أدب الرعب والعام

فقاعة

وقفت أمام مبنىً تعتليه شاشة عملاقة، يظهر عليها عنوان بالخط العريض، يلتف في حركة دائرية (متحف القضايا الإنسانية).

عند الدخول، طلب مني المرور عبر جهاز كاشف للنوايا، ولأنه أصدر صريرًا، أوقفوني جانبًا وطلب مني ترك مشاعري في قنينة عاجية مخصصة لذلك، وكان الشرط الوحيد، لمنحي تذكرة العبور.

تركتها غير مبالٍ، فكل ما يهمني أخذ جولة في أكثر المتاحف جدلًا.

جلست على كرسي المتفرج وسط قاعة فسيحة في الطابق الأرضي، لم اضطر للتنقل، فالقاعات تتبدل في حركة آلية كل عشر دقائق.   

خصصت القاعة الأولى لركام الحرب. في الصندوق الزجاجي الأول، وقع نظري على إطار نافذة بزجاج محطم، تميل إحدى زواياه باتجاه القبلة. أما في الجانب المقابل، وضع بابٌ عتيق، توزعت عليه كلمات بخط المسند، شطر إلى نصفين.

في الأجزاء الأخرى من القاعة، انتصبت بقايا أعمدة، هلال مئذنة، لوح مدرسي دمغ بعبارة الموت، وصور نصف محروقة تجمع عائلات أصبحت هي الأخرى ركامًا.

 القاعة الثانية كانت أكثر اتساعًا، وتحوي سيارتين محطمتين خلف حاجز زجاجي غليظ، إحداهما دون عجلات، والأخرى دون مقود. كتب على لافتتهما التوضيحية:

“ضحايا الطرق المقطوعة”

في الجهة المحاذية، ارتكزت على أعمدة “أحواض الفورمالين الزجاجية”، حوض يحوي أيادٍ وأرجلًا مبتورة، وآخران للسان مقطوع وعين مفقوءة.

تابعت تبديل القاعات حتى أنهيت ما يقارب تسع قاعات، وتوجهت إلى كبسولة في نهاية الرواق المديد، قادتني إلى طابقٍ علوي يحوي عالمًا افتراضيًا متعدد الأبعاد يجسد انفجارات القنابل العنقودية. يعيدها مرارًا من زوايا مختلفة، أحدها لطفلة تتردد صرخاتها، تشق سكون الليل من تحت أنقاض منزلهم المتهدم.

أتساءل: ماذا لو سمعت هذه الاستغاثات ومشاعري معي؟!

وقفت لثوان، وخرجت بينما بدأ عرض (هولوغرامي) جديد. اتجهت إلى رواق آخر، فيه العديد من القاعات وأبرزها فقاعة زجاجية عملاقة تتدلى كالثريا من منتصف قبة المبنى، على مدخلها الأنبوبي لافتة إرشادية:

“ارتد مشاعرك قبل الدخول”

ارتديت مشاعري التي سبقوني بوضعها في المدخل، ولأول مرة شعرت كم هي ثقيلة داخلي إذ أني كنت أتجول بخفة شخصيات القاعة الافتراضية.

اتجهت نحو تمثال لصبي واقف يتمركز وسط الفقاعة، يمد يده اليمنى في الفراغ، باسطٌا كفه للسماء، يحمل بيده اليسرى صرة ثلاثة أضعاف حجمه، تتدلى خلف ظهره، تحوي عشرات العلب الممتلئة بأمنياته العديدة أبرزها يوم دراسي، وأخرى لوجبة ساخنة. يرتدي بنطالًا ممزقًا ومعطفًا مهترئًا بلوني البقع المتراكمة. هالني منظره المليء بكل معاني البؤس، شعرت بالحزن وقررت مشاركة بؤسه للعالم، حتمًا سيحصل على تفاعلات الآلاف. اقتربت من التمثال الأسمر، أخرجت جهازي الذكي رفعته إلى الهواء فانبثقت منه نافذة تصلني بحساباتي في العالم الافتراضي، أخذت لقطة بأبعاد متعددة ركزت فيها على وجهي وتموجات دخانية سوداء، تتشعب كأطراف الأخطبوط، تبرز من حواف عيني التمثال المتطلعتين إلى الفضاء، وشاركت اللقطة بتفاعل حزين ومقطع صوتي تعريفي:

(لقطة تذكارية ودمع أحد التماثيل البشرية)

تكاثف شعور آخر من التمثال، أجزم أنه الازدراء من لونه المستعار من لون القيء، ينتصب من إصبع قدمه اليمنى الكبير، الذي بدا أكثر تحررًا من بقية أقرانه الأصابع، وكاد أن يلقي علي خطبة بهامته المرفوعة من خلال نافذة حذائه.

سطعت شاشة هولوغرامية في الفراغ أعقبها صوتٌ أنثوي:

_ بما أنك تفاعلت بشعور الحزن في أحد حساباتك، نعلمك أن بإمكانك تحريره مقابل صوت ضد انتهاك آدميته، اضغط على أحد الخيارين أسفل الشاشة أمامك بالقبول أو الرفض. مددت إصبعي وضغطت زر القبول فإذا بملاحظة ظهرت:

سيعمم صوتك بالقبول على كافة الأنظمة في الدولة، محسوبًا كأحد الأصوات المحتجة ضد السلطة المسؤولة. هل تؤكد خيارك؟

وقفت حائرًا، فكرت مليًا بمصيري، ثم ضغطت زر الإلغاء على يسار الشاشة. تلاشت الشاشة في الفراغ، وارتفع التمثال وأنزلت ثلاث فقاعات متجاورة مختلفة أحجامها، تحوي كل منها شعورًا مختلفًا.

في الفقاعة الأولى على يميني، توجد كتلة سحابية يلفها السكون، يغلب عليها البياض المطعم بلمحات من الزرقة، تومض متلألئة كسديم انبعاثي، يطلق على هذه الكتلة النادرة:

 “الأمان”

في الفقاعة الأخرى على شمالي، كتلة هلامية غير متجانسة، تسطع بألوان نارية، تستعر وتضطرب في حركات خاطفة، لها حسيس تسلل إلى مسامعي مخترقًا جدارها.

تعرف عادة: “بالغضب” وكانت ضعفي حجم سابقتها.

أما الفقاعة الوسطى فهي لنسيج ظلامي له مئات الأذرع الممتدة ملاصقة جدارها. يتوسع في حركة متماوجة، تنبعث من قلبه شرارات تتوقد، وسرعان ما ينكمش متذبذبًا وتضمحل الشرارات مخلفة بقعًا من رماد، ويعاود مرة أخرى التوسع والانكماش في حركة لا نهائية. كانت هي الفقاعة الأكبر وتحوي بين جدرانها “الخوف”

اقتربت منها، شيء ما غير عادي يجذبني إليها، مددت يدي أتحسسها، انبعثت ست تكاتٍ من بندول إيقاعي من الفقاعة الأم، انشقت فقاعة الخوف، امتدت الأذرع الظلامية متسللة إلى أعماقي، شعورٌ ما نزع بالقوة مني، ولم أتمكن من تمييزه لبهتان لونه. ما أن استقر في الفقاعة، سطع ضوءٌ وظهر مخرج، مع ملاحظة صوتية:

“هنا تنتهي جولتك”

ما هي إلا ثوانٍ حتى وجدت نفسي طليقًا، أقف مشدوهًا في شارع رئيسي لمدينة لم يسبق أن تواجدت فيها، يمشي فيه مئات الأشخاص المدموغ على جباههم: (كائناتٌ بلا ضمير).

guest
4 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى