لم تستمر، فالذي غابَ عن مجلس القتل، والذي غاب عن محكمة الظُّلم، أطلق رصاصات عديدة باتجاه الإثنين فأرداهما كما أردِي الآخرون.

تثاقلت خُطى رائد الأعمال وازدادات حرارة أنفاسه وأنزل بصره وهو يمشي بعيداً عن الموتى وهو يُتمتم “سأحقق حلمك يا صديقي! سأبني ما أردتَ بنائه أيها البطل!”

guest
3 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك