أدب الرعب والعام

فتى الفراشة

لا يفصلني عن الحريّة سوى لحظات ، لقد انتظرت بما يكفي ، يجب أن تنجح الخطّة ..

بدأ كل هذا منذ سبع سنوات ، كنت أعمل مدرّسا لمادة الفيزياء بأحد المعاهد الثانوية بمدينة صغيرة تسمّى “الفحص” بولاية زغوان التونسية ، درست لسنوات عدة في جامعتين مختلفتين ، و كنت من الأوائل في دراستي في اختصاصين مختلفين ، فقد تخصّصت في الفيزياء و علم النفس ، و بعد سنوات من البطالة فرحت فرحا عارما لحصولي على عمل.

لازلت أتذكر ذلك اليوم المشؤوم وكأنه البارحة .. انتهت الحصة الدراسية على الساعة 6:00 مساء و حان موعد الرحيل ، تعودت قبل العودة إلى المنزل أن أمر باحد المطاعم لتناول وجبة سريعة بما أنني لم أتزوج بعد ، لكني على علاقة بأحد زميلاتي في العمل ، وكنت قد تقدّمت لخطبتها ولكن لم نقرر موعد الزواج نظرا للظروف المادية ، لكني أحببتها حقا وذلك لتشابه الأفكار الكبير بيننا ، لكن هذا لا يهم الآن.. كنت بعد أن أتمّ تناول تلك الوجبة في المطعم أستقلّ سيارة أجرة للعودة إلى المنزل .. كنت لازلت أسكن مع والدتي في الطابق الأرضي بينما صرنا نأجّر الطابق العلوي ، فبعد أن اصيبت والدتي بشتّى الأمراض المزمنة لم تعد تقوى على الصعود أو النزول من الدّرج ، كما أن كل تلك الأمراض جعلتها لا تأكل سوى الطعام الخالي من الملح و هذا ما جعلني ألجئ إلى أكل المطاعم ، كما أن لدي اختًا تكبرني بسنوات ، تزورنا بين الحين و الآخر لتطمئن على والدتنا ثم ترجع إلى منزل زوجها و ابنائها. ذلك اليوم.. إنتهيت من العمل و وقفت على الرصيف كالعادة أنتظر سيارة أجرة لكن كانت كل السيارات تنطلق على الطريق بسرعة خيالية كأنها الخيل تشق البيداء شقا ، انتظرت طويلا حتى قررت أن أقطع كل تلك المسافة مترجّلا ، حتى توقفت أحد سيارات الأجرة و أقلّني السائق على مضضٍ .

في الطريق طلبت منه أن يتوقف أمام أحد المطاعم سريعا ، لم يمانع السائق لكنه أصرّ ألاّ أتأخر لأنه سيغيّر مناوبته مع سائق آخر ، واصل السائق القيادة حتى توقف أمام المطعم الذي أشرت عليه ، هممت بفتح الباب لكنه أبى أن يفتح ، فتكلم السائق قائلا

-:” تبا إنه الباب مجددا! عذرا سيدي لكنه لا ينفتح إلا من الخارج.. لا عليك إسترح سأحضر لك ما تريد لقد إرتحت لك”.

-:” شكرا لك ، فقط أحضر لي شطيرة دجاج وقارورة ماء “.

هممت بإخراج النقود لكنه قال اننا سنتحاسب فيما بعد عند دفع الأجرة. جلست أنتظره في السيارة فلم يتأخر وعاد مسرعا حاملا في يديه شطيرتين وقارورة ماء

-:”لقد أحضرت لنفسي شطيرة أيضا ، لم آكل شيئا منذ الصباح.. يمكنك أن تأكل بالسيارة تفضل سيدي “

-:”حقا؟”

-:”طبعا لك ذلك و يمكنك التدخين إن اردت أيضاً”.

تناولت شطيرتي وشربت بعض الماء فيما أكمل السائق القيادة وعينيه لم تفارق الطريق ، لكن بعد بضع دقائق أحسست شيئا غريباً ، كنت أحس بثقل في جفوني و بنعاس شديد ، انتابني الشك للحظة لكن تداركت الأمر على الفور .. وما هي إلا ثوانٍ حتى اتضح أن شكّي في محله ، نظرت إلى المرآة لأجده يطالعني بتلك النظرات المضطربة ، أو يمكن القول أنه كان ينتظر أن أفقد الوعي.. أحسست بثقل في لساني لكني إستجمعت قوّتي للحظة وقلت -” توقف هنا.. توقـــف!”.

و كلّ ما أتذكره بعد قولي هذا أن الظلام قد حل فجأة وغبت عن الوعي.. لتبدأ المرحلة الأسوء في حياتي.

إنتهى مفعول المخدّر ففتحت عيني ببطئ لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها الأربع أمتار ، يتوسّط أحد جدرانها باب حديدي ضخم تعلوه فتحات تهوئة و يحتل وسطه باب صغير على شكل دائرة لا أعتقد أنه يتّسع لحجم رأسي ، أعلى هذا الباب يوجد جهاز حديدي صغير يشبه المذياع ملتصق بالجدار ، لم أعلم وظيفته حينها ، كما وجدت نفسي أستلقي على مرتبة قديمة لا يزيد سمكها عن مليمترات فلا تحول بيني وبين الارضية الصلبة وبرودتها إلا مجازا ..

وكانت المصيبة الكبرى ، المرحاض .. يبعد كل البعد عن أي مرحاض رأيته في حياتي ، أراهن أن مراحيض السّجن أفضل حالا من هذا ، إذ لا يحتوي على خرطوم ماء أو على سيفون لتنظيف المرحاض من الفضلات.

في هذه اللحظة تحديدا بدأت أستوعب ما يجري .. ذلك الرّجل الذي أقلّني يقف يقف وراء ما أنا فيه ، لازلت أتذكر وجهه جيدا ولن أنساه ما دمت حيا ، فقط لو أستطيع الخروج..

كان أول ما حاولت فعله هو فتح الباب ، لكن بينما كنت أحاول فتحه بعنف ، فُتح ذلك الباب المصغّر و أطلّ منه رأس خرطوم ماء ليشرع ذلك الشخص الذي يقف وراء الباب برشّي بالماء البارد كما يرشُّ الكلب الأجرب ، فعلمت أن لمس الباب ممنوع .

مرّ ذلك اليوم ولم تستقبل معدتي شيئا غير ذلك الماء الذي دخل فمي عنوةً .. تمكّن منّي التّعب والإرهاق فإستلقيت على تلك المرتبة أضع يديّ بين فخذيّ و أطالع الجدار حتى باغتني النوم.

-“طااااااااااااااخ”-

كدت أصاب بسكتة قلبية من شدّة الفزع فانتفضت من مكاني ولا زلت أسمع صدى ذلك الإنفجار يتردد بين جدران الغرفة ، نظرت ناحية الباب لأجد ذلك الجهاز الحديدي يصدر ضوءا أحمر اللون و كان هيكله الحديدي يرتجّ فعلمت أنه مصدر الصوت ، وبينما كنت جاحظ العينين جاهلا لما يحدث من حولي ، فتح ذلك الباب المصغر و إمتدّت يدا ذلك الرجل الذي لا أعرف حتى وجهه ليناولني طبقا بلاستيكيا يحتوي على بعض الأرز وجريدة وضعت إلى جانب الطّعام ، فإستلمت منه الطبق بتردّد فألقى بعد ذلك قارورة ماء من الفتحة. كنت مرتابا أن يكون في الطّعام منوّم كالمرّة الفارطة لذلك لم أتناول شيئا رغم الجوع الشّديد ، أخذت الجريدة متسائلا عن وظيفتها الحقيقية في هذه الظروف ، هل هي للقراءة أم لتنظيف نفسي بعد قضاء الحاجة بما أن المرحاض ليس به خرطوم .

مرّ اليوم الثاني ولم أتناول شيئا..

-“طااااااااخ”-

لحسن الحظ لم أكن نائما عندما انطلق ذلك الصوت المرعب مجددا صادرا من تلك الآلة.. فتح ذلك الرّجل الباب الصّغير وألقى نظرة خاطفة إستطعت من خلالها تبيّن القليل من ملامحه ، لم يكن وجه السائق ، كان قد نظر من الباب ليرى إن كنت قد تناولت الوجبة التي قدّمها لي ، لكنه وجد الطبق على حاله فأغلق الباب المصغّر ولم يقدّم لي شيئا ، فعلمت أنه لابدّ من تناول الطّعام ليقدم لي الطبق التّالي.

كان الجوع يؤثّر على معدتي و معدتي تؤثّر على عقلي كي أقتنع بتناول الطعام.. اقتنعت فأكلت الأرز الذي كان قد التصق بعضه ببعض ويبس ، شربت الماء و أسرعت فإستلقيت على المرتبة تحسّبا فربّما يكون بالطعام أو الشّراب منوّم فأسقط على وجهي.. مرّت دقائق تقريبا ولم يحدث شيء فعلمت أن الأكل آمن لا شيء فيه.

مرّت أربعة أشهر تقريبا منذ الليلة الأولى التي وجدت فيها نفسي في هذه الغرفة , فهمت خلال هذه الأشهر نظام هذا المكان.. يوجد حارسين ، حارس ليلي و آخر صباحي ، على الرّغم أني منذ دخلت هذا المكان لا أعلم حتى إن كان الزمان ليلا أم نهارا ، لكن بمرور الساعات تبيّنت أنهم يتناوبون على حراستي.. يتغيّر الحرّاس تقريبا كل شهر ، الإقتراب من الباب ممنوع إلا في حالة كنت أريد الإستحمام بذلك الماء البارد ، الكلام أو الصّراخ بصوت عال ممنوع وإلاّ اتلقى ذات العقاب ، لمس تلك الالة يتسبب في صعقة كهربائية قوية تكفي لتفقدني الوعي ، كما أن الصوت الصادر منها له نفس وظيفة مدفع رمضان ، أي الاعلان عن وقت الطعام ، أما عن الأكل فمرّة واحدة في اليوم لكن كانت كميّة الأرز كافية ليوم كامل ، كما أن الأرز وجبة يومية ما عدا يوم واحد في الأسبوع كنت أنتظره بفارغ الصبّر يكون الطعام فيه مختلفا ، حتى انهم قدّموا لي مرةً لحمًا مشويًا أو يمكن القول أنه بقايا لحم مشوي ، إضافة إلى الأكل و الشّراب و الجريدة و التي إتضح أنها ليست للقراءة ،لكن كنت أقرأها على أي حال قبل أن تلقى حتفها في ذلك الركن حذو الجرائد الأخرى إلى أن يناولني الحارس كيسا صغيرا لأملئه بتلك الجرائد المستعملة بين الحين و الآخر ، كان يقدّم لي مرة في الشّهر سلاّكة مرحاض وقارورة منظف من نوع “فلاش” بما أن المرحاض كان ينسدّ بين الحين والآخرين ولا داعي للحديث عن الرائحة والخوض في التفاصيل.. كما أنهم كل شهر يزودونني بمقص ورق بلاستيكي لأحلق به رأسي ولحيتي .

كنت أحيانا أفكر في شرب المنظف والانتحار ، و كانت يغمرني اليأس فأبكي حتى أنام ، لكن كانت غريزة البقاء لدي أقوى من هذه الأفكار وذلك لأني كنت أعلم أن ذلك اليوم آت و أنني سأغادر هذا المكان بطريقة أو بأخرى ، وكان أكثر ما يؤرقني و يجعلني أفكر لساعات طوال أني لا أعلم سبب وجودي في هذا المكان ، و لا أعلم حتى إن كان من وضعني هنا سيطلق صراحي يوماً.

مرّت أيام تلتها شهور فصارت أعوام طوال ، فإنقظت ست سنوات من حياتي وكأنها مئة عام من العزلة ، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي علمت فيه سبب مكوثي في هذا المكان.. كان يوما عاديا كباقي الأيام ، بما أن كل الأيام في هذا المكان متشابهة تعيد نفسها.. أعلنت الآلة موعد الإفطار بذلك الصوت المفزع ، إستيقظت وتناولت الطعام ثم جلست لقضاء حاجتي ، فتحت الجريدة لأجد أن تاريخ إصدارها يعود إلى ستّ سنوات مضت ، تحديداً تاريخ اليوم الذي إستيقظت فيه في هذه الغرفة. إستغربت الأمر وظللت أقلّب صفحاتها و أقوم بقراءة سريعة لمحتواها حتى توقفت على صفحة الجرائم لأقرأ ذلك العنوان (- مدينه الفحص: أستاذ في حالة سكر يلوذ بالفرار من مسرح الجريمة بعد أن قام بقتل والدته وشقيقته بإستعمال آلة حادّة.-) لأجد بعد هذا الخبر صورتي الشخصية وصورتين تعودان لوالدتي وشقيقتي.. لم أتمالك نفسي ووقعت من على المرحاض عاريا أبكي بحرقة.. كنت أتمنّى أن يكون كل هذا كابوسا و أن أستيقظ منه لأجد نفسي في المنزل ، كنت أتمنّى لو أكملت السّير مترجّلا ذلك اليوم.. تمنيت أن أعود بالزّمن لأقبّل أمي و أخبرها كم أحبها ..وكم بكيت على فراق اختي ، كما أن أطفالها أصبحوا يتامى الآن ويظنون أن عمّهم قد قتل أمّهم.. رحمة الله عليهم ، لكنني متأكّد أني لم أعد إلى المنزل ذلك اليوم.

لن اسامح المتسبب في هذا و سيكون خروجي من هذا المكان متمثلا في ساعاته الاخيرة.

(جوسكا)

هي متلازمة أو ظاهرة نفسية تتمثل في محادثة خيالية لا تكف عن تمثيلها في عقلك.

و كانت هذه المحادثة بالنسبة لي تتمثل في آخر كلمات أقولهم للمتسبب في كل هذا قبل أن أقتله و أتخيل تنكيلي به قبل قتله.

لازلت أتذكر وجهه جيدا ولن أنساه أبدا.

كنت أفكر دائما ولطالما شغلني سؤال واحد.. ترى هل أنها مسألة شخصية ام أنني ضحية إختارها بعناية فرتب كل ذلك ليظفر بي ، جُلت في كل ركن من ذاكرتي أبحث عن أشخاص قد يكون لهم الدّافع لفعل هذا ، لكن لم يكن ذلك الشخص واحدا منهم.

و منذ ذلك اليوم الذي علمت فيه سبب قبوعي في هذا المكان المقرف ، و مذ علمت أن الفاعل الحقيقي للجريمة طليق الصراح ، و أنني أحاسب على أفعاله ، زُرعت في عقلي فكرة الهروب ، وظللت أنتظر الفرصة المناسبة ، و بتّ أعيش على أمل ضئيل .. أمل أن يحدث خطأ أو زلّة قد تكون مخلّصي من هذا المكان.

بعد مرور أيام منذ أن علمت ما حدث لعائلتي ، إنضم إليهم شخص ثالث..

أرز ، قارورة الماء ، و الصحيفة المعتادة ، لكن كان يعلو الصحيفة هذه المرة بعض الصّور ، صور لحفل زفاف خطيبتي التي لطالما رتّبت و إيّاها خطة لحفل زفافنا ،و كنّا دائما نتخيّل سويّا كيف ستكون الحياة إن جمعنا بيت واحد.. لا أتمنّى لها غير السعادة و الهناء ، رغم أني أحببتها كثيرا لكن بعد موت والدتي وشقيقتي خفتَ ضوء مشاعري حتى خشيت أني لا أشعر بعد الآن ، ليتني أتمكن من إخبار من أرسل هذه الصور أنه فشل في محاولته هذه في تحطيم معنوياتي.. مرّ بخاطري في تلك اللحظة بيت شعري يقول أن من يحمل الهموم كبارا لا يبالي بحملهنّ صغارا ، و ها أنا ذا أحمل الهموم جميعا الكبار منها و الصغار ، بمناسبة ذكري للشّعر ، تلقّيت بعد ما يقارب الأسبوع من تلك الصدمات المتتالية بطاقة بريدية تحتوي على صورة لمشهد طبيعي خلاّب.. بالنسبة إلى شخص لا يملك أدنى فكرة إن كان اللّيل قد حلّ أم النّهار ، صورة كهذه تعني الكثير.. قلبت البطاقة لأقرأ التالي” ما كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن” يال بلاغتك أيّها المتنبّي فعلا ما تقول ، لكن للمرء أن يسأل ما غاية من أرسل هذه البطاقة ؟ أيكون قصده أنّي أرى العالم ولا أستطيع ملامسته ؟ إن كان هذا مقصده فقد بلغ غايته.

دسست البطاقة تحت المرتبة وعدت إلى الإستلقاء أطالع السّقف بنظرات خاوية.

مرّ شهر تقريبا منذ إستلامي البطاقة -طااااااااااخ-

أعتقد أني لو إضطررت إلى البقاء هنا مدّة أطول لتسبّب هذا الصوت في فقداني لسمعي أو لمداركي العقلية ، لما لا يقوم ذلك الأخرق بطرق الباب فحسب ، صرت أعاني الكوابيس جرّاء هذا الصوت..

إنه اليوم الأول في الشّهر الجديد ، كالعادة طبعا ، أرز وصحيفة و قارورة ماء.. إضافة إلى بطاقة بريدية جديدة عليها صورة مجموعة من الجمال تشقّ رمال الصحراء وقت الغروب ، في بعض الأحيان حتى و إن كان للإنسان حريته الكاملة ، فانه عند رؤيته لمشاهد كهذه يتمنّى أن له قدرة خارقة تنقله أو تمكنه من الولوج إلى صور يراها جميلة ..

قلبت البطاقة و قرأت التالي ” سلام على الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا”.

باستثناء خطيبتي السابقة هذا و إن صحّ إعتبارها ضمن قائمة الأصدقاء ، لا أتذكر أن لدي أصدقاء بتاتا ، لكن حتّى خطيبتي لم تصدق الوعد عندما أخبرتني أنها لن تتخلّى عنّي مهما كانت الظّروف.. على كلّ ، أخذت أجوب الغرفة ذهابا و إيابا لتمضية الوقت ، أنتظر بكلّ حماس مرور اليوم لحلول الغد ، لأتلقّى الصحيفة الجديدة ، إذ يملأني الفضول لمعرفة من فاز بكأس العالم ، ولو أنني أعلّق آمالا كبيرة على الفريق الأرجنتيني.

جاء الغد وفعلا فاز الفريق الأرجنتيني على خصمه الفرنسي.. ومرت الأيام وجاء الشهر الجديد جالبا معه بطاقة بريدية جديدة ، حملت البطاقة أطالع صورة فتاة مثيرة أثارت في جسدي حنينا لرائحة النّساء ، على الرغم أني لست من النّوع الذي يبدي ذلك الإهتمام الهائل بهذا الجانب من الغرائز ، إلا أنني كدت أصرخ من شدّة الفرح ، هذه حبيبتي الجديدة ..ربما أن الستّ سنوات التي قضيتها في هذا المكان بعيدا عن أي تواصل أو تلامس مع الجنس الآخر قد أثّرت على جانبي الحيواني .

قلبت البطاقة كالعادة لأقرأ التالي “تنام عيناك و المظلوم منتبه يدعو عليك وعين اللّه لم تنم”.

بيت واضح المقصد لكن كان من الأجدر أن يرسل باعثه عوضا عن البطاقة قارورة المنظّف لأن المرحاض في حالة مزرية و أكاد أجزم أن الكحّة التي أصابتني ناتجة عن هذه الرائحة القذرة ، على العموم أيا كان الشخص الذي يرسل هذه البطاقات ، أشكره ولو أني سأخرج من هنا لأقوم بقتله و كلّ من شارك معه في سجني في هذا المكان.

ولطالما دار المشهد في مخيّلتي طوال هذه السنوات ، كنت دائما ما أتخيل أبشع طرق القتل و التعذيب التي قد تمنحني بعض الهدوء و السكينة عند تطبيقها ، لكن الأهم من كل هذا و قبل أن أنزل بهم عذابي ، أريد أن أعرف السبب الذي دفعه لفعل هذا.. لماذا ؟؟.

تتالت الأشهر الطّوال و مرّ منذ إستلامي لأوّل بطاقة إثنى عشر شهرا و اليوم هو غرّة الشّهر الجديد ، اليوم أكون قد قضيت سبع سنوات في هذه الغرفة ، هذا إن صحّ القول أنها غرفة ، كنت أستلم بطاقة بريدية جديدة كل شهر طوال الأشهر السابقة ، فكنت أخبئها تحت المرتبة فأطالع تلك الصور بين الفينة و الأخرى لأؤنس بها وحدتي..

-طااااااااااااااخ-

موعد الفطور كالعادة .. إستلمت البطاقة الثانية عشر ، عليها صورة لرسم تشكيلي.. البيت الشعري “يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرّأس لا تشفق على الجبل”.

رغم جمالية الأبيات و الصور إلا أن مسألة البطاقات هذه أخذت تضايقني شيئا فشيء ، لم أفهم المغزى بعد.. أيمكن أن يكون لمرسل البطاقات رسالة يريد إخباري بها ولم أتمكن من فهمها ؟ أم أن له مغزا آخر ..

كنت ألقي اللّوم على نفسي أحيانا قائلا أني ربما لو كنت أذكى لتفطنت لرسالته ، او لعل لومي لنفسي كان غايته منذ البداية!.

مرت الأيام لا شيء فيها يجدر ذكره ، إلى أن حدث أغرب شيء رأيته منذ دخلت هذا المكان..

-طااااااااااااااخ-

وقت الفطور.. كنت أشتمّ رائحة زكية حتى خلت أني أتذوّقها .. فتح الباب المصغّر و إتضح أنه اليوم الذي يقدّم لي فيه الطعام الجديد ، و كان الفطور هذا اليوم دجاجة مشوية ساخنة ملفوفة بورق الألمنيوم الذي حافظ على حرارتها ، لكن لم يكن هذا الغريب في الأمر ، إنما كان الغريب أن الدجاجة مقدمة في صحن بلوري !.. فوجئت من الأمر لكني أخذت الصّحن من الحارس بسرعة خشية أن يتفطن للأمر.

إنه الخطأ الذي كنت أنتظره منذ سنوات .. إستنتجت عند رؤيتي ليدي الحارس أنه حارس جديد ، و هذا ما جعله يرتكب هذا الخطأ الجسيم ، ربما لا يعلم قوانين هذا المكان جيّدا ، إذ أني منذ أن فتحت عيني في هذه الغرفة لم أرى سوى الأطباق البلاستيكية ، صرت الآن أعلم ما علي فعله بالضبط للخروج من هذا المكان ، وتراءت أمامي الخطة كاملة للهروب ، لكن لا ينقصني إلا شيء واحد.. المنظف ! لكن المصيبة أنه عليّ الإنتظار لثلاث أيام أخرى كي يحين موعد تنظيف المرحاض.

“الانحناء للظلم لا يعني عدم ارادة الحرية ، بل الخوف من دفع ثمنها”. مقولة لفيصل العامر ، لكن إن كان ثمن حريتي الجوع و الألم فلن أتردد بتاتا في دفع الثمن.

بدات بمراجعة الخطة مرارا وتكرارا رغم بساطتها ، و كنت أطلب التوفيق من اللّه لتسير الخطة على ما يرام ، ولو أن سبع سنوات في هذا المكان كادت تنسيني خالقي ، مكان نجس كهذا يستحي المرء حتى الدعاء فيه.

كان أول شيء قمت به أني خبأت الصّحن تحت المرتبة و إستبدلته بالجريدة فوضعتها تحت الدجاجة بدلا عنه ، و قمت بوضعها في مكان مقابل للباب و ذلك لتكون واضحة للحارس عند فتحه للباب المصغّر ، ونزعت عنها ورق الألمنيوم ليتمكن الحارس من رؤيتها ، و بذلك لا يقدم لي أي طعام و لا يطلب مني إرجاع الطّبق الذي أكلت فيه.

“طااااااااااااااخ”

حل اليوم الموعود و لم أتناول شيئا من الدجاج سوى فخذ لا يشبع ولا يغني من جوع .. هذا هو اليوم الفاصل ، قد يكون فاصلا بين الأسر و الحريّة أو يكون الفاصل بين الحياة و الموت ، كانت نبضات قلبي تجاوزت الحدّ الطبيعي خوفا من فشل الخطة. فتح الحارس الباب المصغّر و لاحظ أني لم أتناول شيئا و أن الدجاجة ما زالت على حالها ، ولو أني أظن أن الدود قد دبّ بداخلها ، لكن لم يكن يهمه الأمر ، طالما لم أتناول ما قدّم لي لا يقدّم لي شيئا حتى أتناوله ، ألقى الحارس قارورة الماء ثم عاود اغلاق الفتحة ، فشعرت بخيبة تسري في عظامي لأنه لم يقدم لي ما كنت أنتظره ، لكنه عاد بعد ثوان وفتح الباب المصغّر ليلقي منه قارورة المنظف و سلاّكة المرحاض ثم أغلق الباب..

و بمجرد إنغلاقه شرعت بتطبيق الخطّة و لو أنها وحدها ليست كافية و أنني في حاجة للقليل من الحظ و التّوفيق من عند الله .

اتخذت الخطوة الأولى و قمت بإخراج الصّحن من تحت المرتبة لأضعه فوقها من ثم قمت بطيّ المرتبة فوق الصحن و ضغطت عليه ضغطةً قوية فكسرته ، و قمت بذلك فوق المرتبة كي لا يصدر الصّحن صوتا عند إنكساره ، اقتنيت من الصحن قطعة كان شكلها الأقرب لشكل السّكين ، و بهذا أكون قد تحصلت على سلاح ، صحيح أنه بدائيّ نوعا ما لكنه سيفي بالغرض ، نزعت أحد القمصان التي كنت أرتديها و لففته حول قبضتي كي لا أتعرض للجرح عند إستعمال السكين .

الخطوة الثانية.. شربت نصف قارورة الماء ثم سكبت ما تبقّى منها فوق رأسي و على ثيابي ، وقمت بتعبئة ثلث القارورة الفارغة بمنظّف الحمّام ، ثم أتيت بورق الألمنيوم الذي كان على الدجاجة و قمت بتمزيقه حتى كوّنت كويرات صغيرة منه فوضعتها داخل القارورة ، أغلقت القارورة ووضعتها على الأرض بحذر ، أمسكت قطعة الصّحن و وقفت وسط الغرفة فأخذت نفسًا عميقًا و قمت بجرح كفّي جرحًا أعمق.. تسارع الدم بالتساقط على الأرضية فهرعت بتخضيب ملابسي ورقبتي بالدّماء ، و بما أنني كنت مبلّلا بالماء ستزداد سيولة الدّم و ينتشر أكثر على ملابسي.. أما الآن الخطوة الأخيرة و الأكثر خطورة ، يجب أن أقوم بخفضّ القارورة ، و كي لا تصدر صوتا مريبًا عند خضّها ، أمسكت السّلاكة و ادعيت أنني أقوم بتنظيف المرحاض ، و في نفس الآن كنت أخضّ القارورة بحذر.. لتوضيح الهدف من كل هذا ، تقوم الخطّة على تفاعل كيميائيّ بسيط ، مطهّر الحمّام من نوع “فلاش” يحتوي على نسبة من حمض الهيدروكلوريد ، و ينتج هذا الحمض عند إحتكاكه مع الألمنيوم ، غاز الهيدروجين عالي الحرارة ، الحرارة تولّد ضغطًا هائلاً داخل القارورة المغلقة ، و ذلك الضّغط يولّد إنفجرا ..

و أقصد انفجارا صوتيًا ، و هذا ما أحتاجه بالضّبط ، عامل لجلب الإنتباه ، و بما أن هذه القنبلة الصوتية يدوية الصّنع تنتج صوتا مقاربا لصوت الآلة التي تعلو باب الغرفة ، سيتساءل الحارس عن سبب إندلاع الصّوت مجدّدا دون ضغطِه على زرّ الآلة ، حينها سيقوم بفتح الباب المصغّر لينظر في الأمر ، و إذ به يجدني مرميّا على الأرض ملطّخا بالدماء ، و هذا ما سيجبره على الدّخول ، أو هذا ما أرجو حصوله على كل حال .. إذ أن إستنتاجا خطر ببالي جعلني أؤمن بنجاح هذه الخطة ، كنت أطرح على نفسي سؤالا و قد كانت إجابته واضحة ، إن كان من قام بإحتجازي يريدني ميّتًا لكنت ميتًا منذ اليوم الأول ، لذلك أظن أنه يريد أن يبقي على حياتي ، و لذلك أيضا أظن أن الحارس سيهرع لنجدتي.

بعد خض القارورة لمدة عشرين ثانية تقريبا ، سارعت بوضعها في أحد أركان الغرفة و عدت فإستلقيت على بطني أمام الباب ، و بدأ العدّ التنازلي في عقلي.. 7 ، 6 ، 5 ، 4 ، 3 ، 2 ، 1..1 !!

-“طااااااااااااااخ”-

كان إنفجرا مدوّيا لدرجة أني شعرت بوخز في أحد أذني ، لكني كنت أسمع صوت صرير الباب الصّغير و قد انفتح و إستنتجت من صوت خشخشة المفاتيح حالة الهلع التي كان عليها الحارس ، أخيرا فُتح الباب و دخل الحارس مسرعا يتمتم بكلام قذر ، و بمجرد أن لمسني بغاية قلبي للجانب الآخر ، إستدرت بسرعة فبقرت بطنه بقطعة الصّحن بكل ما أوتيت من قوة ، كان يحاول جاهدا مدّ يديه إلى المسدّس المعلّق على حزامه ، لكني عاجلت بطعنه مرة أخرى في رقبته فسقط عاجزا عن الحراك ، و كانت عيناه تكاد تخرج من محجريهما ، أخذ يختنق بالدماء التي كانت تتدفق من فمه بغزارة حتّى سكن فجأة في لحظات.. لو شاهدت مشهدا كهذا بفيلم قبل دخولي هذا المكان ، لأشحت بنظري بعيدا عن الشاشة ، لكن الغريب في الأمر أنني أحسست بلذّة غريبة عند قتله و مشاهدته يفارق الحياة أمامي.

إفتككت المسدّس من حزامه و غادرت الغرفة مسرعا لأجد رواقًا ضيّقا في آخره غرفة أعتقد أنها خاصة بالحارس ، دلفت إلى الغرفة لأجد خزانة حديدية ففتحت الخزانة باحثا عن أي غرض قد يفيدني ، لأتفاجئ بوجود بطاقتي الشخصية و قبعة كنت أرتديها يوم إختطافي ، أخذتهما و غادرت الغرفة متجها إلى آخر الرواق حيث وجدت درجا حديديّا لولبيّا ، صعدت الدّرج و فتحت الباب الذي كان يفصل بيني و بين العالم ، لأكتشف أني كنت و لمدة سبع سنوات في غرفة تحت الأرض تقع أسفل محطة بنزين مهجورة.

كان الليل قد حل ، لكنّي تمكنت من تبيّن معالم المكان .. أعرف هذا المكان جيّدا ، كانت المحطة تقع على أحد جوانب الطريق المؤدي إلى المدينه و لم تكن تبعد عنها كثيرا ، لكنها منطقة غير معمورة و أقرب مبنى من هذا المكان يبعد تقريبا ثلاث كيلومترات و هو مبنى شرطة المرور الذي يقع في مدخل المدينة ، أردت مغادرة المكان بأسرع ما يمكنني لكن لا أعلم إلى أين الذهاب ، كما أنني لا أستطيع التوجّه إلى المدينة و لا أستطيع إستقلال سيارة بهذا المنظر و حتّى إن تمكنت من ذلك ، ستستوقفنا شرطة المرور بمدخل المدينة و سيتم إرسالي إلى السّجن بما أنني مطلوب للعدالة بتهمة القتل ، كل هذا لأنني أخطات خطأ فادحا و إستقللت سيارة أجرة. قررت أن أقطع الطريق إلى الجانب الآخر من الرّصيف لعلّي أجد من يقلّني فيبعدني عن المدينة قدر المستطاع ، لا أعلم ما الغاية من ذلك لكني فقط أريد الإبتعاد ..

فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان ، إخترق عيني ضوء سيارة ساطع لم أستطع تبين ملامح سائقها نتيجة ذلك الضوء ، حتى خفت الضّوء فجأة و توقفت السيارة على بعد أمتار منّي ، فتح السائق الباب و نزل ببطئ من سيارته…

إنتابني شعور غريب يطلق عليه بالإنجليزية “أوبيا” و هي ظاهرة تتمثل في شعور غامض بالحماس عند النظر لعيني شخص ما ، مما يجعلك تشعر بالتوتر و العدائية و الضّعف في آن واحد.. كل هذه المشاعر المختلطة إنتابتني خلال ثوان عند النظر لسائق سيارة الأجرة الذي نزل من سيارته و أخذ يرمقني بنظرات مضطربة و كأنه لم يتمكن من التعرف على ملامحي ، لكني لم أنسى وجهه للحظة رغم التغيير الذي طرأ على قصة شعره و بعض ملامحه.. إنه السّائق الذي قام بخطفي .

لم أصدق ماذا يحدث ، هل جمعتني به الصدفة مجددا ! أم أنه على علم أني تحرّرت فجاء لحبسي مجددا ؟ فجأة تغيرت ملامحه و كأنه تعرف على وجهي من خلف هذه اللحية الشّعثاء ، رأيت على وجهه ملامح الرّعب الذي دبّ فيه فجأة ، عاد مسرعا إلى داخل سيارته و كنت أنظر إليه جامد الأطراف ، حتى غلى الدّم في عروقي و رفعت المسدس ناحية سيارته و أطلقت النّار على الزجاج الأمامي.. على ما يبدو لم تصبه الرصاصة فضغط على دواسة البنزين بكل قوته و حاول أن يدهسني لكني إبتعدت عن طريقه بسرعة ، و ما ان تجاوزني بأمتار قليلة حتّى صوّبت المسدس ناحية أحد إطارات السيارة و أطلقت النّار مجددا و إذ بسيارته تنحرف عن مسارها لتصطدم بأحد حواجز الطريق و تنقلب رأسا على عقب في أحد الخنادق ، أخذت أجري ناحيته ففتحت باب السيارة المقلوبة و سحبته من داخلها أجرّه جرّا ، و كان يتصبّب دما ، كنت في حالة هستيريّة فإذ بي أضربه بكل ما أوتيت من قوة في كل أنحاء جسده ، حتى رميته على الأرض صارخا

-“أيها الحقيــر .. ايها الكااااالب .. سبع سنوات!!! سبع سنوات أبقيتني في تلك الحفرة النتنة !!! أيها الوااااغذ.. كنت أفكر طوال هذه السنوات في هذه اللحظة تحديدا ، كنت أعلم أني سأخرج يوما و كنت أعدّ الكثير من الكلام الذي أردت إخبارك به ، لكني أراك الآن أمامي و لا أفكر سوى في أمر واحد.. أن أهرس رأسك هذا بصخرة حتى يستوي و الأرض ، لكن قبل هذا أريد معرفة شيء واحد.. لماذا؟؟ لما فعلت بي كل هذا؟؟ لماذا تكلم ايها الوغد تكلم !! إفتح عينيك.. ارفع رأسك أكلّمك !! لا تدّعي الموت أنت بخير حال أفق و أجبني.. أفق و إلا قتلتك !! بالله عليك أفق لا تمت .. أرجوك إنّي أرجوك لا تمت قبل أن تجبني.. أرجووووك..”.

تبًا لحظي العثر ، حاولت إسعافه بكل الطرق لكنّه لفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يخبرني بشيء ، فأخذت أكيل لوجهه لكمات متتالية لعلها تشفي قليلاً من غليلي ..لكنها لم تفي بالغرض كنت أحس أن الموت أنجته من عذابي.

إستلقيت إلى جانبه ألتقط أنفاسي تائها في حالة من الفزع و الحيرة ، لا أعلم إن كان عليّ الفرح لموته أم الحزن لموته دون البوح بسبب فعلته.. (يــا حبيــبي.. الليـل و سماه و نجومــو و قمرو… قمرو و سهرو.. و انت و أنا يا حبيــبي أنا ..يا حيــاتي أنــــا…)

أخذ هاتفه يرنّ بهذه الأغنية فإستندت على مرفقي ببطء و أخرجت الهاتف اللّزج من جيبه ، نظرت إلى الشاشة فوجدت أن المتّصل مجهول ، ضغطت زر الإجابة فتكلّم المتصل قائلا

-” ألووو.. خالد أتسمعني ؟…”.

-“خالد في عداد الموتى…”.

-” ماذا !! ماذا تقول !”.

-” لقد قتلته…”.

-” أعلم ذلك.. أهلا و سهلا سيّد محمد …”.

-“مــ..ماذا !؟!”.

-” لابد أنّك في حيرة من أمرك أليس كذلك ؟”.

-“من.. من أنت ؟”.

-” هل تعني أنّك كنت طوال هذه السنوات تؤمن أن سائق سيارة أجرة مسكين هو من قام بإختطافك ؟ يا لك من غبي “.

-” أنت المسؤول عن كل هذا…”.

-” و من غيري ؟ لقد رتّبت كل شيء منذ البداية ، كنت أتابع كل يوم من حياتك المملة حتى هذه اللحظة ، حتى خطّة الهروب التي قمت بها كانت من تدبيري ، فهل إعتقدت أن من الصدفة أن يأتيك الحارس بصحن بلوري ؟ و أن تتوفر لك كل المواد المناسبة للهروب ؟ لا مجال للخطأ في خططي يا صديقي ، لقد تركت لك الباب مفتوحا مرة و كنت أعلم أنّك لن تكتشف ذلك ، و هل إعتقدت أيضا أن ظهور سائق السيارة صدفة ! لابد انك أغبى مما توقعت ، لقد كان رجلا مسكينا يعمل لتأمين لقمة العيش لأبنائه ، صحيح أني كنت أهدّده بقتل أبنائه إن لم ينفّذ المطلوب لكنك قمت بقتله الآن و يتّمت أطفاله.. أريدك أن تعلم أن كل ما حدث أو سيحدث من ترتيبي ، كل فكرة خطرت على بالك أنا من زرعها و كل ما أنت مقدم على فعله لن يكون خارجا عن مشيئتي “.

-” لما تفعل هذا ؟”.

-” لمعرفة سبب فعلتي إضغط على الرقم واحد ، أتظن أني سأجيبك عن هذا السؤال بهذه البساطة ؟ إن أردت معرفة السبب حقا فلتأتي لمقابلتي ، لدينا الكثير لنتحدث عنه”.

-” أين أجدك ؟؟”.

-” كلّ بيت يعادل طابقا…”.

-” ماذا !! لم أفهم.. لحظـ..”.

-” تيت…تيت…تيت…”

-” ألو لا تغلق الخط أرجوك لا تغلق الخط أخبرني !!”.

“nodus tollens”

“هو إسم حالة نفسية تعني إستيعاب أن حياتك و حبكتها لم تعد تعني أي شيء بعد الآن و أصبحت غير مفهومة بالنسبة لك..” لم أعد أفهم ما يحدث من حولي ، طوال سبع سنوات كنت أصدق إستنتاجا وهميّا ، لقد قمت بقتل شخص بريء .. لما لم أدع له الفرصة للكلام !!! لما تسرعت في إطلاق النّار .. لماذا !!! لم أكن لأصدقه حتى لو أخبرني انه ليس الفاعل ، لابد أن أحاسب هذا الشخص ، لكن قبل ذلك علي معرفة سبب فعلته ، علي إيجاده ، ترى ما كان يقصد بقوله “كل بيت يعادل طابق”.. فجأة تذكرت !! البطاقات البريدية ! البيت يقصد به بيت شعر ، تركت جثة السائق ممدّدة على الأرض و عدت أهرول ناحية المكان الذي لطالما أردت مغادرته ، نزلت على الدرج و إتجهت إلى الغرفة النتنة ، أخرجت البطاقات من تحت المرتبة.. إثنى عشر بطاقة تعادل إثنى عشر طابقا ، هذا يعني أنه في الطابق الثاني عشر ، لكن السؤال الأهم ، أين توجد هذه الطوابق ؟ أخذت أعيد قراءة الأبيات مرارا و تكرارا لعلّي أستنتج المكان الذي هو فيه ، لكن لا فائدة ..لم يكن محتواها يدلّ على شيء ، قمت بترتيب البطاقات حسب تاريخ الإستلام لعلّ تلك الأرقام تدل على إحداثيات مكان ما ، لكن كانت الأرقام أكبر من أن تكون إحداثيات لأي مكان في العالم أو في تونس على الأقل ، لكن بينما كانت البطاقات مرتبة أفقيّا لاحظت أمرا هامّا. إذا كانت هذه الأبيات مرتبة حسب التاريخ أفقيّا ، و لو أخذنا الحرف الأول من كل بيت ، سنتحصل على كلمة تتكون من إثنى عشر حرفا.. “مستشفى السافي” لقد وجدتك أيها القذر !!!.

خرجت بسرعة خشية أن يكتشف أحدهم جثة السائق ، لكنّي وجدته على حاله ، لابد أن أجد مخرجا من هذا المكان في أسرع وقت ممكن ، لكن لا أستطيع أن أستقل أي سيارة بهيئتي هذه ، مستحيل أن أسلم نفسي للشرطة على طبق من ذهب ، على الأقل ليس قبل أن أنتقم.. ترى كيف يمكنني المرور أمام الشرطة لدخول المدينة دون أن يمسكوا بي ، لابد من وجود طريقة للوصول إلى ذلك المستشفى.. خطرت لي فكرة ، أسرع طريقة للذهاب للمستشفى هو حادث ! أمسكت هاتف السائق و اتصلت بفرقة النجدة ..

-“ألو , فرقة النجدة في خدمتك تفضل…”.

-” تعالوا.. تعالوا بسرعة قبل أن يموت السائق…”.

-” أخي على مهلك ، أخبرني عمّا حدث و عن المكان من فضلك “.

-” أخي بسرعة أرجوك ..سيلفظ أنفاسه .. كان الظّلام يسود المكان ، إستقللت سيارة أجرة ، و بينما كنا في الطريق المؤدي إلى المدخل الشرقي لمدينة الفحص ، إرتطم السائق بأحد الحواجز و إنقلبت بنا السيارة في خندق أمام محطة البنزين المهجورة ، بسرعة إنه يموت.. آه.. آه “.

-” سيّدي لا تحاول تحريكه إلى حين قدومنا ، سنأتي في الحال…”.

جلست أنتظر على الرّصيف أجمع أفكاري حتّى قدوم فريق الإنقاذ ، و بعد دقائق وصلت سيارة النجدة و نزل منها ثلاث رجال ..

-” فلتسرع أرجوك إنه هناك في الخندق , أعتقد أنه لا يتنفس !”. أخرج إثنان منهم ناقلة المصابين و اتجها على عجل ناحية السائق في حين ظل ثالثهم يعاين حالتي ، حتى تكلم أحد الرجال قائلا -” إنه ميت! لقد أصيب بطلق ناري !!”.

أخرجت المسدّس و وجهته ناحيتهم صارخا

-“إن تحرك أحدكم سأقتله على الفور…”.

ثم أشهرت المسدّس ناحية ذلك الذي يقف أمامي آمرا له

-“تحرك إلى هناك ! حذاري أن تحاول القيام بأي حركة غبية.. تحرك!”.

“طااااااااااااااخ”

أطلقت النّار على الأرض ليعلم الجميع أني جادّ فيما أقول

-” ليخرج كلّ منكم هاتفه و محفظته و ليرمها أمامي , ثم تراجعوا للخلف واحدا تلو الآخر ، بسرعة و إلا كان مصيركم كمصير ذلك الرجل !”.

قام رجال النجدة بما أمرتهم به ، فإلتقطت حاجياتهم و ألقيتها في السيارة ..

-“و الآن أريد منكم أن تلتفتوا إلى الوراء و أن تسيروا حتّى آمركم بالتوقف ، مهلا أنت هات قبّعتك…”. ناولني قبعته بأياد مرتعشة فرماها أمامي ، رفعتها بحذر و قلت

-” إستديروا الآن “.

إلتفلت الجميع و أخذت أسير خلفهم حتى توقفوا أمام الباب المؤدي إلى الغرفة

-“أما الآن ، فلينزل الجميع أسفل ذلك الدّرج و ليغلق آخركم الباب ، و على من يفكر أو يحاول الخروج أولا أن ينطق الشهادة قبل خروجه “.

نزل الرجال و أغلقوا الباب دون أن ينبسوا بكلمة ، إعتمرت قبعة رجل النجدة و عدت إلى السائق فحملته على الناقلة ثم أدخلته سيارة الإسعاف بصعوبة ، أدرت المحرك و إنطلقت على الطريق بأقصى سرعة ، بعد أن تجاوزت مسافة تقارب الكيلومتر ، أطلقت صافرة الطوارئ ، طبعا لن تجرأ شرطة المرور على إيقاف سيارة إسعاف في حالة طارئة ، و فعلا مررت أمامهم بأقصى سرعة فأفسحوا لي الطريق بإبعاد الحواجز.

بعد أن تجاوزت مرحلة الخطر ، أخذت أحد الهواتف الملقاة على المقعد و إتصلت بالشرطة

-“ألو قسم الشرطة معك ، من معي ؟”.

-” لا يهم… هنالك ثلاث رجال نجدة محبوسون في غرفة تحت محطة البنزين الموجودة على الطريق السريع لمدخل مدينة الفحص أسرعوا بإخراجهم”.

-” ماذا تقول !! من المتصل؟!”.

ألقيت الهاتف من النافذة و أكملت طريقي.

يقع مستشفى السافي على الجانب الآخر من المدينة ، بعد عشرة دقائق تقريبا توقفت أمام مدخل المستشفى ، و بمجرد توقف السيارة خرج المسعفون فنزلت و فتحت الباب الخلفي فقمنا بإنزال الناقلة التي إستلقت فوقها جثة السائق ، دخلنا المستشفى بسرعة ندفع الناقلة ، لكنني إنسحبت خلسة قبل أن يلاحظوا أن ذلك الرجل الممدّد قد فارق الحياة منذ مدة تجاوزت النصف ساعة ، كنت أحس بدوار ناتج عن الإرهاق و الجوع ، إلا أنني إضطررت إلى صعود الدّرج حتى الطابق الثاني ، إذ أن المصعد في الطابق الأرضي كان يتواجد بعد غرفة الطوارئ التي إتجه إليها المسعفون ، و قبل أن أدخل المصعد ، لاحظت أن رجلا كان يقف أمام الباب إبتعد مسرعا بمجرد رؤيتي فأحسست أنه يعرفني لكنه سرعان ما إختفى بين الأروقة ، دخلت المصعد و ضغطت الزّر الذي يحمل الرقم “12” ، إنغلق الباب فأخذت ألقي اللّوم على نفسي ، لأني قمت بما أرادني ذلك الرجل القيام به بالضبط ، أتيت دون تفكير أو حذر ، لا أعلم ماذا ينتظرني في الطابق الثاني عشر ، و الأسوء من ذلك أني لا أعلم حتى من ينتظرني أو حتى شكله ، لكنني كنت أواسي نفسي بفكرة واحدة ، لو كان يريد قتلي لقتلني حين سنحت له الفرصة ، كما أن هذا المسدّس يمنحني بعض الراحة ..

كل ما أريده هو معرفة السبب لماذا ؟!.

– “تننننـــن”-

إنطلق صوت المصعد معلنًا بداية النهاية .. لا أعلم إن كانت نهايتي أم نهاية ذلك الشخص الذي ينتظرني ، إنفتح باب المصعد كاشفا عن تلك اللاّفتة أعلى الجدار المقابل “قسم التّوليد” ، خرجت أسير ببطئ في ذلك الرّواق الذي يفصل بين الغرف ، كنت أبحث عن شخص لا أعرف حتّى وجهه ، و ما زاد من صعوبة التّعرف عليه هو تحديق المتواجدين بي بسبب مظهري ، فجأة رأيت أحد الأطباء يتقدم نحوي قائلا _” عذرًا سيدي ، أتى رجل منذ قليل ، قدّم لي صورتك و طلب مني أن أقدّم لك هذا الظرف في حال قدومك ، كان ينتظرك في هذا الممر منذ لحظات لكن لا أعلم أين ذهب ، إنتظره لعلّه يعود”.

-” هل يمكن أن تصف لي وجهه؟”.

-” فقط شخص عادي لا شيء مميز ، هل أنت بخير ؟”.

-” أجل أجل”.

ناولني الظرف ثم غادر ليختفي بين الممرّات ، تجنبت المارة و إتخذت ركنا ففتحت الظرف و أخرجت منه ورقة كتب عليها “يفقد الانسان وعيه في حالة توقف تدفق الأكسجين إلى الدّماغ بعد عشرة ثوانٍ و تتعرض خلايا الدماغ للتدمير بعد أربع دقائق فقط و هو ما يؤدي إلى المـ..”

لم أكمل قراءة ما كتب ، إذ أني أحسست فجأة بوخزة على رقبتي فحلّ الظلام من جديد .

فتحت عيني شيئا فشيئا و حاولت التحرّك من مكاني لكن لم أستطع تحريك أطرافي أو التحكم في أي جزء من جسدي ، و كأنني في حالة من شلل النوم أو كما يطلق عليه “الجاثوم” لكنني كنت أعي ما يحدث من حولي ، فتبينت أنني أجلس على كرسيّ متحرك ، و بينما كنت في حالة من التشوش سمعته يتكلم من خلف رأسي.

-“يبدو أنّك إستيقظت أخيرا ..نوما هنيئا ، أعلم أنّك لا تستطيع التفاعل معي بسبب المخدّر لكن أعلم أنّك تعي كل ما سأقوله ، لقد حقنتك بهيدروكلوريد الإتورفين المخفف مع قطرة بسيطة من حمض غاما-هيدروكسي بيوتيريك ، أو بإيجاز مخدّر GHB ، ويستعمله عادة فئة من المنحرفين لتنفيذ جرائم الإغتصاب ، فهو يسمح للضحية بأن تكون واعية أثناء الجريمة لكن لا تستطيع الحراك ، لكن لا تخف لن يحدث شيء مما تخيلته الآن …”

كان يقف خلفي و لم أكن اتبيّن وجهه و لم أتمكن من التّعرف على صوته

-“أتيت تبحث عن إجابة سؤال يدور بخلدك كل هذه السنين أليس كذلك ؟ لماذا ! أليس هذا هو سؤالك ؟ تريد أن تعلم لما فعلت بك كل هذا ! حسنا إذا أظن أنه قد حان وقت القصة ، قصة قد تجيب عن سؤالك لذا أنصت جيدا ..منذ إثنين و ثلاثين سنة مضت ، كنت في العاشرة من عمري ، أعيش في بيت كان أبي قد استأجره من مالكه الذي كان يسكن الطابق العلوي لذلك البيت ، و كنا عائلة بسيطة غير ميسورة الحال متكونة من ثلاث أفراد.. أبي و أمي و أنا كما قارب أن ينضاف فرد رابع للعائلة ، فقد كانت أمي حاملاً حينها ، و كان لصاحب البيت الذي يسكن أعلانا أبن و بنت و كان أبنه هذا يكبرني بسنتين.. هذا الفتى المدلّل الذي يتحصل على كل ما يريده بالصّراخ و البكاء حتى يحمرّ وجهه السّمين ، كان كل ما اقترف ذلك الفتى مصيبة يلفقها لي فيقوم أبي بضربي ضربًا مبرحًا و يقوم بحبسي في نافذة غرفة المعيشة ، إذ كان لذلك الشّباك قضبان حديدية من الخارج ، فكان يدخلني النافذة و يغلق مصرعيها فأظل محبوسا هناك قبالة الشّمس الحارقة حتى يستيقظ هو من قيلولته و يخرجني ، أو حتى تخرجني أمي سرّا و تلقى عقابها منه فيما بعد.. المهم ، في أحد أيام رمضان ، كنت ألعب الغميضة مع ذلك الفتى المدلّل أمام المنزل ، و كان دوره في الإختباء فأخذت أعد حتى العشرة و ما إن فتحت عيني ، إذ به فجأة يصفعني صفعة مدوية ثم أخذ يجري إلى منزلنا و أخبر أبي -الذي كان يستعد لقيلولته- بأني قد ضربته و سببته ، لم أكن أستوعب ما يحصل و لم أكن أفهم لماذا !! كان هذا السؤال يدور برأسي منذ ذلك الحين ، و دون أن يسألني أبي أو حتى أن ينظر إلى أثر الصفعة على وجهي ، أخذ يكيل لي ضربات متتالية صارخا -” أتريد أن نعيش في الشّارع أيها الجرذ!!”.

ثم حملني من ملابسي كما تحمل الحقائب لترمى أعلى الخزائن ، و قام برميي إلى النافذة و أغلق مصرعيها فارتطمت بالقضبان حتى أصدرت صوتا كصوت جرس برج الساعة ، وظللت هناك أكتم صوت بكائي كي لا يضربني أبي مجدّدا لأني أزعجت صفو قيلولته ، و إذ بذلك الفتى يأتي قبالة النافذة بعصى خشبية أخذ يلكزني بها ، مستمتعا ، ضاحكا ، شامتا بي.. ثم أخرج من جيبه مفرقعةً من التي كنا نشتريها في الأعياد ، و كنا نطلق عليها حينها “ديناميت” و ذلك لقوة صوتها ، أشعل الفتى فتيل المفرقعةِ فرماها ناحيتي و فرّ يجري ، و إذ بها تنفجر حتى كادت تُذهب سمعي ، لم أتضرر جرّاء الإنفجار حينها ، لكن فزعت أمي لذلك الصوت و أجهضت ذاك الذي في بطنها ، فقام الجيران بإحضارها إلى هذا المستشفى ، و نسي أبي وجودي في تلك النافذة ، و في هذه الغرفة تحديدا ماتت والدتي جراء نزيف حاد نتيجة إجهاضها لجنين بعمر الأربع أشهر.. و هكذا صارت العائلة تتكون من فردين فقط ، أما بالنسبة لذلك الفتى فلم يستطع أحد إثبات انه من قام برمي المفرقعة ، حتى الشرطة أخبرونا أنهم لن يستطيعوا إثبات ذلك إعتمادا على أقوال فتى صغير و لعدم توفر أي شهود على الحادثة ، بعد وفاة والدتي انتقلنا للعيش في بيت آخر أصغر من الذي سبقه ، و المفاجأة أن والدي تزوج مباشرة بعد وفاة والدتي بمدة لا تزيد عن الشهر و كانت زوجته الجديدة إمرأة خبيثة شمطاء تدعي اللطف معي أمامه و ما كانت تكن لي سوى الكره من ورائه ، فتعاملني معاملة لا تفي كلمة “سيئة” بوصفها ، فصارت تفرّق بيني و بين أبي و تعامل أبنائها معاملة تمنّيت أن أنال منها ولو القليل ، فكانت تعد من الطعام أصنافا لأبنائها و لكن ما نلت منه أنا سوى الرائحة ، فقد كانت تعدّ لي أرزا عادة ما كان نيئا صلبا لم يطبخ جيدا ، فآكل منه لأيام حتى ما عدت أطيق طعمه ، فإن تركته و لم آكله لم تقدم لي شيئا بعده حتى آكل ما فاتني منه ، و صرت أعاني حالة غريبة ربما لك علم بها نظرا لدراستك ، فكنت كلما تذكرت والدتي أو حنّ القلب لحنانها عاد ذلك الصوت ليصمّ اذاني ، صوت المفرقعة ..و كلما نمت إلا و إستيقظت على صوت إنفجار مفرقعات ، فكلما فتحت عيني أتذكر والدتي و لكني لا أفتحهما غير على وجه تلك العجوز الشمطاء ..و في أحد الأيام و دون أي مقدمات ، جاءني أبي بوجهه الشاحب الخالي من التعابير ، و أخبرني أن عليّ مغادرة المنزل ، و أن أعتمد على نفسي من الآن فصاعدا ، لا أعلم حقا لما لا أستطيع أن أتكلم أمام ذلك الرّجل عديم الرحمة ..و هكذا نتحصل على فرد دون عائلة ، لكنني تدبرت أمري و اعتمدت على نفسي و سارت الأمور على خير ما يرام ، فقد عملت مع مجموعة من الأصدقاء في تهريب البضائع من الجزائر إلى التراب التونسي ، حتى إشتد عودي و أصبحت أرأس جماعتي الخاصة ، ثم جاءت الثورة المجيدة بخيراتها و فرصها فتسلقت سور السلطة مع من تسلقوا و حظيت بمنصب بين ذوي السيادة ، لكن كل هذا لم ينسيني كل ذاك ، و كل هذا بسبب ذلك الفتى.. بسببك أيها اللعين !! لقد كنت الفراشة التي رفرفت باجنحتها القذرة فتسببت في إعصار دمّر منزلي و فرّق شمل عائلتي..”. سمعته يسحب كرسيّا من خلفي و ترائ أمامي وجهه الذي لم يعفو عنه الزمن ، إذ لم يتغير شيء بوجهه عدى تراجع شعر رأسه عن جبهته ، وضع الكرسي أمامي و جلس فانحنى بوجهه إلى الأمام حتى ما عدت أرى غير وجهه. -” أرى أن دموعك تتساقط ، لا أعلم إن كنت قد تأثرت بقصتي أم أنّك لا تصدّق أنّك تدفع ثمن ما حدث منذ ما يزيد عن ثلاث عقود ، مُضيّ الزمن لا يعني الفرار من العقاب ، و إن لم يقدر القانون بثغراته على تحقيق العدل ، فإن العدل فوق القانون و لابد للعدل الإلهي أن يتحقق ، و هاقد بعثني لك الله كي أقتص منك ، لكن للأسف قلبي الطيب لم يسمح لي بأخذ روح لم تذنب بحقي ، فرغم أني قد كِلت لك كل الصفعات التي كِلتها لي إلا أني لم أقدر على قتل والدتك و اختك كما كنت قد فعلت ، لكنني تركت الأمر لشخص دون قلب ففعل ذلك عوضا عني ، و كل ما اطلبه منك الآن أن تصبر عليّ قليلا بعد ، فتشاهد معي هذا الفيديو القصير ، لن يطول الأمر صدقني…”.

كنت مشوشا و كانت المشاعر تتحادف عليّ من كل حدف و صوب ، فما عدت أعلم بما أشعر تحديدا .

مدّ يده إلى جهاز تحكم وضع فوق أحد الأسرّة قبالتي و ضغط على زر التشغيل ، فشغّل تلك الشاشة المعلّقة على الحائط أمامي مباشرة ، و إذ بي أرى أن الشاشة تعرض مقطعي فيديو منفصلين في آن واحد ، فعلى اليمين كنت أرى نفسي عن طريق كاميرات المراقبة منذ لحظة وصولي أمام المستشفى و لحظة الدخول مع المسعفينه ، و كان الفيديو يتابع تحركاتي حتى ولجت إلى المصعد الكهربائي فتغير موضع الكاميرات و صار يعرض صورتي من داخل المصعد ، أما على الجانب الأيسر من الشاشة فكان الفيديو مظلما بعض الشيء و كانت دقته سيئة وكأن الكاميرا التي تصور المكان مخصصة للتصوير اللّيلي ، فكل ما كنت أراه جدار و أسلاك حديدية و بعض الحبال المشدودة ، و لم يكن هناك حركة في الفيديو بتاتا ، لكن ما أن ضغطت على زر المصعد و إنغلق بابه في المقطع الذي يعرض على يمين الشاشة اذ بي أرى تحرّكا في الفيديو الآخر ، تحرّك حبال.. و ما هي إلا لحظات حتى تبينت أن ما يحرّك تلك الحبال هو أنها قد ربطت إلى رقبتي والدتي و أختي ..

و رأيتهما يختنقان و يرتعشان حتى سكنت حركتهما ، فتبينت أنهما قد ربطتا أسفل المصعد ، و أن هذا اللّقيط الذي يقف أمامي قد أعد كل شيء مسبقا و ظل ينتظر مني أن أضغط أنا على الزّر القاتل ، فبارتفاع المصعد ارتفعت روحيهما إلى رفيقها الأعلى و توقف شريط الفيديو فتقدم نحوي هذا الوغد بثبات ثم ظل يطالعني بنظرات ثاقبة للحظات ، و فجأة هوت يده على وجهي بصفعة رنانة تبينت قوتها نتيجة صفير دبّ في أذني و تنميل أحسسته على وجهي ، فنتيجة المخدّر لم اكن أشعر بوجهي تمام الشعور ، و إذ به يقول و قد تغيرت نبرته إلى الغضب _” و ها هي صفعتك الأولى و الأخيرة قد ردت إليك بعد عقود من الزمن .. لم تكن والدتك و اختك قد ماتتا إلى حين قدومك ، فقد كلفت حرّاسا بحراسة المصعد و عدم ترك أحد يدخله سواك ، و أما عما قرأته في الجريدة ، كنت قد طبعتها بنفسي و صدقت أنت الأمر كالمخبول ، لقد أنهيت حياتهما بضغطة زرّ تماما كما أنهيت حياتي.. لم تمهلني لحظة لتوديع والدتي و لم أحظى بفرصة لرؤيتها قبل أن تفارقني ، لكني سأعطيك فرصة العمر ، و كل ما أعدك به الآن هو أن أحدنا سيخرج من هذه الغرفة ماشيا على قدميه ، فإمّا أنا أو أنت “.

نظر في ساعة يده ثم تدارك كلامه قائلا -” قارَب مفعول المخدّر على التلاشي و سيزول في أي لحظة الآن ، سأضع هذا المسدس الذي أحضرته معك على فخذيك و من ثم سأقوم بالعدّ حتى العشرة تماما كالأيام الخوالي ، فإن لم تقتلني فإني قاتلك بمسدسي هذا ، هل هذا واضح؟ أعلم أنّك تسمعني.. و لا تخف لن يسمع أحد صوت الطلقة إن قتلتني فهذه الغرفة عازلة للصوت …”.

و لم تعزل الغرفة صوت عدّه التصاعدي ، فها أنا الآن أعدّ لحظات أثقل هي من الدّهر و أسرع منه مرورًا ، و ها قد علمت ما جئت من أجله ساعيا من تحت الأرض سعيًا ، و لو لم يسعفني القدر فإني عائد تحت الأرض أسرع مما جئت ، فاللّهم اغفر لي ما فعلت جاهلا بما فعلت ، و أعني ربّي على تحريك يدي قبل انتهائه من العد .

-“1 ، 2 ، 3 ، 4، ،5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9…”.

-” طااااااااااااااخ”.

آدم بوقطف

تونس / للتواصل: [email protected]
guest
37 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى