أدب الرعب والعام

غَضَاضَةُ الصَبَابَة

بصوتها المبحوح وشفتيها المتشققة نطقت السيدة إليا :
” حضري لي كوباً من الشاي يا صوفي “
التفت إليها بسرعة لتنثر الخرقة المبللة قطراتها على ثيابي وقلت بينما اهيم بمسح ما تبقى من زجاج النافذة :
“حاضر يا سيدتي “
بأثاث خشبي من شجر بني يلمع وأرض بيضاء ناصعة تبرق نزلت لأحضر لها الشاي ، عجت رائحة الأزهار الطابق السفلي وهي تتراقص مع روائح عنيفة من أقمشة أرائك مستهلكة واطباق منقوشة بأزهار كلاسيكية ، سمعت صفير الأبريق وأنا احدق بتلك الحديقة ، كان منزل السيدة إليا خلاباً وبذات الوقت قديماً فحتى بالرغم من ثرائها الفاحش إلا أن قلبها لم يطاعوها على تغيير أثاث منزلها بعد وفاة زوجها ،  صعدت تلك السلالم اللولبية وتقدمت نحوها حتى وضعت كوب الشاي على طاولتها المفضلة ثم رفعت رأسي ناحيتها ، كانت تجلس على كرسيها الهزاز كالعادة وتحدق بحديقتها الخارجية بينما تعطيني ظهرها ، تقدمت قليلاً وقلت :
“تفضلي يا سيدتي الشاي جاهز “
لقد فكرت بأنها ستترك كرسيها وتجلس على الكنبة المقابلة لطاولة الشاي لتحتسيه  كالعادة  ولكن هذا غريب لماذا لم تتحرك بعد ؟ .
تقدمت نحوها واعدت كلامي بصوت أعلى كونها تعاني من ضعف في السمع :
“لقد احضرت الشاي يا سيدتي ” .
قلتها بينما اهيم بالتقدم نحوها ثم التفت لاطالعها ،  تسمرت بأرضي كانت ملامحها متجمدة، عيناها مفتوحة بوحشية تنظر للأعلى بمقلتيها السماوية وفمها مفتوح وكأنها حاربت لالتقاط آخر أنفاسها ، وقفت مصدومة وتيبس قلبي وكأن أحداً سكب قدراً من المياه المتجمدة علي فجأة ، سرعان هرعت لطلب الاسعاف ولكن من دون جدوى ، فقد غادرت روحها هذه الدنيا ، كنت حزينة بحق عليها فقد احببتها حقاً فحتى على الرغم من مزاجها الحاد وتقلباتها الغير مفهومة إلا أنها كانت إمرأة طيبة ، لقد خدمتها لخمس سنوات بإخلاص ، أنتهت الجنازة ووزعت ثروتها على أولادها ، لم يعد لوجودي نفع .
زفرت بحزن وأنا اتوجه للشركة بعد يومين لكي أجد منزلاً أخر يحتاج خدماتي ، دخلت لتلك البناية الطويلة  ورحت اطالع تلك الملصقات في صالة الأنتظار ، آه… كم أكره هذه الأجواء ،  كمية الحوارات غير مفهومة أو معدودة، لا تستطيع روحك أن تأنس ظل للراحة ،  وفجأة قاطع شكوى روحي صوت  اسمي وهو يتردد بصدى المكان :
“صوفي مالار “
بشعري الاشعث ونمشي وقفت كي ادهش الجميع بطول قامتي التي تجاوزت المائة والخمس وسبعون فرحت اسير بخطوات مثقلة طالعت المدير بعيون مخضوضرة و نظرة حادة الزوايا وبوجه أبيض البشرة ، كان مرتبكاً أعرف السبب إنها هيبتي وملامحي المخيفة ، فتكلم بتلعثم كعادته  :

” صوفي آسف لاخبارك بهذا ولكن لا تتواجد أي منازل تحتاج لخادمة حالياً “
لا اعرف كيف اصف لكم شعوري حينها هل هي راحة كوني سأريح جسدي للفترة القادمة ، أم الانزعاج لأنني ساصغي لعقلي وكثرة سلبياته وجلده لي  ﻷنني لم اكن ذلك النوع من البشر الذي يحب ذاته باختصار ،  أيا يكن رن هاتف المدير بينما كان يشرح لي اسباب عدم تواجد من يحتاجني ، فرفع تلك السماعة وراح يتكلم بنبرة حنونة وكيف لا وهاتفه مصدر دخل غير محدود :
” معكم مكتب اليد الذهبية لتشغيل لايادي العاملة ، كيف اساعدك ؟”
فجأة تحولت تلك الأبتسامة المزهرة لقالب نحتت عليه ملامح الذهول والأنزعاج واكمل :

” السيد فيلكس أهذا أنت ؟  آسف يا سيدي لم اتعرف عليك في البداية ، ماذا …. هل طردتَ خادمة أخرى مجددا سيدي لقد كانت تلك الأفضل بينهن …نعم …فهمت فهمت سأرسل لك غيرها ، لا داعي أن تتعب يديك في كتابة شكوى عنا  … نحن تحت امرتك…”

صمت لثوان وهو بوضع الدهشة واكمل المدير :

” لقد اغلق الخط بوجهي ، ذلك المتغطرس من يحسب نفسه ؟”
ثم التفت نحوي وبابتسامة شيطانية وصوت معسول  :
” مبروك يا صوفي لقد عثرت لكِ على بيت جديد لتعملي به “
لقد فهمت أي نوع من المنازل سيكون عليه بسبب ردة فعله ، فزفرت كمن خلت من بين يديه الحيلة ورددت :
“اعطني ما لديك .”
وفي صبيحة اليوم الخامس والعشرون من شهر اكتوبر توجهت نحو ذلك الشارع الشبه المهجور ليس لانعدام سكانه لا بل لضخامة كل منزل ، وصلت لابعدها بعد عناء،  منزل أزرق من طابقين وبسياج كهربائي أحاط أعالي أسواره الذهبية ، كان اشبه بسجن وهو يحاوط تلك الأرض اليابسة ، ولم يتواجد أي نبات حي حوله عكس باقي المنازل وهذا ما اشعرني بالغرابة .
عبرت بوابة الاسوار كونها كانت مفتوحة ثم طرقت جرس المدخل وأنا مستعدة لأقابل أصحابه ، صدى خطوات ارتطم بعتبة الباب وبذلك الصرير الحاد فتحت الابواب استقبلني رجل قارب على دخول العقد الثالث بشعر اسود متفحم وبعيون غرقت احداها بلون ذهبي حادة والأخر بلون فضي ألماسي ، كانت تلك البشرة الصافية جذابة وهي تلمع بلونها الاسمر كان طويل القامة قارب طوله المترين وزعت على أطارفه عضلات ضخمة ، لست من النوع الذي يتأثر بالرجال ولكن وقاره وهيبته اجبرتني على الانجذاب له ، فتكلم ذلك الشخص ليزيد صوته من وقاره وهجاً :
” هل أنتِ الخادمة الجديدة “
” نعم “
اجبته بتلعثم وهذا ما اشعرني بالخجل لاول مرة في حياتي , فراح يتفقد ثيابي وتنحى جانبا وهو يقول :
” ادخلي واوصدي الباب خلفك “
وهذا ما فعلته بالفعل ، ثم رحت اسير خلف تلك الكتلة الحديدية من العضلات ، كان المنزل عادياً للغاية من الداخل وكأن سكانه من الطبقة الوسطى ، لم تتواجد أي نوع من الأثريات او الأجهزة الحديثة ، سرت في الممرات وأنا اتبعه ، كانت الاروقة فارغة عكس الاستقبال الذي توسطت به بضع كنبات ومدخنة عتيقة متقدة ، كانت تلك الستائر الارجوانية مغلقة وهذا ما زاد من عتمة المكان فحتى بكوننا بوضح النهار إلا أن المنزل اكتفى بذلك الضوء البسيط من الشموع والضياء الذي يتسلل من النافذة ، جلس ذاك الشخص على احدى الكنبات الخاصة بالاستقبال وأشار إلي بالجلوس أمامه ثم تكلم شارحاً :
” أنا احد مالكي المنزل وكما هو واضح المنزل قديم ورث ، ولا احب الخدم لذا أنا اكتفي بخادم واحد يكون مسؤلاً عن كل شيء يخص المنزل ، أما عن سبب طلبي لخادمة فهو للاعتناء باخي الاكبر أنه مشلول ويحتاج للعناية الدائمة وهذا هو عملك راتبك سيكون الف دولار في الشهر وإذا ما اتقنتيه ولم تخالفي التعليمات وهي كالتالي – وقت العمل يبدأ من السابعة صباحاً وينتهي قبل الغروب بنصف ساعة ، أي أما في الخامسة في الشتاء او السابعة في الصيف ، هل سمعتتِ بقصة الجميلة والوحش من قبل ؟”

كنت مندمجة بحديثه فاجبته باستعداد وكأنني جندي  يؤدي الخدمة العسكرية :
“نعم سيدي “
صمت هز المكان بجبروته ولطخ كامل وجهي بالون الأحمر من الخجل ،بحق الجحيم ما بي ! لم يهتم المالك لكلامي واكمل :
“هذا جيد إذا يجب أن تعرفي بأنك تستطيعين التجول بكامل المنزل عدا الجناح الغربي كونه مكان عملي ، طبعا بجانب اخي فقط ، وهذا هي الشروط فقط خالفيها وساطردكِ واعطيكِ غرامة واقدم بلاغ للشرطة بتجاوزك على الملكية الخاصة والنصب والاحتيال كما فعلت لغيرك ،أهذا مفهوم ؟”

ابتلعت ريقي وأنا اشعر بضيق بصدري لا اعرف سببه واجبته :
” مفهوم “
نهض ذاك الشخص واكمل :
” اسمي هو فيلكس وهذا ما اريدك أن تناديني به لا احب الرسميات وأنا ساناديك باسمك فقط وكما هو الحال عند أخي ،إذا فهمت كل شيء وليس لك سؤال باشري بالعمل “

“حاضر “

رددت بحزم وأنا اهيم بالنهوض خلفه ليكمل السيد فيلكس كلامه وهو يحرك احدى ذراعيه مشيراً لي بأن اتبعه :
” دعيني اخذك لأخي “
كان القصر يتكون من طابقين وغرفة الاخ الأكبر تقع في الطابق الثاني هذا ما فهمته من اتباعي له ، كانت السلالم مزخرفة بنقوش معينية الشكل من مواد حديدية وتلك الدرجات كانت عادية تأخذنا للطابق الثاني بشكل مستقيم ، أما عن الطابق الثاني بصورة عامة فهو لم يختلف عن الأرضي بشيء فها هي الاروقة والغرف شبه خالية  ومظلمة وبعد أن عبرنا ثلاث غرف وقف السيد فيلكس امام الباب الرابع وقال بينما يفتح ذلك المقبض الكروي :
” هذه هي “
ثم دخل وأنا خلفه مباشرة ، كان الأخ الأكبر يجلس على كرسيه المتحرك وهو يغوص بقرأه كتابه وكأنه وصل للجزء الأكثر حماساً ، كان شاباً هزيلاً لحد ما شعيراته السوداء كانت طويلة ومربوطة من الخلف كذيل الخيل تتدلى حتى تلامس اكتافه ، كان شاحب الوجه حنطي البشرة غطى وجهه بضع شامات ثلاثة تحت عينه اليمنى وواحدة على خده الايسر عيونه الذهبية لم تخف جمالاً عن اخيه غير أن كلاهما بلون واحد ، ما جعلني اشعر بالغرابة هي غرفته فعكس باقي المنزل كانت مضيئة وبأثاث فضي حديث ستائره الارجوانية تناسقت مع تلك الأزهار الزهرية  التي اختلطت روائحها مع روائح الكتب التي ملأت الغرفة .
تقدم السيد فيلكس حتى وصل ﻷخيه وقال :
” اقدم لك صوفي يا ويست , ستعمل عندنا منذ اليوم “
طالع ويست فيلكس بصدمة وكأنه قاطعه عن شيء مهم ، ثم التفت نحوي ، وقال بينما يغلق الكتاب ويضعه جانباً :
” اه اهلاً بكِ “
بعدها شرح فيلكس ما هي مهامي بالضبط امام ويست , وهي علي أن أرافقه طوال فترة عملي ، أجلب له الأشياء التي لا يستطيع الوصول لها ، اتأكد من تناوله لوجباته الثلاثة لأنه ينساها .

علي أن اكون صريحة  كان هذا اسهل عمل حضيت به في حياتي ، فقد كان السيد ويست لطيفاً بحق ، لم اواجه صعوبة في إيقاظه او مساعدته في شيء ، مرت الأيام واعتدت على الأخوين ، ولكني لم اعتد على مناداتهم باسمائهم قط فقط ظللت اضيف كلمة سيد ، على كل حال  اكتشفت أن هنالك خادم أخر في المنزل وهو المسؤول عن التنظيف والغسيل وطهو الطعام ، ولكن عكسي تماماً كان يعيش مع الاخوين منذ زمن طويل ، علي أن اخبركم أنه فاشل بالتنظيف بحق وهذا يفسر شكل البيت ، ودائما ما يخلط الثياب الملونة مع البيضاء فضلا عن كون طعامه سيئ المذاق وهذا يفسر سبب نحول الأخ الاكبر  أما عن السيد فيلكس فقط كان يظل بغرفته في الجناح الغربي طوال اليوم ولا يغادر إلى العمل ، اعتقد بأنه يعمل في مجال الأسهم أو شيء من هذا القبيل .
مر على وجودي في هذا المنزل قرابة الست أسابيع اعتادنا على بعض ، صحيح أن هنالك بعض الأشياء التي لم استطع فهمها ولكن لم اجرؤ على السؤال قط ، فمثلاً لمَ كان السيد فيلكس يطرد الخادمات السابقات ؟ ماذا يعمل بالضبط ؟ لماذا لا يجددون الأثاث او يهتمون بالمنزل كسائر العوائل الغنية ؟ ولمَ لا يسمح لي بالبقاء حتى الغروب ؟ كل هذه الاسئلة حصلت على جوابها ولكن بطريقة قاسية ، ففي نهاية اليوم العاشر من شهر سبتمبر استأذنت للاصراف وغادرت منزل الأخوين ، ولكن حين وصلت لشقتي لم اجد مفتاحها ،  فادركت حينها أنني تركته في منزلهما ، أكلني التردد ولكن لم اقاوم فضولي في النهاية فاستجمعت شجاعتي  ورحت صوب ذلك المنزل حتى بالرغم من معرفتي بمخاطرتي بالطرد ولكن أنه الفضول كما تعلمون .
وصلت للمنزل والذي بدا مخيفاً بحق  هو بالفعل غريب ومثير للشكوك في الصباح ولكنه مرعب بشكل لا يوصف في الليل ، فلا ضوء ينبعث منه ولا صرير يهلل من اطرافه ، الثلج نثر رماده حتى اضحى البيت مكسواً به كالفراء ، غادرت قبل ساعة ولكنه مختلف بشكل كبير الآن، تقدمت نحو السلالم ورحت اطرق الباب ، لم يجبني أحد حركت المقبض المدور وهممت بالدخول ، كانت الاجواء باردة لدرجة أنني شعرت بأن المقبض التصق بيدي ، هبت ريح صريرية مثلجة ما أن فتحت الباب امتزجت برائحة جدران عفنة،  الداخل لم يتغير عن الصباح بشيء غير كونه مظلم  ، شعلت نور هاتفي وقبل أن انطق بكلمة لأخبر سكان المنزل بقدومي ، اغلق الباب من خلفي بطريقة مخيفة ، لقد افزعني وكأن هناك من امسك قلبي بيد متجمدة ، ولكن الحمد الله كانت الرياح لا غير  ، وقبل أن اخطو خطوة  رحت اسمع أصوات صرير  من الزوايا حولي لم افهم فحين سلطت الضوء على مصدر الصوت لم اجد احداً ! تقدمت نحو سلالم الطابق الثاني وياليتني لم افعل  فقد بدأت اسمع أصوات اقدام تنزل من تلك الدرجات ولكن لا أحد موجود ،  لم اعد استطيع أن اتمالك ذاتي  فصرخت باعلى صوتي مرعوبة  فجأه سمعت صوت السيد فيلكس وهو يتوجه نحوي :

” صوفي اهدأي هذا أنا “

إلتفت ورحت أبحث عنه بسائر المكان لأنني لم استطع تميز موقع الصوت من ارتباكي ، ولكن لا وجود له  في أي مكان ! فجأة مست يد دافئة من بين الظلام خدي وبدأت اشعر بنفسات روح وحرارتها حولي ثم سمعت ذات الصوت :
” صوفي اهدأي هذا أنا فيلكس “
غبت عن الوعي حينها لأنني في موقف استدعى ذلك   وفي صبيحة اليوم التالي  استيقظت من مرقدي  كنت بغرفة الضيوف الخاصة بمنزل الاخوين ، كان السيد ويست يجلس بجواري وما أن رأى استيقاظي حتى حاول تهدأتي ، ثم راح يشرح لي :

” اسمعي يا صوفي ساخبرك بكل شيء ولكن عليكِ أن تهدأي في البداية “
كنت مرتعبة فقد تذكرت الليلة الماضية بلمحة فحركت رأسي بتفهم ليسرد لي السيد ويست ما حدث :

” نحن مصابون بلعنة , تجعلنا نختفي في الليل “

قال لي هذه العبارة من دون مقدمات كعادته ثم صمت بعدها , واستمر الهدوء يجول بالغرفة  ونحن نطالع بعضنا ، لطالما كان السيد ويست يحب مختصر الكلام وزبدته وصريحاً بشكل مخيف ، وهذا ما يعجبني بشخصيته بصراحة ولكن هذا ليس وقته ، فجأة دخل علينا فليكس وهو يزمجر بغضب: 

” اخبرتك أن تمهد للاحداث لا أن تصدمها مباشرة “

” ولكن هذه هي الحقيقة لم علي أن اجعل من القصة طويلة ؟”

اجاب ويست بدوره ولكن بهدوء ليرد عليه فيلكس شارحاً  :

” جوابك هذا زرع الكثير من التساؤلات بداخلها كيف ستحل هذه المشكلة ؟ “
قالها فيلكس وهو يحك مؤخرة عنقه ويلتفت ويطالعني ببعض النظرات الدالة على القلق ، فالتفت ويست نحوي بدوره :

” كانت والدتنا ساحرة ، هربت من عصابة السحرة وتزوجت أبي ثم اكتشف والدي أنها ساحرة وطردنا، مرت السنوات ونحن نعيش بعزلة معتمدين على عمل فيلكس بالأسهم “
صرخ فيلكس :
” ويست ما الذي تفعله بحق الجحيم “
نظر ويست لفيلكس لثوان ثم التفت نحوي وقال :
” اكتشف مجتمع السحرة مكاننا قبل فترة وأرسلوا إلينا دعوة للأنضمام إليهم ولكننا رفضنا لذا القوا علينا هذه اللعنة ، وفيلكس واقع بحبك ، لذا اخبرك بكل هذا كي لا تتركيه “

إحمر فيلكس بالكامل ، وركض للخارج بكل خجل هو يقول :
” اللعنة عليك “
ثم اكمل ويست وهو يحدق بي بينما استوعب كل هذه الصدمات :
” هل فهمتِ الآن ؟”
“لا “
رددت عليه وأنا مصدومة ثم اكملت وأنا اهيم بالنهوض للمغادرة :
” ولا أريد أن أفهم “

  غادرت الغرفة تاركةً ويست وحيداً على كرسيه المتحرك ، وما أن حاولت نزول السلالم حتى امسك فيلكس بذراعي وراح يجرني للشرفة بدون كلام، قلبي كان يعتصر وينبض بقوة لذا لم استطع أن أنطق بكلمة ، أجلسني على إحدى الكراسي وأغلق باب الشرفة ثم جلس بدوره بخجل وهو يحاول أن يتجنب النظر إلي قدر المستطاع  وما أن حاولت الكلام حتى سبقني :

” صوفي اسمعي القصة مني ثم قرري ما ستفعلينه لاحقاً موافقة ؟”

زفرت بهدوء بعد أن فشل عقلي بحرب بينه وبين قلبي :
” نعم “

ابتسم فيلكس لتزداد جمال تلك العينين وهجاً وتكلم :

” بدأت قصتنا من حياة والدتنا والتي نشأت كساحرة ضمن أعضاء منظمة الريشة الفضية وهي منظمة سرية تضم كل من اتقن السحر وعلومه وينقشون وشوماً لريشة فضية بكف يدهم ليميزوا اعضائهم ، حين كبرت والدتنا اكتشفت أن المنظمة شريرة وأن الاعمال التي تقوم بها كانت تؤذي البشر  لذا قررت ترك المنظمة ، والتي بدورها رفضت تماما أن تتركهم أمي كونها إبنة أحد أعظم السحرة  ،لذا هربت  وبعد سنتين استطاعت أن تنشئ لنفسها نظاماً جديداً وطبيعياً دمجها مع المجتمع  ثم التقت بوالدي وتزوجا وانجبت أخي الأكبر , كان والدي شخصاً فاحش الثراء لم يقصر على أمي بشيء طبعاً حتى حملت بي فقد اكتشف والدي ماضيها وطردها من المنزل برفقة أخي خوفاً منها، عرف سكان المدينة بأمرها فنبذوها، عاشت أمي وأخي بأحد كهوف الجبل القريبة من هنا  ثم ولدت أنا كانت كل أيامنا تقتصر على الاقتيات بما تيسر لنا من الحيوانات ونباتات الغابة تستطعين القول بأننا لم نكن نختلف عن الأنسان البدائي بشيء .
امي على الرغم من كونها ساحرة قوية وتستطيع أن تصبح ثرية بما تملكه من مهارة وخدع إلا أنها فضلت أن تبقى على حالها هذه ، كانت أيامنا صعبة ولكننا اعتدنا عليها لم نكن ندخل المدينة إلا بحالات نادرة وهذا بدوره كان خطيراً جداً بالنسبة لنا ، ماتت والدتنا حين بلغنا سن العاشرة والسابعة ، بقينا لعشر سنوات اخرى في نفس المكان وفي جهل عن ما يكون عليه سكان المدينة وعن حياتها ، وفي احد الأيام وجدنا عمنا الصغير وتكفل بالعناية بنا ثم اخبرنا بوفاة والدنا وأننا ورثنا كامل ثروته  لم نعرف كيف تسير الأعمال في البداية  وكنا معتادين على حياة الكهف والظلام الذي به لذا نحن لا نضع مصابيح كثيرة فهي تزعج بصرنا أما عن أثاث المنزل فكما قلت سابقاً نحن نجهل هذه الاشياء لذا لم نكلف نفسنا عناء الاندماج بمجتمع نبذنا  حتى بالرغم من مرور أكثر من أحد عشرة سنة منذ دخولنا للمدينة إلا أننا لا نزال نرتاح بوضعنا هذا ،خسرنا نصف ثروة والدنا في البداية لأننا اكتشفنا أن عمنا كان مجرد محتال هددنا بكشف ماضينا أن لم نعطه ما يريد ، وفي اخر ثلاث سنوات استطعنا التخلص منه وتعلمت كيف أعمل في مجال الأسهم  وهذا ما نعيش عليه ليومنا هذا ، وقبل سنة زارتنا مجموعة من عصابة السحرة وعرفنا منهم قصة والدتنا ، طلبوا منا أن ننضم اليهم كوننا من نسل ساحرهم القوي  ولكننا رفضنا ، فقاموا بلعننا بكل بساطة، أصبحا أنا وأخي نختفي في الليل ولا يرى أحدنا الأخر أو يرانا أحد ،  كانت هذه لعنة بسيطة وتهديد لا يذكر بالنسبة للذي سيقومون به في زيارتهم القادمة حسب قولهم أن ذلك ، اضطررت أن اقوم بطرد الخدم ما أن أصابونا باللعنة وابقينا جاك فقط لأنه الشخص الوحيد الذي نثق به ،لم نستطع أن نخبر الشرطة او أن ندافع عن انفسنا خوفاً من اكتشاف المجتمع حقيقتنا من جديد ، كانت الخادمات السابقات فضوليات ومزعجات لذا كنت اطردهم لأقل زلة خوفٍ من اكتشافهم لسرنا ، أما أنت فقد كنت مختلفة منذ لحظة دخولك “

بينما يسرد لي فيلكس قصته انزل رأسه في نهاية هذا الكلام ثم تكلم باستحياء :
“كنت ذلك الشيء الذي ملأ جزء لم اعرف بوجوده من قبل في قلبي “
ثم رفع رأسه واكمل :
” إذاً ما رأيك ؟ هل تبقين معي ؟ “
هذا الكم الهائل من المشاعر لخبط دماغي وتفكيري  كنت كسكير لا يعرف كيف يرمي سهمه ، نهضت بهدوء من مكاني وقلبي الذي اصبح يضخ الدماء بشكل كبير اصبح يخنقني  ، وقبل أن انطق بحرف سمعنا صوت طرقات غليضة الصدى تتردد وتدخل مسامعنا بقوة وكأنها تود ثقبها  كانت تلك الضربات صادرة من الباب الرئيسي ، نزلنا أنا وفيلكس بسرعة  ثم فتح فيلكس الباب وكأنه كان يعرف الكارثة القادمة ولكنه فضل التظاهر بالجهل ،  وما أن فتحت تلك الأبواب على مصرعيها حتى صدمنا بالقادمين ، كانوا رجال طويلي القامة يرتدون ثياب سوداء غطت اجسادهم عبائات مظلمة تصل للركبة  ، شعرهم طويل ظفر إثنان منهم شعره على شكل خصلات أما الشخص الذي توسطهم فقد كانت عينيه تحتضن هالات سوداء واسعة ، وجفونه حادة لامس صدره لحية مجعدة حمراء طويلة , صدم فيلكس بهم وسرعان ما حاول إيصاد الباب ولكن أوسطهم ركله ،ويا لها من ركلة فقد نطحت فيلكس واردته أرضاً بقوة ، فهرعت نحوه صارخة :
“فيلكس “
امسكت كتفيه وحاولت أن اساعده على النهوض وكل مكنوني بالغضب صار يمتلأ  فصرخت عليهم :
“اللعنة عليكم , ما الذي تريدونه ؟”
تكلم صاحب اللحية الحمراء  بصوت غليض ذو صدى مسموع وكأن هنالك شخصين يتكلمان بذات الوقت :
” نريد من أحفاد الساحر جان الأنضمام لنا ، سبق وقمنا بتهديدكم  واعطيناكم مهلة سنة للتفكير ،لذا نريد الجواب “

فجأ سمعت صوت إطارات عربة السيد ويست تتقدم من خلفنا , ثم توقفت حين صرخ :
” !نحن لن ننضم افهموا هذا “
نظر فيلكس نحو ويست وكأنه يطلب منه أن يلتزم الصمت ، ولكن كعادته فضل ويست أن يكون صريحاً فقال :
” أنتم سبب كل الاشياء التعيسة التي عشناها ،فكيف تريدون منا أن ننضم لمن ملأ حياتنا تعاسة ؟”
نهض فيلكس من مكانه بعد أن ساعدته ثم راح يضع ذراعه أمامي أنا وويست ليحمينا :
” اطلبوا منا أي شيء أخر ، ولكن لا تطلبوا منا الانضمام “
قالها فيلكس بكل هدوء ليصرخ ويست من خلفة مؤنبا أياه :
” لا داعي أن نعطيهم أي شيء وقل أننا لانريد هذا فقط  يا فيلكس “
زفر الملتحي الاحمر بغضب ثم راح يتمتم ببعض الكلمات مع ذاته ، فجأة سمعنا صوت إمرأة حاد من خلفنا تصرخ وتضحك بجنون ، تسلل الخوف لفؤادنا لأننا حين استدرنا لم نجد احداً كانت تلك الصرخات مستمرة زرعت الرعب بنا ، وقبل أن نلتفت اليهم مجدداً  كان الملتحي يقف امام ويست وينظر إليه بعينيه السوداوتين بغضب ثم قام بطعنه في كتفه الايسر واختفى بلمح البصر وتبخر ، صرخة ويست منذ ذلك الوقت لليوم لا تزال تتردد في أذني من قوتها ، ذعرنا أنا وفيلكس نحوه وحاولنا إيقاف النزيف  ثم تكلم احد الشخصين المتبقين :
” هذا أخر إنذار لك يا فيلكس ، في المرة القادمة سنقتل شخصاً اخر تحبه أيضا و أنت معه “
ثم أنصرفا كأي كائن عادي  لم نفهم مقصد كلامهما فلم يمت أحد فينا ، نادينا الطبيب وضمدنا جراح ويست  لم استطع ترك الاخوين وهم في هذه الحالة لذا استمررت بالمجيء لمنزلهم كان جاك غائباً عن المنزل حينها  لذا اضطررنا لشرح كامل التفاصيل له ، لم يتعافا جرح ويست مطلقاً واستمر بالتألم والنزيف  للثلاث الأيام التالية حتى بالرغم من محاولات أشهر الأطباء علاجه ، وفي صباح اليوم الرابع توجهت لمنزل الاخوين ، ولكني صدمت حين رأيت فيلكس فقد كان  يجلس  امام عتبه المنزل وهو يضم ساقيه ، تقدمت نحوه بخوف وقلت :
” هل أنت بخير ؟”
رفع فيلكس رأسه لانصدم من مدى تعبه ، كانت كلتا عينيه متورمة وتلك الهفة واللمعان الذي لطالما تواجد بهما قد اختفى ، ثم تكلم بارتجاف بالشفتين وهو يستصعب النطق :
” لقد توفي ويست قبل ساعتين “
نزل الخبر علي كالصاعقة ، إذا هذا ما كان يقصدانه بكلامهما !  تقدمت نحو فيلكس وساقي اصبحتا كأنهما لطفل حديث السير  وبقوةً خائرة جثوت على ركبتي امامه ، خدمت السيدة إليا لخمس سنوات ولم تنزل دمعة مني عليها حين توفت ولكن لما  الدموع الحارقة تفيض بغزارة امامه ؟  أهو الحب ؟ هل أنا حزينة لهذه الدرجة لانني استصعب رؤيته حزيناً ؟ ما أن انحنيت امامه حتى عانقني بقوة وراح يبكي معي بحرقة تلتها شهقات وصراخ .
مر يومين على الحادثة دخل فيلكس بحالة من الإكتئاب بعد دفن شقيقه ، حاولت قدر المستطاع أن أساعده أو أن اخفف عنه مرارة الأيام ، وبعد شهر اعتدنا على رحيل ويست ولكنني لم أكن أعرف ما هي الخطوة القادمة التي سيتخذها فيلكس لأنني لم اتجرأ على السؤال ، وفي موعد الغداء كنت أعد المائدة مع جاك والذي بدوره كان متأثراً برحيل ويست ، كان جاك شخصاً كبيراً بالسن ملأ الشيب كلا  شعره ولحيته ، وحين انتهينا من اعدادها نظر إلي بتلك العيون الخضراوية وقال بصوته المبحوح :
” نادي فيلكس يا صوفي أنه في الشرفة “
استغربت من كلامه فهو بالعادة لا يغادر غرفته ، صعدت للطابق الثاني وتوجهت نحو الشرفة والتي كانت تتوسط الطابق الثاني وتقع بين غرفتين ، تطل على حديقة المنزل القاحلة والتي غطتها الثلوج للمتر والنصف ،وصلت للشرفة ووجدت فيلكس يطالع الحديقة بحزن ، فتكلمت محاولةً مواساته :
” كيف تشعر الآن ؟ هل هنالك شيء أستطيع أن أساعدك به؟ “
استدار نحوي وابتسم بلطف ، ثم تكلم بعد أن زفر قليلاً لتنبعث منه أبخرة كثيفة :
” لا عليكِ يا صوفي ، مجرد وجودك حولي يساعد “
تقدمت نحوه وقلت بينما اطالع حديقته :

” اعرف أن الحب شيء جميل ولكن أن تتعلق بكائن بشري هو بحد ذاته شيء قد يقتلك ، اعرف أن كلامي هذا قد لا يعني لك شيئاً ولكن كل شيء زائل في هذا الحياة ومع ذلك تظل جميلة بطريقتها الخاصة ،  كما قال أحد ذات مرة ،  لا ضرر في الموت المرعب حقاً أن لا نعيش “
استدرت للخلف لاتفاجأ بوجوده خلفي مباشرة فتراجعت بضع خطوات حتى لامس ظهري سياج الشرفة وقلت بتوتر  :
” ما الذي تفعله ؟”
كانت نظراته غريبة ظل يطالعني لثوان ثم ابتسم بخفة وقال :
” أنتِ محقة بشيء واحد من عبرك الفوضوية ، يمكن لحبك أن يقتلك ، ولكنكِ نسيتِ أن تضيفي أنه يكون السبب في بقائك حياً أيضاً ، ولتبقى حياً عليك أن تضحي لمن تحب لأنها الغريزة ، تعيش له وقد تموت بسببه “
ثم تقدم نحوي أكثر ، زادت ضربات قلبي فاغمضت عيوني بحماس ، دعوني اعترف توقعت لحظة رومانسية ولكن ليس كل ما تشتهيه الأنفس تحصل عليه ، فقد شعرت بأن ذلك السياج بدء يلامس باقي ساقي والجاذبية تعانق شعري ،  فتحت عيوني وإذ بي اسقط من الشرفة وفيلكس هو من دفعني ، توقف الزمن بي وأنا اطالع تلك العينين المدمعة والابتسامة التي تخبرني أنا سعيدٌ ولست نادماً ، كان هنالك وشم ريشة فضية بكفه الذي دفعني به ففهمت أمره ، ارتطم جسدي وعانق الثلوج  واغلقت عيوني أثر الصدمة ،لقد بقيت على هذه الحالة لدقيقة لاستوعب ما حدث ، ثم نهضت من مكاني وكأن شيئاً  لم يحدث يبدو أن الثلوج حمتني من صدمة الارتفاع ، ثم نظرت نحو شرفة المنزل وإذ بمنزل الأخوين قد اختفى ، والخادم العجوز في الخارج مثلي ، يبدو أن فيلكس انضم للعصابة لينقذ ما تبقى من احبائه ، لم أرى منزل الأخوين من بعدها ولم أعرف أي شيء أخر عن فيلكس ،وهذه هي غريزة العطاء ، أن تعطي من تحب ما تستطيع لتحميه ولكن بثمن بخس .      

《 النهاية 》

Krawre

العراق - للمزيد من القصص حسابي على الواتباد Krawre-sama
guest
2 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك